الفصل الخامس عشر

السير على الطريق السهلة

ابتدأ داء الكسل في لوسيا فكانت تُفَضِّلُ أن تذهب للتنزُّه أو تنام على أن تشتغل، والكسل باب الشرور، متى دخل قلب المرأة أضعفه عن كل نشاط وتقدُّم، وجرَّد بيتها أو كنسه من كل «جمال».

ولامتها بديعة على ذلك قائلة: يا عزيزتي إننا في بلاد تُربتها نشيطة، فلا تتعب من إنماء المزروعات الجيدة وإعطاء الغلال والخيرات الكثيرة، وسماؤها جوادة فلا تمل من إنزال الأمطار صيفًا وشتاءً لإنماء المزروعات وإرواء الأرض لتعطي الخيرات والبركات للبَشَرِ، وعالمها عزوم نشيط حتى أصبح الشغل عنده هو الشرف، ولما كان لا يبغض أحد الشرف فلا يبغض الشغل في هذه البلاد التي يجب أن نحافظ فيها على آدابنا ونكسب منها نشاط أهلها ونحن الغانمون.

ولكن جواب لوسيا على كل نصيحة من بديعة كان «أن أمريكا حرية» وضاعف اغترارها بنفسها تهافُت الشبان على مرضاتها. وكثيرًا ما يكون الجمال سبب تعاسة المرأة التي ليس لها عقل يفوقه.

وفي المهاجرين تختلف حالة السوريين عنها في وطنهم؛ فبينما في الوطن يرقِّص الشبانُ بدور «غنجهم وترمقهم» عيونَ البنات، نرى في أمريكا الحالة بالعكس؛ لأن البنات في هذا المرسح راقصات، فالشاب السوري المهاجر يكاد لا يصدق أن يرى أيَّةَ بنت ليقترن بها، وقَلَّمَا يهتم بالحسب والنسب و«جاه العم والخال» مما هو رائج السوق في الوطن، وأقل من ذلك المال الذي صار يُطلب من الشاب لا من البنت، ويمكن لبنت جميلة مثل لوسيا أن «تغمض عينيها وتكمش»، فأي شاب «طلع في يدها» يرضى بها إذا رضيت هي به، وهذا ما زاد الفتاة اغترارًا بحالها وافتخارًا بجمالها، لا سيما بعد أن تَحَوَّلَ الْتِفَاتُ الشُّبَّان كلهم إليها لعلمهم بأن لا نتيجة من بديعة وجميلة لتجنُّبهما الزائد.

وساعدت «السيدة موضة» على انتفاخ لوسيا إذ أمرَّت عليها يدَ التحسين والتجميل، فغدت بهجة للعين ونَسِيَتْ تلك اليد التي ودعت بها رفيقاتها على «العين» فلم تعد تذكرهن ولا تذكرها … كما أنها نسيت «بيت أبيها» ومعاملة خالتها لها، وكيف أنها كانت تحملها على الذهاب وراء المعزى لإيرادها ورعيها … ولم تفتكر إلا في حاضرها إذا رأت ذاتها ملكة الدلال وربة الظرف وإلهة الجمال.

وكانت بديعة تنظر إليها بقلب مِلؤه الإخلاص؛ لأنها كانت تخشى العاقبة إذ رأت بأن لوسيا «تقيس» أولئك الشبان وتقول عن هذا بأنه قصير وذاك قبيح، بينما الآخر جميل ولكنه فقير، وغيره حقير، وعلى هذا النسق حتى إنه لم يَكُنْ يعجبها أحد، ولكنها كانت تبتسم في وجوه الجميع وتقبل زياراتهم على السواء، وهي بسرها «تضحك عليهم»، وتفتخر بانتصارها على كل منهم وتسلط جمالها على عقولهم.

وغدا الشبان كما هي العادة يتسابقون إلى إهداء الهدايا النفيسة، والتنافس في أيهم تكون هديته أحسن من الآخر. ولعبت الغَيْرَةُ بقلوب جميعهم حتى أوجدت التنافُر فالتباغض بعدما كانوا أصدقاء أوفياء. ولا بغض كالذي يتسلط على قلب شاب يزاحمه آخر في حب فتاة. ولم تكن لوسيا تشعر بعظم وخطارة عملها الضار؛ لأنها لم تكن تعرف «الواجب» كبديعة، التي كانت تقول لجميلة عند اختلائها: لا شيء تفعله الفتاة أضر على الهيئة الاجتماعية من الأمر الذي تفعله لوسيا الآن، وهو ضار بالرجال والنساء؛ ضار بالأولين لأنه يعلم بعضهم الكسل والإسراف، ومن البديهي أن ذلك الشاب الذي يطمع بحبها ويلتذُّ معاشرتها لا يقدر أن يشتغل ما زالت هي منقطعة عن العمل، ولا يهمه المال بل يصرفه جزافًا إكرامًا لذبول عينيها ومنافسةً لغيره من الشبان الذين ينحون نحوه ويعم الضرر الكثيرين. وضار بالنساء لأنها تعطيهن المثل القبيح، ولا سيما لأولئك الفتيات اللواتي يَكُنَّ أصغر منها سنًّا، إذ إنهن أول ما يفتحن عيونهن على العالم ينظرن برغبة ودهشة إلى أعمال الفتيات اللواتي يَكُنَّ أكبر منهن سنًّا، ويحسبنها مرايا يجب أن تنعكس أشعتهن عليها.

ومن هنا تعلمين يا جميلة تأثير المرأة على الهيئة الاجتماعية إنْ في الخير وإنْ في الشر. فإن عمل امرأة واحدة يحسبه البعض لا يؤثر شيئًا، هو بالحقيقة شبه حبة صغيرة تبذرها في عقول كثيرات من بنات جنسها، فتنمو ولا تلبث أن تصير شجرة كبيرة ويكبر نفعها أم ضررها بحسب طبيعتها.

وفي مساء أحد الأيام رجعت بديعة من شغلها قبل جميلة، فوجدت لوسيا في البيت تستعد للذهاب إلى حفلة رقص عمومية، وقد ارتدت بثوب لو رأته عليها إحدى وريثات الأمريكان لحسدتها عليه. فقالت لها مبتسمة وهي تكاد تتميز غضبًا: لا مبالغة إذا شبهتك بالقمر؛ لأنك بهذا الثوب الناصع البياض، وهذا الوجه الجميل الفَتَّان أبهى منه ضياءً، فهل تنوين الذهاب إلى حفلة ما؟

فأجابت لوسيا بإعجاب: إنني ذاهبة إلى حفلة رقص حافلة مع سليم.

فاضطرب قلب بديعة من جوابها، وقالت لها بحزن وهي تقدم كرسيًّا لتجلس عليه بجانبها: آه يا لوسيا، إنني لو علمت بأن محبتنا — والتي هي ثمرة خمس عشرة سنة من المعاشرة — ستتحول إلى بغض في أمريكا لما دخلتها قط.

فرفعت لوسيا نظرها إليها وقالت ببرودة: ما دعاك إلى هذا الكلام يا بديعة؟

أجابت بديعة بحزن شديد: دعاني إليه ما أراه في كل يوم، من نفورك مني وإعراضك عني واشمئزازك من نصائحي التي كنتِ ترتاحين إليها قبل الآن.

فأجابت لوسيا بكبرياء ونفور: إنني لا أبغضك قط، ولكنني أُعرِض عن استماع نصائحك؛ لأنني فتاة قد علمتني أمريكا الاستقلال والحرية فصرتُ بِغِنًى عنها، ولا يخفى عليكِ يا بديعة أن حكم نفس على نفس من أصعب الأمور …

فتنهدت بديعة وقالت: إن النصيحة خدمة لا حُكم يا عزيزتي، ولعمري إنه من المدهش انقلابُك حتى صِرْتِ تَرَيْنَ الصداقة وما ينتج عنها من الغَيْرَةِ عبودية؛ ولذلك ترومين الاستقلال كما قلتِ. وما هكذا تفعل جميلة التي تقبل نصائحي وأقبل نصائحها، وتحبني من عشرة شهور أكثر مما تحبينني أنتِ من عشر سنين.

فقالت لوسيا مبتسمة باستخفاف: إنني أهنئك بمحبتها، أما أنا فمع أنني لا أبغضك فلا أرى نفسي محتاجة إلى إرشادك؛ لأنني أعرف مثلك كيف أسلك الطريق القويمة.

فأثار هذا الكلام غضب بديعة، ولكنها تسلَّطت بقوة عقلها على إرادتها وكظمت غيظها، وقالت للوسيا بلطف بعد أن تقدمت إليها لئلا يسمعها أحد: وهل ذهابك في هذه الليلة مع شاب غريب — ليس لك في عشرته غير أيام — إلى حفلة «عمومية»، وكل من فيها غريب عنك، برهان على سلوك «الطريق القويمة»؟

فابتسمت لوسيا وهي تنظر إلى مروحتها الثمينة، وقالت: وأي بأس من هذا وأنا فتاة عزباء وهو شاب عزب؟ أوَليست هذه هي العادة في هذه البلاد؟

وكانت برودة هذه الفتاة الجاهلة تزيد في حِدَّة وغيظ بديعة أكثر من كلامها، ولكنها كظمت غيظها هذه المرة أيضًا وقالت بلطف كالأول: هلا من بأس على فتاة جميلة نظيرك تذهب مع شاب غريب ليلًا وتختلط بأناس لا تعرف أحدًا منهم، ولا تعرف عن المحل شيئًا، وهلَّا من بأس من تقوُّلات الناس، لا سيما نحن السوريين الذين نحافظ على قاعدة الحشمة ونأبى ضم بعض هذه العوائد المتطرِّفة إلى آدابنا! أَوَليس من بأس عليك متى أحدثتِ للناس شكوكًا وكنت حجر عثرة في سبيل حشمة الفتيات نظيرك، قلتِ بأن هذه العادة المتطرفة هي من عوائد الأمريكان! ولكن أنا أقول لك بأنها من عوائد الطبقات المنحطة منهم؛ لأن المرأة المهذبة من هذا الشعب لا تذهب إلى محل رقص عمومي ما لم تعرف عنه شيئًا، ولا تذهب بدون أمها أو أبيها أو أخيها أو زوجها أو الشاب الذي تكون خطبته لها معروفة ومقرَّرة. فأين أنت من كل هذا يا لوسيا؟ وما بالك قد ارتحلتِ إلى الأمور التي كنت تنكرينها في الوطن وكنتِ مصيبة؟ فإذا كنت قد ألفتِ الحرية الضارة حتى لا تكترثين لهذه الأمور التي تقتلع أصول الحشمة والصيانة من قلب المرأة؛ فإن بني وطنك يَرَوْنَهَا بصورتها القبيحة، وسوف تندمين يا عزيزتي على إضاعة أيام الصبا بأمور هي مرارة أيام الشيخوخة.

ثم تنهَّدت أخذًا للراحة واقتربت منها قائلة بصوت لا يكاد يُسمع: إنني على ثقة من نقاوة قلبك يا لوسيا، وهذا ما يحملني على الغيرة عليك؛ لأن أنقى الناس قلبًا أشدهم انخداعًا بمكر الأشرار، فاسمحي لي بأن أقول لك بأنك إن بقيتِ على إهمالك وتساهُلك وانخداعك بظواهر ومظاهرات بعض هؤلاء الشبان فأنت هالكة لا محالة؛ لأن هؤلاء وإن أظهروا لك اعتبارًا واحترامًا فهم ليسوا هكذا في الباطن؛ لأن الفتاة التي لا تصون آدابها وحشمتها عن الشاب لا يعتبرها هو ولا يصون لها ما هي أحق بصونه، وإذا أحب معاشرتها فلا يجب الاقتران بها إلا إذا كان جاهلًا أو كان يرجو أن تُغَيِّرَ سلوكها، وهذا نادر.

وقبل أن تنتهي بديعة من كلامها طرق الباب ودخل منه شاب طويل القامة جميل المحيَّا حسن البزة، فحيا بديعة ودنا من لوسيا التي وقفت له حالًا، إلا أنها كانت متهيئة فأخذت بيده وخرجت من الباب وهي تقول لبديعة: «خاطرك.» ولما وصلت إلى حيث كانت العربة بانتظارهما ضحكت ضحكة عالية سمعتها بديعة فقالت: إنها تفضل هذه المعيشة التي فيها «السرور والبسط» على المعيشة الحقيقية، ولكن سيأتي يوم لا تعود هذه الأمور لذيذة لها كما هي الآن، وتصير تطلب مؤنة ذلك اليوم فلا تجدها، ويصح فيها مثل «الزيز والنملة».

وكانت ضحكتها لم تزل ترن في أذني بديعة، فقالت: ما معنى هذه الضحكة … ثم ذكرت أمرًا فقالت إنها ستخبر ذلك الشاب بالكلام الذي قُلتُه لها ويشاركها هو في ضحكها مني، فمن الجهل أن ينهى الإنسان فتاة جاهلة غبية عن أمر صار يتعلق بشابٍّ ما؛ لأنه بذلك يعرض نفسه لعداوتين بدل العداوة الواحدة: عداوة الفتاة وعداوة الشاب.

خرجت لوسيا مستنِدة إلى ذراع ذلك الشاب وهو يردد على مسامعها جُمَلًا ربما رددها على مسامع الكثيرات من الفتيات مثلها، وكل واحدة يقول لها ما هو قائل الآن للوسيا: «إنني أحببت قبلًا ولكنني لم أعرف ما هو الحب الحقيقي حتى عرفتك.» كلام تغتر به تلك الفتاة الجاهلة وتصدقه، وهو ربما قاله لغيرها في اليوم الثاني. ومَشَتْ دائسة بقدميها الصغيرتين نصائح صديقتها المختبِرة المخلصة، ولم تفتكر في أنها بذهابها أتت أمرًا، وإن يكن جائزًا عند ذوي التسامح والتغاضي من الأمريكان فهو غير جائز عند عِليتهم ولا عند بني وطنها. ومن العجائب أن هذه الفتاة التي أتت ما يَضُرُّ بنفسها لم تبالِ كبديعة التي وقفت تنظر إليها بأسف وحسرة.

ولحسن حظها وصلت جميلة في تلك الساعة مع امرأة كانت ترافقها واعتذرت كثيرًا لبديعة عن تأخُّرِها الاضطراري، وبعد أن ذهبت تلك المرأة إلى غرفتها نظرت جميلة إلى بديعة فوجدتها مضطربة جدًّا. ولما عرفت السبب قالت لها بقنوط: يجب أن نتركها وشأنها؛ لأنها قد تمادت في الغواية، ونصائحك لا تجديها نفعًا، وهي فتاة متكبرة.

فقالت بديعة متنهدة: يا ليتها تعرف كيف تتكبر يا جميلة لأن من الكبرياء ما هو مفيد، كما لو تكبرت على معاشرة بعض الشبان وهي لا تحب الاقتران بأحدهم، وكما لو تكبرت على قبول هداياهم، والآداب تحظر على المرأة قَبول هدية نفيسة من رجل غريب … آه يا جميلة! إنني بقدر ما كنت سعيدة حين أنقذتك من الغرق أكون تعيسة إذا افترقت عن لوسيا بهذه الصورة.

فقالت جميلة بحزن: لا أدري ما الذي غيَّر أخلاقها، فهل من دواء لدائها يا ترى؟

فقالت بديعة: لم يغير عقلها شيء، بل إنه قابل لهذه الأمور، وما كان «يقصرها عن صعود الجبل إلا الحفا»، أما الآن وقد لبست حذاءً بخمسة ريالات … فقد صارت قادرة على السير بسرعة كلية … لأن ريح حرية أمريكا العاصفة لا تحرك الجبال الراسية بل تحرك العشب وتلويه … فإنني أنا أُفَضِّلُ ألف مرة موتَ الجسد على موت النفس؛ لأنه إذا مات الجسد وكانت النفس طاهرة فإنها تُبقي ذكرًا حسنًا على الأرض، وأما إذا ماتت النفس وبَقِيَ الجسد حيًّا فهناك الأثر القبيح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤