الفصل الثالث والعشرون

مواجهة فؤاد

في ردهة الاستقبال في مدرسة عينطورة الشهيرة جلس الخواجة منصور والسيدة مريم زوجته بانتظار مجيء فؤاد إليهما، وكان رئيس المدرسة يصف لهما حسن أخلاق وتهذيب فؤاد وسروره بنجابته وذكائه، وهو غافل عمَّا يخامر قلبيهما وعن سبب زيارتهما؛ إذ ذاك وبعد برهة دخل فؤاد وهو يكاد يرقص فرحًا من قدومهما إليه، ولكنه لم يلبث أن تراجع خطوات إلى الوراء بعد أن أدار نظره في الغرفة ولم يَرَ بها سوى والديه، وحالًا زالت عنه تلك الدلائل السارَّة، وبدت مكانها هيئة الكآبة والحزن، وكان والده ينظر إليه وهو عارف سبب حزنه، أما والدته فقد عرفت ذنبها ولكن كبرياءها التي كانت في حرب دائم مع حُنُوِّهَا وحُبِّها منعتها عن إظهار الشفقة والحنان إذ ذاك، ولما سألها ولدها عن بديعة سرًّا أجابته إنها تخبره متى خرجا من القاعة.

وبعد أن استراحوا وقُدِّمت لهم المرطبات، طلبت السيدة مريم من ولدها أن يخرج معها إلى حديقة المدرسة، وبقي والده مع الرئيس يتحدثان، فمشت تلك الوالدة مع ولدها ولا قدرة لها على مباشرة الحديث؛ لأنه كان مؤلمًا، وكان هو ينتظر بفارغ الصبر ابتداء ذلك الحديث، ولا يحب أن يسألها تأدبًا. وكانا قد قطعا نصف الحديقة تقريبًا والوالدة لم تتكلم بعدُ، ففرغ صبر الشاب وقال: إنني أخشى امتناعك عن الكلام يا أمي، فماذا جرى لبديعة فلم تأتِ معكما؟ قال هذا ونظر إليها ليسمع جوابها. أما هي فلبثت مطرقة إلى الأرض بدون كلام، فقال الغلام ثانية وقد زاد انشغال باله: أستحلفك بالحنو الوالدي يا أماه إلا صدَقْتِني الخبر؛ لأن قلبي يكاد يتقطع من سكوتك.

فرفعت نظرها إليه وقالت: لو لم تكُن مهذبًا لما تجرأتُ على إبلاغك الخبر بنفسي ولكن … فقاطعها ولدها الكلام وقال بتضجُّر: أرجوك أن تحذفي المقدمة وتقرئي الفصل، أخبريني الخبر مجردًا؛ لأن حشاشتي قد ذابت ولو كنت تشعرين بقلبي لرحمتِني. أخبريني ماذا جرى لبديعة؟

ولما قال هذا الكلام شعرت هي بتمزُّق أحشائها أيضًا، ولكن تلك العدوة اللدودة بثوب الصديقة المخلصة — وهي «الكبرياء» — كانت واقفة لها بالمرصاد فلم تَكَدْ تَهِنُ حتى استرجعت قواها وقالت: «إن بديعة سافرت إلى أمريكا.» وكان إذ ذاك قد أشرفا على مقعد من حجر، فارتمى الشاب على ذلك المقعد وقال بصوت عالٍ: «بديعة سافرت!»

أجابت والدته بهدوء: نعم إنها سافرت.

فقال الشاب بانكسار، ونظر إلى والده نظرة تُفَتِّتُ كُلَّ قَلْبٍ إلا قلبها: قولي ماتت يا أماه ولا تخافي؛ إذ إن سفرها من المحال، فلماذا سافرت؟ ومع من سافرت؟

أجابت برزانة: لماذا سافرت؟ ذلك لأنها خائنة! ومع من سافرت؟ مع ذلك الخائن مثلها ابن خالتك نسيب!

فانتصب فؤاد واقفًا، وقال غاضبًا بصوت متهدج: ماذا تقولين؟! إنني لم أفهم كلامك فأرجو التصريح؛ لأن قلبي يتفتت. ولو كان الصخر مكان قلبها لتفتَّت فلم يكن انفجار ينابيع دموعها شيء كثير إذن وهي واقفة أمام ابنها تنظر إلى حزنه الشديد الذي سبَّبَتْه له إشباعًا لكبريائها، التي ساعدتها على التجلُّد الآن فقالت له: لا أقدر أن أقول غير أنه بعد مجيئك إلى هنا ابتدأ تاريخ محبة نسيب وبديعة، وإذ لم يقدرا على الاقتران هنا سافرا إلى أمريكا مقترنَيْن أو غير مقترنين لا أعلم …

فكرر الشاب قوله: سافرت إلى أمريكا، هي ونسيب! إنني لا أفهم كل هذا.

قالت والدته: لا غرو إذا كنت لا تفهمه يا ولدي؛ لأنك لم تَزَلْ حديث العهد بمعرفة النساء، ولم تُبلَ بعد بمكرهن وخداعهن، ولكن أرجو أن تكون هذه الأمثولة كافية لأن تعلمك التحذُّر منهن مرة ثانية وعدم الوثوق بهن بشيء «ولو قلن نزلن من السماء».

فقال: إنني أسمع هذا من كثيرين، ولكن صدوره عن واحدة من هذا الجنس يجعلني أن أصدقه ولكن … هل بديعة ماكرة ومخادعة؟ إنني لا أصدق هذا … إذ ليس كل النساء سواء.

قالت والدته مبتسمة: هنيئًا لقلبك الطاهر وطوبى له! وبعد أن استرجع الشاب قوى نفسه عرف بأن والدته تحتقر بديعة باغتيابها، فقال في نفسه: إنني لا أطيق هذا ومع أنني أحب الانتقام من بديعة، فأحب أن يكون هذا الانتقام مني لا من سواي ولو كان «أعز الناس إلي». ثم نظر إلى والدته وقد أخذ لون وجهه الأصلي يرجع إليه وهو يتجلد: إنني أخطأت إذ قلت بأن الضربة قاضية؛ لأنني أرى من نفسي قوة عظيمة على الصبر واعتبار هذه المسألة من التوافه. فكادت والدته تطير من فرحها عند سماع هذا الكلام؛ لأنه غير ما كانت تنتظر، وظنت أن الولد رضِيَ الرضى التام واقتنع، ولكنها — وا أسفاه — قدرت تحكم على الظواهر ولم يخرق نظرُها الحادُّ ما وراء تينك العينين المضيئتين بالذكاء، ولا ذلك الوجه الهادئ لتعلَم ما خبأ لها الدهر هناك من المصائب والويلات. وحالًا طوَّقَتْه بذراعيها قائلة وهي تُقبِّلُه بحرارة: استعمِل عقلك كسلاح لمحاربة هذا الأمر التافه يا عزيزي الذي هو لأجل سعادتك. ثم خطر في بالها فأمسكت بيده قائلة: فؤاد، لا أظنت تفعل شيئًا من مثل اللحاق ببديعة أو الاضطراب والحزن إلى حَدِّ فَقْدِ صحتك وعلومك.

أجاب الشاب بسكينة: إنني قادر على قبر هذه الأفكار في صدري يا أمي إلى ما بعد انتهاء أيامي المدرسية، وإذ ذاك أرى ما يوافق الظروف؛ لأنني أُفرِد لكل عمل وقتًا خاصًّا به.

فهلع قلبها لهذا الكلام الذي عرَفت بأنه صائر لا محالة، ولكنها كتمت ما بها «لوقته» وأطاعت ولدها؛ إذ قال لها: يجب أن نرجع إلى حيث والدي لأنني مشتاق إليه.

فحزنت الوالدة لحب الولد لوالده وقالت في نفسها: ماذا يقول لو عرف؟ وهل أعود أستحق هذه الكلمة عنده يا ترى؟ ولم يَخْفَ على والده بأن تأثُّرَه من كلام والدته كان شديدًا، فعندما ضَمَّهُ إلى صدره وقبَّله همس في أذنه قائلًا: إنني عَرَفْتُ بكل شيء فلا تَخَفْ يا حبيبي؛ لأنني سأكون عضدك وأساعدك بالشيء الذي يشتهيه قلبك.

وبالحقيقة إن صبر فؤاد كان عجيبًا نظرًا لجيوش الأفكار التي كانت تحاربه، فإنه قضى باقي أيامه في المدرسة هادئًا ساكتًا؛ وذلك لأنه كان شجاعًا يستصغر المصائب مع الصبر والعقل، وقد صدق فيه قول القائل من أن المصيبة تَزيد العاقل قوةً والجاهل ضعفًا، وقد رأى بعين بصيرة أن احتياجه كان إلى الصَّبْرِ والتجلُّد والتُّؤَدَة كثيرًا، ومع أن عاطفة الحب كانت متربِّعة على دست الرئاسة في قلبه؛ فإنه أنزلها إذ ذاك وأجلس عاطفة الواجب مكانها، وما ذلك إلا لأنه يعرف قيمة الوقت وأن كل شيء يجب أن يعمل بوقته.

وما ترى كان يجديه الهم والجزع لو استسلم لهما؟ إنهما كانا يُفقدانه قسمًا من صحته وربما كُلَّهَا، ويعيقانه عن إتمام دروسه إن لم يُنسياه الماضية منها فإنه كان يشعر بالحب ويحب معرفة أمر بديعة كما هو، ولكنه ترك هذه الأشياء لوقتها أي إلى ما بعد خروجه من المدرسة؛ فكان له من هذه الفكرة قوة على الصبر عظيمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤