الفصل الثاني والثلاثون

سفر ميخائيل

وبعد أن دُفِنَتْ والدة السيدة جميلة ذاقت هذه من مرارة الوحدة ما كاد ينسيها عذاباتها الماضية، وفي أحد الأيام كانت جالسة في المكان الذي رأيناها فيه أول تعرُّفِنا بها، وأمامها على كرسي آخر امرأة عجوز هي مربيتها. وكان السيدة جميلة مطرقة إلى الأرض تفتكر، فأرادت هذه المرأة أن تحول أفكارها بالحديث فقالت: ألم يأتكِ خبر من ميخائيل للآن؟ قالت السيدة: كلا، آه يا أمَّ سمعان، إن نفسي حزينة حتى الموت وأنا أشعر بعظم ذنبي.

قالت أم سمعان: يجب أن تصبري يا سيدتي، فالذنب لم يكن ذنبك بل ذنب والديك رحمهما الله.

قالت: نعم، نعم، ولكن قد مضى والداي إلى مقرِّ الراحة وبقيتُ أنا أتعذب من أجل غيري، وغيري، وغيري من هو أعز من الحياة يتعذب من أجلي.

فكررت أمُّ سمعان قولها: تَصَبَّرِي يا سيدتي فإن اجتماعك بها قريب؛ لأن العقبات قد زالت كلها.

إذ ذاك أطرقت السيدة إلى الأرض وأجابتها بصوت حزين: بل إن جبلًا شامخًا قد قام في وجهي الآن؛ لأنه لم يجدها!

فصرخت المربية: لم يجدها؟

قالت السيدة: نعم ليتمَّ شقائي، فأنا مستحقة هذا العقاب الشديد؛ لأنني بعد أن كان العصفور بيدي أفلتُّه ورجعت أفتش عليه وأتعذب لاصطياده ولكنه قد طار … قد طار … وهذا جزاء التهامل والخيانة.

وإذ لم تجد أمُّ سمعان ما تتكلم به سكتت. وبعد قليل قامت تفتح الباب فرأت بأن الطارق هو ميخائيل، فصرخت بملء صوتها: ميخائيل! أهلًا وسهلًا.

ولما سمعت السيدة الجالسة هذا الاسم نسيت همها ونهضت تستقبله وتصافحه، فدخل الغرفة وجلس بدون كلام شأن من معه خبر مزعج ولا يريد أن يقصه.

ولحظت السيدة منه ذلك فقالت وقد فرغ صبرها: أرجوك أن تقول الصدق كيفما كان يا ميخائيل.

فنظر الرجل إليها بوجه وقور يزيده بياض الشعر كإكليل من الكمال والتعقل وقارًا وقال: الحقيقة هي أن الفتاة سافرت إلى أمريكا.

فلما سمعت السيدة جميلة هذا الكلام صرخت صرخة من أعماق قلبها ووقعت على كرسيها.

فقال الرجل: إن الخبر مع هوله لا يستحق اضطراب سيدتي؛ لأن السفر إلى أمريكا والرجوع منها اليوم كالسفر إلى بيروت والرجوع منها.

قالت تلك السيدة بحنق: تسلية، اطمئنان، وهم. ولكن الحقيقة هي أنه قد كتب لي أن أعيش تعيسة طول عمري ولا مفرَّ من إرادة الله.

قال: إنك تُظهرين ضعفًا في غير محله يا سيدتي؛ فإنك الآن بعد أن تُوُفِّي والديك هان عليك كل أمر، ومن أراد أن يبلغ المراد من أمر كهذا لا يقتضي له إلا المال وهو متوفر لديك.

أجابت: نعم، أنا لا أجهل هذا، ولكن ألا تعرف بأن أكبر قصاص لخائنة مثلي هو أنه لا شيء لديَّ يكفل لي الفوز؛ فالفتاة تجهلني تمام الجهل، ومن المحال أن تسلم ذاتها على هذه الطريقة.

قال: لا تقرني كلمة الخيانة باسمك يا سيدتي؛ لأنك قد ضحيت كل عزيز لأجل والديك وهذه أمانة لا خيانة.

قالت: نعم، أمانة لأناس وخيانة لآخرين.

ورأى الرجل تأثُّرَها فقال محوِّلًا أفكارها عن تلك النقطة: إن الوقت ثمين يا سيدتي، ومن الواجب أن ننظر في الأمر.

قالت: لم تخبرني القصة بإيضاح، فمن أين عرفت بأنها سافرت؟ وهل لديك عنوانها؟

قال الرجل: لديَّ كل التعليمات اللازمة؛ لأنني أخذتها من عائلة كانت تخدم عندها …

فلم تدعه يكمل كلامه بل صرخت قائلة: كفى يا ميخائيل لا تذكر لي شيئًا لئلا تتجدد آلامي. إنها كانت تخدم … أوَّاه، إن عندي عددًا من الخدم وهي اضْطُرَّتْ أن تخدم لتعيش! آه يا ربي ماذا يكون قصاصي عندك؟! إنني نَسِيتُهَا في هذه الأيام يا ميخائيل ولم أرسل إليها مالًا من مدة ثلاث سنوات، ذلك من اضطراباتي الداخلية في البيت، أنا … أنا القاسية التي أتيت بها إلى هذا العالم لكي أعذبها فيه، فهي تتعذب بتحصيل معيشتها وأنا في راحة ورخاء لا أعمل عملًا، فهلا أتى الوقت الذي يجب أن أُكَفِّرَ فيه عن ذنوبي؟

وعند هذا الحد خرجت أمُّ سمعان، وما بقي من الكلام بين جميلة وميخائيل كان سرًّا، وفي ثاني أسبوع كانت واقفة في باب الدار وبيدها صرة تناوله إياها وتدعو له بالسفر الميمون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤