الفصل الرابع

أقام أبو العلاء في سجنه الفلسفي هذا نحو خمسين عامًا، أو استكشف ذات يوم أثناء إقامته ببغداد،١ أو أثناء عودته منها، أو بعد أن استقر في المعرة أنه مقيم في هذا السجن منذ رشد وبلا لذات التفكير وآلامه. فجعل منذ استكشف سجنه الفلسفي هذا يبلوه من جميع نواحيه، ويختبره على أي وضع من أوضاعه، ولا يرى من هذا البلاء والاختبار إلا شرًّا متصلًا، وألمًا مقيمًا.

وقد كان يدركه التعب، ويَبْلُغ منه الإعياء، فيستسلم إلى القنوط، ويستريح إلى اليأس حينًا، ثم لا يلبث أن يسترد رجاءه، أو قُلْ أن يسترد نشاطه، فيستأنف البحث والدرس، ويعاود الابتلاء والاختبار، ويحاول الصعود بعقله إِلى السماء، فيُرَدُّ عنها مدحورًا.

وربما أتيح لأبي العلاء بين حين وحين شيء من التواضع فاستراح إلى ما يستريح إليه غيره من الناس، وعَرَفَ قَدْر نفْسه أو قُلْ قَدْر عَقْله، وأمَّل في روح الله ورحمته. وكان مَثَلُه في ذلك مَثَل الرجل الذي دفع إلى سفر غير قاصد في طريق طويلة طويلة لا ينتهي طولها، عسيرة عسيرة لا يسهل عسرها، قد سَلَّطَتْ عليها الشمس أشعتها الملتهبة المحرقة، فضرمت مِن حوله كل شيء، وجعلت الأرضَ التي يمشي عليها نارًا لا يُطَاق مَسُّها، والهواءَ الذي يتنفسه جحيمًا لا يُطَاق تَنَسُّمُه. وهو مع ذلك مدفوع مدفوع لا يستطيع أن يرجع أدراجه؛ لأن مِن ورائه قوة لا تني عن دفعه، ولا يستطيع أن يقوم في مكانه ليستريح؛ لأن هذه القوة تدفعه دائمًا؛ ولأنه لا يجد الراحة في أي مكان يُلِمُّ به. نار مهلكة تأخذه من كل وجه، وقوة عنيفة تدفعه إلى أمام، وأمل ضئيل نحيل يسبقه شيئًا، ثم يقف له ويدعوه إلى نفسه، حتى إذا دنا منه، أو خُيِّل إليه أنه دنا منه وثب هذا الأمل الضئيل النحيل وثبةً أو وثبتين، ثم وقف لهذا المسافر المسكين يدعوه إلى نفسه مغريًا له، ملحًّا عليه. وإنه لفي هذا السفر المتصل والعذاب الأليم، وإذا شجرات خضر قد بَدَوْنَ له مُورِقَاتٍ مُزْهِرَاتٍ، لَهُنَّ ظلٌّ رطب مريح، يَجري بينهن غدير من ماء عذب صافٍ بارد، ينقع الغلة، ويشفي الظمأ، فيسرع المسكين إلى هذه الشجرات فيستظل بظلها حينًا، ويشعر بشيء من النعيم لحظة، وينشد في نغمة حزينة — ولكن فيها اطمئنانًا لا يخلو من قلقٍ — هذه الأبيات:

صنوفُ هذي الحياة يَجمعُها
طُولُ انتباهٍ ورقدةٍ وسِنَهْ
دنياكَ لو حَاورتْكَ ناطقَةً
خاطبتَ منها بليغَةً لسِنهْ
ليفعَلِ الدهرُ ما يَهمُّ به
إِنَّ ظنوني بخالقي حسنَهْ
لا تيأسُ النفسُ من تفضُّلِه
ولو أقامتْ في النارِ ألفَ سنهْ

وما يوئسها من فضل الله عليها ورحمته لها، ورفقه بها، وقد طالت عليها الطريق حتى ظنت أنها لن تنقضي، وثقل عليها الجهد حتى ظنَّت أن لن تنهض به، وإذا هذه الشجرات الخضر تُرْفَع لها فتأوي إليها، وتجد في ظلها الراحة والنعيم. ويدعو هذا التفكير مسافرنا البائس إلى أن يروي في أمره، ويستعرض سيرته، وإذا هو يلوم نفسه على غرورها، ويعاتبها على اقتحامها ما اقتَحَمَتْ من هول، وتَجَشُّمِها ما تَجَشَّمَتْ من سفر، وعلى إسرافها في محاولة ما لا ينبغي أن يحاوَلَ؛ لأن الوصول إليه لم يُقَدَّرْ للناس. وإذا هو يستأنف الإنشاد في نغمة حزينة مطمئنة إلى اليأس، راضية به، مستريحة إليه، وإذا إنشاده يوشك أن يكون غِناء، وإذا نحن نسمع منه هذه الأبيات:

مَنونَ رجالٌ خبَّرونا عن البِلَى
وعادُوا إلينا بعد ريْب منونِ
بَنُونَ كآباءٍ وَكَمْ برَّح الردَى
بصبٍّ على علَّاته وبِنونِ
دفنَّاهُمُ في الأرض دفْنَ تيقُّنٍ
ولا عِلْمَ بالأَرواحِ غير ظنونِ
ورَوْمُ الفتى ما قد طوَى الله علمَهُ
يُعَدُّ جنونًا أو شبيهَ جنونِ

نعم جنون أو كالجنون أن تحاول عِلْم ما طُوي علمه عن الناس، وأن تتكلف في ذلك ما تكلَّفْتَ من مشقة وجهد؛ فثق بحكمة الله، واركن إليها، واسترح إلى هذا الظل الظليل، والنسيم العليل، والماء العذب الصافي الذي تجد فيه شفاء من هذا الحر المهلك الذي اصطليت ناره دهرًا طويلًا.

ولكن العقل الإنساني مضطرب لا يعرف الاستقرار، ساخط لا يعرف الرضى، ثائر لا يعرف الإذعان، طامع لا يعرف القناعة، متكبِّر لا يعرف التواضع. وما كاد صاحبنا يستريح ويستقر حتى أَخَذَ عَقْلُه يضطرب، وما كاد صاحبنا يهدأ حتى أَخَذَ عَقْله يثور. وكأن القوة التي كانت تدفعه منذ حينٍ إنما تخلفت عنه لحظات لا لتريحه، بل لِتُخَيِّل إليه الراحة. وكأن الأمل الذي كان يسبقه، ويتراءى له إنما استخفى عنه ساعة لا ليؤمِّنه، بل ليُخَيِّل إليه الأمن. وإِذا القوة الدافعة قد أقبلَتْ مِن ورائه، وإذا الأمل المغرى قد قام أمامه غير بعيد، تلك تدفعه وهذا يدعوه، وعقله مشفق من تلك، راغب في هذا، وإذا هو يُثِيره من مَكْمَنه، ويُخْرجه من مَأْمنه. وما هي إلا لحظات حتى تستخفي الشجرات الخضر، والنسيم العليل، والغدير العذب، وإذا صاحبنا في جحيمه القديم تأخذه النار من جميع أقطاره، تدفعه تلك القوة العنيفة، ويدعوه ذلك الأمل الخلَّاب، وقد جردت ثورة عقله لنفسه تلك الآلام العنيفة المتصلة التي لم يسترح منها إلا قليلًا.

ولكن ما الذي أَشْعَرَ أبا العلاء بهذا السجن الفلسفي؟ وما الذي أَنْبَأَهُ بأنه سجين؟ وما الذي كشف له عمَّا يحيط به في هذا السجن من الحسرات والغمرات، ومن الآلام والأحزان؟ هو من غير شك سجن من سجونه الثلاثة، هو سجنه الطبيعي، أو سجنه الفسيولوجي إن صحَّ هذا التعبير. هو هذه الآفة التي ألمت به في أول عهده بالحياة، فذهبت ببصره، وأَلْقَتْ بينه وبين النور حجابًا كثيفًا.

والصلة بين هذين السجنين من سجون أبي العلاء لا تخلو من غرابة تدعو إلى كثير من الرحمة والإشفاق، فقدْ فقدَ أبو العلاء بصره صبيًّا، واستقبل الحياة غير مستمتع بهذه المَلَكَة التي تَرْسُم في نفس الأحياء من الحياة صورًا لا عهد له بها. ومع ذلك فقد جاوز الصِّبى، وتقدمت به السنُّ إلى الشباب، وتقدم به الشباب إلى الكهولة دون أن يُنْكِر من أمر الوجود شيئًا ذا خطر أو دون أن يشتد إنكاره لأمر من الأمور.

وما من شك في أنه قد أحسَّ منذ أول عهده بهذه المحنة الطبيعية فرقًا عظيمًا بينه وبين أترابه. وما من شكٍّ في أن إحساسه هذا الفرق قد آلمه وآذاه، وأسبغ على نفسه شيئًا من الكآبة المتصلة القاتمة، واضطره إلى كثير من التحرج والتحفظ والاحتياط في سيرته العملية، ولكن ما من شكٍّ في أنه قد قهر هذا كله، وظهر عليه وقتًا طويلًا من حياته، فقد اجتهد في أن يسير سيرةَ غَيْرِهِ من الناس، واجتهد أهله في أن يهيئوه لهذه السيرة ما وسعهم ذلك. عَلَّموه صبيًّا، وأعانوه على طلب العلم، وتعمقه شابًّا. ولعله قد بذل في سبيل ذلك ما لا يبذله كثير من المبصرين، فضلًا عن المكفوفين، فهو قد ارتحل إلى حلب، وأنطاكية، وألمَّ باللاذقية، ولعله أن يكون قد ألمَّ بطرابلس. وهو قد سمع من شيوخ المسلمين، ورهبان النصارى، وقرأ في كتب أولئك وهؤلاء، وتعمق في درس الديانات، وفرغ بنحوٍ خاص لإتقان اللغة وعلومها، وللأخذ بحظ عظيم من البراعة الأدبية. ولم يبلغ العشرين من عمره حتى كان نضجه العلمي قد تم، وحتى استطاع أن يقول بعد ذلك: إنه لم يحتجْ بعد هذه السن إلى أن يجلس من أحدٍ مجلسَ الطالب من الأستاذ.

وقد فقد أباه في الرابعة عشرة من عمره، فحزن لِفَقْده حزنًا شديدًا من غير شك، ولكن هذه الفاجعة لم تُفِتَّ في عضده، ولم تُفِلَّ من حدِّه، ولم تقعد به عن الرحلة، ولم تصرفه عن الأسفار، ولَمَّا ألمَّ من دور العلم في الشام بما كان يستطيع أن يُلِمَّ به، وأخذ منها ما كان يستطيع أن يأخذه، عاد إلى المعرة فاستقرَّ فيها وادعًا مطمئنًّا، يعاشر الناس ويخالطهم، ويشاركهم في خطوب الحياة، ويعكف على ما كان يعنيه من العلم والأدب، فيُنَمِّي حظه منه، ومشاركته فيه. ومع أننا نجهل تفصيل حياته في المعرة، كما نجهل تفصيل حياة أمثاله من الشعراء والفلاسفة القدماء، فليس من شك في أن حياته مرَّت هادئة وادعة لا عنف فيها ولا اضطراب. ثم نيَّف على الثلاثين، فهمَّ برحلة طويلة شاقة إلى بغداد، وأشفقت عليه أمُّه من هذه الرحلة، فحاولت صَرْفَه عنها، ولكنها لم تُفْلِح، ومضى أبو العلاء في إتمام ما عزم عليه، فانتهى إلى بغداد بعد خطوبٍ امْتَحَنَ فيها صبره وجَلَده، واحتماله، وذكاءه أيضًا. وأقام في بغداد عامًا ونصف عام؛ فعرف مِنْ أمرها ما كان يحب أن يعرف، وبلا من أهلها ما كان يحب أن يبلو، وحَصَّلَ مِنْ عِلْمِها ما كان يريد أن يُحَصِّلَ، وظفر فيها من الشهرة وبُعد الصيت بما كان يحب أن يظفر به، ولو استطاع لأنفق فيها بقية عمره كما يقول في بعض شعره، ولكنه لم يستطع؛ لأن أمه مَرِضَتْ، ولأن الثروة لم تواته، فعاد إلى المعرة وقد استكشف هذا السجن الفلسفي، واضطر بحكم هذا الاستكشاف نفسه إلى أن ينشئ لنفسه سجنًا ماديًّا ثالثًا هو بيته الذي أقام فيه حتى مات.

فأنت ترى أنه قد حاول أثناء الصبا وأثناء الشباب، وفي أول عهده بالكهولة أن يعيش عيشة غيره من الناس، وأن يقهر المصاعب التي كان يُثِيرُها أمامَه فَقْدُ بصره، وظفر بقهر هذه المصاعب في أكثر الأحيان، وكان خليقًا أن يمضي في سيرته هذه بعد الأربعين كما مضى فيها حتى كاد يبلغ الأربعين. وأي شيء كان أيسرَ عليه من أن يعيش شيخًا كما عاش صبيًّا وشابًا وكهلًا، مخالطًا للناس، مشاركًا لهم فيما يختلف عليهم من الخير والشر، مفكرًا كما يفكرون، أو مخالفًا لهم في بعض ألوان التفكير، ممتازًا منهم في علمه وذكائه أشد الامتياز، ممتازًا منهم في سيرته العملية بعض الامتياز؟ وليس هو أول مكفوف قد تفوق على أمثاله بحدَّة الذكاء، ونفاذ البصيرة، وغزارة العلم، وفصاحة اللسان، فلمَ يمنعه ذلك من أن يشارك الناس فيما كانوا يضطربون فيه من حلو العيش ومرِّه؟ فقد ظهر قبله بين المسلمين مَنْ رُزِقَ النبوغ وحرم الإبصار، وعاش مع ذلك بين الناس لم يفارقهم ولم يعتزلهم، ولم يشذَّ من بينهم هذا الشذوذ. كان يستطيع أن يعيش مُعَلِّمًا، وكان يستطيع أن يعيش شاعرًا، وكان يستطيع أن يعيش كما عاش لا يستفيد رزقه من الشعر ولا من التعليم، وإنما يكتفي بهذا الوقف الضئيل الذي كان يعيش منه دون أن يفارق الناس، ويمسك نفسه في هذه العزلة المظلمة الشاقة.

كان هذا كله ميسورًا لولا أن أبا العلاء لم يكن مهيئًا له؛ لأنه كما قال قد خلق إنسيَّ الولادة وحشيَّ الغريزة. كان طبعه يُعِدُّه للعزلة، ويُهَيِّئه للانفراد، وجاءت هذه الآفة فأمدَّت هذا الطبع وقَوَّتْهُ، وجعلت تأثيره في حياته أشد وأعظم مما لو أتيح له الإبصار. ذلك أن هذه الآفة نفسها هي مَرْتبة من مراتب العزلة، ومَرْحلة من مراحلها تميزه من الناس شيئًا وأي شيء! وتفرق بينه وبينهم إلى حدٍّ وأيِّ حدٍّ! بل هي تميزه من الطبيعة في كثير جدًّا من مظاهرها، فهو لا يراها، ولا يحقق صورها وأشكالها، وهي لا تبلغ نفسه من طريق مستقيمة، ولا تؤثر فيها تأثيرًا مباشرًا، وإنما هو يعرف منها شيئًا قليلًا، ويجعل منها أشياء كثيرة، وهي تصل إلى نفسه من طرق معوجة ملتوية، فتبلغها بعد مشقة وجهد، وتبلغها مشوهة ممسوخة، وتؤثر فيها بحكم هذا كله تأثيرًا مخالفًا لتأثيرها في نفوس غيرها من الناس.

هو إذن بحكم هذه الآفة معتزل للطبيعة، ممتاز منها، قد أُلْقِيَ بينه وبينها حجاب، وهو إذن بحكم هذه الآفة معتزل للناس، ممتاز منهم قد قُطِعَتْ بينه وبينهم الأسباب. وهو بحكم هذا الاعتزال والامتياز عاجزٌ لا عن أن يستمتع بجمال الطبيعة كما يستمتع به غيره من المبصرين، بل عن أن يلائم بين حياته وبين كثير من مظاهر الطبيعة على نحوِ ما يفعل المبصرون، لا يظفر من ذلك إلا ببعض ما يُعِينُه الناس عليه، ويُيَسِّرونه له. وهو بحكم هذا الاعتزال والامتياز عاجزٌ كذلك عن أن يستمتع بالحياة الاجتماعية كما يستمتع بها المبصرون، وعن أن يلائم بين سيرته، وبين ما تقتضيه هذه الحياة الاجتماعية من الأوضاع والأشكال، وما تفرض من السنن والعادات، لا يبلغ أيسر ذلك إلا إذا أعانه الناس عليه، ويَسَّرُوه له. وواضح أن الناس حين يُعِينُون أمثاله على أمثال هذه المصاعب إنما يصدرون عن رفق به وعطف عليه وإحسان إليه. فإذا كان الرجل ذكي القلب أبيَّ النفس وحشيَّ الغريزة آذاه ذلك، وشقَّ عليه، وآثَرَتْ نفسه الحرمان مع العزة، والإباء على الظفر مع التعرض للشفقة والرحمة والإحسان.

ومن هنا تَقَوَّى في نفس أبي العلاء عاطفتان كان لهما أعظم الأثر في حياته، وأعظم السيطرة عليها: عاطفة الحياء من جهة، وعاطفة سوء الظن من جهة أخرى، عاطفة الحياء؛ لأن ذكاء قلبه، وإباء نفسه، واعتداده بشخصيته، كل ذلك يَحْمِلُهُ على أن يَرْغَبَ أشد الرغبة في أن يكون كغيره من الناس في الملاءمة بين حياته وبين قوانين الطبيعة، وفي الملاءمة بين حياته وبين أوضاع الاجتماع، فإذا أحسَّ من نفسه القصور عن ذلك أو التقصير فيه آلمه هذا الإحساس أشد الإيلام، وآذاه أشد الإيذاء. وهو من أجل ذلك لا يُقْدم على ما يحتاج إلى الإقدام عليه من شؤون حياته الظاهرة إلا مترددًا أشد التردد، مضطربًا أشد الاضطراب، مرتابًا بنفسه وبالناس أشد الارتياب، مُؤْثرًا الإحجام مع العافية على الإقدام الذي قد يُعَرِّضه لرحمة الراحمين، وسخرية الساخرين. وعاطفة سوء الظن؛ لأن الناس بالقياس إليه مجهولون أو كالمجهولين، يسمع أصواتهم ولا يراهم، ويُحِسُّ أعمالهم ولا يراها، فيَفْهَم من ذلك ما يستطيع ويُعْجِزه من ذلك أكثرُهُ. وما دام عاجزًا عن أن يلائم بين سيرته وبين ما يقتضيه نظام الاجتماع فهو سيئ الظن بسيرته، وبالاجتماع أيضًا.

وكل هذا يضطر أبا العلاء إلى أن ينصرف إلى نفسه عن غيره من الأشياء والأحياء جميعًا، هو مصروف عن غيره بحكم هذه الآفة، وبحكم ما تنشئ في نفسه من العواطف، وهو مضطر من جهة إلى أن يُحَلِّل سيرته مع الناس والطبيعة، ومضطر من جهة أخرى إلى أن يُحَلِّل ما يصل إليه من سيرة الناس والطبيعة معه ما وسِعَه التحليل.

وإذن فهو بحكم هذا كله فارغٌ لنفسه، عاكفٌ عليها، متَّهِم لها سيئ الظن بها. وحسبك بهذا كله مثيرًا للتشاؤم، ومسبغًا للكآبة على النفس، وصابغًا للحياة بهذه الصبغة الشاحبة عادة، القاتمة في كثير من الأحيان! وقد كان أبو العلاء في حاجة شديدة إلى شيء من بلادة الحسِّ وفتور الشعور يردُّه إلى الاعتدال في الحكم، والقصد في التقدير، ويصدُّه عن الغلوِّ في الارتياب بنفسه وبالطبيعة وبالناس، ولكنه لم يُرْزق من بلادة الحسِّ شيئًا، وكان شعوره أبعد شيء عن الفتور. فإذا أَضَفْتَ إلى ذلك غريزته الوحشية، وكبرياءه العنيفة لَمْ تَعْجَبْ؛ لأنه دَفَعَ إلى هذه الطريق التي سلكها، وإنما عَجِبْتَ؛ لأنه دَفَعَ إليها متأخرًا بعد أن نيَّف على الثلاثين.

ومع ذلك فهل نحن واثقون بأنه دَفَعَ إليها متأخرًا؟ أليس من الجائز، بل من الراجح أنه دَفَعَ إليها منذ آخر الصبى، ولكنه دَفَعَ إليها في رفق ويُسْر، ولم ينته إلى غايتها إلا بعد تردُّد واضطراب، ووقت طويل؟ إن رثاءه لأبيه يصور لنا حياته العقلية في أول أمرها، فنرى فيها أصول الاضطراب الفلسفي، ومظاهر هذا التشاؤم الذي لزمه طول حياته. وما باله لم يذهب مذهب غيره من الشعراء فيمدح السادة والأمراء، ويستمتع بما يجزلون من عطائه؟ لم يكن إقصاره عن ذلك لقصورٍ في ملَكَتِهِ الشعرية، فقد كان شاعرًا بارعًا منذ آخر الصبى وأول الشباب، وله مدح رائع قاله في شبابه، ولو أنه عَرَضَهُ على السادة والأمراء لفرحوا به، ولأثابوه عليه، ولأكبروه في أنفسهم، وآثروه بمودتهم، ولكنه لم يفعل، لماذا؟ لأنه إِنسيُّ الولادة كغيره من الشعراء، ولكنه يمتاز منهم بهذه الغريزة الوحشية التي تصدُّه عن الناس، وتُنَفِّرُه منهم، وبهذه الآفة التي زادته عنهم صدودًا ومنهم نفورًا، وبهذه الكبرياء التي ارتفعت به عن أن يُظْهِر للناس حاجته إليهم أو انتظاره منهم المعروف. انظر إليه حين يمدح الإسفراييني في بغداد، ويستعينه على ردِّ سفينته، كيف يطلب إليه ذلك في حياء وإباء، واعتداد بالنفس، وتصريح بعرفان الجميل إن فاز، وتسجيل للشكر والدعاء إن أدركه الإخفاق.

من أشد ما يملأ قلوبنا إشفاقًا على أبي العلاء هذه الحرب العنيفة المتصلة التي ثارت بين طبيعته الإنسانية وغريزته الوحشية نحو ثلاثين عامًا، والتي لم تَنْتَهِ إلا حين أزمع العودة من بغداد، وانتهت بانتصار الغريزة الوحشية على الطبيعة الإنسانية الاجتماعية. رجل من الناس ولد في بيئة متحضرة، وولدت معه ملكاته الاجتماعية كلها، فنشأ مستعدًّا كل الاستعداد ليكون فردًا من الجماعة يشاركها في حياتها العامة والخاصة، ويأخذ بنصيبه مما يُلِمُّ بها من سعادة، وما يصيبها من شقاء، فتأبى عليه غريزته الوحشية، وآفته هذه الطارئة إلا أن ينفرد من هذه الجماعة، ويشذَّ على ما أَلِفَتْ من نظام. له ما لغيره من الغرائز الطبيعية والاجتماعية التي تدفعه إلى ألوان الحياة المختلفة دفعًا شديدًا، وتطالبه بتحصيل ما يُحَصِّل غيره من أنواع اللذات والنعيم، وهو خليق أن يجد في ذلك كما يجد فيه غيره من الناس، ولعل آفته هذه الطارئة أن تصور له الحياة ولذَّاتها على غير وجهها، وأن تُخَيِّلَها إليه على غير حقيقتها، وأن تجعل تَعَلُّقَه بها، وحِرْصه عليها أشد من تَعَلُّق غيره بها وحِرْصه عليها، وأن تجعل ألمه حين يُرَدُّ عنها، وحسرته حين يُحْرَمُ الظفر بها أشد مما يصيب غيره من الآلام والحسرات حين يُكْتَب عليه الرد، ويُقَدَّر عليه الحرمان، ولكن غريزته تلك الوحشية، وآفته هذه الطارئة تأبيان عليه إلا أن يكظم هذه الغرائز كظمًا، ويكبتها كبتًا، ويضْطَرَّ جذوتها المُضْطَرِمَة المُلْتَظِيَة إلى الانطفاء والخمود.

له ذكاء ممتاز، ومَلَكَات متفوقة، وقدرة على الإجادة والبراعة فيما لا يجيد الناس فيه ولا يبرعون، وهو من أجل ذلك معتدٌّ بنفسه، مُكْبِر لها؛ لأنه شاعر بامتيازها وتفوقها، وهو من أجل ذلك خليق أن يمتاز من الناس في الاستمتاع بالحياة كما امتاز منهم في الكفاية والبراعة، وهو من أجل ذلك خليق أن ينتظر من الناس أن يعرفوا له ذلك، ويُمَكِّنوه منه، فإن لم يفعلوا فهو خليق أن يُكْرِهَهُم عليه إكراهًا، وأن يفرض نفسه عليهم فرضًا، ولكن غريزته تلك الوحشية وآفته هذه الطارئة تأبيان عليه إلا أن يكبح نبوغه كبحًا، ويأخذ نفْسه بأعنف العنف وأقسى القسوة، لا ليردَّها إلى التواضع والاعتدال، بل ليحملها حملًا على أن تنكر نفسها أشدَّ الإنكار، وتجحد امتيازها أشدَّ الجحود.

وهنا تستطيع أن تُوَازِنَ بين أبي العلاء وبين شاعرين نابهين حكيمين من شعراء المسلمين، كلاهما شاركه في التفوق والنبوغ والامتياز، وأحدهما شاركه في هذه الآفة الطارئة التي نغَّصت عليه الحياة: وهما: بشار، والمتنبي.

فأما أولهما: فقد كان كأبي العلاءِ، ذكيَّ القلب إلى أبعد حدود الذكاء، دقيق الحس إلى أقصى غايات الدقة، قوي الشعور إلى أرقى مراتب القوة، غزير العلم واسع المعرفة، فصيح اللسان بارعًا في الشعر، قادرًا على التصرُّف فيه إلى حيث لم يسبقه شاعر عربي. وكان كأبي العلاء ضريرًا مكفوفًا، وكان كأبي العلاء فيلسوفًا عميق الفلسفة، مفكرًا دقيق التفكير، متشائمًا مُسْرفًا في التشاؤم، سيئ الظن بالناس، سيئ الظن بالطبيعة، سيئ الظن بكل شيء. ولكنه مع ذلك قد سار في حياته الطويلة سيرةً أقلُّ ما توصف به أنها مناقضة كل المناقضة لسيرة أبي العلاء. إذا كانت سيرة أبي العلاء طهارة ونقاءً، وبراءة من الإثم والعاب؛ فسيرة بشار هي العهارة والدنس، والتهالك على الإثم، والإغراق في العاب، وإذا كانت سيرة أبي العلاء تواضعًا، بل إسرافًا في التواضع؛ فسيرة بشار هي الكبرياء، بل تجاوز الكبرياء إلى ما هو شر منها إلى التيه والغُرور، وإذا كانت سيرة أبي العلاء زهدًا في الدنيا، بل إعراضًا عنها، بل بغضًا لها؛ فسيرة بشار رغبة في الدنيا، بل تَهَالُكٌ عليها، بل فناء فيها، وإذا كانت سيرة أبي العلاء تعذيبًا لنفسه وجسمه، وأخذًا لهما بأشد القوانين وأصرمها، وحملًا لهما على أعنف المحامل وأخشنها، وصرفًا لهما عن أيسر اللذات وأهونها؛ فسيرة بشار تنعيم لنفسه وجسمه، وإرسال لشهواتهما على سجيتها، وحَمْل لهما على أيسر المحامل وأوثرها، واقتحام بهما إلى أعظم حظ ممكن من اللذة، وأكبر قسط ممكن من النعيم. ومع ذلك فقد كان كل من الشاعرين مجبرًا في أكثر أحيانه وأغلب أمره. وكان كل من الشاعرين ينكر التكليف أو يكاد ينكره. وكان كل من الشاعرين يجهر بأنه ليس مسؤولًا عما يأتي في حياته من خير وشر، فما بال هذين الشاعرين اللذين اشتركا في هذه الآفة الطارئة كما اشتركا في التفوق والنبوغ قد سلكا هاتين الطريقين المتعاكستين؟

كان كلٌّ منهما متشائمًا، ولكن تشاؤُم أحدهما انتهى به إلى العهارة والفجور والإباحة؛ وتشاؤم أحدهما الآخر انتهى به إلى الطهر والبر والنسك والتحرج. أكان مصدر هذا الخلاف البيئة التي عاش فيها كل من الشاعرين؟ فقد عاش بشار في بيئة زندقة ومجون؛ وعاش أبو العلاء في بيئة تحفُّظ واحتشام وورع، أكان مصدر ذلك الأسرة؟ فقد انحدر بشار من أسرة فارسية خضعت للرق؛ وانحدر أبو العلاء من أسرة عربية لم تعرف إلا العزة والحرية، أكان مصدر ذلك العصر السياسي؟ فقد عاش بشار في عصر ثورة لَم تَتَنَاوَل السياسة وَحْدها، بل تَنَاوَلَت الأخلاق والدين ونظام الاجتماع؛ وعاش أبو العلاء في عصر مَهْمَا تَفْسُد فيه الحياة فقد كان فيه استقرار ما للعُرْف الخُلُقِيِّ والاجتماعي، أم كان مصدر هذا كله ما قدَّمناه وغير ما قدمناه؟

وشيء آخر يظهر أنه أساسي، وهو أن بشارًا كان إنسي الولادة والغريزة؛ وأن أبا العلاء كان إنسي الولادة وحشيَّ الغريزة؟ فنشأ أولهما، ولا حظَّ له من حياء؛ ونشأ ثانيهما والحياء أظهر صفاته، وأعظم خصاله سلطانًا عليه، ونشأ أولهما ولا سلطان له على غرائزه، وإنما لغرائزه على نفسه وجسمه السلطان كله؛ ونشأ ثانيهما ولا سلطان لغرائزه عليه، وإنما عقله هو المسيطر على نفسه وجسمه جميعًا، ونشأ أولهما يمتدح بآفته جهرًا؛ ونشأ ثانيهما لا يذكر هذه الآفة إلا كارهًا، فإذا تحدَّث عنها قال إنها عورة يجب أن تُسْتَر، ونشأ أولهما لا يعرف التستر بمباح ولا بمحظور، لا يتحرج أن يُظهِر سوأته للناس، ويُرْضي أخس غرائزه بين أيديهم فضلًا عن معاقرة الخمر، وتتبُّع النساء، والتعرُّض في ذلك لما يُخزي ويسوء؛ ونشأ ثانيهما لا يحب الجهر بشيء لا حظ له من محظور عليه، فإذا ألمَّ بأيسر ما يباح له وهو الطعام ألمَّ به سرًّا وعلى استخفاء، ونشأ أولهما محبًّا للمال، متهالكًا عليه يطلبه من وجهه ومن غير وجهه، ويحصل عليه بالمدح، فإن أعياه ذلك حصل عليه بالهجاء، ونشأ ثانيهما والمال أبغض الأشياء إليه، وأهونها عليه، لا يطلبه بمدح ولا بهجاء، ولا يسعى إليه من وجه، ولا من غير وجه، يتاح له منه ما يقيم الأود، فيقسمه مناصفةً بينه وبين خادمه، ولو استطاع لما أصاب منه شيئًا، ونشأ أولهما عدوًّا للناس، مسيئًا إليهم، مستطيلًا عليهم إلا أن تكون لهم القوة، ويتاح لهم الاستعلاء، فهناك يَذَلُّ ويستكين، ويُظْهر من الذلة والاستكانة ما يستحي منه أهون الناس شأنًا وأقلهم خطرًا؛ ونشأ ثانيهما محبًّا للناس أشدَّ الحب، رفيقًا بهم أعظم الرفق، يُغْلِظ لهم قوله، ويُرِقُّ لهم قلبه، يُعَنِّف عليهم في اللفظ، وينصح لهم في دخيلة النفس وأعماق الضمير، لا يريد بهم شرًّا، ولا ينتظر منهم خيرًا، يقدِّم إليهم المعروف ما قَدَر عليه، ولا ينتظر منهم شكرًا، بل لا يرى أنه يستحق منهم شكرًا. شفع لقومه عند صالح، فلما نجحت شفاعته عاد وهو ينشد:

نجَّى المعاشِرَ من براثنِ صالحٍ
ربٌّ يفرِّجُ كلَّ أمرٍ مُعضلِ
ما كانَ لي فيها جناحُ بعوضةٍ
اللهُ ألبسهُمْ جناح تفضُّلِ

ثم لم يَقْصُر حبه على الناس، وإنما تجاوزهم به إلى الحيوان، فكفَّ عنه أذاه، وودَّ لو يستطيع أن يكفَّ عنه أذى الناس. وعلى الجملة لم يشعر بشار بسجنه الفلسفي في وقت من الأوقات مع أنه حاول الفلسفة واتخذها له صناعة دهرًا، ثم انصرف عنها ولم يَحْفِل بها، وإنما حَفَل بأهوائه ولذَّاته ليس غيرُ، عاش حرًّا طليقًا ما وَسِعَتْه الحرية، وما أُرسل له العنان، وما زال في شهواته ولذَّاته وأهواء نفسه حتى انتهى به الشوط إلى بعض مفترق الطرق، وإذا الموت ينتظره فيبطش به بطشًا عنيفًا فيمضي، وقد كان الناس في حياته يؤثرونه بالبر خوفًا منه وإشفاقًا، فإذا هم بعد موته يتنفسون الصعداء، ويحمدون الله على أنه أنقذهم من بلاء عظيم! وشعر أبو العلاء بسجنه الفلسفي والطبيعي دائمًا، ثم لم يَكْتَفِ بهما، بل أضاف إليهما سجنًا ماديًّا ثالثًا، وأقام في هذه السجون شاعرًا بها ملائمًا بين حياته وبينها، لا حظَّ له من حرية في سيرته؛ لأنه رفض هذه الحرية، أو اعتقد أنها لم تُتَحْ له، ولم تُهْدَ إليه، فلم يُسِئْ إلى أحد بِيَدٍ ولا بلسان ولا بنيَّة، ولم يكد يسيء إليه أحد، ولعل بعض الناس أن يكونوا قد آذوه بأيديهم وألسنتهم فلم يضْطَغِنْ على أحدٍ منهم، ولم يضمر لأحد موجدة، وإنما عفا وغفر؛ لأنه كان يعتقد أن «مَن صبر وغفر إن ذلك لَمن عزم الأمور» وقد عُمِّر حتى نيَّف على الثمانين في عصرٍ كثرت فيه الفتن، واشتدَّ فيه الظلم، وانتشر فيه الفساد، وشاع فيه الكيد، واختلفت فيه على وطنه الدول، فلم يبسط عليه السلطان يده، ولم ينله بأذًى على كثرة ما امتنع على السلطان، وعلى كثرة ما نعى على الملوك والأمراء سرًّا وجهرًا. كان وادعًا هادئًا مكفوف الأذى عن الناس، فكفَّ الله عنه أذى الناس. فلما مات كان الواجدون به أكثر جدًّا من الواجدين عليه.

وأما أبو الطيب: فقد نشأ وعاش في عصرٍ قريبٍ من عصر أبي العلاء، مُشْبه له في أكثر خصاله، وقد شارك أبا العلاء في ذكاء القلب، ونفاذ البصيرة، وفي التفوق والنبوغ، وشاركه في الشعور بفساد الحياة العامة للمسلمين من جميع أنحائها، وشاركه في الشعور بتفوقه وامتيازه، وفي اعتداده بنفسه، ولكنَّه لم يشاركه في هذه الآفة التي اضْطَرَّتْه إلى العجز، وأخذَتْه بالوحدة، وفرضَتْ عليه الاعتزال. ومع أن أصول الفلسفة العلائية توشك أن توجد كلها في شعر أبي الطيب، وقد نبهت إلى ذلك في غير هذا الحديث، ومع أن أصول الفن العلائي يوجد أكثرها في شعر أبي الطيب، وقد نَبَّهْتُ إلى ذلك أيضًا في غير هذا الحديث، ومع أن أبا العلاء كان مقلِّدًا لأبي الطيب، مفتونًا به حتى لنستطيع أن نَعُدَّه تلميذًا من تلاميذه، مع هذا كله فما أعظم الفَرق بين الرجلين لا في حياتهما العملية وحدها، بل في حياتهما العقلية أيضًا! كان أبو الطيب عبدًا لشهواته بشرط ألا نفهم من هذه الشهوات شهوات اللذة والفسوق، ونعيم الحياة، وإنما نفهم منها شهوات أخرى ممتازة بعض الشيء، شهوات الثروة والغنى والاستعلاء على الناس. أنفق حياته كلها في إرضاء هذه الشهوات، واحتمل في سبيل ذلك ما يطاق وما لا يطاق. ذاق مرارة البؤس، واحتمل ذلَّ السؤال، وباع شِعره في سوق الكساد، ومدح من كان يحتقرهم أشدَّ الاحتقار، وتملَّق من كان يزدريهم أقبح الازدراء، ودفع إلى المخاطرة والمغامرة، وانتهى إلى السجن، وتعرض للموت، وباع نفسه وحريته وكرامته للملوك والأمراء، وتبدَّل رأيًا برأي، ومذهبًا بمذهب، وذلَّ للفرس بعد أن كان لهم عدوًّا، وبهم مُغْرِيًا، وعليهم مُحَرِّضًا، وما زال يتقلب في هذا الفساد السياسي والخُلُقي حتى تلقاه الموت في بعض الصحراء، فأراحه وأراح منه!

فأين هذا من أبي العلاء الذي لم يَدَعْ لنفسه شهوة إلا أذلَّها، ولا عاطفة إلا أخضعها لسلطان عقله، والذي اعتدَّ بنفسه فارتفع بها عما تحتاج إليه الحياة من صراع، وآثرها بالعافية، وألزمها القصد والاعتدال، وضنَّ بها على الكذب والمين، وعلى البيع والشراء، ولم يرد أن يتشبه بالملوك والأمراء في مُلكهم وإمارتهم، ولا أن يطمع فيما يفيد عندهم الشعراء والأدباء والعلماء من رخيص اللذات، يشترونه بأغلى الأثمان، وإنما أراد ما هو أرفع من ذلك مكانًا، وأبعد من ذلك منالًا، وأجلَّ من ذلك خطرًا. أراد أن يتوحد؛ لأن الله واحد، فقال:

تَوَحَّدْ فإنَّ الله رَبَّكَ واحِدٌ
ولا تَرْغَبَنْ في عشرة الرؤساء

وَازِنْ بين المُطَمِّحَيْن، وقِسْ إلى ضعة أبي الطيب رفعة أبي العلاء إن كان يمكن أن تقاس الرفعة إلى الضعة، ومع ذلك فقد لقي كل من الرجلين في سبيل مطمحه آلامًا شدادًا لا يبلغها الإحصاء، إلَّا أنَّ آلام المتنبي تُقَصُّ فلا تثير في نفسي إلا غيظًا وازدراءً، وقد تثير في نفس غيري من الناس إكبارًا وإعجابًا، وآلام أبي العلاء تُقَصُّ فتثير في نفسي حبًّا وإجلالًا، كما تثير فيها عطفًا وحنانًا وإشفاقًا. وما أرى أنها تثير في نفوس غيري من الناس ازورارًا عن الرجل أو تنكرًا له، أو استخفافًا به. وأنا أقرأ شعر الرجلين فأذكر قول أبي العلاء حين شفع إلى صالح في قومه:

فيَسْمَع منِّيَ سجعَ الحما
مِ وأَسمع منه زئيرَ الأسدْ

ولكنَّ زئير الأسد كان يدلُّ على شيء حين كان يصدر عن صالح وأشباهه من المغامرين الذين كانوا يعملون ولا يقولون. فأما زئير الأسد الذي كان يصدر عن المتنبي فقد كان فارغًا لا يحتوي شيئًا، ولا يدلُّ على شيء. وأصدق وصْف له قول أبي العلاء حين سمع شعر ابن هانئ الأندلسي: كأني أُسْمع رحًى تطحن قرونًا! فقد كان شعر المتنبي جعجعة فارغة إذا فخر وتكثَّر، ولم يكن شعره ذا غناء. لم يكن شعره يمسُّ النفس، ويبلغ القلب إلا حين كان يتغنى حزنه، ويشكو بثَّه، ويصوِّر آلامه في تواضع واعتدال. لم يشعر المتنبي قط بأنه سجين إلا حين اضْطُرَّ إلى السجن بعد ثورته أثناء الشباب، وقد استقبل هذا السجن المادي في أول أَمْره كبير النفس، حَمِيَّ الأنف، ولكنه لم يلبث أن ذَلَّ واستكان، وأنفق أيامه في السجن ضارعًا مستعطفًا، يتوسل إلى الأمير، ويتبرأ مما اتُّهِم به حتى أدركه العفو، ورُدَّتْ إليه حُرِّيَّته، هذه الحرية المبتذَلَة التي يستمتِع بها الناس جميعًا؛ لأنها حرية الأجسام لا حرية النفوس. فأما أبو العلاء فقد شعر بسجنه، بل بسجونه، وألحَّ على نفسه بهذا الشعور، واحتمل من أجل ذلك آلامًا تملأ النفوس رحمة له وإشفاقًا عليه، ولكنَّه استمتع في هذه السجون بهذه الحرية العليا التي لا يَستمتع بها إلا الممتازون من الناس؛ لأنها حرية النفس والقلب والعقل. ومع ذلك فقد كان أبو العلاء يرى نفسه مُجْبَرًا، ويرى أنْ ليس له من الحرية حظ!

أرأيت إلى الموازنة بين أبي العلاء وصاحبَيْه هذين إلامَ تنتهي؟ وماذا تُعَقِّب في النفس من إعجاب مرٍّ بهذا الرجل الضئيل النحيل، الذي شارك صاحبَيْه في كثير من أشياء كانت تقتضي أن تتشابه حياتهم، ولكنه مع ذلك امتاز منهما أشدَّ الامتياز وأعظمه؟

أنا أُعْجَب ببشار وأُكْبِر فنه، ولكني لا أحبه، ولا أراه يثير في نفسي إلا صدودًا عنه، وضِيقًا به. وأنا أقدِّر فنَّ المتنبي، وأُعْجَب ببعض آثاره إعجابًا لا حدَّ له، وأعجب ببعضها الآخر إعجابًا متواضعًا — إن صحَّ أن يُتواضع الإعجاب! — وأَمْقَت سائرها مقتًا شديدًا. ولا تثير حياة المتنبي في نفسي إشفاقًا عليه، ولا رثاءً له وإنما هو مغامر طَلَبَ ما لم يُخْلَق له، وتعرَّض لما كان يَحْسُنُ أن يُعْرِض عنه، فانتهى إلى ما ينتهي إليه أمثاله المغامرون. فأما أبو العلاء فإن له في نفسي شأنًا آخر لا يغيظني، ولا يُحَفِّظني؛ لأن حياته كلها قد برئت مما يُحَفِّظ أو يغيظ، وهو قد يغيظ فريقًا من الناس، وقد يُحَفِّظهم؛ لأنه يخالفهم في الرأي، ولأنه ينكر ما يعرفون، ويسخر مما يرتفعون به عن السخرية، ويستهزئ بما يرون الاستهزاء به إثمًا ونكرًا. ولكنك تعلم أن الذين يسيغون الحرية ويذوقونها لا يُحَفِّظهم خلاف في الرأي، ولا يغيظهم افتراق في المذهب. وأبو العلاء حريٌّ بعد ذلك أن يُثير في نفسك الإشفاق لا الحفيظة؛ لأنه لم يخالفك في الرأي معاندًا ولا مكابرًا، وإنما خالفك في الرأي بعد أن اجتهد ما وسِعَه الاجتهاد، وبعد أن نصح لنفسه ولك ما وسِعَه النصح. وما يُحَفِّظك من رجل أراد الصواب فانتهى إلى ما تراه أنت خطأ؟ وما يغيظك من رجل طلب الخير وجدَّ في طلبه فانتهى إلى ما تراه أنت شرًّا، وهو قد احتمل في ذلك آلامًا لا تكاد تُوصَف ولا تُحْصى؟

كان هؤلاء الشعراء الثلاثة: بشار، والمتنبي، وأبو العلاء كبارًا في أنفسهم، وكانت كبرياؤهم أظْهَرَ ما سيطر على حياتهم من خصلة، ومصدر ما لقوا من مكروه. فوَازِنْ بين الكبرياء عند هؤلاء الشعراء الثلاثة، ووازِنْ بين ما تَرَكَتْ كبرياؤهم من آثار لهم أولًا، ولغيرهم من الناس بعد ذلك. فأما كبرياء بشار فقد أذاقته لذَّات عارضة، وبغَّضته إلى الناس، وانتهت به إلى بطش السلطان، ثم أبقت له آثارًا يُعجب بها الناس إعجابًا فنيًّا خالصًا، ولكنهم قَلَّما ينتفعون بها في تقويم الأخلاق والعقول، ولعلَّ أساءتها إلى الأخلاق والعقول أن تكون أكثر جِدًّا من إحسانها. وأما كبرياء المتنبي فقد حرَّمت عليه اللذة وجرَّعته الألم أثناء حياته، وأذاقته الذلة والهون، وانتهت به إلى أن يغتاله بعض الأعراب في بعض الصحراء، وأبقت للناس منه آثارًا يُعجبون بها إعجابًا فنيًّا يختلف قوة وضعفًا باختلاف الأذواق والميول، ولكنها لا تجعل من صاحبها مثلًا يُحتَذَى، ولا نموذجًا يُتَوَخَّى في تقويم العقول والأخلاق، ولعلها أن تكون إلى إثارة الغرور والاقتناع بالقول دون العمل والرضا بالعرَض دون الجوهر أدنى منها إلى إشعار النفس هذا التواضع الخصب المنتج الذي يجعل صاحبه نافعًا لنفسه وللناس.

وأما كبرياء أبي العلاء فقد جرَّعته مزاجًا من الألم واللذة أثناء حياته الطويلة، ولكنه ألَمٌ يُطَهِّر النفس ولا يفسدها، ولكنها لذة ترفع النفس ولا تضعها، وتقَوِّيها ولا تضعفها. والغريب من أمر هذه الكبرياء التي لا أعرف أن شاعرًا عربيًّا قد شقِيَ بمثلها أنها أنتجت لأبي العلاء تواضعًا لا أعرف أن شاعرًا أو فيلسوفًا عربيًّا سعد بمثله. وقد انتهت كبرياء أبي العلاء به إلى موتٍ هادئ لا عُنْف فيه، بعد حياة طويلة هادئة لا عُنْف فيها إلا ما كان يَشُقُّ به أبو العلاء على نفسه من التكاليف. وقد أبقت كبرياء أبي العلاء للناس منه آثارًا خصبة أشدَّ الخصب، مختلفة أشد الاختلاف، مختلفة في طبائعها، مختلفة في نتائجها، منها العلم الذي يغذو العقل، ومنها الفن الذي يغذو القلب والذوق، ومنها الفلسفة التي تغذو العقل والقلب والخلق جميعًا. وفي آثار أبي العلاء شدَّة على الناس، شِدَّة في ألفاظها، وشِدَّة في معانيها، وشِدَّة في أساليبها أيضًا. ولكن في هذه الآثار شِدَّة على أبي العلاء نفسه! فقد لقي في إنشائها عناءً وجهدًا، أَرجو أن أصورهما بعد حين، فلا أقلَّ من أن نلقى في الفهم عنه والانتفاع به بعضَ ما لقي من العناء في إفهامنا ونَفْعنا. وفي آثار أبي العلاء ثِقَل على النفوس التي لا تحب إلا الهيِّن من الأمر، ولا تَأْلف إلا الحياة اليسيرة الوادعة التي لا تُكلِّف أصحابها مشقة ولا عسرًا. ولكن أبا العلاء نفسه لم يكن يحب الهيِّن من الأمر، ولم يكن يألف أقصر الطرق كما قال بول فاليري فيما تَرْجَمْتُ عنه في أول هذا الكتاب، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها. وما ذنب أبي العلاء إذا كان لم يُخْلَق للسهولة ولا لِلِّين، وإنما خُلِقَ للمشقة والجهد! وحَسْبُه أنه لم يَلْقَ في حياته سهولة ولا لينًا، أو أنه قد حمل نفسه حملًا في حياته على الإعراض عن السهولة واللين.

وفي كثير من آثار أبي العلاء كآبة وشحوب لا تستريح إليهما النفوس التي تألف الإشراق والابتسام، ولكن الحياة ليست إشراقًا كلها ولا ابتسامًا، والرائد لا يُكَذِّب قومه، وقد وكَّل الله بإشراق الحياة وابتسامها من الكتَّاب والشعراء من يعرضونها على الناس فيملأون نفوسهم إشراقًا وابتسامًا وأملًا. ووكَّل الله بما في الحياة من ظُلْمة وعُبوس كُتَّابًا وشعراء يَعْرِضُونَهُما على الناس فيملأون نفوسهم ظُلمة وعُبوسًا، ويُشْرِفون بها على اليأس أحيانًا. وصدِّقْني إن الحياة لا تستقيم لك إذا لم تلتمس فيها إلا البهجة والرضا، كما أنها لا تستقيم لك إذا لم تلتمس فيها إلا الحزن والسخط. فلائِمْ بين ذلك، وخُذْ من هذا ومن ذاك بِحَظٍّ، وإذا وجدت البهجة والرضا عند هذا الشاعر أو ذاك من الشعراء المتفائلين فلا تكرَهْ أن تلتمس شيئًا من الحزن والسخط عند بعض الشعراء المتشائمين، فإن السرور المتصل كاذب، وهو خليق أن يقتل النفس، ويميت القلب، وإن الحزن المتصل صادق، ولكن نفوس الناس لا تطيق له احتمالًا، فلا أقلَّ من أن تُلِمَّ به، وتُشْرِف عليه، وتصيب منه قليلًا يُصْلِح من أمرها، ويعْصِمها من هذا النسيان الذي هي منتهية إليه إن كانت حياتها صفوًا خالصًا، وهل إلى الصفو الخالص من سبيل؟

كشفَتْ آفة أبي العلاء إذَنْ له سِجْنه الفلسفي، وامتزجت به فأصبحت سجنًا من داخل سجن، وألِفَ الرجل هذين السجنين أشدَّ الإلف، وضاق بهما أشد الضيق، ولا تعجبْ لهذا التناقض فهو قِوام حياة أبي العلاء، بل هو قِوام الحياة لكل رجل يجمع بين دقة الحسِّ ورقة الشعور، وحدَّة المزاج وقوة العقل والإرادة جميعًا. وقد امتحن الله أبا العلاء بهذه الخصال كلها، فثبت للمحنة ثباتًا عجيبًا، ولكنه ضاق بها ضيقًا شديدًا، وشكا منها شكاة متصلة. ولولا هذه الشكاة وذلك الضيق لما نعمنا باللزوميَّات، وما ترك لنا أبو العلاء من الآثار! وماذا تريد أن يصنع! لقد احتمل حياته في هذين السجنين كارهًا، فصوَّر كراهته هذه، ولم يكن يستطيع أن يفرَّ من حياة السجن هذه:

وهل يأبقُ الإنسانُ من ملك ربه
فيخرج من أرض له وسماء؟

كلا! ليس إلى ذلك من سبيل. فليُقِمْ أبو العلاء إذن حيث أراد الله له أن يقيم، وليرَتِّب أمره كما يستطيع في هذين السجنين، وقد فعل، فأنشأ لنفسه هذا السجن الثالث الذي لزمه نصف قرن، وهو بيته في المعرة. وليس المهم أنه أقام في بيته نصف قرن لا يتركه، وإنما المهم أنه أقام في هذا البيت على نحوٍ خاص لم يتعود الناس أو لم يتعود أكثر الناس أن يقيموا عليه في البيوت، وحسْبك أنه كان فذًّا في هذا بين المسلمين جميعًا على اختلاف البيئات والعصور!

هوامش

(١) بل يُنَبِّئنا أبو العلاء في الفصول والغايات بأنه استيأس من الخير، وبدأ سيرته الفلسفية حين أتمَّ الثلاثين، أي قبل سفره إلى بغداد بأعوام. ولعلي أن أعود إلى هذا الحديث. الفصول والغايات ص٢٧٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤