الفصل الثالث والثلاثون

أديب في نيويورك

في عصر يوم الأحد من شهر آيار الجميل، كان أديب ماشيًا في شارع واشنطون في نيويورك، فالتقى بصديقه القديم ورفيقه في المدرسة وابن بلدته سليم، ففرح كلٌّ منهما بهذا اللقاء فرحًا لا مزيد عليه وتصافحَا ودخلَا قهوة هناك، وأخذَا يتشاكيان مُرَّ الفراق، ولم يَطُلْ عليهما الوقت حتى فتح سليم ساعته وقال لصديقه: أرجوك يا عزيزي أن تنتظرني هنا مقدار ساعة؛ لأذهب فأودع صديقًا لي عائدًا إلى الوطن وأرجع إليك.

فقال أديب: إنني أفضل الذهاب على البقاء إذا لم يكن من بأس بذلك.

قال سليم: كلا، بل إن ذهابك معي يزيد في سروري. وفيما هما في الطريق سأله سليم عن سبب قدومه إلى نيويورك الآن ممَّا لم يفعله من قبل، فقال له: عادة هذه الأيام هي أن يأتي تجار الداخلية إلى نيويورك لشراء بضائع محالهم، وهم يفتكرون بأن هذه القيمة التي يصرفونها بإتيانهم يتوفر عليهم أضعافها من الأرباح التي لم يفتكروا بها من قبلُ، وهم يرون من هذا إفادة على ما أظن.

وسأله أديب عن اسم صديقه فقال: اسمه ميخائيل، وهو شيخ في الستين من عمره، ولكن له نشاط الشباب وقوتهم. وقد أتى إلى هذه البلاد للتفتيش على فتاة ولكنه وجدها قد ماتت، وتراه الآن بهمٍّ زائد لأنه سيرجع بخفَّيْ حنين، وقد قال لي بأنه على لقاء الفتاة وعدم لقائها يتوقف أمران: إما سعادته وإما تعاسته.

فقال أديب: وما اسم الفتاة؟

أجاب: لا أعلم وسنسأل صاحبنا عنه.

ولما وصلا إلى الرصيف وجدَا ميخائيل واقفًا مع عدد من الأصحاب، وهو وقور يخامر وقاره الحزن العميق. وحينما رآه شعر بميل إليه واعتبارٍ له، ولكنه لما صافحه شعر بكهربائية الحب تتصل إليه من ذلك الشخص الوقور ولم يدرِ لهذا سببًا.

وشعر أديب بدافع إلى السؤال عن الفتاة، فانحاز هو وسليم إلى جهة مع الشيخ، وسأله عنها لعله يستطيع مساعدته.

فقال الرجل اسمها بديعة وقد كنت أتيتها ببشارة عظيمة كانت ولا شك سعادتَها وسعادةَ شخص آخر وسعادتي أنا؛ لأنني أكون الجامع بينهما، ولكن صديقة بديعة أخبرتني بأنها ماتت وقطعت بهذا الخبر آخر خيط من حبال آمالي.

فلما سمع أديب هذا الاسم اضطرب قلبه وسأل الرجل قائلًا: من هي صديقة بديعة؟ وهل تعرف اسمها؟

أجاب الشيخ: هي لوسيا رفيقة الفتاة من الوطن، وتسكن في الشارع الفلاني من هذه المدينة.

فقال أديب: هل لك أن تَصِفَ لي ملامح الفتاة؛ فإنني أعرف واحدة بهذا الاسم.

قال الشيخ: لا يمكن أن تكون فتاتي التي هي واثقة من موت صديقتها؛ لأنها أسلمت الروح بين يديها كما أخبرتني.

ولما سمع أديب كلامه عن بديعة وهيئتها احمرَّ وجهه، وقال للشيخ: إنني أعرف الفتاة وهي بمحلي الآن.

فشهق الشيخ من الفرج وقال: يا للبشارة يا للسعادة! فكيف إذن قالت لي تلك الفتاة إنها ماتت من ستة شهور.

قال أديب: كأنك أخبرتها بأنك تحمل لبديعة بشائر حسنة؟

قال: نعم.

قال: هذا هو سبب «موتها» فلا تعبأ به، وإذا كنت لم تزل على عزمك من طلب بديعة فلا تأسف على خسارة جواز السفر.

فقال الشيخ وهو يلتفت إلى الجواز الذي بيده ويهزُّ رأسه: مائة مثل هذا لا تهمُّ لأنني لغاية الالتقاء بالفتاة قد تركت بيتي وعائلتي وأتيت، وأؤكد لك بأن الموت أهون عليَّ من الرجوع بدونها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤