الفصل السادس

الخيانة

وبات فؤاد ووالدته وبديعة ينتظرون الغد بصبر مزعج ويحلمون به، ففؤاد كان ينتظر الغد ليفاتح والديه بأمر حبه ويطلب رضاهما، فإن رضيا عنه كان خيرًا، وإلا فإنه يقترن ببديعة على كل حال تبعًا للمثل القائل: «لهما المشورة وليس الرضى.» وأمُّ فؤاد كانت تنتظر الغد ولكن ليس بفرح وسرور كما كان ينتظره فؤاد، بل بهمٍّ وخوف لأنها كانت تعلم بما سيجلب لها ذلك الغد وتمنَّت لو لم تَرَهُ.

ومع أن بديعة كانت تخاف من «الغد» أيضًا، فإنها كانت أقلَّ خوفًا وأكثر أملًا من سيديها؛ لأنها كانت تنتظر به أمرين سيتم أحدهما، وهما: إما رضى والدي فؤاد عنه وعدم معارضته بالاقتران بها، وإما عدم رضاهما وذهابها هي من ذلك البيت؛ فبالأول كانت سعادتها إذ تجتمع بحبيبها وتستريح من مشاق الحياة برضى من والديه، وتعيش طول حياتها سعيدة. وبالثاني كانت سعادتها بالتخلص من مرأى فؤاد الذي ربما كان سبب تعاستها؛ إذ تكون معه ما بين عاملين يتنازعانها دائمًا: عامل الحب الذي مصدره القلب وعامل الواجب الذي كانت تعتبره كثيرًا بكل شيء، ولكنها رجحت الأمر الثاني لأنها علمت ما هي أخلاق الأغنياء وكبرياؤهم، وكيف أنهم يحسبون من هو من غير طبقتهم خارجًا عن جِبِلَّةِ بني آدم … فلذلك استعدَّت بكل قواها لتَلَقِّي الخبر الذي يقضي بذهابها وبقيت طول ذلك الليل تفتكر فيه.

فلما أصبح الصباح على الثلاثة وأتى بقليل من الفرج الذي لا يعرفه المهموم والمريض في ظلمة الليل، كانت بديعة أقلَّ اكتراثًا للأمر كيف أتى، ولا غرو فقد ميزت أن الافتكار في المصيبة يضعف من قوتها.

وبعد أن مضى على ترك السيدة مريم لغرفة بديعة ساعة تقريبًا كانت تُرى مرتدية ثوب النوم وشعرها الأسود الطويل مرسل على كتفيها، وهي واقفة على باب غرفة ابن أختها تطرقه؛ لأنها عجزت عن النوم في تلك الليلة وغلب عليها الأرق فلم تَرَ لها من مغيث سوى نسيب الذي كانت ترتاح إلى محادثته وتعجبها نصائحه، لا سيما وأنها لم تحب أن يطلع زوجها على الأمر لترى كيف وعلى أي وجهٍ تنتهي المسألة.

ولم يكن شيء يشغل بال نسيب؛ لأن ذلك الشاب لم يمر عليه همٌّ في زمانه، ليس لعدم وجود الهموم، بل لقلة اكتراثه لها؛ فهو قد كان محبًّا لذاته أكثر من كل شخص ومن كل شيء، ولهذا لم يكدر صفاءه أمر من الأمور لأن الأمور كلها لم تكن تستحق التفاته واكتراثه، ومع أنه كان قد لحظ بأن لرجوع فؤاد سببًا، وكان يرقب دائمًا ميل فؤاد إلى بديعة والتغيُّر الذي طرأ عليه بمدَّةٍ قصيرة، لم يعبأ بالأمر كثيرًا شأنه في كل شيء؛ ولذلك لم يكن ما يقلقه فنام براحة. ولما سمع تلك القرعات الخفيفة على باب غرفته ولم يكن منتظرًا لها، نزل من سريره مسرعًا إلى الباب، ولما رأى خالته واقفة فيه قال لها: خير إن شاء الله يا سيدتي!

فلم تجبه بشيء بل دخلت وجلست على سريره والاضطراب بادٍ على وجهها، فجلس هو إلى جانبها وطوَّقها بذراعيه وقال: بالله عليك يا خالة أخبريني عن سبب مجيئك إليَّ بهذه الساعة؛ فإن أفكاري قلقة جدًّا لأن قلبي يحدثني بأنك مصابة بأمر ذي بال.

عند ذلك تنهَّدت خالته وقالت: صدقت يا نسيب، فأنا مصابة بمصاب ليس أعظم منه.

– وما هو يا سيدتي؟

– ما هو! آه يا نسيب، إنني لا أقدر على قصِّه عليك؛ لأنني لم أكن لأصدق بأنه يمر عليَّ فينطق به لساني.

فنظر إليها الشاب وكان يعرف ما هي عليه من العظمة والكبرياء، ولما قالت الكلام الأخير تجسمت له كبرياؤها وعرَف بأنها مجروحة، وأن هذا الجُرح لا يبعد أن يكون من القصة التي افتكر فيها كثيرًا، ولم يتمالك نفسه أن انتصب أمامها قائلًا: أنا لك يا سيدتي بما أقدر عليه.

فأجابته هي بصوت أدنى إلى الغضب منه إلى الانكسار: إنني لهذا الغرض أتيت إلى غرفتك في هذا الوقت؛ إذ إنني لم أجد معينًا سواك، فاجلس لأقصَّ عليك قصتي المؤثرة.

ولما انتهت السيدة مريم من كلامها رفع نسيب نظره إليها وقال بهدوء: هذا ما كنت أخشاه، وقد عرفته تمامًا إذ رأيتُك على باب غرفتي.

فقالت خالته وصوتها يرتجف من الغضب: إنك قد عرفت الداء وانتظرته قبلي، فلربما تكون أقدر مني على وصف الدواء، فما هو رأيك الآن؟ وما هو الجواب الأنسب الذي يجب أن أجيب به فؤادًا في الغد على سؤاله العظيم الذي أُفَضِّلُ الموت على مجاراته عليه؟

فأطرق نسيب برأسه إلى الأرض يفتكر، ثم حوله إلى خالته قائلًا: وهل عرف العم منصور بالخبر؟

فأجابت بتنهُّد: هذا ما دعاني إلى الإتيان إليك؛ لأنني لا أحب أن يعلم إلا إذا حدث ما يضطرني إلى إطْلاعه على الخبر بعد الليلة.

– لقد فعلتِ حسنًا؛ لأن العمَّ مُزْمِعٌ على السفر إلى مصر للنظر في شئونه التجارية في الأسبوع القادم، وهو سيقضي هناك أسابيع، والفرصة مناسبة، ولا سيما وأنا قد أنهيت دروسي هذه السنة وسوف لا أرجع إلى المدرسة، بل أساعد العم في التجارة، ويمكننا أن نقضي هذه المسألة بغيابه. فالتفتت إليه خالته مدهوشة وقالت: أتعني أننا لا نطلع عمك على الأمر مطلقًا؟

– هذا ما أعنيه تمامًا.

– ولكن إذا لم نفعل نحن ربما فعل فؤاد. فالأوفق أن نكون السابقين.

– ولكن لم تطلعيني على ما ستقولينه لفؤاد متى فاتحك بالأمر.

– هذا ما سألتك عنه؛ لأن الهموم قد استولت على عقلي ورشادي ولا رأي لي، فمدني بنصائحك إذ لا مخلص لي أتكل عليه في حراجة هذا الموقف إلَّاك.

وكأن ضمير نسيب وبخه على أمرٍ ما، فقال لخالته: وهل تقبلين نصائحي المخلصة المنزهة عن كل غاية إلا غاية راحتك؟

– هذا ما أفعله بسرور لأنني أثق كل الوثوق بحبك لي.

– فنصيحتي إذن هي أن تتظاهري بالرضى عن طلب فؤاد، وتطمئني خاطره وتطلبي منه أن لا يخبر والده بالأمر، ولا أن يتظاهر به أمام أحد، وقصدي من هذا هو أن يطمئن الشاب بمدة العطلة ويعاشر الفتاة لأجل التسلية إلى أن يرجع إلى المدرسة، وإذ ذاك يكون لكل مقام مقال، أظهري لفؤاد الرضى التام وقولي له بأن كلامك لوالده بهذا الخصوص يكون أكثر قبولًا من كلامه هو. فقاطعته خالته وقالت: إنك لم تصرح بشيء يا نسيب، فكيف يمكنني أن لا أكترث لأمر هذه أهميته؟

– هذا هو أسدُّ رأي يا سيدتي؛ لأنك إن طردت الفتاة أو تهددت الشاب فسيفعلان الأمر بالرغم عنك، فاللطف أحسن دواءٍ لهذا الداء.

– ولكن بعد هذا اللطف ماذا يصير؟

– بعد هذا اللطف يرجع فؤاد إلى المدرسة فيتم دروسه، وهو لا يفعل هذا ما لم يكن آمنًا من جهة بديعة، ولما يرجع ندبر نحن حيلة هنا لطرد بديعة وحيلة أخرى لإقناع فؤاد بأن بديعة ذهبت برضاها أو كانت مدفوعة بأمر آخر …

– نسيب نسيب، ماذا تقول؟ هل أذنك بهذا المقدار بعيدة عن فمك؟ ألم تنتبه لعاقبة ومعنى كلامك؟

أنت تطلب مني أمرًا هو أصعب من الأمر الذي نحن بصدده الآن، نعم مائة مرة أصعب لأنني إن فعلته أكون قاتلة وخائنة وكاذبة بوقت واحد.

إذ ذاك عزم نسيب على أن يمثل دور غاياته الشريرة على مسرح الخديعة، ورام أن يجرب مكره ليرى مقدارها، فقال ببرود: إنني لم أفهم كلامك يا خالتي، فأنت قد طلبتي مشورتي وأنا قد أشرتُ عليك بما أعرف أنه يعود عليك وعلى ولدك بالسعادة، ولا أدري كيف تصيرين قاتلة وخائنة وكاذبة من إتيانك أمرًا مفيدًا لك ولسواك.

فقالت تلك السيدة وهي تبكي لأول مرة من حين دخولها غرفته: نعم، نعم، إنني آتي الثلاثة أمور متى أطلعتك؛ لأنني متى وعدت فؤادًا بالرضى وأخلفتُ أكون خائنة، ومتى تظاهرت برضاي عن طلبه وأنا لم أكن — ولن أكون — راضية؛ أكن كاذبة، ومتى تساهلت معه ومع تلك الفتاة المسكينة حتى إذا امتدَّت جذور الحب في قلبيهما وصار استئصالها منها يعني الهلاك وحاولت اقتلاعها؛ أكن قاتلة. وأنا لا أقدر على هذا العمل؛ لأن لي ضميرًا يوبخني ولأنني امرأة مسيحية أخاف الله.

– هذا كله وهم باطل؛ لأن حب ابنك للفتاة ليس ذلك الحب الذي «يميت القلب»؛ لأن فؤادًا لم يَصِلْ بعدُ إلى عمر الرجال ليقدره قدره، بل هو حب يشعر به كل شاب أي وقت رأى وجهًا جميلًا، وهو يبتدئ كبيرًا جدًّا ثم لا يلبث أن يتضاءل إلى أن يزول أثره، ولَعمري إنه خير لك ولابنك وللفتاة أن يمر عليكم طارئ هذا الحب وابنك غير مُقَيَّدٍ من أن يكون مقيدًا، فأنا أؤكد لك بأن حبَّ فؤاد لبديعة لا يدوم أكثر من شهر، وهو وقت ذهابه إلى المدرسة. وأما بديعة فلا يجب أن تهتمي لأجلها؛ لأنها فتاة لا تحب شخص ابنك بل مالَه، وأي قدر من المال يغنيها عن الخدمة يسلِّيها عن حب ولدك … فأنت لا تكونين كاذبة إذن لأن «الغاية تبرر الواسطة»، ولا تكونين خائنة؛ لأن بذلك الوقت الذي تخلفين فيه وعدك تكونين ترحمين الشاب والفتاة معًا، لا قاتلة؛ لأن الحب الذي تظنينه عظيمًا ليس كذلك، ولا هو حب ابنك لبديعة ولا حب بديعة لابنك.

فمسحت السيدة مريم دموعها وقالت لابن أختها: إن هذا أمر لا أفعله ولو متُّ.

فقال الشاب بهدوء: إذن إنني أتأسَّفُ لعدم تمكُّني من مساعدتك.

– ولكن أليس من أمر آخر أقدر فيه على حفظ شرف نفسي ومبدئي؟

– كلا، إلا إذا سمحت لابنك بالاقتران أو طردت الفتاة من بيتك، ولكنك ستندمين على فعل الأمرين؛ إذ إنك بالأول تشترين التعاسة والمذلَّة مختارة، وبالثاني تجلبينها عليك بالرغم عنك؛ لأن الغضب يحمل فؤادًا على اللحاق بالفتاة والاقتران بها، فيجب أن تكوني شجاعة وتصرفي المسألة بالتي هي أحسن.

– ولكن يا نسيب إنني لا أرى من نفسي قوة على الشر!

– قوة على الشرِّ! إنك مخطئة يا خالة؛ لأن ما ستفعلينه هو عين الخير نحو الفتاة ونحو ولدك ونحو نفسك أيضًا؛ لأن عدم المساواة تقضي بمنع هذا الاقتران كيف كان الحال.

– دع هذه الكلمة «عدم المساواة»؛ فإنها تؤلمني، ولولا ذلك لكنت سعيدة باقتران فؤاد ببديعة؛ إذ إنني اختبرت الفتاة وعرفت بأنها عزيزة جدًّا بآدابها وفضائلها بين النساء، ولكنها خادمة واقترانها بولدي يجلب عليَّ عارًا لا يُمحى … فأنا أذعن لنصائحك مرغمة لأنها أحسنُ واسطة، وإنني أضحي بكل شيء لأجل سعادة ولدي، فلتكن مشيئتك يا رب، وساعدني إذا كان الأمر لأجل مساعدة فؤاد وسعادته.

ولم يدرِ غير الله بما خامر قلب ذلك الشاب الذي كان غيورًا جدًّا، ولطالما دفعته غَيْرَتُهُ على أتفه الأمور إلى ارتكاب أعظم الجرائم، فكيف وهو يغار الآن على أعظمها؟ ولما قالت خالته الكلام الأخير تحركت في قلبه نيران تلك الغيرة الفاسدة، فنظر إليها مبتسمًا ابتسامة الظَّفَر، وقال بسرور وراءه غاية لم تدرك كنهها خالته: لم تسلكي غير أقرب الطرق الموصِّلة إلى السعادة؛ لأن هذا النوع من الحب لا يلبث أن يتحول إلى بُغض، وهناك البكاء وصريف الأسنان، فعملك هذا عن حكمة، وهو ليس لسعادة فؤاد وحده بل لسعادة الفتاة أيضًا، التي هي لا تعرف ماذا تعمل الآن، ومتى تحققت التفاوُتَ العظيم الذي هو مجلبة التعاسة بينها وبين فؤاد بعد الزواج تجد تعاستها ولا تعود ترى مَنْفَذًا للخلاص منها، ولكن الشيء يطلب تمامه يا سيَّدتي، فيجب عليك أن لا تنسي الفتاة من مكافأتك المادية؛ لأنها قد تعودتِ الراحة ويجب أن يُدفع ثمن ضحيتها حسنًا.

هذا ما لا أنساه؛ لأنني مديونة لبديعة بغير هذا الدَّيْن أيضًا.

قالت هذا وهي خارجة من الباب وهي تشعر براحة من هذا القبيل، وبتعب كثير من جهة أخرى لم تفهم له معنى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤