الفصل الرابع عشر

خوري الضَّيعة

قامته فوق الربعة ولكنها ممشوقة، كان فوق السبعين ولا يزال مستويًا لا عوج في هيكله ولا أمْت.١ عليه جلال الكهنوت القديم ورصانته، يبسمل كلما دقَّ الكوز بالجرة، تخلع عليه لحيته أبهة لا غُلُوَّ ولا تطرُّف فيها، فلا هي بالطويلة ولا بالقصيرة، وكأن المثل «خير الأمور الوسط» قد فُصِّل على قدِّها. أرسلها الخوري على هِينتها فلم يَعلُها موسى منذ تكريسه، فكان شعرها شعر شمشون، إذا كشف رأسه يبدو في قلة٢ رأسه أكليل كأنه معمول على البيكار، لم يأخذ المقصان من لحيته شعرة، فإذا سقطت واحدة، فبقضاء وقدر. يحزن الخوري لسقوط تلك الشعرة حزنًا كبيرًا على مقدار خسارته من مهابته، أما ثيابه فبسيطة نظيفة؛ لأن الخوري مرآة الشعب النقيَّة، والخورية كانت في زمانها أنيقة، وظلت تحافظ على الأناقة في فسطانها وجبَّة زوجها الخوري، لم يَرَ أحد هذا الخوري متخففًا بشرواله الأبيض ولا في مباذله،٣ فهو يعلم أن التخفُّف من غنبازه الأسود يقلل كثيرًا من مهابة كهنوته في عيون أبناء رَعِيَّتِه، وقد يفقده الكثير من اعتبار صغر كرشه؛ ولذلك كان يأكل حتى يمتلئ.
لم يتوكأ خوري الرعية في ذلك العمر على العصا السنديانية كأمثاله من الكهنة القدامى، ولم يتَّخِذْها مقمصة بالفضة للفخامة والفخفخة، ومع أنه كاهن تَقِيٌّ مشهور بالإيمان والطاعة الأعميين، كان ينتقد السادة الأساقفة وعصيهم ذات القبضات الفضية أو الذهبية على آذان الناس بلا تحفُّظ، كان يؤاخذ الكهنة الفتيان على ظهورهم في بيوتهم بقمصان النوم، قبل أن استعيض عنها بالبيجامات … فكانت الضلالة الأخيرة شرًّا من الأولى. كانوا إذا ظهرت سراويلهم المقصور فهناك المصيبة الكبرى، وقد قام على عهده أحد الأساقفة المتربين في رومية بزيارة الضيعة زيارة رعائية وتمشى فيها، ثم ظهر في السهرة بالبيجاما، فتعالى نقد الخوري له ولومه إياه، وقال كلمته المشهورة: قريبًا لا يجد الموارنة كاهنًا منهم إلَّا نادرًا، وسيكون كل شهر عندهم اثنين الراهب٤

وتذكر الخوري انتهاك العسكر حرمة قريته بدعوى الخوري مسرح على فارس آغا، ودعوى فارس آغا على قرياقوس، فقال يحدِّث نفسه: ثلاثتهم أشرار كاذبون، منافقون معتدون، ولكن قرياقوس كما قيل، ما كان معتديًا هذه المرة، أما خوري مسرح فهو قط شر، يخلق الدعوى من غيمة، وإذا لم يجدها فتَّش عنها بالفتيلة والسراج. الآغا حبَّاب فلوس لا يعنيه إلا أن يقبض، سواء كان ذلك بحق أو بغير حق. يتعلَّق بالناس مثل العليقة، ويفتح جيوبهم مرة باسم الحق العام، ومرات بالتهويل والتخويف باسم السلطان.

ثم رفع عينيه إلى فوق، وقال: ما العمل يا ربي؟ ألا تطالبني غدًا، يا الله، يوم الدين؟ ساعدْني إذن الآن على هؤلاء الشياطين الثلاثة، حتى أطردهم فيكف شرهم عن رعيتي؛ فهذا الثالوث الشيطاني: الخوري مسرح، وفارس آغا، وقرياقوس ضاهر، كل واحد منهم، لا يستريح ولا يدع الضيعة تستريح.

كان الخوري القديم يظن أنه مسئول عن نفوس الرعية، وأن ربه سيطالبه بها يوم الدين، وهلاك نفس واحدة من خرافه يؤدي حتمًا إلى هلاكه وتعذيبه المؤبد في نار جهنَّم التي لا تُطفأ … وإذا لم يقاوم الشر بيده وفكره ولسانه يكون مقصرًا ويدان دينونة عسيرة، فهو مسئول حتى عن الجنين الذي سقط طرحًا ومات بدون نعمة العماد،٥ حينما كان العسكر يحقق في دعوى الخوري مسرح.

ثم عاد الخوري إلى نجواه، فقال: لم يكتفِ ذاك الخوري بضابطية جبيل، بل شكا إلى الباشا، فأرسل الباشا فرقة عسكرية إلى ضيعة صغيرة مثل عين كفاع.

أوف، نعم إنها صغيرة ولكن شيطانها كبير، والرؤساء والرعاة أصل كل هذه الشرور. نحن نستطيع أن نصالح المتقاتلين إذا لم يكن وراء أحدهم صاحب نفوذ ديني أو دنيوي: بطرك، أو مطران، أو وكيل بطريركي، أو مدير، أو قائمقام، أو عضو مجلس إدارة. واستراح هنيهة ليفكر بالمصير، وعاد يقول: حاولت جهدي أن أفض هذه المشكلة ولكنني لم أقدر، والسبب أن الخوري مسرح حمل توصية من المطران بو نجم والآغا أخذ وساطة من ابن عمه الآخر المقرب من البطريرك؛ وهكذا ضاعت الحكومة ولم تدر من تصدِّق، وراح الخوري والآغا زق حصير.٦
أما قرياقوس فسلاحه لسانه، وواسطته نحله وعسله … والنكتة فيه أنه لا يصلي ولا يقدِّس ولا يعترف ولا يتناول، ومحط كلامه عند أدنى حادثة: اتكلنا على الله. يا عضرا ساعديني. هذا الرجل لو تعلَّم لكان أقدر أفاكاتو!٧ يكذب ويحلف. يقول لي دائمًا: وحياة دَمِ المسيح، وحقِّ جسد الرب، أكون محرومًا من يمينك إذا كنت أقول غير الحق.
وفيما كان الخوري متكئًا على جذع السنديانة الدهرية التي سبق ميلادها الكنيسة القديمة، إذا بقرياقوس يُطِلُّ من خلف حائطها مصبحًا الخوري بخشوع وإجلال، وبيده منجل، فقال له الخوري بعد رد الصباح: خير إن شاء الله! حرش من أنت قاصد، قبل قداس أحد الوردية الكبيرة؟٨

وانفتح لقرياقوس باب المجون، فضحك ضحكته المأنوسة، وأجاب بلطف: من أين عرفت يا معلمي إني قاصد حرش الناس؟!

فقال الخوري: لأن المنجل في يدك وأنت غادٍ.

فقال قرياقوس: وهل أن حمل الآلة دليل على أن نية حاملها سوداء.

فقال الخوري: في الغالب هكذا.

فقال قرياقوس: أنا وأنت نحمل آلة الزنا، من ساعة خرجنا من بطن أمنا، فهل معنى ذلك أني زانٍ، وأنك زانٍ؟

وضاقت حجة الخوري فتسلَّح باسم الأب والابن، وأجاب قرياقوس: انقبر، سد بوزك بلا طق حنك. اقعد حدي يا بشع اللسان، الآن انتهت دعوى الآغا عليك وتصالحت وإياه، فقل لي كيف كسرت جرة النحل وتركته يعقص الآغا؟

فقال قرياقوس: أنت تعرف قرياقوس، فهو يفضل حبس شهر في قبو البقر وأكل قتلة مشبعة على كسر جرة نحل وخسارتها. القصة أن درويش آغا أمسكني بعباءتي، وحاول أن يضربني بدبوس صغير يحمله، فسقطت الضربة على الجرة فانكسرت وفاع٩ النحل، والنحل متى هاج وماج لا يحط إلَّا على أعلى شيء يجده في دربه، وكان الآغا واقفًا على رجمة طنوس فارس كالعمود، فعلق على طربوشه الأحمر وأخذ يلذعه.

فقال الخوري: يظهر أن عندك حيلة لتطييره وتهجيجه.

فأجاب قرياقوس: النحل في الشوب لا يحتاج إلى تهجيج، ولا تنسَ يا معلمي أن الله موجود، وهو مع الضعيف حتى يعتبر القوي، أنا متكل عليه وهو لا يخيبني … ثم سكت وقال بعد هنيهة استراحة: قل لي معك وقت حتى أكمل حديثي وأخبرك عن خواص النحل؟

– كمِّل يا قرياقوس واختصر، جاء وقت القداس.

فقال قرياقوس: النحل كافاني على قتل أعدائه الزنابير، ولا رأس إلَّا وفيه حكمة. إذا كانت النحلة تروح إلى جبل جاج وترجع إلى وادي عين كفاع ولا تضيِّع دربها، ألا تكون تعرف الحق؟!

فقال الخوري: يا سبحان الله! أين تعلمت الفلسفة يا بو يوسف؟

فقال قرياقوس: لا تتعجب. الله خلق فيها هذه الخاصة، والذي أرشدني إلى هذه الحقيقة شيخ جامع القلمون،١٠ وأنت تعرف أني ربيت في حنوش وكنت أتصيد السمك.

– وصرت تتصيد الدعاوى.

– لا تقاطعني: أكون محرومًا من شركة أمنا الكنيسة البطرسية إذا كنت أقول غير ما أعتقد. بحياة قدسك لا تقاطعني.

وأطرق قرياقوس، وحكَّ رأسه قليلًا، ومسح شاربيه من الريلة المنهالة عليهما، وعاد من حيث كان: سمعت شيخ الجامع يقول: وأوحى ربك إلى النحل، ألا يكون معنى هذا أن النحل نبي، وهو يعلم خبث نية البشر؛ ولهذا عمل ما عمل بالآغا.

فقال الخوري: وكلبك غبار هو صاحب إلهام أيضًا.

فضحك قرياقوس بملء فمه حتى بدا ناباه، وقال: هذا كلبٌ رُبِّيَ على معجني وهو صغير، كنت ولا أزال أعزه وأحبه، أقاسمه اللقمة لينجدني متى كبسوا بيتي. وهو يرافقني دائمًا، وإذا تماسكت ولو مع ابني يوسف يركض غبار مثل هبوب الريح ليساعدني عليه، فعضة الكلب شهادة لي لا عليَّ. هه هه هه. أنا قلت للنحل اعقص، وللكلب عض! والله ثم والله ثم والله، لو لم أعرف أن الآغا يخزِّق ثيابه، ويدَّعي عليَّ بالزور أني أهنت شرف الحكومة، وتتخ عظامي في الحبس، كنت خلعت رقبته وقبرته حد بيتي.

اسأل عن ماضيه يا محترم، أما علَّم امرأة فلان حتى اتهمت سلفها أنه سبَّ دين السلطان، ولا يزال في الحبس إلى اليوم. خافوا ربكم! صحيح أنني قضيت عمري على درب الشريعة، ولكني ما ادَّعيت على أحد بالزور ولا شهدت بالزور.

فقال الخوري: ولماذا شهد عليك جرجس طنوس أنك كنت تراشق بالحجارة؟

فصفع قرياقوس جبهته العريضة، فرنَّت كالصنج المشعوث،١١ وصاح: هذا الدعموص١٢ متى صار يقشع؟ قدسك تعرف أنَّا نعلق النحل الهاج، إما بقبضات التراب التي نرشقه بها وإما برش الماء، وما كان قدامي غير التراب، فسبَّقت على النحل، وكان من عدل الله أن يغط فرخ النحل على طربوش الآغا وشرَّابته، ويعطيه من حلاوته ما فيه نصيب.

أظن يا معلمي خوري بطرس أن النحل يعاقب ناكري الجميل، فكم مرة ومرَّات قعد الآغا على صينيتي وأكل عشرة أرغفة، وتحلَّى بإقة عسل، وحطَّيت له مطربان في الخرج. العسكري يا معلمي ملحه على ركابه، وليس في بلادنا عدل ولمَنْ نشتكي؟ عوجا من إسطنبول يا بونا، وأيش العمل؟ الآغا نقَّال حكي، أراد أن يسوِّد وجهي مع الرهبان، وأنا ربيت عندهم في حنوش.

فقال الخوري: أيش الحكاية، هاتها باختصار.

– الحكاية يا سيضنا الأكرم — سيدنا — لا تؤاخذني قلت يا سيضنا الأكرم، والواجب أن أقول: قدس أبينا المحترم.

فقال: كمِّل، لا بأس.

– قال لي الآغا في سياق الحديث عن دابته المرخمة الأذنين أنها من رءوس الدواب: أمها فلانة، وأبوها جحش الدير؛ فلا تتعجب إن دفعوا لي حقها خمسين عسملية.

فقلت له على سبيل النكتة المضاحكة: لو كان والدها المحترم هو رئيس دير معاد، لا أدفع ثمنها أكثر من عشر ليرات. دابة بخمسين ليرة! أيش خلينا للفرس؟

فحملها الآغا باردة سخنة إلى رئيس الدير، وباع صداقتي بعشا من مخلوطة الرهبان.

فنهض الخوري وهو يقول: ارحمني يا الله أنت حجتك قوية يا ابن عمي. بلا طول سيرة رح دق الجرس، وإياك أن لا تحضر القداس، فاليوم مهيئ لكم وعظة حلوة.

ودق قرياقوس الجرس وذهب، وعندما قرع الجرس آخر مرة كان قرياقوس داخلًا الكنيسة، وكان الخوري مسرح قاعدًا من عن يمين المذبح، فقال خوري الضيعة في قلبه: توفيقة، عصفوران على فرد قضيب.

وأقبلت الضيعة على القداس جرد العصا،١٣ فذاك النهار كان أحد الوردية. ومضى الخوري في قداسه الاحتفالي، وانقسم الشمامسة جوقين، يترنَّمُون ماطِّين أصواتهم، والصنوج والنواقيس تسبِّح الله. ودار القداس. وبعد أن تلا الخوري الفصل المعين في الإنجيل لذلك اليوم، التفت إلى الشعب وعلى وجهه بشاشة عميقة، وقال: يا إخوتي المباركين، أبنائي بالرب.

ببساطة كلية أحكي لكم. فالله، آمنت باسمه، يفهم البسيط والمركَّب. قال داود النبي: قلبًا نقيًّا اخلق فيَّ يا الله، ورُوحًا مستقيمًا جدِّد في حشاي، فالله تعالى لا يطلب منَّا أجسادنا وما علينا من ثياب مزركشة ومبرقشة، بل كل ما طلبه داود من ربه أن ينقي قلبه من الأقذار. فإذا لم تنظفوا قلوبكم من أوساخ الحقد والبغض، فلا سلام ولا أمان لهذه القرية التي كانت مباركة، حين كانت خالية من الشِّقَاق والخصام، كانت ضيعة حلوة فصارت شنيعة؛ لأنها صارت ضيعة شريعة ودعاوى.

أين راحت المسابح الطويلة؟ كيف اختفت الشبيَّة١٤ وحلَّت محلها كتب الشريعة وجورنالات الضابطية ومذكرات الجلب والإحضار! كنتم تصلون خمسة عشر بيتًا صباح مساء، وصرتم ليس معكم مسبحة خمسة بيوت.
فقاطعه واحد فيه لوثة١٥ وعرض عليه مسبحته، وهو يقول: لا تتهمنا كلنا بقلة الدين، حرام عليك!

فبانت سن الخوري، ورد عليه بقوله: واحدة من عشرين، ثم قال: الله الله كيف تبدَّلت الأيام وتغيَّرت البشر!

وبينما كان الناس في سكوت عميق، إذا بمعَّاز الضيعة في ذلك الزمان يدخل، وهو يعرج على الجانبية، فهاله منظر الجماعة في ذلك اليوم العرمرم،١٦ يوم أحد الوردية الكبيرة. رأى نسيبه خوري الضيعة في ثيابه الكهنوتية، وخصوصًا الغفارة التي لم يرها من قبل، وهو منتصب على المذبح، فتهيَّب المعَّاز الموقف وصاح: صبحك بالخير يا جوز خالتي خوري بطرس، الله معكم يا جماعة.

فتعالى الضحك، وحاول الخوري ألَّا تبرز ابتسامته كل البروز، فقال للرجل بنكتة بسيطة: أهلًا وسهلًا. تفضل اقعد، واسمح لزوج خالتك أن يكمِّل كلامه.

ثم استطرد قائلًا: فمن أين جاء الشر، وماذا غيَّر الضيعة هذا التغير؟ لا المعَّاز يرد طرشه عن الزيتون، ولا البقَّار يعف عن الزروع، ولا الحطاب يرحم الشجرة المسكينة … حتى ولا الذي جلبنا له الحرم؛١٧ لأنه يلفي على زوجة فلان، ارتدع وتاب، فُحْش وفجور وسُكر، وقطع أشجار وخلاف على القبور، ودق الجرس وعصا النطارة.

يا بحر الله خذ عبد الله.

أولادي الأعزاء.

رعيتي كانت آباء قِدِّيسين فصارت قرودًا وشياطين. يا ربي أستغفر الله، نزل إلى رعيتي وحش من الجرد، وطلع إليها تنين من البحر، وصار كل واحد منهم يحرُّ في الضيعة حتى صيَّروها مثل جهنم الحمرا …

واستراح هنيهة واتكأ على المذبح، ثم ابتسم وقال: لا تتلفتوا صوب أحد ولا ينشغل بالكم، أنا أدلكم على المقصودين من كلامي. فالوحش الجردي أخونا بالله خوري مسرح، والتنين البحري هو ابن عمنا قرياقوس ضاهر، والذبَّان يعرف دقن اللبان.

فقال الآغا، وكان في الكنيسة يحمل إلى الناس بُشرَى بلصة جديدة، هي دفع إعانة لضيعة زحلت١٨ على أثر زلزلة: وأنا نسيتني يا محترم؟

فقال الخوري: لا، أنت هذي مهنتك، ولا أطلب منك إلا أن تعمل الحق وتحضر القداس والصلاة حتى يلهمك الله عمل الخير، ولا يخطر ببالك أن تقيم عليَّ دعوى بإهانة الحكومة.

فأومأ الآغا إلى الخوري بمسبحته الوردية الطويلة، فقال الخوري: لا أتعجب من طولها؛ فابن عمك مطران …

ثم تنهَّد وقال: يا فارس، الملبوس لا يعمل القسوس، وليس كل من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، ولكن لا بد من هذه لتذكرنا بواجبنا نحو الله والقريب.

وهنا زحل الخوري مسرح عن مقعده على الخورس، وخرج وهو يبربر،١٩ ثم لم يدخل كنيسة عين كفاع أبدًا.

أما خوري الضيعة فشيَّعه بنبرة: روحة بلا رجعة، ثم أطرق وهو يقول: أين كنا وأين صرنا؟ ثم تذكَّر موضوعه فعاد إليه قائلًا:

يا أحبائي!

لو قاموا جدودنا القدماء من القبور وزاروا عين كفاع، لما عرفوا أحدًا منَّا. فعودوا إلى سيرة الجدود يتجدد فيكم الإيمان ويفيض عليكم الخير.

ما سمعتم أن الدول تغلي مثل الخلقين،٢٠ وأن ألمانيا وفرنسا وانكلترا وإيطاليا تتحارب، وبعد قليل تدخل دولتنا العلية — نصرها الله — هذا الآتون، والويل للشعوب والأمم المسكينة.

الحرب يا أولادي على أبوابنا، فأصلحوا سيرتكم ليرد الله عنكم هذه الشرور، الويل للشعب المخطئ؛ فهذا آخر زمان، أما سمعنا الإنجيل يقول: تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة، ويصير جوع وطاعون وأوبئة، وهو هذا آخر الأزمنة. نعم هذا هو الوقت الذي قيل عنه: تتعلق فيه امرأتان برجل، وتقولان له: ارفع عنا عارنا.

ربما قال بعضكم ما هذا التفزيع، فالحق يا أولادي أقول لكم كما قال سيدي يسوع المسيح: ملعون كل كلب لا ينبح. فقد نبحنا، ولكن صوتنا ذهب مع الدوي، كما قال النبي داود.

وأخيرًا أسألكم المغفرة إذا كنت أسأت إليكم أو جرحت بكلمة كرامتكم؛ فهذا واجبي المقدس، وكما أن الآغا لا يأكل خبزه حلالًا إذا لم يعدل ويرحم الأجساد، كذلك نحن لا نكون مستحقين نعمة درجة الكهنوت إذا لم نسهر على خلاص نفوسكم.

فابتسم الآغا وتجعس٢١ وأراد أن يتكلَّم، فنهاه الخوري، وقال له: محضوره.

وانتهى القداس والزياح ولم يحصل لا شجار ولا نقار على دق الجرس، كما يحدث غالبًا في نهاية القداس والزياح وعقب كل اجتماع عند الكنيسة.

ومشت الأمور على هينتها أسابيع، ولكنها لم تستمر لأن القرية لا تهدأ كل الهدوء، فشرارتها لا تنطفي، بل تظل نارها متقدة تحت الرماد.

١  لا ضعف.
٢  قمة.
٣  أعماله غير اللائقة.
٤  احتفال ببدء الصوم الكبير، وفيه يقلَّد رجل الخوري.
٥  بركة العماد، وهو سر من الأسرار المسيحية.
٦  تعب بلا جدوى.
٧  محامي.
٨  أول أحد من شهر تشرين الأول، وهو مخصص لعبادة العذراء.
٩  خرج بكثرة من القفير.
١٠  بلدة قرب طرابلس.
١١  المصدوع الذي لا يرن.
١٢  في عينيه إغماضة.
١٣  الجميع بلا استثناء.
١٤  كتاب صلوات وتأملات روحية.
١٥  حبسة في اللسان.
١٦  الكبير.
١٧  الفصل عن الكنيسة.
١٨  تباعدت.
١٩  يتلفظ بكلمات غير مفهومة.
٢٠  وعاء كبير للطبخ.
٢١  تحرَّك ممتعضًا، متضايقًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤