الفصل الثاني والأربعون

اللقاء العجيب

ولكنها لم تلبث أن عرفت السبب؛ لأنها أول ما وضعت قدمًا في باب القاعة أرجعتها وهي مضطربة لا تدري أفي يقظة هي أم في منام. وكانت عيون الضيوف متجهة نحو الباب بشوق لمرأى بديعة؛ لأنهم كانوا سمعوا عنها شيئًا كثيرًا ولَّد فيهم شوقًا عظيمًا إلى مشاهدتها، ولما وضعت قدمها في باب القاعة كما ذكر أسرعت السيدة مريم نحو الباب وهي تصرخ بصوت عالٍ: بديعة بديعة! أهذه أنت؟!

وكان زوجها قد تبعها للباب أيضًا، أما ولدهما فقد كان ضعيفًا للغاية، وإذ أتته تلك الضربة القلبية عجز عن الوقوف، ولما رأى ذلك الوجه وسمع والدته تنادي بذلك الاسم، انطرح على المقعد لا يقدر على الجلوس، وكأنه لم يقدر على مشاهدة ذلك المشهد أيضًا فغطى وجهه بيديه.

وكانت السيدة جميلة أشدَّ اضطرابًا من الجميع؛ لأنها وقفت هناك تشاهد ذلك المشهد المحزن ولا تعرف السبب. أما بديعة فلبثت واقفة كالصنم بدون حراك ولا كلام، وإذ ذاك اقترب الخواجة منصور فضمها إلى صدره وقبلها قائلًا: «إنني أسعد الجميع بلقائك؛ لأن محبتي لك لم يشبها كدر أو غدر، فالشكر لله ثم الشكر لله على نعمته.» وكأن كلام هذا الرجل المحب أعان بديعة فارتمت على كتفه وذرفت الدموع السخنة.

وشعرت السيدة مريم بهذا الجزاء من بديعة التي تبعت وحي قلبها بحب الخواجة منصور، ونسيت بأن مكتوبه هو الذي أخرجها من البيت، فنظرت إلى ولدها لتقابل نظره وتقرأ أفكاره، ولسعادتها كان لم يزل ساترًا وجهه، فتنهدت من أعماق قلبها تنهد من تخلص من أمر صعب.

وبعد أن هدأ روع الجميع جلست بديعة ما بين والدتها والخواجة منصور، وقَصَّ هذا على السيدة جميلة القصة بصدق، وكانت بديعة مُطْرِقَةً فلم تُعِرْ فؤادًا ووالدته التفاتًا.

ولما أتم منصور حديثه التفتت جميلة إلى مريم وقالت معاتبة: وهل كان كلامك لي عن تلك «الخائنة» موجَّهًا لحشاشة قلبي الطاهرة يا صديقتي؟

فقالت السيدة مريم — وكانت زهرة كبريائها قد ذابت الآن: أرجو أن تكتفي بقصاصي الماضي ولا تزيدي يا عزيزتي.

إذ ذاك تحركت في قلب بديعة عاطفة «عمل الخير» التي كانت تفوق جميع العواطف بنفسها، وللحال دنت السيدة مريم وجثت أمامها كملاك طاهر قائلة: إذا كان الصفح سماويًّا، فلنكن كلنا ملائكة بقلوب نقية، ولتصفح الواحدة عن الأخرى لأن الذنب مشترك بين الجميع …

وبعد أن قبلت تلك السيدة الباكية انتقلت منها إلى فؤاد وقلبها خانق، وكان هذا لم يزل كما شاهده القارئ عند دخول بديعة وهيئته محزنة. وحزنه هذا اضطر بديعة للابتداء بملاطفته؛ لأنها رأت هذا من واجباتها. أما هو فلما سمع وقع خطاها المقتربة إليه رفع يديه عن عينيه وجرب ينظر إليها، فلم يقدر أن يقابل نظرها وأنى له ذلك. وهو عجز عن النظر إلى صورتها الوهمية بعدما تحقق براءتها، فكيف الآن وهو ينظر إلى الصورة الحقيقية.

لم يبكِ فؤاد لما اقتربت بديعة منه كما فعلت والدته؛ لأنه قل من يبكي من الرجال بوقت المصائب، وهذا دليل على أن سلاح الرجل شجاعته وسلاح المرأة دموعها، أو أن المرأة أشد حنوًّا من الرجل. على أن الشجاعة لم تظهر على وجه فؤاد مكان دموعه؛ لأنه كان مُطْرِقًا أصفر يرتجف كالورق. آثر منظره هذا في بديعة فوهبها شجاعة، فاقتربت منه واضعةً يدها على رأسه المنخفض وقالت بصوت مضطرب: إن الموقف مفرح لا محزن، فما الذي يزعجك يا فؤاد بعد أن سمعت القصة من فَمِ والدك؟ يجب أن تفرح وتصفح.

وكأن هذه الكلمة الأخيرة أحرقت قلبه، فصعدت الحرارة إلى خديه المصفرين وقال ناظرًا إليها: أصفح! عمن؟!

أجابت بهدوء: اصفح عن الظروف التي سببت ما سببت لأجل سعادتنا بدون شك.

وكان الوالدون قد التهوا عنهما بالحديث، فجلست هي بجانبه وقالت بلطف: إن التقاءنا هنا مدهش عجيب، فيظهر بأنك بعد شفائك رجعت من أمريكا حالًا، ولكن يا فؤاد هل علمت ببراءتي قبل الآن؟

فقال: هل تظنين أنني لو لم أعلم هذا الخبر من أمريكا كنت رجعت منها إلى حيث أنت؟

فابتسمت لكلامه الدال على عظم حقده الماضي عليها، وقالت بلطف: ولكن من أخبرك؟

قال: إن الله تمجد اسمه أوجد الموت وأوجد في قلب الإنسان رهبة منه، وجعله مهما يكن شريرًا أن يشعر بافتقاره إلى تنقية الضمير والقلب قبل ذهابه من هذه الدنيا إلى حيث هي الطهارة والنقاوة؛ فإن الذي كان مسبب متاعبنا الماضية لما خاف من ملك الموت الرهيب أقرَّ بخيانته وصرَّح ببراءتك. فعرفت بديعة بأنه لم يكن غير نسيب، ولكنها قالت: ومن هو؟

فأجاب فؤاد: هو ذاك الخائن نسيب!

فعلَا وجهها بعض الاصفرار وقالت بحزن: وهل مات نسيب يا فؤاد؟

فابتسم وقال: وهب أنه مات فهل تأسفين على من كان سبب عذاباتنا يا بديعة؟

قالت: نعم آسف لأنني أصفح عنه من كل قلبي، وإذا كان قد مات حقيقة فأنا أحزن عليه لأنه قد أتى ما أتى مدفوعًا … ثم رفعت منديلها ومسحت به دمعتين طاهرتين سقطتا لأجل رجل لا يستحقهما.

فقال فؤاد: أرجو ألَّا تبكي عليه؛ لأنه لا يستحق هذه الدموع الطاهرة.

قالت: ولوسيا؟

أجاب: هي في أسوأ حالة من جراء عمله معها وعملها مع نفسها.

فتنهدت تلك الفتاة المحبة، ولم تمنع دموعها عن السقوط الآن، فسقطت بغزارة. وأراد فؤاد أن يحول فكرها عن هذه النقطة فقال: ألا تحبين سماع القصة؟

أجابت: بدون شك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤