الفصل السابع

وأول ما أواجهك به من ذلك وأنا أُقَدِّر أنك ستلقاه منكرًا له ثائرًا عليه، هو أن اللزوميَّات ليست نتيجة العمل، وإنما هي نتيجة الفراغ، وليست نتيجة الجدِّ والكدِّ، وإنما هي نتيجة العبث واللعب، وإن شئتَ فقُل إنها نتيجة عمل دعا إليه الفراغ، ونتيجة جدٍّ جرَّ إليه اللعب. ولأوضح ذلك بعض التوضيح فقد أهدِّئ من ثورتك، وأُحَوِّل إنكارك إلى إقرار واعتراف.

فقد لزم أبو العلاء داره لا يبرحها نصف قرن، فقدِّرْ أنت نصف القرن هذا كم يكُون من سنة، ومن شهر، ومن أسبوع، ومن يوم، ومن ساعة. وقدِّرْ أنك اضْطُرِرْتَ إلى أن تَلْزَم سجنًا من السجون، وليكن هذا السجن دارك التي رتَّبْتَها كما تريد وتهوى أثناء هذا الدهر الطويل. فهل تتصور احتمالك للإقامة في هذا السجن أثناء هذه الأعوام المتصلة في حياة مطردة مستوية، يشبه بعضها بعضًا كما يشبه الماء الماء؟ وهل تقدِّر أن القوانين المدنية الحديثة حين أرادت أن تشقَّ على المجرمين، وتلائم بين جرائمهم الشنيعة، وآثامهم القبيحة، وما تَتْرك هذه الآثام، وتلك الجرائم في حياة الأفراد والجماعات من آثار ليست أَقَلَّ منها شناعة وقبحًا، وبين العقوبات المكافئة لها الرادعة لهم ولأمثالهم عنها وعن أمثالها، قد فَرَضَت السجن مع الفراغ، أو مع العمل اليسير أو الشاق آمادًا تختلف طولًا وقِصرًا، ولكنَّها لا تَبْلغ نصف هذا الدهر الذي لزم فيه أبو العلاء سجنه، بل لعلها لا تتجاوز ثُلثه في أكثر الأحيان. ومن الحق أن أبا العلاء لم يُفرض عليه، ولم يَفرض على نفسه الراحة المتصلة، والفراغ المطلق؛ فما أظنه كان يستطيع أن يَحْتمل ذلك، أو يَصْبر عليه، ولكنَّه كان يقرأ كثيرًا، ويملي كثيرًا، ويلقى التلاميذ والطلاب والزائرين، فيتحدث إليهم ويسمع منهم.

ولكن هذا كله على كثرته وتنوعه لا يستطيع أن يملأ وقت الشيخ، ولا أن يغيِّر ما فيه من التشابه والاستواء والاطراد، ولم يكن أبو العلاء ينفق وقته كله مع الناس قارئًا أو ممليًا أو متحدثًا، وإنما كان ينفق بعض هذا الوقت في هذه الأعمال، وينفق بعضه الآخر فارغًا لنفسه خاليًا إليها. ولعلَّ الوقت الذي كان يفرغ فيه لنفسه، ويخلو فيه إليها أن يكون أكثر من الوقت الذي يلقى فيه الناس، أو أن يكون مساويًا له، أو أن يكون أقلَّ منه شيئًا. وهو قد كان على كل حال وقتًا طويلًا يتكرر في كل يوم دون انقطاع، لا أثناء عام أو أعوام، بل أثناء عشرات الأعوام. ولم يكن أبو العلاء إذا خلا إلى نفسه شُغِلَ عنها بالحديث إلى زوْجه أو بمداعبة بنيه، وما أحسبه كان يتحدث إلى خادمه فيطيل الحديث، وما أرى إلا أن خادمه كان ينصرف عنه إذا انصرف الناس بعد أن يرتب له مِن أَمْره ما يحتاج إلى الترتيب. ولم يكن أبو العلاء إذا خلا إلى نفسه يستطيع أن يقطع الوقت بالقراءة. فهو لم يكن يقرأ إلا إذا وجد قارئًا؛ لأنه كان كما حدَّثنا مستطيعًا بغيره، ولم يكن يكتب أيضًا لنفس هذا السبب، وما أرى أنه عرف الكتابة والقراءة التي يعرفها أمثاله من المكفوفين وإن أشار إلى هذا النحو من القراءة في قوله:

كأنَّ منجِّم الأَقوامِ أَعْمَى
لدَيْهِ الصُّحفُ يقرأُها بلمسِ

فلم يحَدِّثنا أحد بأنه قرأ وكتب بيده، وإنما حدَّثَنا هو بأنه استطاع دائمًا بغيره، وسمَّى لنا بعض الذين أعانوه على القراءة والكتابة، وشكَر لهم ما أَسْدَوْا إليه من معونة. كان إذَنْ يخلو إلى نفسه وإلى وقْته، ولا يجد من الناس، ولا من القراءة، ولا من الكتابة، ولا من أي عملٍ من الأعمال اليدوية ما يُعِينه عليها. وما أرى أنه كان كثير النوم، وإنما كانت حياته القانعة الخشنة خليقة أن تؤَرِّقه، أو أن تجعل حظَّه من النوم قليلًا. فماذا كان أبو العلاء يصنع أثناء ساعات الفراغ تلك التي كانت تُفْرَض عليه في كل نهار، وفي كل ليل، وفي كل أسبوع، وفي كل شهر، وفي كل عام أثناء نصف قرن؟ كان يفكر، ولكن يفكر في ماذا؟ يفكر فيما كان قد حصَّل من علمٍ وأدبٍ وفلسفةٍ، وفيما كان يُقْرَأ عليه من ذلك، وفيما كان يَتَهَيَّأ لإملائه منه على الطلاب والتلاميذ.

ونحن نعرف أن غير أبي العلاء من الأدباء والفلاسفة والمعلمين المبصرين قد شُغِلوا بالتفكير وبالإنشاء وبالتعليم، قرأُوا وفكَّروا فيما قرأوا، وأَمْلَوْا واستعدُّوا للإِملاء، وأنشأوا وجدُّوا في الإنشاء، ولكن هذا كله لم يملأ أوقاتهم، ولم يشغلهم عن الحياة الاجتماعية، ولا عن الحياة المنزلية الخاصة. ولم يحرمهم الاستمتاع بما أُبِيحَ لهم من طيبات الحياة، بل لم يَرُدَّ بعضهم عن الاستمتاع بما حُرِّمَ عليهم من سيئات الحياة. فهم قد وجدوا الوقت للتحصيل والإنتاج، والمشاركة في الحياة الاجتماعية والمنزلية، وهم قد وجدوا مع ذلك أوقاتًا للفراغ والراحة. فما ظنُّك برجلٍ كأبي العلاء قد صُرِفَ عن الحياة الاجتماعية، وعن الحياة المنزلية، وعن طيبات الحياة وسيئاتها، وكفَّ بَصَرَهُ فلم يَشْغَلْه حتى النظر إلى ما حوله من الأشياء؟ إذَنْ فقد كانت أوقات الفراغ لأبي العلاء طويلة شاقة أطول مما يستطيع، وأشق مما يطيق؛ ولم يكن له بدٌّ من أن يستعين على هذه الأوقات بما يسَلِّيه ويُلْهِيه في براءة للنفس ونقاء للقلب وطهارة للضمير حتى يدركه النوم، وحتى يَدْخُل عليه الطلَّاب والزائرون. وبماذا تريد أن يتسلى ويتلهى في براءة وطهارة ونقاء، وفي خلوٍّ إلى النفس وانقطاعٍ عن الناس واستغناءٍ عنهم أيضًا؟ لا بدَّ له من أن يلتمس التسلية والتلهية عِنْد نَفْسه وعِنْد نَفْسه وحْدَها وقد فَعَلَ! فاستجابت له ذاكرة قويَّة، وحافظة نادرة، وعقل ذكي بَعِيدُ آماد التفكير. فأمَّا ذاكِرَته أو حافِظَته فقد وجد فيها ألفاظ اللغة العربية كلها أو أكثرها على أقل تقدير. وجَدَ فيها ما سَمِع من الشيوخ، وما قرأ في الكتب، وما روى من الشعر، وما وعى من الأخبار والآثار. وأما عقْله فقد وَجَدَ فيه ما حصَّل من العلم على اختلاف ألوانه، ووَجَدَ فيه بنوع خاص هذه القدرة على استقصاء الأشياء، والنفوذ إلى أعماقها.

ونظر أبو العلاء فرأى نفسه بين هذه الألفاظ التي لا تكاد تحصى، وبين هذه المعاني والآراء التي لا تكاد تحصى أيضًا. ولم يجِدْ معه إلا هذه المعاني وتلك الألفاظ، ثم نَظَرَ فوَجَدَ أوقات فراغٍ طويلة لا يُطَاق احتمالها، ولا يمكن الصبر عليها، فما قيمة ما حَفِظَ من اللغة، وما قيمة ما حصَّل من العلم إذا لم يُعِينَاه على قطع أوقات الفراغ هذه. غيره من الناس يلعب النرد والشطرنج، ويضرب في الأرض، ويُلِمُّ بالمجالس والأندية، ويجدُّ في كسب القوت، ويستمتع بألوان اللذات، وليس هو في شيء من هذا، فَلِمَ لا يلعب بهذه الألفاظ؟ وَلِمَ لا يلعب بهذه المعاني؟ وَلِمَ لا يتخذ من الملاءمة بينها على أكثر عدد ممكن من الأوضاع والأشكال والضروب سبيلًا إلى التسلية والتلهية، والاستعانة على الفراغ؟ أما أنا فما أشكُّ في أني لَمْ أخطئ، ولَمْ أَخْدَع نفسي حين اعتقدْتُ أني شَهِدْتُهُ يعبث بالألفاظ والمعاني ألوانًا من العبث؛ لأنه لم يكن يستطيع أن يصنع غير هذا، ألوانًا من العبث كثيرة الاختلاف، نثرٌ مرسل، ونثرٌ مسجوع، وشعرٌ حرٌّ، وشعر مقيد. والشعر الحر هو الذي يقوله الناس جميعًا فيلتزمون أوزانه وقوافيه المعروفة، والشعر المقيد هو الذي يقوله أبو العلاء فيلتزم فيه ما لا يُلَزْم، وهو لا يلتزم ما لا يُلْزَم في القافية وحدها، وإنما يلتزم ما لا يُلْزَم من المعاني أيضًا، وهو لا يلتزمه في المعاني التي أَوْدَعَها ديوان اللزوميَّات فحسْب، وإنما يلتزمها في المعاني التي أَوْدَعَها كتاب الفصول والغايات أيضًا.

وفي هذا الكتاب وفي هذا الديوان يتحدث إلينا أبو العلاء بأنه قصد إلى تمجيد الله والثناء عليه، وهو قد قصد إلى هذا وذاك من غير شك، ولكن أين رأيت شاعرًا أو فيلسوفًا يفرض على نفسه القول في تمجيد الله، والثناء عليه في كتابين عظيمين يتألف كل واحد منهما من غير مجلد، ويلتزم في أحدهما النظم المقيَّد بقافيتين لا بقافية واحدة، وربما التزم تقييده بأكثر من قافيتين، ويلزم في ثانيهما هذا النثر المُسَجَّع المفصَّل، الذي تَجْتَمع فيه السجعات ملتئمةً فيما بينها التئامًا داخليًّا إن جاز هذا التعبير، ثم تنتهي كل جماعة منها إلى غايةٍ بشرط أن تلتئم هذه الغايات فيما بينها التآمًا خارجيًّا؟

ما حكمة هذا التضييق على النفس والتقييدِ لها، وأَخْذِها بهذا العنف الشديد في اللفظ وفي المعنى، وفي الأسلوب وفي الغرض؟

وقد قلتُ في غير هذا الكتاب: إن حكمة هذا التحرج تتصل بحياة أبي العلاء نفسها، وبالقانون الفلسفي الصارم الذي أخذ نفسه به، وأخضعها له في حياتها المادية والعقلية من التزام العزلة، والإعراض عن النسل، والانصراف عن لذات الحياة، والإقبال على ألوان الرياضة العنيفة الشاقة. وهذا صحيح، ولكن من الصحيح أيضًا أن أبا العلاء تسلَّى بالشدَّة عن الشدَّة، وتلهَّى بالرياضة عن الرياضة، واستعان على احتمال ما فَرَضَ على نفسه من العنف بتنويع هذا العنف نَفْسه، والافتنان فيه. وقد كان أبو العلاء يستطيع أن يمجِّد الله في كلام سهل مرسَل، فيريح نفسه من هذا الجهد الثقيل الذي احتمله في الإنشاء، ويريح قرَّاءه من هذا الجهد الثقيل الذي يحتملونه في القراءة والفهم. وكان أبو العلاء يستطيع أن يمجِّد الله، ويَذم الدنيا، وينقُد حياة الناس، ويناظِر الفلاسفة، ويخاصِم الفِرق، ويناقِش ما جاءت به الأديان في نثر مرسل، أو في شعر سمْح حرٍّ، فيريح نفسه من هذه القيود والأغلال التي احتمل ثقلها، ويريح قرَّاءه مما يتكلفون من فكِّ تلك القيود، ووضع هذه الأغلال عن معانيه. ولعله إن فعل أن يكون ذلك أدنى لشعره ونثره إلى روعة الجمال الفني الممتاز، وألطف مسلكًا إلى قلوب الناس وأذواقهم ونفوسهم، وأشيع لآرائه، وأذيع لمذاهبه، وأنهض لما كان يريد أن يقيم عليها من الحجج والبراهين. ولكنَّه أعرض عن هذا كله إعراضًا، وأخذ نفسه بألوان العنف في إنشاء ما أنشأ، وتأليف ما أَلَّفَ. وأَخَذَنَا نحن بألوان العنف في قراءته وفَهْمِه، واستخلاص أغراضه ومراميه؛ وضيَّق على مذاهبه ميادينها، وقلَّل عدد القارئين له، والفاهمين عنه، والمُصْغِين إليه، والمعجَبين به. فلماذا؟ لأنه أراد أن يشقَّ على نفْسه. نعم! ولكن أليس في تأليف ما ألَّف من الكتب، وإنشاء ما أنشأ من النثر، ونظْم ما نَظَمَ من الشعر مَشَقَّة كافية، وأكثر من الكافية، لو أنه تَحَرَّر من هذه القيود؟ ألأنه أراد أن يشُق على الناس فيصرف العامة والدهماء عن الارتقاء إليه؛ اتقاءً لشرهم، وتَحَفُّظًا من أذاهم؟

هذا ممكن بالقياس إلى بعض المذاهب والآراء لا بالقياس إلى كثرة ما قال في تمجيد الله، ووعْظ الناس. وهؤلاء الفلاسفة الذين عالجوا أشقَّ مسائل الفلسفة وأدقَّها وأعلاها وأرقاها لم يتكلفوا في ذلك هذه القيود اللفظية التي تَكَلَّفها أبو العلاء، ومنهم من كان يُرَوِّض نفسه على الجهد والمشقة، ومنهم من كان يضنُّ بآرائه ومعانيه على السهولة واليسر اللذين يقربانها من أوساط الناس، وأصحاب الثقافة المحدودة، والرأي القصير، فلا يتحرج هذا التحرج اللفظي الذي التزمه أبو العلاء؛ وإنما يعمد إلى الرمز والإيماء، وإلى الإشارة والتلميح، ويظفر من ألغاز معانيه بما يريد، بل يظفر من ذلك بأكثر مما ظفر به أبو العلاء.

ففي اللزوميَّات مشقة على القارئ وإجهاد له، ولكنَّها مشقة تُحْتَمَل وإجهاد يُطَاقُ. ولعل القارئ أن يَجِدَ في هذه المشقة لذَّة حين يقهرها، ولعله أن يَجِدَ في هذا الجهد متعة حين يظهر عليه، وهو منتهٍ آخر الأمر إلى الفهم عن أبي العلاء، والوصول إلى أغراضه ومراميه. كلا! لم يُرِد أبو العلاء أن يعذِّب نفسه، ويَشُقَّ عليها وعلى الناس فحسب، وإنما أراد مع ذلك أن يسلي نفسه ويُرَفِّه عليها، ويُبْهِر الناس ويُكْرِهَهم على إكباره والإعجاب به.

وأخرى يَحْسُنُ أن تفكر فيها، وهي أن أبا العلاء لم يلتزم ما لا يُلْزَم في قصيدة أو قصيدتين، أو في طائفة من القصائد والمقطوعات، ولم يلتزم ما لا يُلْزَم في طائفة من الفصول والغايات، وإنما التزم ما لا يُلْزَم في عدد ضخم من القصائد والمقطوعات، وفي عدد ضخم من الفصول والغايات أيضًا. أحصى حروف المعجم فوجدها ثمانية وعشرين حرفًا، ثم أحصى الحركات التي يمكن أن تختلف على هذه الحروف فوجدها ثلاثًا، وأضاف إليها السكون، فحصلت له من هذا أشكال أربعة للقافية. فلما استقام له هذا الحساب أخذ نفسه بأن يَنْظم شِعرًا يقفِّيه بكل هذه الحروف مضمومةً ومفتوحة ومكسورة وساكنة. ولو قد اكتفى بذلك لكان فيه الجهد كل الجهد، والعناء كل العناء، ولكنه أضاف إليه التزام الحرف الذي يسبق القافية في البيت الأول من القصيدة أو المقطوعة، بحيث لا توجد القافية في أي بيت من أبيات القصيدة أو المقطوعة، إلَّا ومعها هذا الحرف الذي سبقها في البيت الأول كما رأيت في «الصعب» و«الرعب» و«الشعب» و«القعب».

أفتظنه لم يفعل هذا إلا لأنه أراد أن يُرَوِّض نفسه على الجهد في الإنشاء؟ كلا! بل هو قد فعل هذا لذلك، وليسلِّي عن نفسه أَلَمَ الوحدة، ويهوِّن عليها احتمال الفراغ، وليُشْعِرها ويُشْعِر الناس بأنه قد مَلَكَ اللغة، وسيطر عليها، فهو قادر على أن يسخرها لما يشاء، ويصرِّفها كما يريد، ويَعبث بها إن أراد العبث، ويجدَّ بها إن أراد الجد، بل ليَعبث بها أثناء الجد في كثير من الأحيان!

فلَمْ أكنْ إذَنْ مسرفًا ولا غاليًا حين قلْتُ: إن اللزوميَّات نتيجة الفراغ واللعب، أو نتيجة العمل الذي دعا إليه الفراغ، والجد الذي جَرَّ إليه اللعب. ولكن أبا العلاء لا يقف بعبثه الفلسفي البريء عند هذا الحد، وإنما يتجاوزه أحيانًا إلى فنون أخرى من العبث ليست أقل منه تسليةً وتلهية له ولنا، وليست أقل منه إثارةً لرضائه عن نفسه، وإثارةً لإعجابنا به. ويكفي أن أنبه الآن من هذا العبث على ألوان ثلاثة فيها تفكهة ممتعة حقًّا. فأولها: العبث بالنحو أو بالصرف إن شئت أو بهما جميعًا. وأيسر الأمثلة لهذا العبث بيتاه المشهوران:

ما لي غدوتُ كقافِ رؤْبَة قُيِّدَتْ
في الدَّهرِ لم يُقْدَرْ لها إجراؤها
أُعلِلْتُ علَّةَ «قال» وهْي قديمةٌ
أعيا الأطِبَّةَ كلَّهُم إبراؤها

فقد أشار في البيت الأول إلى أرجوزة رؤبة القافيَّة التي ألزم رَوِيَّها السكون، ولا يمكن أن يتحول عنه إلى حركة ما، يشير إلى حياته التي طالت عليه وألزمته سجنيه أو سجونه الثلاثة. وأشار في البيت الثاني إلى اعتلال «قال»، وما يشبهها من الأفعال التي تنقلب واواتها وياءاتها في وسطها إلى الأَلِفَات، فلا يمكن أن تتحول عنها، ولا أن تبرأ منها. يريد أن حياته قد طالت عليه وثقلت، وألزمته سجونه، وما فيها من علل وآلام، ويفسر هذين الرمزين قوله بعد ذلك:

طالَ الثَّواءُ وقد أنى لمفاصلي
أنْ تستبدَّ بضمِّها صَحْرَاؤُها
فَتَرتْ ولم تَفْتُر لِشرْب مدامةٍ
بل للخطوب يغولها إسراؤُها
مُلَّ المُقامُ فكم أُعاشِرُ أُمَّةً
أَمرَتْ، بغير صَلَاحها أُمراؤها

وما أراني أخطأْتُ حين رأيت رضاه عن هذين البيتين، وحين سمعْتُه يكرر إنشادهما في خلوته إلى نفسه في ظلمة الليل أو في وضح النهار، فكلاهما ظلمة بالقياس إلينا جميعًا. وما أراني أخطأْتُ حين رأيت كُتَّابه وطُلَّابه الذين لم يكونوا يكتبون يُعْجبون بهذين البيتين حين أملاهما الشيخ ذات صباح أو ذات مساء، أشدَّ الإعجاب ويستعيدونهما مرة ومرة؛ لأنهم كانوا يحبون أن يسمعوهما من الشيخ ينشدهما في صوته الممتلئ الشاحب، وعلى وجهه ابتسامة ليست أقلَّ شحوبًا من صوته، ولكنها تدلُّ على الرضا بهذا الفوز الفني الظريف.

وما أظنني أخطأت حين سمعت الكُتَّاب والطُلَّاب يرددون هذين البيتين بعد انصرافهم عن الشيخ، يريدون أن يحفظوهما، ويقرُّوهما في قلوبهم.

واللون الثاني من ألوان هذا العبث الذي كان يتفكه به أبو العلاء، ويفكِّه به طُلَّابه وقُرَّاءه هو عبثه بالألفاظ اللغوية: يُورِدها مشتبهةً، ثم يفسرها كما يفسِّر علماء اللغة ما يَعْرِض لهم من الألفاظ المشكلة، وبنفس الأسلوب الذي يفسرون به هذه الألفاظ. ولست أضرب لذلك إلا مَثَلَيْن اثنين. أحدهما قوله:

نوديتُ ألويتَ فانزِل لا يُراد أتى
سيْري لِوَى الرملِ بل للنبتِ إلواءُ

وقد زاد هذا التفسير إيضاحًا بقوله بعد هذا البيت:

وذاك أنَّ سوادَ الفوْد غيَّره
في غُرَّةٍ من بياض الشيْب أضواءُ

والثاني قوله:

وكل أديبٍ أيْ سيدعى إلى الردى
من الأدْب لا أنَّ الفتى يتأدب

فانظر إليه في البيت الأول كيف استعمل لفظ «ألويت»، ثم فسره مبيِّنًا أنه لم يُشْتَقَّ من اللوى الذي يكون من الرمل، وإنما اشْتُقَّ من ألوى النبات إذا تغير وذَوِيَ.

وانظر إليه في البيت الثاني كيف استعمل لفظ الأديب الذي يمكن أن يُتَوَهَّم اشتقاقه من الأدَب بفتح الدال، ثم فسَّره مبيِّنًا أنه لم يُشْتَقَّ من هذا اللفظ، وإنما اشْتُقَّ من الأدْب بسكون الدال، وهو الدعاء إلى الطعام.

ويذكِّر هذا البيت بقوله في قصيدة أخرى:

وما أدبَ الأقوامَ في كل بلدةٍ
إلى الميْنِ إلَّا معشرٌ أُدباءُ

واللون الثالث من ألوان هذا العبث أهمُّ من هذين النوعين، وأجلُّ خطرًا؛ لأن أبا العلاء لا يقصد به إلى مجرد التظرف الفني، ولا إلى مجرد التفكه، ولا إلى الجمال الفني الخالص وحده، وإنما يقصد به إلى هذا كله، وإلى إظهار البراعة والتفوق اللغوي ما في ذلك شكٌّ. وهو نوع من الجناس ظريف، يَلْتَزِم فيه أبو العلاء لفْظَ القافية نفسه في أول البيت أو في وسطه بحيث يتكرر هذا اللفظ في البيت الواحد مرتين، ويدلُّ على معنيين مختلفين، فيَجْمَع بين الجناس وبين ما يسميه أصحاب البديع رَد الصدر على العجز. وربما اكتفى أبو العلاء أحيانًا بالجناس المقارب الذي لا تتشابه فيه الحروف كلها في الكلمتين، وإنما يتشابه أكثرها. ولو أن أبا العلاء عمد إلى هذا الجناس في البيت بين حين وحين لكان هذا منه مستظرفًا مستحَبًّا كشأنه في هذا العبث اللغوي، أو في ذلك العبث النحوي، ولكنه يلتزمه في القصيدة كلها أو في أكثرها. والغريب أنه إذا عَمَدَ إلى هذا النوع من الجناس في قصيدة طوَّلها، وتجاوَزَ بها قَدْر المألوف من القصائد والمقطوعات في اللزوميَّات مبالغةً في إظهار براعته وتفوُّقه، وسيطرته على اللغة. وكيف لا وهو يلتزم ما لا يُلْزم مرتين، مرةً في أول البيت ومرة في آخره، ويلتزمه في القصيدة الطويلة المسرفة في الطول!

ولست أضرب لهذا مثلًا بالبيت أو البيتين، وإنما أروي لك من اللزوميَّات قصيدة أو قصيدتين كاملتين لتشاركني في هذا الابتسام الذي لا يفارقني أثناء قراءتي لهذا النحو من الشعر، والذي يصوِّر ما أراد أبو العلاء أن يثيره في نفوسنا من الإعجاب به، والإيمان له بالبراعة والسبق.

ولعل من الخير أن تستريح مني لحظةً إلى أبي العلاء نفسه.

خَوَى دَنُّ شَرْبٍ فاستَجابوا إلى التُّقى
فعيسهُمُ نحوَ الطَّوافِ خوادي
توي ديِّنٌ في ظَنهِ ما حرائرٌ
نظائرَ آمٍ وُكِّلَتْ بتوادي
رُويْدَكَ لو لم يُلحِدِ السيفُ لم تكنْ
لتحمِلَ هامَ المُلحدينَ هوادي
تغيَّرَتِ الأشياءُ في كلِّ موطِنٍ
ومَنْ لِجَوادٍ، نائِلًا بجوادِ؟
فما للسَّوادي بالمَعاشِرِ في الدُّجى
لقدْ غَفَلَتْ عن رِحلَةٍ بسوادِ
وليسَ ركابي عن رِضايَ عوادِنًا
ولكنْ عَداها أنْ تَسيرَ عوادي
أَتُجمَعُ في رَبْعٍ قِيَانٌ كأنَّها
شوادِنُ باللَّحنِ الخَفِيفِ شوادي؟
بِوادٍ نأَتْ عنهُ العُيونُ وعندَهُ
بوادِنُ لِلأمرِ القبيحِ بَوادي
وما تُشْبِهُ الشُّمُسَ الرَّوادِنُ مُرَّدًا
كخيلٍ بمَيدانِ الفُسوقِ رَوادِ
وكلُّ رَوادٍ لا تُصابُ أبيَّةٌ
متى نوزِعَتْ في منطقٍ لرِوادِ
فهل قاتلٌ منهنَّ غَيداءَ مرَّةً
فوَادٍ وهلْ للمومِساتِ فَوادِي؟
تفرَّعتِ الجُرْدَ العِرابَ لِعزَّةٍ
كوادِنُ بينَ المُقرِفاتِ كوادي
تروحُ إليهنَّ الغُواةُ عشيَّةً
وهنَّ على ضِدِّ الجميلِ غوادي
حوَى دِينَ قومٍ مالُهمْ فنفوسُهُمْ
إلى الفَتَكاتِ المُخزياتِ حوادي
وقامتْ على أهلِ الرَّشادِ نوادبٌ
وغصَّتْ بأهلِ المُندِياتِ نوادي
أوَى ديْرَ نَصرانيَّةٍ متظاهرٌ
بنُسكٍ ألا إنَّ الذِّئابَ أوادي!
سوى ديدنِ الجُهَّالِ يذهبُ عنهُمُ
وقد طالَ جَهْري فيهمُ وسوادي
وتدري المَواضي ما دواءُ دوائبٍ
يَبِتْنَ، لرَهْطِ المرءِ شَرَّ دوادي
وإنَّ دُوادًا حينَ أنكَرَ عقلَهُ
لَغَيرُ مَقيتٍ عندَ أُمِّ دُوادِ
أتأمُلُ رِيًّا بالوُرودِ ركائبٌ
صوادرُ عن صَدَّاءَ وهْيَ صوادِي؟

ولكن هذه القصيدة قصيرة، وهي على قِصَرها تُغْني في التمثيل بما أردْتُ التمثيل له، وفي إثبات ما أردْتُ إثباته، ولها نظائر كثيرة في اللزوميَّات.

ولكني مع ذلك لا أكتفي بها، وإنما أروي لك قصيدة أخرى أطول منها جدًّا؛ لتزداد عِلمًا بالبراعة اللفظية لأبي العلاء، واقتناعًا بأنه كان يسلِّي نفسه بهذا العبث الفني، وابتسامًا لهذه التسلية الساذجة، التي كان الناس يُعْجبون بها أشدَّ الإعجاب في ذلك العصر، والتي نعجب نحن بها الآن، ولكن مع ابتسام يوشك أن يكون ضحكًا، بل إغراقًا في الضحك.

وقد كنت أستطيع أن أُنبهك إلى موضع القصيدة من اللزوميَّات، وأكتفي بذلك من روايتها، ولكني أُشْفِقُ عليك من الكسل، وأخشى ألَّا يكون الديوان قريبًا منك وأنت تقرأ هذا الحديث، فأعتمدُ على الله في إثبات هذه القصيدة، واعتمدْ أنتَ على الله في قراءتها، وسنلتقي بعد الفراغ من هذه القراءة إن شاء الله.

أَوانِيَ هَمٌّ فَأَلقى أَوانِي
وَقَد مَرَّ في الشَّرْخِ وَالعُنفُوانِ
وَضَعتُ بُوانيَّ في ذِلَّةٍ
وَأُلقيتُ لِلحادِثاتِ البُواني
ثَوانِيَ ضَيفٌ فَلَم أَقْرِهِ
أَوائِلَ مِن عَزمَتي أَو ثَوانِي
فَيا هِندُ وانٍ عَنِ المَكرُما
تِ مَن لا يُساوِرُ بِالهِندُواني
زَوانِيَ خَوفُ المَقامِ الذَميـ
ـمِ عَن أَن أَكونَ خَليلَ الزَّواني
رَوانِيَ صَبري فَأَضحَتْ إِلَيَّ
عُيونٌ عَلى غَفَلاتٍ رَواني
عَوَانِي قَضاءٌ دُوْينَ المُرادِ
وَما بِكْرُ شَأنِكَ مِثلُ العَوانِ
وَهَل جَعَلَ الشائِماتِ الوَميضَ
تَوانِيَ غَيرُ اِتِّصالِ التَواني
فَما لِرِكابِكَ هَذي الوُقوفِ
عَدا حادِيَيْهَا الَّذي يَرجُوَانِ
حَوانِيَ لِلوِردِ أَعناقَهَا
وَما عَلِمتْ أَيَّ وَقتٍ حَواني
وَلَم يَلقَ في دَهرِهِ أَجْرَبِيٌّ
هَوانِيَ فَلْيَنْأَ عَنِّي هَواني
وَعِندِيَ سِرٌّ بَذِيُّ الحَديثِ
كَنَتْ عَنهُ في العالَمِينَ الغَوانِي
إِذا رَمْلَةٌ لَم تَجِئ بِالنَباتِ
فَقَد جَهِلَتْ أَن سَقَتْها السَواني
جَرَيْتُ مَعَ الدَهرِ جَرْيَ المُطيعِ
بَينَ الليَاحِيِّ وَالأُرجُوَاني
كَأَنِّيَ في العَيشِ لَدْنُ الغُصو
نِ مَن شاءَ قَوَّمَني أَو لَواني
وَلا لَونَ لِلماءِ فيما يُقالُ
وَلَكِنْ تَلَوُّنُهُ بِالأَواني
وَفي كُلِّ شَرٍّ دَعَتْهُ الخُطوبُ
شَواسِعُ مَنفَعَةٍ أَو دَواني
وَأَجزاءُ تِرْيَاقِهِمْ لا تَتِمُّ
إِلَّا بِجُزْءٍ مِنَ الأُفعُوانِ
فَلا تَمدَحانِي يَمينَ الثَناءِ
فَأَحسَنُ مِن ذاكَ أَن تَهجُواني
وَإِنِّيَ مِن فِكرَتي وَالقَضا
ءِ ما بَينَ بَحْرَينِ لا يَسجُوَانِ
وَأَنَّ النَهارَ وَأَنَّ الظَلامَ
عَلى كُلِّ ذي غَفلَةٍ يَدْجُوانِ
وَكَيفَ النَجاءُ وَلِلفَرقَدَيـ
ـنِ فَضلٌ وَآلَيتُ لا يَنجُوانِ
فَلِم تَطلُبا شِيمَي ناشِئَيْنِ
وَعَمَّا لَطَفْتُ لَهُ تَجفُوانِ
فَإِن تَقْفُوَا أَثَري تَحمَدا
وَإِن تَعرِفا النَّهجَ لا تَقْفُوَانِ
وَقَد أَمَرَ الحِلمُ أَن تَفصَحا
وَنادى بِلُطفٍ: أَلَا تَعفُوانِ
فَلَن تَقْذِيا بِاغتِفارِ الذُّنوبِ
وَلَكِن بِغُفرانِها تَصفُوانِ
وَلَولا القَذى طِرتُما في الهَواءِ
وَفي اللُّجِّ أُلِفيتُما تَطفُوانِ
فَكونا مَعَ الناسِ كَالبارِقيْنِ
تعُمَّانِ بِالنورِ أَو تَخفُوانِ
فَلَم تُخلَقَا مَلَكَيْ قُدرَةٍ
إِذا ما هَفا الإِنسُ لا تَهفُوانِ
أَلَم تَرَيَا عُصُرَيْ دَهرِنا
يَئُودانِ بِالثِّقلِ أَو يَأْدُوَانِ
وَما فَتِئَ الفَتَيانِ الحَياةَ
يَروحانِ بِالشَرِّ أَو يَغدُوانِ
عَدُوَّانِ ما شَعَرا بِالحِمامِ
فَكَيفَ تَظَنُّهُما يَعدُوانِ
أَلا تَسمَعُ الآنَ صَوتَيهِما
بِكُلِّ امرِئٍ فيهِما يَحدُوانِ
وَما كَشَفَ البَحثُ سِرَّيْهما
وَما خِلتُ أَنَّهُما يَبدُوانِ
وَكَم سَرَوَا عالَمًا أَوَّلًا
وَما سَرُوا. فَمَتى يَسْرُوانِ
وَبَينَهُما أَهلَكَ الغابِريـ
ـنَ ما يَقْرِيانِ وَما يَقرُوانِ
إِذا ما خَلا شَبَحي مِنهُما
فَما يُقفِرانِ وَلا يَخلُوانِ
قَلَيْنَا البَقاءَ وَلَم يَبرَحَا
بِنا في مَراحِلِهِ يَقلُوَانِ
وَكَم أَجلَيا عَن رِجالٍ مَضَوْا
وَأَخبار ما كانَ لا يَجلُوانِ
كَما خُلِقَا غَبَرا في العُصو
رِ لا يَرخُصانِ وَلا يَغلُوانِ
تَمُرُّ وَتَحلو لَنا الحادِثاتُ
وَما يَمقُرانِ وَلا يَحلُوانِ
إِذا تَلَوا عِظَةً فَالأَنَا
مُ لا يَأذَنونَ لِما يَتلُوَانِ
مُغِذَّانِ بِالناسِ لا يَلغُبانِ
وَسَيْفانِ لِلَّهِ لا يَنبُوانِ
وَلَو خُلِقا مِثلَ خَلْقِ الجِيادِ
رَأَيتَهُما في المَدَى يَكبُوانِ
لَعَلَّكُما إِن تَهُبَّ الصَّبا
إِلى بَلَدٍ نازِحٍ تَصبُوانِ
فَلا رَيبَ أَنَّ الَّذي تُحْبَيا
نِ أَفضَلُ مِنْه الَّذي تَحبُوانِ
فَعيشا أَبِيَّيْنِ لِلمُخزِيا
تِ مِثلَ السِّماكيْنِ لا تَأْبُوانِ
إِذا شَبَّتِ الشِّعرِيانِ الوَقودَ
فَفي الحُكمِ أَنَّهُما تَخبُوانِ
وَكونا كَريمَينِ بَينَ الأَنيـ
ـسِ لا تَنْمُلانِ وَلا تَأثُوانِ
إِذا الخِلُّ أَعرَضَ لَم تُلفَيا
لِسوءِ أَحاديثِهِ تَنْثُوَانِ
وَإِن لَم تَهيلَا إِلى مُعدِمٍ
طَعامًا فَيَكفيهِ ما تَحثُوانِ
وَجَهلٌ مُرادُكُمَا في المَقيـ
ـظِ عَهدًا مِنَ الوَرْدِ وَالأُقحُوانِ
وَما الحادَيانِ سِوى الجُنْدَبَيـ
ـنِ في حَرِّ هاجِرَةٍ يَنزُوانِ
وَما أَمِنَ البازِيانِ القِصاصَ
وَأَن يُؤخَذا بِالَّذي يَبزُوانِ
فَإِن تُهمِلا كُلَّ ما تَخزُنانِ
فَلَم يَأتِ بِالخَزيِ ما تَخزُوانِ
وَلا توجَدا أَبَدًا كاهِنَينِ
تَروعانِ قَومًا بِما تَخزُوانِ
وَنُصَّا إِلى اللهِ مَغزاكُمَا
فَذَلِكَ أَفضَلُ ما تَغزُوانِ
وَلا تَعزُوَا الخَيرَ إِلَّا إِلَيهِ
فَيُجْنَى الشِّفاءُ بِما تَعزُوانِ
وَإِن عُرِّيَتْ كاسِياتُ الغُصو
نِ فَلْتَكسُوَا الدِّفء مَن تَكسُوانِ
وَضَنَّا بِعُمرِكُما أَن يَضيعَ
وَلا تُفنِيا وَقتَهُ تَلهُوانِ
بِذِكرِ إِلَهِكُمَا فَأبَها
لَعَلَّكُمَا بِالتُّقى تَبْهُوانِ
فَيا رُبَّ طاهي صِلالٍ يَبيـ
ـتُ مُتَّخِذًا طَعمَهُ يَطهُوانِ١
وَسِيرا وَساعَيْنِ في المَكرُما
تِ لا تَدلُجانِ وَلا تَقطُوانِ
مطابِكُمَا قَدَرٌ لا يَزالُ
جَديداهُ في غَفلَةٍ يَمطُوانِ
فَوَيْحٌ لِخاطِئَتَيْ مارِدٍ
تَنُصَّانِ في مالِهِ تَخطُوَانِ

فأيْسَر ما تُلاحظه في هاتين القصيدتين، وفي أمثالهما بين قصائد اللزوميَّات ومقطوعاتها، وهو كثير كما قَدَّمْتُ، أن أبا العلاء يعنى فيها بالألفاظ أشد العناية وأقواها، كأنه قد أَخَذَ على نفسه عهدًا أن يَسْتَخْرِج منها كل ما يستطيع استخراجه؛ وأن يُخْضِعها لكل ما يستطيع إخضاعها له، ويُصَرِّفها في كل ما يمْكِن تصريفها فيه. فقد رأيْتَ تَحَكُّمَه فيها من جهة القافية، واشتراطه على نفسه في هذا الديوان ألَّا يُقَفِّيَ على حرف واحد، بل على حرفين دائمًا، وعلى ثلاثة أحرف أحيانًا، وبشرط ألَّا يضطره ذلك إلى إفساد المعنى، أو الانحراف عن مستقيم القول إلى مُحَاله. وتلاحظ في هذه القصائد التي يَصْطَنِع فيها هذه الأنواع من الجناس، ويَرُدُّ أعجازها على صدورها أنه يتحكم في الألفاظ تَحَكُّمًا من نوع آخر. فهو يلتزم ما لا يُلْزَم في أول البيت كما يلتزمه في آخره، وهو يلتزمه في القصيدة كلها أو في أكثرها. وهو يُكرِه الألفاظ التي لا تَوافُق بينها أحيانًا على أن تَلْتَئِم، وعلى أن تَلْتَئِم دون أن تغير من المعنى قليلًا ولا كثيرًا، وعلى أن تَلْتَئِم دون أن تنبو عن الطبع أو ينبو الطبع عنها نبوًّا قبيحًا. فإذا كان شيء من هذا النبو، فلا بدَّ من أن يَحْدُث للسمع أو للنفس لذة ما، كهذا التخالف الذي يُحْدثه أصحاب الموسيقى بين الأنغام، قاصدين له، عامدين إليه، يتخذونه جزءًا من نظامهم الموسيقي.

فانظر إلى هذا البيت مثلًا، وما أكثر أشباهه في هاتين القصيدتين وفي أمثالهما:

خَوَى دَنُّ شَرْبٍ فاستجابوا إلى التقى
فعيسُهُم نحو الطوافِ خوادي

أترى إلى الشطر الأول منه كيف يؤدي معناه أداءً حسنًا دون أن يَظْهَرَ فيه تكلُّف أو تَعَسُّف أو إكراه للفظ على ما لا يريد! وأي شيءٍ أيسر من أن يقول الشاعر: إن جماعة من الفسَّاق قد استجابوا إلى التُّقى؛ لأنهم لم يجدوا ميدانًا للفسق؟ عكفوا على ما كان عندهم من الخمر، فلما استنفدوه استجابوا إلى التُّقى. ثم انظر إلى الشطر الثاني فستراه نتيجة للشطر الأول، فإبل هؤلاء الناس تسرع بهم إلى الحج، ولكنك تُصَادِفُ هذا التوافق اللفظي بين أول البيت وآخره، فتُدْهَش له وتَقِفُ عنده، وتُحِسُّ أن الشاعر لم يصل إليه عفوًا، ولم يَبْلُغه في غير تكلف ولا جهد، ولكنه اختار عن عمْدٍ كلمة «خوى»، وكلمة «الدَّن»؛ ليجمع في أول البيت بين الخاء والواو والألف والدال التي لا بدَّ له من أن يختم بها البيت، وليتحقق له بذلك الجناس على بعضِ أشكاله كما يتحقق له التزام ما لم يُلْزَم في أول البيت وفي آخره. فإِذا وَصَلْتَ إلى هذا فستستبين فورًا أن البيت كله نتيجة لهذا التكلف، وأثر من آثاره. ولولا أنه قَصَدَ إلى هذا النحو من الجناس لأمكن جدًّا أن يأتي البيت على غير هذه الصورة، وفي غير هذه الألفاظ. فليس من الضروري أن يُعَبِّر الشاعر عن استنفاد الشرْب لِمَا عندهم من الخمر بأن دَنَّهم قد خوى، وقد كان يستطيع أن يجد من آنية الخمر أشياء غير الدَّن، وأن يجد للدلالة على فراغ هذه الآنية فعلًا آخر غير خوى. وكذلك كان يستطيع أن يُعَبِّر عن إسراع القوم إلى الحج بغير خدَيان العيس، كما كان يستطيع أن يصوِّر استجابة القوم إلى التُّقى بغير الإسراع إلى الحج كالعكوف على الصلاة، أو الانقطاع إلى الصوم. ولكنه محتاج إلى قافية فيها دال مكسورة، وواو بينهما ألف، وقد استعرض ما حَفِظَ من اللغة فوجد كلمة الخوادي، ثم هو محتاج إلى أن يبدأ البيت بما يشاكل آخره، فيستعرض ما يحفظ من اللغة فيجد كلمة خوى وكلمة الدن، ويجتمع له منهما ما يشبه القافية.

وما أكثر ما تجد هذا، قافية تُلْتَزَم ويَصْعُب على الشاعر أن يجِدَ كلمة واحدة تشبهها ليبدأ بها البيت، فيؤلف هذا الشبه من كلمتين، يأخذ الكلمة الأولى كلها، ويأخذ حرفًا من الكلمة الثانية. وقد فَعَلَ هذا نفسه في البيت الذي يأتي بعد ذلك وهو:

توى ديِّنٌ في ظنِّه ما حرائرٌ
نظائرَ آمٍ وُكِّلَتْ بتوادي

فالقافية هي التوادي، فيها كما ترى الواو وألف والدال والياء، ولم يستقم للشاعر لفظٌ واحد في أول البيت يُشْبِه آخره، فحقَّقَ هذا الشبه بالجمع بين لفظين، يأخذ اللفظ الأول كله، وفيه التاء والواو والألف، ويأخذ حرفين من اللفظ الثاني، وهما: الدال، والياء. وقد يُعْجِزه تحقيق هذا الشبه مَهْمَا يَسْلُك إليه من الطرق، فلا يَعْدِل به ذلك عما قصد إليه من تحقيق الجناس على نحوٍ من الأنحاء، على نحوٍ أوسع من المألوف بحيث لا تخلو القصيدة أو لا يخلو أكثرها من الجناس الصريح، أو الجناس المتوهم.

فانظر إلى هذا البيت:

رَوَيْدَكَ لَوْ لَمْ يُلحد السيفُ لم تكن
لتحمل هامَ الملحدين هوادي

فالقافية هنا هوادي كما ترى، ولم يستطع الشاعر أن يجد كلمة واحدة تشبهها ليبدأ بها البيت، ولا أن يجد كلمة وبعض كلمة، فلم يؤيسه ذلك، ولم يقف به في وسط الطريق. وما له لا يَعْدل عن الجناس الصريح إلى جناس ملحوظ؟ فإذا قرأت البيت فسترى فيه الهاء والألف في «هام»، وسترى فيه الدال والياء في «الملحدين»، وسترى فيه الواو في «رُوَيْدَكَ»، وفي «لو»، وسترى بعض هذه الحروف مكررًا في كلمات أخرى، بحيث لا تصل إلى القافية إلَّا وقد نُطِقَت بحروفها كلها، فأنت تعيد النطق بها مجتمعةً حين تنطق بالقافية. على أنه لم يلبث أن عاد سيرته الأولى فحقَّق الجناس الصريح بين القافية وغيرها من بعض ألفاظ البيت كما ترى حين تمضي في قراءة القصيدتين.

وأنا واثق بأنك قد تضحك من هذا الكلام إن كنت حسَن الاستعداد أثناء قراءته، وقد تضيق به وتُعْرض عنه إن كنْتَ سيئ الاستعداد حين تبلغ هذا الموضع من الحديث، ولكن هذا لن يغيِّر من الأمر شيئًا؛ فقد قَصَدَ أبو العلاء إلى هذا العبث اللفظي، وأطال التماسه، وجدَّ في البحث عنه، ورضي حين انتهى إليه، ووجد من سامعيه وقرائه من رضي عنه كما رضي، وابتهج به كما ابتهج. وقد كان هذا التكلُّف اللفظي شائعًا في عصر أبي العلاء، ومن قَبْل أبي العلاء بزمن طويل، وقد ظلَّ شائعًا بعد أبي العلاء، والناس يختلفون في الرضا عنه والسخط عليه. ولست أرضى عنه كل الرضا، ولا أسخط عليه كل السخط، ولا أُحِبُّ أن أُوَجِّه شباب الكُتَّاب إلى هذا المذهب أو ذاك، وإنما أنا أتوسط بين الأمرين، وأحبُّ أن يُقَاوِم شباب الكتَّاب والشعراء بعض المقاومة هذه الثورة العنيفة التي ثُرناها على العناية باللفظ، وأن يُقَدِّروا أن للألفاظ في نفسها قِيَمًا ذاتية — إن صحَّ هذا التعبير — تُقَدِّرها الأذن، وتُحْدِثُ في النفس لذَّة موسيقية خاصة، لا ينبغي أن يُهْمِلَهَا الأديب، بل يجب أن يُعْنى بها ما وسِعَتْه العناية؛ بشرط ألَّا تُفْسِد عليه معناه، ولا تضطره إلى الهذيان والاستغلاق.

والمهم هو أن أبا العلاء لم تَصْرِفْه فلسفته العليا، ولا زهده في زخرف الحياة من جمال اللفظ وزينته، وعن تكلف هذه الزينة وذلك الجمال، وعن اتخاذهما وسيلة إلى اللهو البريء، والتسلية التي لا تعقب حسرة ولا ندمًا.

على أن عناية أبي العلاء بالألفاظ، واستعانته بها على قَطْع الوقت، واحتمال الحياة تثير فكرة أخرى لا تخلو من ظُرف؛ لأنها تُصَوِّر تناقضًا شديدًا، فقد كان مستقِرًّا في هذه النفس الممتازة، وفي هذا العقل الغريب، وهو مُسْتَقِرٌّ في أمثالها من نفوس الشعراء والكتَّاب الممتازين.

فهذا الرجل الحر الذي لم يعرف المسلمون من يشبهه فيما أباح لنفسه من حرية عقلية لا يستطيع أن يتمتع بها مُسْلِم في هذا العصر الحديث؛ عصر الدستور، والديمقراطية، والحياة النيابية، هذا الرجل الحر في رأيه وتفكيره، وفيما تصوَّر وفيما خُيِّل إلى نفسه وإلى الناس، وفيما انتهى إليه من حُكْم، وفيما دعا إليه الناس من مذهب، هذا الرجل الذي تجاوَزَ الحرية إلى الثورة قد فَرَضَ على نفسه قيودًا مُحْكمةً وأغلالًا ثقالًا. وليس المهم أنه فَرَضَ على نفْسه العُزْلة واجتناب الزواج والنسل، والإعراض عن لذَّات الحياة، والاكتفاء بأغلظ ما أُتِيحَ له من العيش، فهذه كلها قيود وأغلال تقتضيها فلسفته، فهي نتيجة عملية في السيرة لهذا النحو من التفكير الذي دَفَعَ الرجل إليه، وإنما المهم أنه حرَّر نفسه من القيود الدينية والاجتماعية والطبيعية أيضًا، ثم فَرَضَ عليها هذه القيود الفنية التي نَنْظُر إليها فَنَبْتَسِم، والتي أقَلُّ ما توصف به أنها ساذجة، لا تلائم جدَّ الفيلسوف ومرارته.

وما رأيك في رجلٍ يحرِّم على نفسه طيبات الثمر والزهر، وألوان اللذات النقية البريئة، ثم يَفْرض على نفسه الجناس وأشباهه من ألوان البديع، ويَفْرِضه على نفسه في الشعر والنثر، وفي أسفار ضخمة ودواوين طوال؟

هذه فكرة يَحْسُن أن نروِّي فيها بعض الشيء؛ فقد نَجِدُ فيها ما يُسَلِّي، وقد نَجِدُ فيها ما يَعِظُ؛ وقد نَجِدُ فيها ما يُعْجب حين نلاحِظ أن بعض الفلاسفة قد يَبْلغون من كِبَر العقل وقوَّته، ومن حصافة الرأي ونفاذ البصيرة، ومن صرامة العزم ومرارة الجد ما شاء الله أن يَبْلغوا، ثم لا يَمْنعهم ذلك من أن يُسَلُّوا عن أنفسهم بألوان من العبث البريء ربما يحسدهم عليها الأطفال.

على أن التزام أبي العلاء ما التزم من القيود الفنية، وتعلُّقَه بما تعلق به من زينة اللفظ، وإغراقه في ذلك، وتهالُكه عليه لم يُنْتِج له الخير الفني من جميع الوجوه.

فقد نسرف على أنفسنا، وعلى الفن الأدبي إن ظننا أنَّ شِعر اللزوميَّات جيِّد كله من هذه الناحية الفنية الخالصة؛ بل نسرف على أنفسنا وعلى الفن الأدبي إن ظننا أن كثرة هذا الشعر جيدة، وإنما المحقَّق أن الجيد من شعر اللزوميَّات قليل يمكن أن يُسْتَخْلَص في مجلدٍ نحيف يَجْمَع إلى الجمال الفني خلاصة الفلسفة العلائية كلها. ولولا أن أبا العلاء لم يكن يقصد إلى الفلسفة وحدها، وإنما كان يقصد إلى البراعة اللفظية، والاستعانة على الوقت، والتسلي عن الحياة وآلامها، لقد كان يستطيع أن يقول للناس ما أراد أن يقول، وأن يصوِّر لهم ما أراد أن يصوِّر من آرائه في الإلهيات والنبوَّات والحياة الاجتماعية في أيسر اللفظ وأقلِّه، وأسرعِه مَدخلًا إلى النفوس. ولكنه لم يُرِدْ شيئًا من هذا، وإنما أراد أن يَنْظِم شعرًا على حروف المعجم كلها مضمومةً ومفتوحة ومكسورة وساكنة، وأن يلتزم مع ذلك حرفًا ثانيًا أو حرفين آخرين. ولا بدَّ له من أن يستوفي هذا الشرط مَهْمَا يُكَلِّفه ذلك من الجهد، ومَهْمَا يُحَمِّله ذلك من العناء؛ لأنه قد جعل ذلك غاية لنفسه وفنه، وأخذ نفْسه بالوصول إلى هذه الغاية، فكان أول ما أنتَجَ له هذا التكرار والإعادة اللذين ينتهيان بالقارئ إلى ملل وسأم لا سبيل إلى وصفهما، ولا إلى احتمالهما إلا أن يكون القارئ من الذين يتخذون البحث صناعة، أو مِن الذين قد ألِفُوا التشاؤم كما أَلِفَه أبو العلاء، فهو لا يَكْرَه أن يُبْدِئ فيه ويعيد.

فالذي يبغِّض هذا التكرار إلى النفس، ويُثْقِله على الطبع أن أبا العلاء لا يكرِّر أشياء يحب الناس أن يسمعوها، أو يكلِّف الناس بأن يُلِمُّوا بها بين حين وحين. وإنما هو يكرر أشياء بغيضة إلى النفس؛ لأنها تُبْغِض إليها الحياة، وتَصْرِفها عنها، وتوئسها منها. وقد يستحب الناس من ذلك، بل قد يجب على الناس أن يستحبوا من ذلك شيئًا، يقوِّمون به أخلاقهم، ويثقفون به عقولهم، ويُرَوِّضون به نفوسهم على احتمال المكروه، والثبات للخطوب، ويردُّون به نفوسهم عما قد يَدْفَعهم إليه النعيم أحيانًا من البطر والأشر.

ولكن هذا شيء والإغراق في بغض الحياة وتبغيضها، وتصويرها في أبشع الصور وأقبح الأشكال شيء آخر، ولا سيما حين يَنْظِم فيه ديوان يتألف من مجلدين ضخمين، وكتب منثورة لا نستطيع أن نُحْصي صحفها؛ لأن أيسرها قد وصل إلينا، وأكثرها قد حُجِب عنَّا، ولعله يُكْشَف لنا كله أو بعضه في يوم من الأيام.

على أن التكرار ليس هو العيب الوحيد أو الظاهر الذي اضْطُرَّ إليه أبو العلاء حين أخذ نفْسه بهذه القيود الفنية، وإنما هناك عيبٌ آخر ربما كان أشدَّ منه خطرًا، فقد نستطيع أن نعتذر عن أبي العلاء من هذا التكرار بأنه لا يستطيع أن يعطي إلا ما عنده، ولم يكن عنده إلا التشاؤم، فقد أعطانا من التشاؤم ما استطاع، وما ينبغي أن نُكَلِّف الشعراء فوق ما يطيقون، فأنت تَظْلِم أبا نواس إن طَلَبْتَ إليه التشاؤم، وتَظْلِم أبا العلاء إن طَلَبْتَ إليه الابتهاج. وأبو العلاء لم يَفْرِضْ على الناس قراءة كتبه ودواوينه، وإنما تركها لهم يُقْبِلون عليها أو يُعْرِضون عنها، وليَقْرَءوها كلها أو بعضها، وليأخذوا منها بما يحبون، وليرفضوا منها ما لا يحبون.

فقد يمكن الاعتذار من تكرار أبي العلاء، ولكن هناك عيبًا لا يمكن الاعتذار منه، وهو الاستسلام للفظ إلى هذا الحد، وتحكيم اللفظ وحده في المعنى والفن إلى الحد الذي انتهى إليه أبو العلاء؛ أن يفرض الشاعر على نفسه اصطناع الجناس أو غيره من ألوان البديع في كل ما يقول من الشعر أو في بعضه دون بعضه الآخر هذا شيء مألوف قد نقبله وقد نرفضه، وقد نرتاح إليه وقد نزْوَرُّ عنه. ولكن أن يتخذ الشاعر الخضوع للقافية، وللقافية وحدها قانونًا فنيًّا صارمًا يذعن له الإذعان المطلَق لا في قصيدة ولا في قصيدتين ولا في قصائد، بل في ديوان ضخم، وأن يشترط في هذه القافية هذا الشرط القاسي الذي اشترطه أبو العلاء، وأن يلتزم هذا الشرط ويجريه في جميع حروف المعجم مَهْمَا تكن هذه الحروف، ومَهْمَا تكن المعاني التي يريد الشاعر أن يقول فيها، هذا هو الشيء الذي لا يطاق، ولا يمكن أن ينتهي بصاحبه إلى الخير. ومن هنا تطُول القصيدة وتقْصُر، وتنبسط المقطوعة وتنقبض؛ لا لأن المعنى يريد الطول أو القِصر، والانبساط أو الانقباض، بل لأن القافية التي اشترطها الشاعر على نفسه تواتيه فيمتد النفَس، أو لا تواتيه فيقصر النفَس. وقد تضيق أنت بهذا الطول؛ لأن الشاعر أدَّى إليك ما كان يريد أن يؤديه، ولولا القافية لاكتفى بالمقدار اليسير من الأبيات. وقد يعجبك المعنى ويرضيك، وربما أعجبك اللفظ نفسه وأرضاك أيضًا، فأنت في حاجة إلى أن يطيل الشاعر بعض الشيء؛ لأن صوته يعجبك، ولأن نغمته تلذك، ولأن معناه يلائم هوًى في نفسك، ولكن الشاعر ينقطع بك عند البيتين أو الأبيات، لا لأنه أرضى نفسه، وأدَّى ما كان يريد أن يؤديه، بل لأن القافية تضطره إلى الوقوف، وتُكْرِهه على الانقطاع.

وهذا يثير في نفس القارئ — سواء أحبَّ ذلك أو لم يحبِبْه — شيئًا غير قليل من الغيظ، وقد يدفعه إلى لوم أبي العلاء، والتشديد عليه في اللوم، ولكن يجب أن نذكر أن أبا العلاء لم يفكر في السامع وفي القارئ وحدهما حين أنشأ ما أنشأ من اللزوميَّات، وإنما فكَّر في نفسه معهما، بل هو فكَّر في نفسه قبل أن يفكر فيهما. أراد أن يعَبِّر عما لم يجدْ بدًّا من التعبير عنه، ويصور ما لم يجدْ بدًّا من تصويره، وأراد بنوع خاص أن يسلي نفسه ويلهيها كما قدَّمْتُ. فرض الرجل على نفْسه لونًا من ألوان الرياضة الشاقة، فقد يلائمك هذا اللون من ألوان الرياضة وقد لا يلائمك، ولكن هذا آخر ما يحفل به أبو العلاء.

ولعل أبا العلاء نفسه قد صوَّر هذا المعنى أجمل تصوير وأروعه في هذه الأبيات التي أُحِبُّها أشدَّ الحب، وأكلف بها أشدَّ الكلف، وأراها تصور النفس الممتازة ذات الشخصية القوية أصدق تصوير وهي قوله:

خُذِي رأْيِي وحسبُكِ ذاكِ مني
عَلَى ما فِيَّ من عِوَجٍ وأَمْتِ
وماذَا يَبْتَغِي الْجُلَسَاءُ عِنْدِي
أَرادُوا مَنْطِقي وأَردتُ صَمْتِي
ويُوجَد بَيْننا أَمَدٌ قَصِيٌّ
فَأَمُّوا سَمتَهُمْ وأَمَمْتُ سَمْتِي

وندع البيت الثاني من هذه الأبيات فقد نعود إليه بعد حين، وإنما نقِف عند البيت الأول والبيت الثالث. فأبو العلاء يُقَدِّم رأيه للناس، ويرى أنهم لا يملكون أن يطالبوه بأكثر من هذا الرأي، بل هو يرى أن الناس يجب أن يأخذوا رأيه على ما فيه وفي صاحبه من عِوَجٍ وأَمْتٍ. وليس لهم أن يقوِّموه، ولا أن يقوِّموا رأيه، وإنما لهم أن يقبلوا منه هذا الرأي، أو أن يرُدُّوه عليه. وما أعرف اعتدادًا بالحرية العقلية والشخصية الفلسفية يشبه هذا الاعتداد.

وأبو العلاء يعرف أنه مُعْوج، ويعرف أن فيه أَمْتًا وانحرافًا، ولكنه يعرف أن ذلك يعنيه هو ولا يعني غيره؛ وأنه يؤثر أن ينحطم على أن يقوَّم اعوجاجه وانحرافه. ثم هو في البيت الثالث يسجل ما بيْنه وبين الناس من الأمد البعيد، ويسجل أن الناس قد مضوا في طريقهم، وأنه قد مضى في طريقه، وكما أنه لم يُكْرِههم على أن يعودوا إليه، فليس لهم أن يُكْرِهوه على أن يعود إليهم. وثِقْ أن أبا العلاء لا يريد بهذا رأيه الفلسفي وحده، وإنما يريد بهذا شخصيته كلها كاملةً غير منقوصة، وموفورة غير مبتورة. يريد رأيه الفلسفي، أو قُلْ آراءه الفلسفية، فهو لا يستطيع أن يَنْزِل عن هذه الآراء إذا اقتنع بها؛ إلا أن يُحَوِّله عنها شك طارئ أو برهان جديد. ويجب أن يأتيه هذا الشك من نفسه لا من غيره، ويجب أن يأتيه هذا البرهان من عقله لا مِنْ عقْل سواه. والناس أحرار في أن يشاركوه في هذه الآراء أو أن يخالفوه. ويريد سيرته العملية، فهو قد صمم على العُزلة، وأعرض عن اللذات، وآثر خشونة العيش، لا يصرفه عن ذلك صارف حتى داعي الدعاة بما بذل من وعد ووعيد، ومن ترغيب وترهيب. والناس أحرار في أن يوافقوه على ذلك أو يخالفوه فيه.

ويريد مذهبه الفنيُّ هذا الذي يشتدُّ فيه العِوج والأَمْت؛ لأنه محسوس تدركه الأذن، وتشقى بما فيه من غريب قد ينبو عنه السمع، ومِنْ قَيْد قد يزوَرُّ عنه الذوق، ولكنه حريص عليه، كَلِفٌ به، لن ينزل عنه ابتغاء مرضاتك، وهل ابتغى أبو العلاء مرضاة أحد؟ وهل نزل أبو العلاء عن شيء ليرضي أحدًا؟ فخُذ اللزوميَّات كما هي، فإِنْ أعجبَتْك فذاك، وإن لم تُعْجِبك فدَعْها، والتمِس لذَّة نفسك ومتاعها فيما شئت من الكتب والدواوين. فأبو العلاء لم يَنْظُمها لك، وإنما نظمها لنفسه، وهو عنها راضٍ وبها مكتفٍ.

ستقول: فإن هذه هي الكبرياء، بل هي الكبرياء الجامحة. فهذا صحيح، ولكن ماذا تريد أن تصنع وقد خُلِقَت هذه الكبرياء مع أبي العلاء، ورُكِّبَت في طبعه، لم يَكْتَسِبْها وإن كانت حياته قد زادتها قوة ونموًّا. وكيف تريد ألا يَكبُر أبو العلاء عليك وعلى أمثالك من الناس، وهو الذي لم يستطع أن يكفَّ كبرياءه عن أن ترقى به إلى ما لا يرقى الناس إلى أمثاله؟ فقد قدَّمتُ لك أن أبا العلاء شَقِيٌّ؛ لأنه لم يَفْهم حكمة الله، ولم يَسْتَطِع أن يَبْلُغ كُنْهَهَا، ولم يَسْتَطِع أن يرضى بهذا القصور، فلا تُطَالِب أبا العلاء بالنزول عن كبريائه، ولكن أَشْفِقْ عليه، وارْثُ له من هذه الكبرياء. ثم عُدْ بنا إلى البيت الثاني فسترى أن أبا العلاء خليق بكثير من الإشفاق الباسم:

ومَاذا يَبْتَغِي الجُلَسَاءُ عِنْدِي
أَرَادُوا مَنْطِقِي وأَرَدتُ صَمْتي

فهل هذا حق؟ أمَّا أن جلساء أبي العلاء أرادوا منطقه، فذلك شيء لا شك فيه. فهو لم يدْعُهُم إلى نفسه، ولم يَعْرض عليهم عِلْمه وأدبه، ولم يستقدمهم من أقطارهم النائية وبلادهم القاصية؛ هم أقبلوا عليه يلتمسون عنده العلم والأدب، ويُلِحُّون عليه في ذلك، ولكنْ أمِنَ الحقِّ أن أبا العلاء أراد الصمت؟ هذه هي المسألة التي أشكُّ فيها أعظم الشكِّ وأقواه. وأبو العلاء لا يضيق بالكلام في هذا البيت وحده، بل يضيق بالإملاء في بيت آخر فيقول:

أَمَا ليَ فيما أَرى راحَةٌ
يَد الدهرِ من هَذَيانِ الأَمالي

فلاحِظْ مُسْرعًا هذا الجناس بين أول البيت وآخره، ثم عُدْ إلى ما نحن فيه وأنبئني: أحقٌّ أنَّ أبا العلاء كان يضيق بالكلام والإملاء؟ ومَن الذي أَكْرهَه على الكلام والإملاء؟ قد يمكن أن يكون إقبال الناس عليه، وإلحاحهم في التماس ما عنده من علم اللغة والأدب قد أكرهه على الدرس والإملاء. وقد يمكن أن يكون اتصال الناس به، وإلحاحهم عليه بالمنظوم والمنثور من الرسائل قد اضطره إلى تأليف هذه الرسالة أو تلك، وإلى نظم هذه القصيدة أو تلك من قصائد سِقْط الزَّنْد. ولكن مَن الذي اضطره إلى نَظْم اللزوميَّات، وإلى إملاء الفصول والغايات؟ لَمْ يَضْطَرَّه إلى ذلك أحد، وإنما هو الذي اضْطَرَّ نفْسه إليه اضطرارًا، وأَخَذَهَا به أخذًا؛ لأنه لَمْ يكن يستطيع غير ذلك. كانت تَجِيش في نفسه الآراء والخواطر فلا يستطيع لها كتمانًا ولا كظمًا، وكانت تَعْرض له المُثُلُ الفنية من النظم والنثر فلا يستطيع أن يكُفَّ نفْسه عن محاكاتها، وعن تحقيقها، وإخراجها من القوة إلى الفعل. وإذا حَقَّقَ هذا المثال أو ذاك من الشعر أو النثر في خلوته إلى نفسه فقد كان عاجزًا كلَّ العجز عن أن يحتفظ به في ذاكرته ليستمتع به وحيدًا فريدًا، وكان مضطرًّا كل الاضطرار إلى أنْ يُجْريه على لسانه، وأن يُلقيَه في أسماع الناس وفي قلوبهم، ويتمنى أن يذُوقوه، ويسيغوه، ويُعْجَبوا به لسبب يسير جدًّا، وهو أن أبا العلاء كان فيلسوفًا، ولا بدَّ للفيلسوف مِنْ أن يُعْلن رأيه، ويدعو إليه. وكان شاعرًا ولا بدَّ للشاعر مِنْ أن يتغنى، ومِنْ أن يُسْمِع الناس ما يضطرب به صوته من الغناء.

وكل الفلاسفة يؤْثر الصمت فيما يقول، ولكنَّه مع ذلك لا يؤْثره فيما يعمل؛ لأن قوة الرأي وقوة الحياة الاجتماعية أشدُّ من إيثاره لنفسه. وكل الشعراء الذين يستحقون هذا الوصف يَنْظمون الشعر لأنفسهم، ويلتمسون فيه لذتهم ومتعتهم، ولكنهم لا يَنْعمون بهذا الشعر إلا إذا أذاعوه، ورَجَعَ إليهم صداه بعد أن يَسْمَعه الناس. وأكبر الظنِّ — بل المحقق — أن أبا العلاء لو أَخَذَ الناسُ أمْرَه بالجد، وخلَّوْا بينه وبيْن ما أراد من العزلة والانقطاع لخرج إليهم أو لدعاهم إليه ليسمعوا منه شعره، وليأخذوا عنه فلسفته. ولكن الشاعر والفيلسوف وصاحب الفن طِفل مَهْمَا يَكْبُر! فهو يحب الصمت، ولكنه يُقْبل على الكلام ويُغْرق فيه، وهو يحب العزلة ولكنَّه في أثنائها متصلُ النفس بالناس، لا يستطيع أن يَقْطَعَ بينها وبينهم الأسباب. واقرأ اللزوميَّات، وتَتَبَّعْ ما فيها من النقد الاجتماعي والسياسي، فسترى أن أبا العلاء لم ينقطع قَطُّ عن الناس انقطاعًا تامًّا، وإنما عاش معهم، وتأثَّرَ بما تأثروا به، وراقَبَهم مراقبة متصلة دقيقة، فأنكَرَ مِن أَمْرهم ما أَنْكَرَ، وعَرَفَ مِن أَمْرهم ما عَرَفَ، واتخَذَ من هذا كله مادة لفلسفته وشعره، فسلَّى نفسه، ووعَظَ الناس.

لم يفكر فيك أبو العلاء إذَنْ، ولم يَحْفِل برضاك حين نَظَمَ اللزوميَّات، وإنما فكَّر في نفسه، وحَفَلَ برضاه هو، بل لعلِّي أغلو في ذلك بعض الشيء، فما أشك في أن الناس في عصر أبي العلاء كانوا يَحْفِلون بهذا التكلُّف، ويَرَوْن فيه مهارة وبراعة واقتدارًا كما كان أبو العلاء نفسه يَحْفِل به، ويرى فيه مهارة وبراعة واقتدارًا. ولو أَعْرَضَ الناس عن هذا التكلف أيام أبي العلاء لكان من الجائز جدًّا — بل من الراجح — أن يُعْرِض أبو العلاء عنه، وأن يَلتمس لنفسه بابًا آخر من أبواب التسلية وقَطْع الوقت لنفْس السبب الذي بَيَّنْتُه آنفًا: وهو أن الصلة بين الشاعر وقُرَّائه وسامعيه أَمْتَنُ جدًّا من أن تَقْطَعها الفلسفة مَهْمَا تُميِّز صاحِبَها من الناس، ومَهْمَا تَرْتَفِع به عن طبقتهم، ومَهْمَا تُمْعِن به في التشاؤم، وإيثار الوحدة والانفراد. وما أكثر ما يتساءل أبو العلاء عن الطير حين تتغنى أَيَعْنِيها أن يَسْمَع الناس لغنائها، وأن يَجِدوا فيه لذة ومتاعًا؟ وعن الزهر حين يتضوع، وحين يتألق أَيَعْنِيه أن يَجِدَ الناس في طِيبِه لذَّة، وإلى جماله راحة واطمئنانًا، وعن الشمس حين تَبْعَث الحرارة والضوء أَيَعْنِيها أن يَجِدَ الناس في حرارتها وضيائها حياة ونشاطًا، ومَرَحًا وفَرَحًا، ورضًى وابتهاجًا.

بل أتَشْعر الطير بما يَصْدُر عنها من غِناء؟ أيَشْعر الزهر بما يَنْشُر عنه من عبير؟ أتَشْعر الشمس بما تَبْعَثُ من حرارة وضوء؟ أتُقْدِم الطبيعة على ما يَصْدر عنها من مختلف الأمر عن شعور به وإرادة له، ورغبة في تحقيق ما نرى فيه نحن من الغايات؟ وواضح أن أبا العلاء لم يَظْفر بجواب على هذا السؤال، وأنَّ عقْله قد هداه إلى الجواب المحزن الأليم: وهو أن الطبيعة لا تَحْفِل بنا، ولا بما نَجِدُ من لذَّة أو أَلَمٍ حين تتصل بنا آثارها؛ لأنها لا تَعْقل ولا تَشْعر، فهي إذَنْ لا تريد وإنما هي مُيَسَّرة لما خُلِقَتْ له، مُسَخَّرة لما دُفِعَت إليه. ولكن أبا العلاء نفسه يَشْعُر ويُفَكِّر ويُقَدِّر ويُرِيد، وهو يحسُّ أثر ما يصدر عنه من غناء أو فلسفة، ويَعْرِف رضى الناس عنه أو سخطهم عليه؛ وهو من أَجْل ذلك يُقْبَل عليه أو يُعْرَض عنه، فهو كالطير وكالزهر وكالشمس تَصْدر عنه آثاره سواء أراد أو لَمْ يُرِد؛ ولكنه يخالف الطير والزهر والشمس في أن له عقلًا يُمَيِّز به هذه الآثار، ويعرف به نتائجها في نفوس الناس. ويدفعه ذلك إلى أن يتَزَيَّد من هذه النتائج، وإلى أن يلائم بين آثاره وبين الذين يتلقونها من الناس، فيَسْهُل حينًا، ويُحزن حينًا آخر، ويُعَنف مرةً، ويَلِين مرة أخرى، ويُصَرِّح طورًا، ويُلَمِّح طورًا آخر، ولكنَّه مُنْشِئٌ آثاره ومذيعٌ لها، ومُلِحٌّ في إنشائها وإذاعتها على كل حال.

والظريف أن أبا العلاء قد كان يُخْدَع عن فنه أحيانًا، فيَظُنُّ أنه يَشُقُّ على نفسه، ويُكَلِّفها الصعب العسير من الأمر، على حين أنه لم يكن من ذلك في شيء، أو قُلْ إنه كان يعرف أنه لا يتكلف مشقة ولا عناء، ولكن الطريق تستقيم له فيمضي فيها ليستوفي الشرط الذي شرطه على نفسه من جهة، وليُرْضِي حاجته إلى الفلسفة والغناء من جهة أخرى.

وربما كان فصل الهاء من اللزوميَّات من أوضح الأدلة على هذا، فأبو العلاء في كثير من قصائده في هذا الفصل يَلتزم الهاء مضمومةً أو مفتوحة أو مكسورة أو ساكنة، ثم يَلتزم معها حرفًا آخر كدأبه في اللزوميَّات كلها. وقد خيَّل إلى نفسه أنه يَحْتمل في ذلك من المشقة والجهد ما كان يَحْتمله في حرف الدال أو الجيم أو الباء، مع أن أَيْسَر النظر في الأمر يدلُّ على أن جهده خفيف محتمَل حقًّا. فالهاء التي يَلتزمها ليست إلا الضمير المتصل مبنيًّا على الضم أو على الفتح أو على الكسر أو مسكنًا بالوقف، فإذا التَزَم هذا الضمير فهو لا يغيِّر شيئًا، ولا يَتَكَلَّف في حقيقة الأمر إلا قافية واحدة وهي الحرف الذي يسبق هذا الضمير. وأي شيء أيسر على أبي العلاء من هذا؟

انظر إلى هذه القصيدة التي أوَّلها:

لعمري لخيرُ الذُّخر في كلِّ شدَّةٍ
إلهُكَ ترجُو فضلَهُ وإلاهُ

فالقافية هنا هي هذا الضمير، وقد الْتَزَم الشاعر اللام قبلها. وأنت تستطيع أن تمضي فيها إلى آخرها، فإذا هي قد نيَّفت على الأربعين بيتًا، وإذا الضمير هو القافية دائمًا، وإذَنْ فأبو العلاء لم يُغَيِّرْ، ولم يُنَوِّعْ إلَّا في الكلمة التي تسبقها، والتي يجب أن تنتهي باللام وألف الردف. فهذه الكلمة مرة فِعْل يَنْصب الضمير، وهي مرة اسم يضاف إليه.

وكأن أبا العلاء قد أحسَّ هذا بعد أن فرغ من هذه القصيدة، فوجد فيه سهولة ويسرًا لا يلائم ما أراد أن يأخذ به نفسه من الرياضة العنيفة، ولا بدَّ له مع ذلك من أن يستوفي الشرط، ومن أن يَلْتزم الهاء، فهو يَنْظِم شِعره لا يَلْتزم الهاء وحَرفًا قبلها فحسب، وإنما يَلْتزم قبلها حرفين اثنين.

فانظر إلى هذه القصيدة التي أولها:

أخوكِ معذَّبٌ يا أُمَّ دَفْرٍ
أظلتْهُ الخطوبُ وأرهقتْه

فهو يَلْتزم الهاء، ويَلْتزم قبلها التاء والقاف، ولكنَّه مع ذلك لا يَسْلم من السهولة؛ لأن الكلمة الأخيرة من البيت دائمًا فِعْل ماضٍ آخره قاف وقد أُلْحِقَتْ به تاء التأنيث، ثم الضمير المتصل.

فالصعوبة الصعبة التي التزَمَها أبو العلاء في حقيقة الأمر إنما هي التزام أفعال قافية اللام ليس غير، فهو في حقيقة الأمر لم يغيِّر إلا في حرف واحد هو القاف لا يشذُّ من هذه القصيدة التي نيَّفت على الخمسين في ذلك بيت واحد. وهو قوله:

أُقاتُ الشيءَ بعد الشيءِ فيها
ليُمسكني فليتيَ لم أُقتْهُ

فالقاف هنا ليست لام الفعل المضارع، وإنما هي فاءه كما ترى، والتاء جزء منه، وليست تاء التأنيث. ومع ذلك فإِن أبا العلاء يعترف بالمصاعب حين تلقاه، ولا يَخدع نفسه عنها، ولا يحاول ابتكار المُحال، فهو قد يصادف الحروف التي لا يتأتى له معها النظم الكثير مع التزام ما لا يُلْزَم، فيكتفي منها بأيسر ما يمكِّنه من تحقيق الشرط.

فهو لم يَنْظِم على الظاء مع غيرها من الحروف إلا عشرين بيتًا، قسَّمها على ثماني مقطوعات. في الظاء المضمومة مقطوعتان، وفي الظاء المفتوحة مقطوعتان، وفي الظاء المكسورة ثلاث مقطوعات، وفي الظاء الساكنة مقطوعة واحدة.

ولم يَنْظِم في الغين إلا أربعة عشر بيتًا في مقطوعات ست؛ واحدة في الغين المضمومة، وواحدة في الغين المفتوحة، وواحدة في الغين المكسورة، وثلاث في الغين الساكنة.

ونَظَمَ في الواو سبعة وعشرين بيتًا في مقطوعات ست؛ واحدة في الواو المضمومة، واثنتان في الواو المفتوحة، وواحدة في الواو المكسورة، واثنتان في الواو الساكنة.

وأكبر الظن أن هذا العُسر كان يغيظ أبا العلاء، ولكن ماذا يصنع والله لا يكلف نفسًا إلا وُسْعَها، والتحرج الفني مهما يَشْتَد بصاحبه فهو لا يستطيع أن يَحْمِله على المُحال. وإنما الظريف الذي يُثِير الابتسام هو حِرْص أبي العلاء على أن يَسْتَوْفِي شَرْطه مَهْمَا تكُن النتيجة، ومَهْمَا يكَلِّفه ذلك من جهد أيضًا.

وهناك عيبٌ آخر دفع إليه أبو العلاء بحكم هذه القيود الفنية التي التزمها، وهو الإضاعة للوحدة المعنوية في القصيدة إذا طالت، بل في المقطوعة القصيرة أحيانًا، والاكتفاء بهذه الوحدة المادية التي تأتي من القافية، وبهذه الوحدة الضئيلة المهلهَلَة التي تأتي من أن اللزوميَّات كلها قد نُظِمَت في الحكمة والموعظة. والمحقَّق أن أبا العلاء الذي يحسن بناء القصيدة كل الإحسان في سِقْط الزَّند؛ بحيث لا تَنْتَقل من جزء إلى جزء إلا حين يدعو التفكير المنطقي إلى هذا الانتقال، وبحيث تستطيع أن تُقَسَّم القصيدة إلى أجزاء قد أُقِيمَ بعضها على بعض، وجَمَعَتْ بَعْضُها إلى بعض وحدةَ التفكير والشعور.

أبو العلاء الذي أحسنَ بناء القصيدة في سِقْط الزَّند قد أفسد بناءها في اللزوميَّات إفسادًا شديدًا، فالقصيدة أو المقطوعة متحدة في الوزن والقافية والموضوع العام ليس غير. ومن أَيْسَر الأشياء في كثير جدًّا من مطولات اللزوميَّات أن تَفْرِق الأبيات فَتَفْتَرِق، وأن تُقَدِّمَها أو تُأَخِّرَها فَتَتَقَدَّم أو تَتَأَخَّر، وأن تَنْظُر إليها على أنها حِكَم سائرة وأمثال مرسلة قد نَظَمَتْهَا القافية في سلك مُتْقَن؛ لأنه مؤلف من حرفين أو من أحرف، ولكن من اليسير أن تَنْتَثِرَ دون أن يُفْسدها هذا الانتثار. وليس هذا محتومًا على اللزوميَّات كلها، ولكنَّه شائع في كثرتها. وهناك قصائد تتحقق فيها وحدة التفكير والشعور، ولكنَّها نادرة، وهي من أجل ذلك رائعة وقد نقف عند بعضها إن أتيح لنا ذلك.

وهناك قصائد تتحقق الوحدة في بعض أجزائها دون بعضها الآخر، فقد يُلِمُّ أبو العلاء في أثناء القصيدة بوصف يُطِيل فيه أو معنًى يفَصِّله، فتُحَقَّق الوحدة في هذا المعنى أو ذلك الوصف، ولكنها غير مُتَحَقِّقة بالقياس إلى ما يسبقه أو يتلوه. وليس لهذا كله مَصْدر إلا أن القافية هي الحاكم المطلَق فيها يؤلف اللزوميَّات من لفظ ومعنًى وأسلوب.

وشيء آخر خَدَعَ أبو العلاء عنه نفْسَه فجرَّ عليه ألمًا كثيرًا، وأذًى شديدًا، ولكن ليس له صلة بالقافية ولا باللفظ، وإنما هو متصلٌ بالمعنى أو قلْ: إنه متصل بتفكير أبي العلاء، وفلسفته كلها. فأبو العلاء متشائم وهو لا يتحدث عن الأشياء والأحياء إلا حديث المتشائم، وهو بطبيعة الحال ساخط دائمًا، فهو ناقد دائمًا، ويختلف نَقْده شدَّة ولِينًا باختلاف استعداده في اللحظات التي يَنْظِم فيها الشعر أو يؤلف فيها النثر، ولكنَّه مع ذلك قد اعْتَقَدَ أنه لم يَهْجُ أحدًا، ولم يكن من الهجاء في قليل ولا كثير. وقد تحدَّث بذلك إلى بعض زائريه، فقال له في شيء من المكر: لم تَهْجُ أحدًا إلا الأنبياء؟ فتأذى بذلك أبو العلاء، وتغيَّر له وجهه، ومع ذلك فلم يُكَذِّبه زائره، وإنما اشتد عليه.

فليس من الحقِّ أن أبا العلاء لم يَهْجُ أحدًا إلا الأنبياء، ولكن الحق أن أبا العلاء قد هجا الناس جميعًا ومنهم الأنبياء. هجا الناس جميعًا وذلك شائع في اللزوميَّات كلها، وأيسر ما نضرب لذلك من الأمثال هذه الأبيات التي تَجَاوَزَ فيها طَوْره حتى هجا نَفْسَه أقذع الهجاء:

رأَيْتُ قضاءَ اللهِ أوجبَ خلقَه
وعادَ عليهم فِي تصرُّفِه سلْبَا
وقد غَلبَ الأَحياءَ في كلِّ وجْهةٍ
هوَاهُمْ وإن كانوا غَطَارِفَةً غُلْبَا
كِلابٌ تَغَاوَتْ أو تَعَاوَتْ لجيفةٍ
وأحسبُني أَصبحتُ أَلأَمَها كَلْبَا
أَبَيْنَا سوى غَشِّ الصدورِ وإِنما
يَنَالُ ثَوَابَ الله أسْلَمُنَا قَلْبَا
وأيُّ بني الأيامِ يحمَدُ قائِلٌ
ومَن جرَّبَ الأقوامَ أوسعهم ثَلْبَا

وهجا الأنبياء ما في ذلك شك، وأيسر ما نَضْرِب لذلك من الأمثال هذين البيتين:

ولا تحسب مقال الرُّسْل حقا
ولكن قولُ زورٍ سطَّروه
وكان الناسُ في عيشٍ رغيدٍ
فجاءوا بالمحال فكَدَّروه

وهذه الأبيات:

أَفيقوا أَفيقوا يا غواةُ فإنما
دِياناتكم مكرٌ من القدماءِ
أرادوا بها جمعَ الْحُطامِ فأَدركوا
وبادوا وماتت سُنَّةُ اللؤَماءِ
يقولونَ إن الدهر قد حان موتُهُ
ولم يبقَ في الأيام غير ذَماءِ
وقد كذبوا ما يعرفونَ انقضاءهُ
فلا تسمعوا من كاذبِ الزُّعماءِ

وواضحٌ ما في البيتين الأخيرين من هجوم شنيع على ما جاءت به الديانات من اقتراب الساعة، وإشراف هذا الدهر على آخره.

وتشنيع أبي العلاء على الديانات أشهر وأظهر وأكثر من أن نقف عنده، أو نطيل فيه، وهو صريح غالبًا، وقد يلجأ أبو العلاء إلى التعريض في كثير من الأحيان.

وأكبر الظن أن أبا العلاء كان مخدوعًا عن نفسه حين ظنَّ أنه لم يَهْجُ أحدًا؛ لأنه فهم من الهجاء أو أراد أن يفهم من الهجاء ما ذهب إليه الشعراء من قَبْله حين عمدوا إلى أشخاص بأعينهم فثلبوهم أقبح الثلب، وتَتَبَّعوا ما فيهم من النقائص اليسيرة أو الكثيرة فأظْهَرُوها، وغَلَوْا فيها.

ومن الحق أن أبا العلاء لم يَهْجُ أحدًا بهذا المعنى، كما أنه لم يَعِبْ أحدًا بهذه العيوب التي تمسُّ شخصه، وتُحَقِّره بين مواطنيه، وإنما استقصى عيوب الناس المشتركة بينهم، وتَعَمَّقَ نفوس الناس فأظهر دخائلها في لهجة عنيفة حادة قاسية، وهو مع ذلك متجنب كل التجنب للإقناع وإذاعة الفاحشة. ثم هو لا يريد بهجائه إساءة، ولا انتقامًا، ولا تشهيرًا، وإنما هو صاحب أخلاق يريد التهذيب والتأديب والإصلاح، وقد تَغْلِبه الحدة أحيانًا فتجور به عن القصد، وتُخْرجه عن طور الفيلسوف إلى طور الشاعر الهجَّاء، ولكنه حَسَن النية على كل حال، قاصد إلى الخير والبِر.

على أن المهم أن أبا العلاء لم يَبْتَكِر هذا الفن من الهجاء الذي يصدر عن سوء الرأي في الناس من جهة، وعن الرغبة في الإصلاح، والعجز عنه من جهة أخرى، وإنما كان له في هذا الفن أستاذ هو أستاذه في كثير من فنون الشعر، وأريد به المتنبي، فقد كان المتنبي أسوأ الشعراء رأيًا في الناس، وأكثرهم إظهارًا لذلك، وأشدهم تشاؤمًا به، وهو الذي فتح لأبي العلاء باب النقد الاجتماعي اللاذع العنيف، ومهَّد له طريق التشاؤم في الشعر، ولكن بين الرجلين فرقًا عظيمًا، فالمتنبي لم ينس قَطُّ نفسه الطامعة الطموح العاجزة مع ذلك عن تحقيق مطمع أو بلوغ مطمح، على حين أعرض أبو العلاء إعراضًا تامًّا، طائعًا أو كارهًا عن كل مطمع، أو مطمح، أو منفعة، وأقبل على هذا النقد اللاذع العنيف سليمَ الصدر مِن كل غِلٍّ، بريءَ القلب من كل حقْد، قاصدًا إلى الإصلاح عاجزًا عنه، يائسًا منه شافيًا نفْسه مِن أَلَم هذا العجز ومرارة هذا اليأس.

فإذا قال أبو العلاء: إنه لم يَهْجُ أحدًا فهو صادق؛ لأنه لم يَهْجُ أحدًا بعينه إلا ما كان من أمر هذا القارئ الذي تلا بين يديه آيات من القرآن يُعَرِّضُ في تلاوتها بآفته، فهجاه أبو العلاء بهذين البيتين:

هَذَا أبُو القاسمِ أُعْجُوبَةٌ
لِكُلِّ مَنْ يَدْرِي ولا يَدْرِي
لا يَنْظِمُ الشِّعْرَ ولا يَقْرَأُ الـْ
ـقُرْآنَ وَهْوَ الشَّاعِرُ المُقْرِي

وإذا قال قائلٌ: إنه قد هجا الناس جميعًا، ولم يَعْفُ الأنبياء من هجائه فهو صادقٌ؛ لأن أبا العلاء قد نَقَدَ الناس جميعًا ومنهم الأنبياء نقْدًا لا يريد به الشر، ولكنَّه لا يخلو من الحدة التي تبلغ أقصى العنف أحيانًا. وماذا تريد أن أقول وأبو العلاء قد أثنى على الله أحسن الثناء وأطيبه وأبقاه في اللزوميَّات كلها، ولكنَّه مع ذلك لم يَتَحَرَّج من مخاصمة الله أحيانًا في الجبر والتكليف، وفي العقاب والثواب، ثم انتهى به الأمر إلى أن يعترف بأنه إذا تَأَلَّهَ فإنما يَتَأَلَّهُ خوفًا وإشفاقًا، وذلك حيث يقول:

خُلقتُ من الدنيَا وعشتُ كأَهلها
أجدُّ كما جدُّوا وألهُو كما لهوا
وأشهد أنِّي بالقضاء حَلَلْتُهَا
وأرحل عنها خائفًا أتألهُ

وجملة القول أني أقمت معك أيها الشيخ الكريم بضعة عشر يومًا في سجنك المظلم الكئيب، فحَمَدْتُ هذه الإقامة؛ لأني وَجَدْتُ فيها لذَّة عقلية ممتازة، وأَلَمًا عقليًّا مُمِضًّا، ولأني رَحِمْتُكَ وأشفَقْتُ عليك من كل ما وَجَدْتَ في سجنك من لذَّة وألم، ولو استطعتُ لأطلتُ الإقامةَ معك، فإني لم أُرْضِ حاجتي من جِوَارك بَعْد، وما أظن أني سأرضيها في يوم من الأيام. وما أعرف أَنَّ شيئًا من الأشياء أحَبُّ إليَّ وآثَرُ عندي من التحدث إليك والاستماع منك والحديث عنك، ولكني مضطر الآن إلى أن أودِّعَك راغمًا.

فقد تقدم الليل، وإذا أشرَقَتْ شمس الغد فلا بدَّ من الرحلة إلى باريس، وأنت لا تَعْرِفُ ما باريس، وما أظنها كانت قادرة على أن تصْرِفَكَ عن حُزْنِكَ وتشاؤمك، بل أنا واثق بأنك لو عَرَفْتَها لَأَمْعَنْتَ في حزنك وتشاؤمك كشأنك حين عرفت بغداد. أما أنا؛ فإن باريس تصرفني عن الحزن والتشاؤم، وتثير في نفسي لذَّات عقلية ليست أقل من هذه اللذات التي أجدها في الحديث إليك والحديث عنك. وهي على كل حال تزعجني عن سجنك الذي كنت أودُّ لو أُطِيلُ المُقام فيه. ومَن يدري؟ لعلِّي أسأم لَذَّات باريس فَأَفْزَع منها إليك من حين إلى حين. فليكن وداعي لك الآن موقوتًا، ولأَقُلْ لك في لهجة المحب المشفق الوامق. إلى اللقاء.

مورزين
٣ أغسطس–١٧ أغسطس ١٩٣٨

هوامش

(١) يشير إلى الليل والنهار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤