الفصل السادس والأربعون

كتاب لوسيا

وعاشت بديعة ثلاث سنوات تحت سماء السعادة الصافية، ولم يكدر صفاء هذه المعيشة شيء إلا ما كانت تراه في كل يوم من تعاسة بعض الناس وفقرهم، ولكنها كانت ترى بهذا سعادة أيضًا؛ لأنه كان يذكرها بواجبها نحو أولئك المساكين الذين لهم حق شرعي من الله في مال الأغنياء الذين يكونون مذنبين نحوه تعالى ما لم يشاركوا الفقراء المستحقين ببعضه. فكانت لا تنسى عمل الإحسان اليومي، كما أنها لا تنسى واجبها نحو زوجها وولديها مريم ويوسف، ووالدتها وأصدقائها الكثيرين.

وفي ذات يوم دخل فؤاد غرفتها، فبغت من مشاهدتها تبكي. فاقترب منها ليعلم السبب، فوجد بيدها رسالة قد فرغت من قراءتها وهي تبللها بدموعها، فحزن، وبعد أن مسح تلك الدموع سألها عن سبب بكائها، فناولته تلك الرسالة التي قرأ بها ما يأتي:

يا صديقة الفضيلة وحبيبة الرحمة

إن اليد التي تسطر هذا الكتاب هي غير يدي المرتجفة، ولكن القلب الذي يملي هو قلبي الذي وإن كان قد مات عن الفضيلة، فهو لم يزل يذكر أصحابها.

أما بعد فأنا هي أيتها السيدة السعيدة، تلك الصديقة التعيسة التي كانت تضحك وهي برفقتك مما حسبته تعاستك وسعادتها. وقد كان أول طريق الهلاك لها. أنا هي لوسيا، تلك الفتاة الناكرة الجميل، الجاحدة الفضل، التي لم تعرف قيمتكِ، ولم تقبل نصائحك لجهلها، حتى بلتها الأيام بما حذرتها منه.

إنني بأعظم حالات الشقاء الآن يا بديعة؛ لأن مالي وشرفي وصيتي وجمالي وصحتي قد ذهبت فريسة خداع نسيب، وهو بعد أن أغراني على الزواج المدني تركني إذ رأى من هي أفيد له مني، تركني أقاسي آلام المرض والفقر والهم، ولي ولد جميل قد قسم له النحس أن يولد ليشاطر أمه شقاءَها وتعاستها ويرثهما بعد موتها.

فالآن يا سيدتي الآن … ترينني منطرحة على فراش الآلام، وقد بعت كل الأثواب الجميلة والحلي النفيسة التي كنت أحسبها كل مجد العالم، بعتها لأقتات بثمنها … والآن قد تذكرت نصائحك الثمينة التي احتملها تيار جهلي وغروري، والتي لو قبلتُها لكنتُ بغير حالتي الحاضرة من الشقاء، الآن قد علمتني المصائب بأن طريق الفضيلة وإن تكن ضيقة والداخلون منها قليلين، فهي هي وحدها التي تكفل للمرأة حياة سعيدة دائمة. هي التي تجعل العذابات حلوة؛ إذ لا تكون مسببة من النفس بل من خالقها، وتضاعف عنده السعادة وتدعيها لخلوها من التذكارات المرة … وبعدل قد خلق الله المصائب على الأرض، التي إن لم تكن إلا لتذكير بعض الفتيات المغرورات مثلي بواجباتهنَّ وردعهن عن الأعمال الباطلة الضارة، فكفى بها نفعًا!

فهل تقبلين توسلاتي يا أيتها الجوهرة التي كانت خسارة صداقتها قصاصًا مؤلمًا على عذابي؟! وهل تقبلينني على باب رحمتك وصداقتك ثانية مع ولدي. أم تطردينني عنه لأقاسي برودة وقساوة هذا العالم، كما فعل معي من ضحيت كل شيء في الحياة لأجله!

إنني متعللة بانعطافك عليَّ، وعلى هذه التَّعِلَّة وحدها أعيش إلى أن يأتيني جوابك؛ لأن الصفح من شيم النفوس الشريفة، وهذا ما يزيد بقيمته، وهل أشرف من نفسك؟!

فانظري يا أختي بواجبك نحوي الآن؛ لأن التعساء — ولا سيما التعيسات مثلي — هم عيال الله، وضيوف ذوي الفضل متى تابوا واهتدوا. خلصيني، خلصيني من عذاباتي وأرجعيني إلى تخوم ظل صداقتك المنعشة يا بديعة المحبوبة، لأنك تعلمين كل الأمر؛ إذ إن الله لم يهبك فضلك وشرفك لتكوني فيها على بعض بنات جنسك فقط ولا لتكون فائدتهما راجعة إليك وحدك، بل لتساعدي بواسطتهما الفتيات من أخواتك في الجنس وأولهنَّ أنا صديقتك القديمة. وغاية ما أطلبه الآن أن تخلصيني من وهاد الشرور وتسترجعيني إليك لأكون أمينة في خدمتك بعد الآن، وأربي ولدي في حمى أولادك، والله يحفظك مساعدة لمن هي أتعس صديقاتك.

لوسيا

فلما انتهى فؤاد من قراءة هذا الكتاب نظر إلى امرأته وقال: إنني أشكر الله قبل كل شيء؛ لأنه أوجد فيَّ عاطفة حب الخير، وبعده لأنه أوجد عندي ما أقدر أن أستعين به على عمل الخير، ثم لأنه جل جلاله بيَّن لنا نور الفضيلة؛ لأن عافية الضلال وخيمة. فماذا يجب أن نفعل الآن يا بديعة؟

قالت بديعة: يجب أن نُري الكتاب لوالدِينَا كي يساعدونا في الرأي، وأن نكتب لأديب كي يزور لوسيا، فإن وجدها كما كتبت يسفِّرها إلينا، وإلا لا يكترث بها لأنني أخاف من أن يكون الكتاب من نسيب حيلة لخداعنا.

فقبل فؤاد رأي زوجته وقال: ما هذا إلا لأنني أقدر فضائل زوجتي المحبوبة قدرها.

وبعد شهور وصلت لوسيا إلى بيت بديعة، ومن مجرد نظر هذه إليها عَرَفَتْ كم قاست المسكينة، وأنها دفعت ثمن تطرُّفِها من دم قلبها وحياتها.

ولم تنظر بديعة إلى شيء في لوسيا ولا عاتبتها بشيء، بل كان كل اهتمامها الاعتناء بها وبولدها المريض حتى شفي الاثنان تمامًا.

وأفردت بديعة للوسيا غرفة جميلة في الدار لسكناها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤