الفصل السادس عشر

اللقاء وابتداء المصائب

ولبثت الفتاتان بانتظار لوسيا إلى قرب نصف الليل، فلما لم تأتِ ذهبتا إلى فراشهما ونامتا، وكان ثاني يوم الأحد يومًا جميلًا من أيام الصيف، فأحسَّت بديعة بثقل وطأة الهموم عليها وأرادت أن تختلي بنفسها لتناجيها، وإذ علمت بأن هذا لا يتأتَّى لها بين الجماهير التي تجتمع في ذلك البيت نهار الأحد؛ لبست ثيابها النظيفة البسيطة وذهبت إلى حديقة البلدة لتريح أفكارها وتناجي نفسها.

لما صعدت بديعة إلى مركبة الترامواي لم تر شابًّا غريبًا اشترى جوازًا وصعد إلى المركبة الثانية التي كانت معلقة بمركبتها.

ولما وصلت إلى تلك الحديقة الجميلة انفردت عن جماهير المتنزِّهين وذهبت إلى مكان بجانب حوض الماء، وجلست على مقعد بجانب جِذع شجرة من السنديان، وللحال تبادر إلى ذهنها ذكر تلك الحديقة التي كَلَّمها فيها فؤاد بأمر الحب لأول مرة، وجرَّ عليها هذا ذكر مصائبها الماضية والحاضرة كلها، فجلست تفتكر، ولما تمادت بالأفكار أحسَّت بانقباضٍ في النفس وضعف في العزيمة، وكانت تتوصل إلى الندم على ما فعلت وكيف أنها تركت الوطن بدون أن تشاهد فؤادًا، ولما وصلت إلى هذا الحد رجع إليها رشادها وقالت لنفسها: يا له من ضَعفٍ معيب! إنني قد فعلت ما فعلت قيامًا بواجب الشرف، فما لي أخون هذا الواجب بالأسف الذي يوليني ضعفًا، وأنا في بلاد غريبة تحتاج فيها المرأة إلى القوة النفسية لتحارب التجارِب أكثر من احتياجها إلى كل شيء سواها.

وبينما هي جالسة وقلبها ينتعش وينقبض لهذه الأفكار لم تسمع وقع أقدام من ورائها، ولم تنظر إلى شخص كان ينسلُّ ما بين تلك الأشجار بقدومه إليها. لكنها لم تلبث أن استفاقت من سُبات أفكارها، ونظرت مبهوتة إلى ذلك الشخص الواقف أمامها، ولولا تعقُّلُها ومعرفتها بأنها تعرض بنفسها لانتقاد الناس لصرخت بأعلى صوتها عند رؤيته. أما هو فنظر إليها مبتسمًا وقال: صباح الخير.

فأجابت بديعة قائلة: هل أنا في يقظة أم في حلم يا خواجة نسيب؟

قال الشاب: في يقظة؛ لأن لحاق محب هائم بك ليس من المعجزات، وهجره بلادًا هَجَرها كل سرور لمهاجرتها ليس إلا أمرًا طبيعيًّا بسيطًا.

فاحمرَّ وجه بديعة من كلامه، ليس خجلًا أم حياءً كما يقولون، بل حنقًا وغيظًا من قحته التي لم يدفعه إليها عهد سابق منها، ولكنها تجلدت وقالت بهدوء: ومتى قدمت هذه البلاد؟

قال كاذبًا: من ثلاثة أسابيع. ولم يَقُل لها بأنه كان مسافرًا معها وأن تأخره في نيويورك كان لغاية خبيثة منه.

فقالت له وهي مطرقة إلى الأرض بصوت المضطرب الخجِل الذي يريد أن يقول مضطرًّا كلامًا يخجل من قوله: إذن لم يمض على مفارقتك الوطن وقت طويل … فكيف هو وكيف من فيه؟

فسُرَّ نسيب لهذا السؤال الذي جاء مطابقًا لجوابه، وقال: إنه زاهر بهم … وهم فيه بخير وهناء وسعادة …

وعندما قالت بديعة: «هذا ما أرجوه.» صبغت وجههَا هذه المرة الحمرةُ الحقيقية التي فيها بعض دَمِ القلب يصعد إلى الوجنتين والأذنين.

ورأى هو مجالًا للكلام والتلميح، فقال: إذن أنت لا تغارين. وحيث الأمر كذلك — وهو غير ما ظننت — فدعيني أخبرك بأن فؤادًا رجع من المدرسة ووجد والده بانتظاره مع العروس فعقد خطبته عليها وأنا تركتهم على أُهْبَةِ العرس وأتيت لكي …

فقاطعته بديعة قائلة، وقد ظهر على وجهها ما كذَّب قول نسيب من أنها لا تغار: لكي تخبرني بالأمر وتُجْهِزَ على قلبي الذي طعنته مرة من قبلُ، فمن صميم فؤادي أرجو لهما السعادة الملازمة؛ لأن هذا الأمر هو سعادةُ ومُشتهى قلبي.

فنظر إليها مستفهمًا وقال: أصحيح ما تقولين؟ تتمنين السعادة لمن خانك؟

فقالت بديعة بهدوء: إذا كان هو خانني كما قلتَ أنتَ فأنا لم أخنه، بل إنني أحبه اليوم كما أحببته من قبلُ، وهذا الحب يحملني على طلب السعادة له؛ لأن معنى الحب الحقيقي هو إرادة الخير للغير.

فكان كلامها حرابًا على قلب ذلك الشاب الخائن، وقال في نفسه: إنها خدمت في بيتهم شهورًا فضحت لأجلهم أعظم ثروة وأكبر سعادة، وأما أنا فإنني لاعبت فؤادًا طفلًا وعاشرته يافعًا ولازمته شابًّا «وأكلت معه بالصحن»، وخالتي ربتني بعد موت والديَّ، وزوجُها علمني وأحبني، وهذا صنيعي معهم مقابل صنيع هذه الفتاة، ولكن ما لي ولهذه الأفكار الآن فقد بدأت ويجب أن أتمم.

ثم تأمل بعين فكره في هذه الجملة فقال: إن هذه الجملة هي آفة الكثيرين؛ لأن الإنسان الذي يسلك طريق الشر يعرف بأنه سالكها حين يكون في أولها أو منتصفها، ولكنه يقول: «ما عدت قادرًا على الرجوع.» أو أنَّ رجوعي لا يجدي نفعًا؛ لأنني قد لبست ثوب العار، وهذا خطأ فاضح وضرر كبير؛ لأن الرجوع من أول أو نصف الطريق خير من متابعة السير على البصير المرعوي.

وبينما كان فؤاد يفتكر كانت بديعة تفكر أيضًا، وقد جلست مُطرِقة تتصوره سعيدًا بمن يحبها، فانفطر قلبها من الغيرة التي متى كانت معتدلة ولسبب حقيقي تكون بنتَ الحب الصادق.

ولكنها لم تلبث أن قالت لنفسها كما قالت لها قبل وصول نسيب: إن هذا هو الضعف يا نفس، فيجب أن تكوني قوية وتعرِفي بأن الإنسان العاقل لم يُخلَق لذاته أيضًا، بل للإنسانية حق فيه لأنه عضو منها ويطالب بالقيام بواجباته نحوها بقدر إمكانه. وما هي هذه الواجبات؟

هي مساعَدة الفقراء بقليلٍ من المال، وإذا لم يكُن المال موجودًا فبالكلام المعزِّي اللطيف. وقد قال أحد الحكماء: إننا لا نشعر بالسعادة التي يشعر بها الغير من كلامنا اللطيف لهم. فهذه السعادة قد ترجع الضال إلى حظيرة الآداب والفضيلة. وقد تُشبِع جائعًا فينسى احتياجه إلى الخبز. وتسلي حزينًا فينسى حزنه ولو لوقت. هذه مساعدة الإنسانية يأتيها الإنسان مهما كان خاملًا ولا سيما المرأة. ومن يظن أنه لا يخدم الإنسانية إذا لم يخدمها كأكابر محيي الإنسانية يكون إما جاهلًا لا يعرف بأن كل جزء صغير هو من كل كبير، وإما بخيلًا لا يقدر على إتيان العظائم في الخير — وإن قدر لا يفعلها — ولا يعمل ما هو دونها ادِّعاء بأنها لا تحسب شيئًا، وفلس الأرملة أكبر برهان على خطئه لو اعتبر.

وبعد أن مرت هذه الأفكار بمخيلة بديعة وهبتها قوة جديدة لمقاومة الهموم؛ لأن الذي يحب عمل الخير ويرغب فيه يجد به سلوى عن كل غم وهم في الحياة.

وكان نسيب وبديعة شَعَرَا باحتياج كل منهما إلى سريح الأفكار في فضاء الماضي، فأعطيا لبعضهما فرصة، وكان أول من انتهى نسيب الذي التفت إلى بديعة وقال: قلت لك ما جرى باختصار، وقلت بأنني أتيت إلى هنا لكي … فهل تعلمين لماذا؟

قالت: إنني أجبتك قبل الآن.

قال: لم يكن شيء من ذلك، بل مجيئي هو كي أطالبك بوعدك.

فقالت بلطف: لم أعلم بأنني مديونة لك بوعدٍ ما، فهل لك أن تصرح؟

فقال: هل نسيت؟ هل ذهب عن فكرك ذكر تلك المرافقة إلى الضبية؛ إذ فتحت لي طريق العذابات، ولولا أملي بالسعادة المقبلة لما قدرت على تحمُّلها.

وهذه المرة الثانية التي كذب عليها فيها؛ لأنه إذ أراد أن يوهمها بأنه كان في الوطن يقاسي العذابات لأجلها كان، في نيويورك مع رفيق له ينتقل من حانة إلى أخرى، ولما يمتلئ رأسه من الخمور يأخذ القلم ويكتب إلى خالته وإلى فؤاد مكاتيب الوشاية ببديعة ليمنع فؤادًا عن اللحاق بها، حتى يكون قد أتمَّ حيلته وفاز بالاقتران بها. ومع أن قصد نسيب كان حسنًا من بديعة؛ لأنه رآها جوهرة فلم يُرِدْ أن يخسرها، وقال: المرأة الفاضلة لمن يجدها؛ لأن ثمنها يفوق اللآلئ.

وقد جعل واسطته شريرة قصير الغاية شريرة.

فظهرت على وجه بديعة لوائح التبصر والارتباك بَغتة، وكأنها لم تفطن قط بأن ذلك الشاب يحبها وأنه خاطبها مرة بأمر الحب؛ لأنها هي لم تكُن تحبه ولا يلازم فكر الإنسان إلا الشيء الذي يشعر به. فقالت له بجد: أجل إنني أذكر تلك المقابلة جيدًا، ولكنني لا أذكر صدور وعد ما مني فيها.

فلحظ الشاب وتجاهل بأنه عرفه إذ قال: إذا كنت نسيتِ فأنا أذكرك بوعدك الذي كان قولك «بأن لكل مقام مقالًا.»

وها أنا أطالبك بهذا القول؛ لأن مقال هذا المقام هو غير مقام ذاك. بديعة … بديعة … إن كل شيء تغير الآن، فإن فؤادًا قد خطب وقد يكون تزوج الآن، وأنا قد هاجرت إلى هذه البلاد لأجلك — لأجلك فقط — وعلى كلمة من شفتيك يتوقف هنائي أو شقائي. فهل من العدل أن تحبي رجلًا لا يحبك وقد خانك، وتنبذي محبة رجل كل غايته من الحياة أن يجتهد بجعلك سعيدة فيها؟

فقالت بديعة بغير تأثُّر: أنت يا سيدي صادق وأنا قد قلت بأن لكل مقام مقالًا، وقد ظننت أن عقلي يتغير، أما وأنا لم أزل على مبدئي الأول فزواج فؤاد يزيدني ثباتًا. وتراني الآن أصبحت أقوى على الثبات من ذي قبلُ؛ لعلمي بأن فؤادًا قد تزوج وقد سلاني.

فصدقني يا خواجة نسيب إنني أُفَضِّلُ العزوبة على الزواج؛ لأنني لا أرى به إلا الشقاء، لأن الحب نور الحياة الزوجية وبدونه تكون الحياة مظلمة، وأنا قد مات قلبي عن الحب؛ لأنني أحببت حبًّا صادقًا طاهرًا، ولا أقدر أن أحب مثل هذا الحب غيره. هذا ما أشعر به في الوقت الحاضر، فلذلك أرى من التعاسة والخيانة معًا أن أقترن برجل يحبني ولا أحبه؛ لأن الاحترام شيء والحب شيء آخر. فحياتي منفردة أناجي نفسي وأقوم بواجباتي نحوها ونحو القريب، وذلك خير لي من أن أكون مع رجل يقدم لي كل شيء ولا أقدر أن أقدم له شيئًا؛ لأن كل شيء ما عدا الحب في الحياة الزوجية باطل.

فنزل كلامها على رأس الشاب نزول الصاعقة ومر عليه مرور البرق، فقال في نفسه: إن هذه الفتاة تجازيني على خيانتي وهي لا تدري، وهذا فعل العناية. ثم غاب هذا الفكر ورجعت أفكاره الأولى وقد خامر قلبَه حب الانتقام من بديعة إذا أصرت على عنادها، ولكنه رغمًا عن هذه الانفعالات قدر على إحسان التظاهر.

فقال بلطف: إنك فتاة مخلصة وشريفة النفس، وحيث إن معنى الحب هو إنكار الذات كما قلتِ، فيا ليتني أكون قادرًا على جمع شملك بفؤاد إحياءً لقلبك العظيم بحبه وشواعره، ولو مات بذلك قلبي، ولكن هذا مستحيل، وأنا أسألك بشرفك أنك لو سُئِلْتِ إبداء رأيك بفتاة قصتها كقصتك، وماذا يجب أن تفعل: تعيش بذكر حبيبها وحده، أم تتزوج برجل آخر تعتاض بحبه عن الأول، فماذا تجيبين؟

أجابت بديعة: أقول بأنها يجب أن تتغلب على الحب القديم إذا كان بالإمكان، وتعتاض عنه بالحب الجديد؛ لأن ما فات مات، وعلى رأي أحد شعراء الإنكليز: «الطاحون لا تطحن بالماء التي جرت بل التي تجري.»

فقال: إذن كيف لا تصفين دواء غيرك لنفسك وأنت أحوج من سواك إليه؟

قالت: لأنني لا أقدِر ولا أظن بأنني أقدر فيما بعدُ على حب رجل آخر، كما أنني لا أظن أن كل فتاة تقدر على هذا الأمر أو كل فتاة مثلي تحب بأن يتزوجها رجل لا تحبه مختارة تكون أتت خداعًا ومكرًا.

فقال: غيِّري فكرك يا بديعة وارحمي قلبي الذي أَضَعُهُ على أقدامك الآن وارتضي بالاقتران بي، فمتى تم اقترانُنا وجرَّبْتِ حبي واعتباري وتفانِيَّ في مرضاتك تحبينني، وأنا أرضى بهذا الأمر لأنني أعلم بأن الفتاة الشريفة مثلك تكافئ الشيء بمثله.

فقالت بديعة مبتسمة: كثيرًا ما سمعت هذا القول من الشبان للبنات، ولكنه قول باطل وإذا صح أحيانًا فذلك نادر؛ لأن لا أمل بإحياء القلب الميت والمراد إحياؤه حياة جديدة تامة. والمرأة أو الرجل اللذين يرضيان بهذا الامتحان يكونان يسحبان ورقة «يا نصيب»؛ لأنه قد تحب الفتاة شابًّا حبًّا صادقًا، فتفترق عنه وتتزوج بآخر «فتحترمه»، وتكون تحفظ لذلك الرجل زُبدة الحب رغمًا عنها. أما أنا فلا أفعل هذا؛ لأنني لا أشرك بحبي، ولأنني إذا لم أقدر أن أمحو الحبَّ الأول من قلبي فلا أحب ثانية، وأكون خائنة لزوجي بحفظي ذكر رجل آخر.

فقال: أما تتزوجين أبدًا؟

قالت: هذا ما لا أعلم، إن المستقبل لله، ولكنني أتزوج متى رأيت رجلًا يقدر أن يمحو حب فؤاد من قلبي، وليس قبل ذلك.

قال بحنق: إذن أنت لا تحبينني، وقد تحبين غيري؟

فعرفت هي ما ينوي، ولكنها لم تبالِ، بل قالت بصدق وجرأة: نعم إنني لا أقدر أن أحبك مع أنني أعتبر إخلاصك، وأَوَدُّ لو كان بإمكاني إجابة طلبك، لكن على رأي أحد كتبة السوريين: إن الحب ليس بغرسة يغرسها الإنسان أي وقتٍ شاء ويقتلعها متى شاء.

فعند هذا الكلام وقف أمامها وتهيَّأ للذهاب، ورمقها بنظرة أحدَّ من السهام قائلًا: لا تستخفي بحبي يا بديعة ولا تضحكي من تذلُّلي، بل اعلمي أن الحب قد يتحول إلى بُغض، ويكون في هذا الوقت تأثيره أشد من الأول، فاحذري. قال هذا وتركها فريسة الأفكار وذهب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤