الفصل الثامن عشر

تأثير المحبة

وكانت بديعة باستعداد تام لازورار الأعين والتلميح بالكلام، فلم تُبَالِ بهما كثيرًا عند وصولها، والذي زاد بعدم مبالاتها هو ابتسامات جميلة الحلوة لها وقبلاتها الحارة.

ومن العجائب كان حب الواحدة للأخرى من هاتين الفتاتين، فقد يحتار الإنسان بما يدعوه إلا «حب الأم»؛ لأن هذا هو الحب الوحيد الذي تضحَّى فيه المصلحة الذاتية بسرور تام، والذي ليس للغَيْرة من أثر فيه. وهذا الحب عمومي تقريبًا في الأمهات ونادر جدًّا في الأزواج والزوجات، وغير موجود ما بين الإخوان والأخوات، فلهذا كان يحسب كل ما يرى هاتين الفتاتين ويعرف ما هو حبهما لبعضهما أن كل واحدة منهما بنت الأخرى … لأن كل واحدة منهما كانت تحب السرور للأخرى وإن كانت هي حزينة، وقد يظن القارئ أن كلام هذه المؤلفة تصوُّر وهمي إذا قالت بأن جميلة مع أنها كانت بسيطة الخِلقة فإنها كانت تسر من النظر إلى جمال بديعة الفتان؛ لأنها كانت عاقلة فلا تبغض أختها لأمر لم تكن صنعته إحداهما، وبديعة كانت تعيسة جدًّا بذلك الوقت ولكن لو قُدِّرَ لها أن ترى جميلة سعيدة لسُرَّتْ وتَسَلَّتْ بسعادتها عن تعاستها هي؛ لأن الغَيْرة لم تخامر قلبَيْ هاتين الفتاتين. وكانت إذا فقدت الواحدة منهن شيئًا حلوًا ولذيذًا في الحياة تُسَرُّ ولا تحزن إذا وجدته مع أختها، وتشعر معها بالتلذُّذ فلا تحسدها لأجله، كما هي الحالة حتى بين الشقيقات أحيانًا.

وقد يسمى هذا الحب «حب الأمهات»؛ لأنه وإن يكن عظيمًا ومعجبًا بين فتاتين صديقتين، فهو تافه وبسيط عند الأمهات اللواتي يحببن التنازل عن كل شيء حسن لهن لأولادهن، ويَكُنَّ سعيدات، فكأنهن لا يَكُنَّ سعيدات، ولا تتمثل صورة آمالهن جميلة بأعينهن إلا في الأولاد، فيا ما أعظم هذا الحب من الأمهات! ويا ما أحقر ما يقابله به الأولاد!

فإن المثل القائل: «إن الجزاء من جنس العمل.» لا يمكن أن يتم بولد نحو والديه؛ لأنه مستحيل لولد مهما فعل أن يكافئ والديه وخصوصًا أمه.

وبناءً على هذا الحب سُرَّتْ جميلة لما رأت بأن بديعة آتية مع أديب؛ لأنها كانت تعرف ما هو عليه الشاب من الأدب والغنى والشرف والجمال، فقالت: «إنه يليق ببديعة.» ولما جلست بديعة على الكرسي وهي مصفرَّة اللون من الانزعاج، لم تعرف جميلة ما جَدَّ لها، فصارت تلمح بالكلام وهي تكاد تطير فرحًا لظنها أن أديبًا قد خطب بديعة، ولحظت بديعة فشكرت حب هذه الفتاة في قلبها، ولكن الليل لم يأتِ جميلة بالأحلام السارة، بل أبدلها بالأحلام المزعجة؛ لأن بديعة قصت عليها قصتها بتمامها.

لما خرج نسيب من الحديقة تاركًا فيها بديعة، حمله الغيظ إلى أول مركبة بانتظار الركاب، فركب فيها ولم ينظر وراءه إلى أحد.

وفيما هو جالس تتقاذفه أمواج الأفكار سمِع ضحكة عالية، وكان الضاحك امرأة فقال في نفسه: ما أشد جهل الذين يقولون بأن في أمريكا تمدُّنًا! ولكنه لم يلبث أن كذب نفسه؛ لأنه سمع الضاحكة تتكلم اللغة العربية مع رفيق لها فقال: يا للعجب! كيف أن هذه الفتاة تتكلم اللغة العربية وهي لا تخجل بها؟ فإن التكلم بهذه اللغة قد أصبح «موضة قديمة» حتى في بلاد العربية ذاتها. وبعد برهة تحقق السبب الذي من أجله تكلمت الفتاة هذه اللغة؛ ذلك لأن حديثها كان سريًّا، فقال في نفسه: إن السوري لا يتكلم اللغة العربية إلا إذا كان في سر يريد كتمه أو في كلام يخجل أن يقوله على مسمع من الأمريكان، وربما كان هذا رأيه؛ لأنه كان حديث العهد في أمريكا.

وبقي الشاب مصغيًا لحديث الرفيقين، فسمع اسم «بديعة» و«أديب» مرارًا وسمع النَّمَّ والاغتياب في كثيرين، وهكذا بقي صامتًا حتى عرَف أسرارًا كثيرة لو عرف أصحابها بإفشائها لفدوها بما عَزَّ وغلا. فهز رأسه وقال: ما أجهل هذين الشخصين اللذين يتكلمان مثل هذا الكلام في الأماكن العمومية، وهما لا يدريان من الحضور فهم لغتهما. وكان لذلك الوقت لم يلتفت وراءه ليرى من هما، فلما فعل عرف الفتاة التي رافقت بديعة في البحر ونظرها معها للمرة الثانية وهي لم تنظره.

وكان نسيب قد أعجب بجمال لوسيا من قبلُ كما مَرَّ، فلما رآها هذه المرة رأى بأن ذلك الجمال قد صار مزدوجًا الآن؛ لأن لوسيا كانت مرتدية بأجمل ثيابها في ذلك اليوم «والصقل برداخ المادة» فلما نظر إليها قال في نفسه إذا لم أقدر على إقناع بديعة — وهذا ما لا يكون — فسأختبر هذه الفتاة فإن كانت مثل بديعة وقدرت أن أحبها أقترن بها، وإلا فإنني أرمي لها شراك حبي فأصطادها بها وأسلب منها مالها؛ لأن المال نفد مني ولا أقدر على الشغل. والعجيب أن ذلك الشاب مع كثرة شروره رام «اختبار لوسيا» ولم ينخدع بظواهرها مما يدل على أن في الرجل أمرين؛ الأول: أنه وإن يكن شريرًا فهو يقدر على معرفة المرأة الفاضلة، والثاني: هو أن الرجل يحترم المرأة التي تحترم نفسها، وإن كانت عدوته اللدودة، فيا حبذا لو اعتبر بعض النساء هذا، واعتبر أيضًا أن الرجل لا يسأل على نقصه، وإنما يطلب الكمال في المرأة، وقد قيل إن المرأة خُلِقَتْ لتُكمل نقص الرجل.

وكان نسيب ينظر إلى لوسيا من تلك الساعة بتدقيق وهو يقول في نفسه: إنني رجل نبذت الفضل ولكنني أعرفه، والذي أراه هو أن هذه الفتاة خُلِقَتْ لتكون زهرة ذات رائحة تنعش القلب ولكنها لا تهتم قط بأن تكون ثمرة، وهي لا تعلم بأن الزهرة يشَم الإنسان رائحتها فقط وبعد حين تزول هذه الرائحة، وأما الثمرة فإنه يأكلها وتتحول في معدته إلى دَمٍ يتوزَّع من قلبه إلى كل جسمه.

ولما نزل الرفيقان أمام مرسح خارج البلدة — لأن الوقت كان صيفًا — تبعهما نسيب ولم يلبث أن عرَّفهما بنفسه، فلما عرفا بأنه سوري مثلهما طلبا إليه قبول ضيافتهما والدخول معهما إلى المرسح ففعل، وكان ما بين كل فصل وفصل يلقي شباك مكره للوسيا التي عرف حالًا بأن صيدها سهل للغاية.

ظنت الفتاة في أول الأمر أنها تلاطف نسيبًا شأنها مع كل الشبان نظيره، الذين كانت تقبَل هداياهم وتذهب نهارًا معهم إلى المتنزَّهات، وليلًا إلى المراسح، وهي لم تحسب عملها مغايرًا للأدب قط؛ لأنها في بلاد تفعل عادات أهلها، ولكنها بالحقيقة كانت لا تميل إلى واحد من أولئك الشبان أكثر من الآخر، ولا تفضل واحدًا منهم على سواه.

ولم تكن تنتهي تلك الليلة حتى شعرت لأول مرة بما لم تشعر به من قبلُ؛ بسرور زائد من محادثة نسيب وارتياح زائد إليه. ولما فارقهما وذهب إلى المنزل، أحست بأن بعضها قد فارقها وحزنت لفراقه.

وأول شيء فعله نسيب في صباح اليوم الثاني هو ذهابه إلى شارع السوريين وتعرُّفه بهم؛ لأنه كان له في تلك المدينة أيام لم يعرف أحد به وهو يترقب خروج بديعة وحدها ليراها، وثاني شيء كان تقرُّبه الزائد من لوسيا واجتهاده بفصلها عن السكن مع بديعة وجميلة وعن معاشرة الشبان.

واندفاعًا بالحب الذي أسر لوسيا بعد أن كانت آسِرة استأجرت غرفة مع عائلة سورية وسكنت بها وحدها، وصار نسيب يأتي آكلًا شاربًا عندها، ولما يخرج تضع لوسيا في جيبه بعض الدولارات «لأجل الخرجية».

وهنا انقلبت الأحوال مع لوسيا انقلابًا تامًّا؛ فإنها بعد أن كانت ملكة على كل الشبان أصبحت عبدة لهذا الشاب، وبعد أن كانت تُهدَى إليها الهدايا النفيسة أصبحت تهدي ما لديها لمالكها بعد أن أهدته أعظم الأشياء عندهما وهما «حريتها وقلبها».

وكانت مسرورة لأنها كانت تحبه، وهو يعدها بالاقتران بها حتى توفر المال الكافي لذلك.

وهكذا فإن هذه الفتاة رجعت إلى نشاطها الأول وكانت تشتغل دائمًا إرضاءً لحبيبها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤