الفصل السابع

وأخيرًا التقى البَطلَان

عدل عزرائيل عن قبض روح قرياقوس لأسباب ظلَّت مجهولة، فقلَّ عُوَّاده وزوَّاره. انقطع الناس عن زيارته حتى الكاهن الذي يئس من موته وضاع تعبه سُدًى …

انصرف الناس إلى أعمالهم الحيوية إذ اربدَّ١ بزر القز، ودبَّت الحياة فيه، فسرت منه إلى كل بيت في القرية. المرأة تنظف الأطباق، وتطليها بزبل البقر المروب،٢ وتمسح المهارم والسلال الخصيصة، وتستأصل ما نسجته العناكب عن حيطان بيتها، غائصة في أحلام يقظة دونها أحلام العروس، وهي تعد القمط والثياب لولي عهدها العتيد. والرجل يشحذ السياخ ويسن المناجل. ويبرد الأظفار٣ لقطاف ورق التوت الرَّخْص، ويهيئ السُّدَّة لتجلس عليها ملكة أحلام اللبناني في ذلك العهد.
وأخيرًا تُغْلَق الأبواب الدهرية شهرين، فلا تُفتح إلَّا ليخرج منها ملك المواسم. تُسدُّ سدًّا هرمسيًّا٤ فتخال كل بيت زجاجة إيتر أو قنينة صبغة اليود. لا يبقى إلَّا شباك يدخلون البيت منه، فيسدلون عليه حجابًا كثيفًا، كبلاس٥ أو كيس خيش سميك. يسدُّون حتى الثقب الذي تدخل منه الهرة؛ لأن معظمهم يكافحون الفئران والجرذان التي تسطو على دودة القز بماء يصلي عليه كاهن مشهود له بهذه الكرامة والقدرة. يرش هذا الماء في زوايا البيت الأربع؛ فتختفي تلك الحشرات. والمغالون يقولون إنها تلجم، فتُرى سارحة مارحة على الأطباق والشيح، ولكنها لا تؤذي الدود ولا الشرانق.

وتخلو البيوت في نيسان إلَّا من النساء والعواجز. تعدُّ النساء الطعام ويحملنه إلى الحقول، ساعة الظهر، حيث يفلح الرجال التوت والزيتون والكرم والتين وكل شجر ذي منفعة، والفتيان ينكشون التراب حيث لا تصل إصبع السكة، أما الغلمان فيحشُّون الأعشاب من هنا وهناك ليعدوا مأدبة أنيقة للثيران المكدونة، فهي تنتظر دائمًا هذه السلفة؛ الهوردفر.

لا قرار للفلاح اللبناني؛ فللقزِّ وقت، ولزراعة التبغ إبان، وللحصاد زمن، وللدراس حين، وللقطاف أزمنة، ولتحويش التين مواقيت، وهناك واجب لا ينتهي وهو العناية بمعاونيه: فدانه وحماره.

أما نيسان، فزمن الفلاحة، ولسان الشجرة يخاطب الفلاح دائمًا: كما تراني يا جميل أراك. وهو يخاطب نفسه كل ساعة: أطعمها تطعمك. فتراهم في نيسان كخيل الطِّرَاد؛٦ لأن مَثَلَهُمْ يقول: «الطري» خيَّال.٧

في ضحى هذا النهار من نيسان، الحافل بالحياة والعمل، وقفت أم يوسف على سطح القبو — فيرندا بيوت القرويين — فانكمش صدرها، وعرتها هزة لم تطل، فهزَّت برأسها وقالت: العشب أكل التوت … وجه واحد كانوني؟ يه، يه، يه! لولا الدعاوى كنَّا بألف خير، كان توتنا يضحك وقضبانه مثل الرماح.

لقد صدقت فيما ناجت به نفسها، فلولا الدعاوى كان قرياقوس فرغ من حراثته ونكاشه معًا، فهو لا يعتمد على الفلاح؛ لأنه لا يلبيه ساعة الطلب، فللفلاحة يَدٌ — أي وقت مناسب — وساعة لا تعادل غيرها، وفيها يقولون: متى باتت فاتت.

رأت التأخر باديًا على كل شيء حول بيتها، فتنهدت وقالت وهي لا تعي ما تقول: صحيح، الرجل عمود البيت. وتذكرت علبة البزر، وقد كادت بيوضها تنفقص، فتجهَّم وجهها، وتدحرجت دمعتان من عينيها. وسمعت صياح الناس في الحقول؛ هذا يصرخ: أوهوه. زاجرًا٨ فدانه لتجاوزه الحد المعلوم والخط المرسوم، وذاك يطايب بقرة عزيزة، فلا يريد أن يغلظ لها القول فيجرح عاطفتها الرقيقة فيناديها باسمها الحلو، كأنه يناجي خطيبته أو يحدِّث عروسًا في شهر العسل، وذلك ينده٩ ابنه ليعجِّل عليه بالدورق أو ينادي زوجته، ويسب الدين لأن فطوره قد تأخَّر.
وقع في أذن مريم صوت زوج أختها، وهو يفلح كرمه في «ضهر المعصرة»،١٠ فامتعضت وانقلبت إلى بيتها وهي تقول والألم يحز قلبها: كل الجمال تعارك ونحن جملنا بارِكْ.
لم يطل همها، فما تسربلته١١ ساعة حتى جاءها الفرج؛ فالقرويون لا يحالفون الدهر على المنكوب منهم. هذه أختها وغير أختها يملآن البيت، كل واحدة منهنَّ تتقدَّم لتربي لأم يوسف علبة البزر، وها هن قد أفرغنها في خريطة يكتب عليها اسم قرياقوس بالقلم الثخين، وها هن ذاهبات بها إلى المدخن؛ حيث يحتضنَّ بزر القرية كله، وحديثهنَّ يحوم حول موضوع النخوة والمروءة والمعروف، وصوت قرياقوس العريض يرنَّ في آذانهنَّ: الله يقدِّرنا على مكافأتكم.
تذكَّر في تلك الساعة سند ملحم، فشكرهن من صميم قلبه، واستراحت أم يوسف من همها النابغي؛١٢ فمصيبتها في علبتها أكبر من مصيبتها بزوجها.
إن ولع القرويات بتربية دود القز كولع المدنيات بكلابهنَّ وقططهنَّ، والمباراة الشيقة تقع عند فطام القز؛ فكل واحدة تباهي بإقبال موسمها، وتعتد بخبرتها واقتدارها. وتحتدم هذه المباراة في أوائل حزيران؛ إذ تُشرَّع أبواب البيوت، وتُنزع الطباق عن السدة؛ فلا يبقى عليها غير الشيح١٣ المثقل بالشرانق — الفيالج — وإذا بلغ الموسع أقصى حدود الإقبال رأيت السقف مرصَّعًا بالفيالج من فضية وذهبية، وتبدو الحيطان للناظرين كأنها مغطَّاة بستائر حريرية زركشتها يد فنان حاذق.

منظر فتَّان تخلعه تلك الدودة الضعيفة على تلك البيوت الحقيرة؛ فهو أوقع في نفوس الناظرين من منظر الثمر على الشجر، ومن مشهد السهل الخصيب، الحانية سنابله رءوسها، كأنها آلاف المؤمنين في الحقل، وقد دقَّ جرس الظهر للتبشير.

أما نحن الصغار فكنَّا ننتظر ذلك الوقت لشراء الحلاوة والخواتم والصفارات التي نزعج بها القرية أيامًا. إذا أقبل الموسم شبعنا حلاوة وكثرت اللعبات بين أيدينا، أما إذا مَحَل فتنقبض وجوه ذوينا، ولا نرى في القرية بيَّاعًا ينادي على الحلاوة وأخواتها من طرف الموسم.

•••

وقرب الظهر عاد الكاهن من حقله، فعرج على ابنه الروحي، فتناوم قرياقوس لأن زيارة الكاهن للمريض غير مرغوب فيها؛ إنها تفزِّعه وخصوصًا إذا كان كقرياقوس لا يرتاح إلى حديث خوري يحضُّه على تحسين صلاته بالله والقريب. فهو يعتقد أن الله أكبر من أن يُبالي بالصغائر التي يذكرها الكهنة، أما القريب فليس الحق على قرياقوس …

وتغدي قرياقوس، ونام ملء جفونه يحلم بالعشاء، وبينما كان يشخر رأت أم يوسف عتمة تخيم عند بابها الغربي. ظنت أن غيمة تغطي عين الشمس، فَهَمَّتْ بإدخال الفرشة المعروضة للشمس والهواء، وفكَّرت بدق شقوق السطح لتتقي «الدلف».١٤ ولكن غمرتها انجلت إذ رأت الهركولة١٥ تسد الباب، ثم تجتاز ذلك المضيق بانزعاج فتنقشع الظلمة، وبعد أن توقفت قليلًا ولهثت مرَّات قالت: كيف حال قرياقوس؟

– أحسن، الحمد لله.

– سلامة قلبه، الله يتحنن عليك يا أختي، وأشارت بيدها نحو قرياقوس، كأنها تربِّت١٦ له، فيطول نومه، وتفرغ ما جرابها من أخبار ومواعظ. وظلَّت هنيهة تحاول القعود كأنها جمل يبرك، ولكنها لم تتوقف عن الحديث في أثناء تلك المحاولة، بل قالت وهي تطوي ركبتيها: كيف حالك أنت يا حبيبتي؟

– نشكر الله.

وما بلغت الأرض حتى أجابت: كل ساعة. ولما استقرَّت قالت: يا ويل من يتخلَّى عنه ربه!

«الهركولة» أخت هريرة١٧ الأعشى في بدانتها وترهُّلِها، ينتشر اللحم حولها على الطرَّاحة، كعائشة بنت طلحة، فتخال كومة من اللحم مرصوفة على شكل امرأة، ولو كان للعرب ملكات جمال؛ لكانت هي تلك الملكة لا عائشة ولا الثريا.١٨
وكان سكوت دام بضع دقائق. تنظر الهركولة إلى أم يوسف نظرة من في وجهه خبر ولكنها تنتظر أن تسأل، وأم يوسف لا تهشُّ ولا تنشُّ؛١٩ فكل بالها في مصيبتها، جملها بارك في زاوية البيت كأنه ليل امرئ القيس.٢٠

ولم تطق الهركولة صبرًا، فقالت لأم يوسف: ما أبرد قلبك، اسأليني عن أخبار اليوم؟

– ما بالي بالأخبار، بالي في همي، زوجي مرمي مثل القتيل، بزرنا بيد الناس، ورزقنا بور،٢١ كيفما التفتُّ ينسلخ قلبي.

– خبر يهمك يا أم يوسف. قالت هذا واندفعت في الحديث، كأنها نهر محقون وقد رفع السد: صدَّقتِ، يا أختي، إن زوجك نزلت عليه صاعقة، وصدَّقتِ أن الصاعقة تقع على إنسان ويقوم من تحتها؟

وأطرقت قليلًا ثم قالت: وصدَّقتِ أن الحشَّاش لطف الله صحَّح زوجك؟ لا يا أختي لا. قدرة الله وحدها صححت زوجك. لولا النذر لمار روحانا كان زوجك في ديار البلى. اشكري ربك يا حبيبتي، ربنا ألهمني حتى قلت لك انذري وأنت سمعت الكلمة وآمنت. كل الضيعة تقول هذه ضربة من الله. صحيح كنيسة الأربعين مهجورة ولكنها عجائبية. الواوي عمي — ابن آوى — لما دخلها وأكل فتيلة السراج مات على عتبة الباب. عجائب الله في قديسيه يا مرين! يعلم الله أيش عمل في كنيسة الأربعين حتى ضربوه هذه الضربة. قديس واحد يرد ضيعة عن مقامه، فكيف إذا كانوا أربعين، وكلهم شهداء؟!

أيش عمل لطف الله الحمار لزوجك؟ قالت هذا وبسطت يدها الضخمة لتعد على أصابعها: قطع عنك العرق والنبيذ، وأكل الدجاجة — فاسودَّ وجه مريم قليلًا — وذبح غنمة تسوى٢٢ ألف حكيم مثله — فبان في وجه أم يوسف ألم عنيف وامتعضت — وغرق القليل الدين في اللحم يوم جمعة الآلام٢٣ وسبت النور،٢٤ وهرب ابن الكلب في الليل، وترك زوجك تحت رحمة الله.
انتبهي يا مرين، زوجك «مسكون»٢٥ يا أختي، قضى حياته مع المغاربة٢٦ … مندل، وسحر، وقرود تسحب روحه. قلت لك زوجك مسكون وبيتكم مسكون … المغاربة جمعوا الشياطين كلها وتركوهم في بيتكم. توقَّيْ، يا أختي، كلما غبْتِ عن البيت ورجعت صلِّبي يدك على وجهك حتى تطرديهم … ناس كثير قالوا زوجك فرماسوني.٢٧ أما أنا ما صدقت؛ الفرق بعيد. مؤكد أن ضربة زوجك من الأربعين، وأكثر من مؤكد أن زوجك مسكون، والبرهان أنه صحَّ بعد المسحة. ما سمعت كم مرة قسَّم الخوري على عدو البشر — الشيطان — حتى خرج من زوجك ومن بيتكم.
تسمَّعي يا أختي في الليل. إذا سمعت حسَّهم اطلبي الخوري حتى يقسم عليهم. ثم قرعت صدرها مرات، وقالت: يا رب نجينا، كيف تعيش الناس مع الشياطين، أنا متأكدة أن الأربعين والشياطين ضربوا زوجك … من يدري؟ ربما يعتبر ويتوب. آمين يا رب. ولكنه ثور مثلما قال «البولص» — رسائل القديس بولس — يوم الأحد: آلهتهم بطونهم. بري٢٨ زوجك يا حرمة، خارج عن الضيعة لا يشارك الناس لا بالفرح ولا بالترح. وأنت مثل الفقمة؛ ساهية، قلبك أصغر من حبة الدخن.٢٩ شدِّي حيلك، كوني قوية مثل فلانة، قرِّصي له عجينه. ما نظرت عيني واحدة مثلك ولا رجلًا مثل زوجك، لا هو للضيف ولا للسيف ولا لغدرات الزمان، قولي لي من أكل عنده في نعوة أو يوم عيد، وأي ضيف نزل عندكم؟ الكلب لا يعرف بيته! بيوت الضيعة تمتلي وتفرغ، وبيتك لا يدخله إلا المغاربة والنوريات والبدويات حتى يبصِّروا لقرياقوس، ويعلموه كيف يفك الرصد٣٠ وتغنم لحيته. تذكَّري كلامي: يموت زوجك وما على جلده قميص.

وظلَّت تثرثر حتى قالت: وإذا قدَّس الخوري في بيتكم مثلما قدَّس في بيت بوحيص — جرجس طنوس — استرحت طول العمر.

وتحرَّك قرياقوس في فراشه، فالتفتت الهركولة صوبه ولكنها لم تسكت، بل قلبت الأسطوانة، وقالت: انتبهي لزوجك يا مستورة، كثِّري له الأكل، زوجك ضعيف لا يقوِّيه إلا الأكل … الرجل عمود البيت. وشخر قرياقوس فعادت إلى حديثها الأول، وما انفكَّت حتى أتت على آخر حبة من المسبحة. وتحلحلت لتذهب فإذا بقرياقوس يقعد في فراشه، فسألته عن صحته العزيزة سؤال مغرم ولهان، ثم غادرته منقضًّا على العشاء انقضاض النسور القشاعم.٣١
وجاء الليل فجاء الويل؛ لم تنم أم يوسف، تسمَّعت فسمعت أصواتًا غريبة، وغناءً نابيًا٣٢ لم تسمع مثله قط، رأت أشباحًا مذنبة وغير مذنبة، ذات قرون وجماء،٣٣ وعيونًا تقدح شررًا. تخيَّلت معزى تتناطح في البيت، وشاهدت كل ما صُوِّرَ حول مار أنطونيوس من ضروب الحيوانات، ثم رأت أحد هذه الأشباح بصورة رجل قاعد حد رأسها، فصلَّبت يدها على وجهها مرات، واستنجدت بالقديس أنطونيوس فاختفى، قامت إلى القنديل فرفعت فتيلته، فإذا بها لا تجد شيئًا. صلَّبت يدها على وجهها، وألقت رأسها على المخدة قائلة: يا مار مخايل سلمتك روحي، فنامت ولم تستيقظ حتى دخلت الشمس البيت من شقوق خشب الشباك الشرقي الخاوي.

طال انتظار قرياقوس للفطور، وقد تعجَّب من استغراق زوجته في النوم، والعهد بها تنهض قبله، فصبَّحها بانكسار الضعيف بعد أن كانت تنقضُّ أوامره كالصواعق، وبالكد ردَّت الصباح. عاتبها على إبطائها، فأجابته بلهجة لا تخلو من تمرد وعنف: شياطينك حرمتني النوم.

– شياطيني أنا! مرين، أنا عندي شياطين؟

– وحياة جراحات المسيح ما غمضت عيني، نمت ربع نوم.

فاستغرب قرياقوس حديثها كل الاستغراب، ولا سيما حين رَوَتْ له أحاديث الناس، وأكَّدت له أن الأربعين والشياطين لا الصاعقة ضربوه هذه الضربة، وأن «المشحة»٣٤ هي التي طردت الأبالسة وأخرجتها منه، وأنها لو لم تنذر فسطانها كان مات وشبع موتًا.

تلقَّى قرياقوس هذه الأنباء وفمه منفتح نصف فتحة، كل أخبار زوجته لم تشغل باله، ولكنه أسف على الفسطان الذي أصبح ملكًا لقديس الضيعة، ونوى أن يسترجعه متى غادر الفراش واستراح من تلك الوعكة؛ هكذا عبَّر بطلنا عن مرضه.

وانقضى النهار في الجدال بين الرجل وزوجته، وقد وقفت منه موقف المرشد، فكان قرياقوس يذعن تارة، ثم يعاوده الشك فلا يصدق ما قصَّته عليه زوجته من أخبار ورؤى الليل الفائت. وتخطَّت الزوجة من الإرشاد إلى الوعظ فالتهديد؛ أنذرته إذا لم يتدارك الأمر فهي عائدة إلى بيت أبيها؛ لأنها لا تعيش في عشِّ المغاربة والسحرة … وأخيرًا اتفقا على أن يجتمعا معًا وينظرَا، وفي الغد يقرِّران ما يجب عمله.

وجاء الليل فرأت أم يوسف وسمعت، أما أبو يوسف فما رأى ولا سمع ولكنه كاد …

وجاءت الهركولة فحدَّثها قرياقوس عن أوهام زوجته وتخيلاتها فكانت إمعة،٣٥ تصدِّق على كلام قرياقوس وتغمز زوجته، وعصاري ذلك النهار ألحُّوا على الكاهن، فأقام الذبيحة الإلهية في ذلك البيت المسكون، بعد استئذان رئيسه الروحي، فحضرت الهركولة ذلك القداس، وصلَّت بإيمان وخشوع حارَّين.

وخلا بيت مريم من ضيوف الليل، ذوي الأنياب والقرون؛ فعاشت مطمئنة حاكمة بأمرها زهاء ثلاثة أسابيع، أي حتى تعافى الطاغوت واستراح من تلك الوعكة …

•••

وانتقل المرسح بعد ذلك إلى جونيه.٣٦ كان الخامس والعشرون من أيار موعد استنطاق قرياقوس.
على باب غرفة المستنطق، يقف الأونباشي فارس آغا خفيرًا، ثم يتمشَّى في صحن السراي يزهى٣٧ ويصيح كالديك على مزبلته؛ يأمر هذا، وينهى ذاك، وينفخ بسبب وبلا سبب، وتدور على لسانه كلمة «أمر سعادته» بداعٍ وبلا داع.
وجاءت نوبة٣٨ دعوى عين كفاع، فصرخ الآغا: فاكيه طنوس فارس، فدخلت واستُجوِبتْ. ثم نادى على الشهود واحدًا واحدًا، وأخيرًا صرخ بصوت عنيف كأنه ضربات طبل متقطعة: قرياقوس ضاهر حنا عين كفاع. فَرَجَّ السراي، وتقدَّم قرياقوس، فأخذه الآغا بطوقه وردَّه أعنف رد قائلًا: وحش، هات العصا، كأنه داخل على قبو بقر، تهيَّب، أنت أمام ابن حكومة!

فتأمَّله قرياقوس طويلًا، ولم يقُل كلمة، ثم سلَّم عصاه إلى ابن أخيه، ودخل على المستنطق.

رأى كل منهما عجبًا، رأى المستنطق في قرياقوس رجلًا طويلًا عريضًا خشن السمت، ورأى قرياقوس في المستنطق رجلًا دميمًا، فقال في نفسه: هذا مستنطق؟ إذا نفختُهُ يطير، الفرق بعيد بينه وبين سعادة المدير.

المستنطق ملتحٍ ولكنه كوسج،٣٩ أزرق العينين، أشقر الشعر، نحاسي البشرة. ابتسامته مقيتة، تكشف عن أسنان مصفرَّة ولثة دهماء، واعتقد المستنطق الإجرام في قرياقوس فور رؤيته محياه النَّطَّاح،٤٠ فقال له: ما اسمك؟

– اسمي قرياقوس.

– اسم الوالد؟

– ضاهر حنا، إن صدقت الوالدة.

فانتفض المستنطق عند هذا الجواب وقطَّب حاجبيه، وقال له زاجرًا: توقَّر يا هذا، أنت بإزاء قاضٍ جهبذ٤١ يمثل الذات الشاهانية،٤٢ فلا تتنادر ولا تتماجن،٤٣ حذار سوء المغبة.٤٤

فتعجَّب قرياقوس من كلام غاب عنه فَهْمُ معظمه؛ لم يسمع قط بالنحو، ولا عهد له بالكلمات طالعة نازلة، كما رآها تتدحرج من فم المستنطق.

وكان بينه وبين كاتب الاستنطاق معرفة، فقال له: بحياتك ترجَّ مولانا «المصتنطق»، قل له يحاكيني بلساننا، لغته صعبة عليَّ.

فكاد المستنطق يضحك وأقلَّ من عنجهيته٤٥ وقال: ما اسم أمك؟

– أم جبرايل.

فهزَّ المستنطق رأسه، وقال: هذه كنية يا ذكي.

فتبحَّر قرياقوس وقال: ضاهرية.

فامتعض المستنطق وتمطَّى كالممغوص، وقال: وهذا لقب يا فيلسوف.

فضحك قرياقوس، وقال: القرود تأخذني، كيف نسيت اسم أمي؟!

فقال المستنطق: يبدو لي أنك لا تميز بين الاسم واللقب والكنية، أين قضيت عمرك؟

فاستضحك الآغا وقال: في عين ورقه،٤٦ رفيق مطران الدبس والشدياق.

واحتار أخيرًا كلاهما، فقال المستنطق لكاتبه: ضع اسمها مريم.

فاعترض قرياقوس قائلًا: هذا اسم بنت عمي، ولكن المستنطق لم يبالِ فقال: كم عمرك؟

– عمري، عمري … خلقت في آخر حركة إبرهين باشا.٤٧

فتأفف المستنطق وقال: ما صنعتك؟

– فلاح زراع.

– أتقرأ وتكتب؟

فابتسم قرياقوس، وقبل أن يجيب، قال المستنطق لكاتبه: اكتب أمي.

– ألَكَ زوج؟

– زوج أيش؟ بقر، معزى؟

فاستدرك المستنطق، وقال: يعني أمتزوج أنت؟

– نعم، مرتين يا سيدي، أول مرة …

– اسكت، وكأنه نسي أين بلغ من الأسئلة المعلومة، فتفكَّر قليلًا، ثم قال: تدَّعي عليك … ثم نظر إلى سجل التحقيق مفتشًا عن الاسم، ومطَّ صوته، وقال: فاكيه، أنك طرَّحتها.٤٨

– من قال إنها حبلى حتى تطرِّح. ابنها عمره ثلاثة شهور يا سيدنا.

وانتبه قرياقوس كل الانتباه؛ لئلا يفوته شيء من كلام المستنطق، الذي قال: هي ادَّعت عليك بذلك، وفي حوزتها تقرير معزَّز بالأيمان المغلظة.

– بحياتك يا مولانا، تفهَّمني. ما فهمت معناة تقرير وأيمان؟

– بغل، بليد. التقرير هو الرابور، وأيمان يعني حلف اليمين.

فضحك قرياقوس ضحكة مديدة وقال: أتريد أن أحلف لك ألف يمين أني أنا وأنت غير موجودين في سراي جونيه، وإذا أمرت أقدم لك خمس رابورات … يا سيدنا، أنت أخبر الناس بالرابورات والحلفانات.

فقال المستنطق: طيب، بضميرك وذمتك، هذه المرأة حبلى؟

– أنا قاعد في بطنها!

– لكن حديث الضيعة.

فقال قرياقوس: عيب يا سيدي، اسأل النسوان. هذا شغل الرجال، الله يطوِّل عمرك!

– طيب، جرحت الرابورات والأطباء مع أن أكثرهم من أصحاب الضمير، والشهود يا هذا؟ فالتفت قرياقوس ظانًّا أنه يخاطب غيره، وتناول المستنطق «المحضر» من أمام الكاتب، وذكر لقرياقوس أسماء الذين شهدوا عليه. فصاح قرياقوس صيحة ارتجف لها المستنطق، وما شرع في الدفاع عن نفسه حتى نهض المستنطق عن كرسيه، وقال للآغا بلا اكتراث: خذه إلى الحبس. ثم قال للكاتب: أصدر بحقه مذكرة توقيف.

وعاد الشهود والأنصار إلى الضيعة ما عدا قرياقوس؛ فإنه حلَّ ضيفًا كريمًا على فارس آغا.

كان الآغا يحرس قرياقوس، فلم يسمح لأحدٍ أن يقابله فيحمل وصيته إلى أهله، وكثيرًا ما كانا يتبادلان كلامًا مضمنًا يشف عن ضغينة الآغا واستهزاء قرياقوس؛ فبطلنا كما عرفه القارئ الكريم لا يبالي، سِيَّانِ عنده أقاهرًا أم مقهورًا فهو ليس ممَّن يكسر شوكتهم الحبس.

كان الآغا يتعنفص٤٩ وقرياقوس يتملقه فيزداد الآغا عتوًّا، وجاء دور خروج المحبوسين لقضاء حاجتهم.

فكلَّف الآغا قرياقوس حمل تنكة الحاجات فحملها مطيعًا.

وخرج مع المحبوسين إلى الرمل مخفورًا، فشفى الآغا نفسه، وتلذَّذ بمرأى خصمه ذاهبًا تحت خفارة الجند.

وفي اليوم الثاني حمَّله إياها فحملها مطيعًا، والعادة أن يتناوب المسجونون حملها، وفي اليوم الثالث حملها أيضًا وهو يضحك. وانتظر الآغا عودة المسجونين؛ ليرى قرياقوس ذليلًا مهانًا على عيون الناس، ولكن قرياقوس راح ضاحكًا، وعاد باشًّا، منبسط الوجه كأنه عائد من عرس.

وقف الآغا على سفرة درج السراي متقنشفًا كالديك الحبشي، يصب نظراته من علٍ على المسجونين العائدين، وكان في ساحة السراي أناس يعرفون قرياقوس، فسأله أحدهم عن حاله، وهل من خدمة يقضيها له، أو ماذا يبلِّغ أهله في عين كفاع. فضرب قرياقوس على «تنكة الحاجات»، وقال بصوت جهوري لذلك الرجل على مسمع الآغا والناس: قل لهم قرياقوس مرتاح، وظيفته «كرارجي»٥٠ عند فارس آغا.

فطار عقل الآغا وهجم على قرياقوس، ولكنه لم يمد إليه يده، نوى أن يضيِّق عليه أكثر فلم يُعفِه في الغد من القيام بمهمته تلك، بل تبعه إلى حيث يقضي المسجونون حاجتهم الكبرى. أطال قرياقوس القعود فشكاه الجندي إلى الآغا فتقدَّم لزجره، وأمره بالنهوض، فقال له قرياقوس قبل أن يلفظ كلمة: عزيز من غير وقوف يا آغا، ثم قام بعد أن قضى غرضه …

فهدأت ثورة الآغا بغتة، وبدلًا من أن يرفسه أو يلكمه أجابه: الكبار لا تقوم عن المائدة. صحتين وعافية.

وفي اليوم الرابع أقيل بطلنا من وظيفة التنك. رأى الآغا الخير في التخلُّص منه، فخفَّف من وطأته عليه. طلب قرياقوس محاميًا فجاءه الآغا به. ونزلت خيالة مار جرجس على ساحة السراي، فارتبط الآغا منها رأسين في إصطبله، وحلَّ عشرة منها في مربط المستنطق، واقتنى المحامي منها ثلاثة رءوس.

وفي اليوم الخامس عند العصر خرج قرياقوس من السجن خفيف الظهر، لا مال في كمره إلا القليل، فدبَّ الهم في مفاصله.

١  مال إلى السواد.
٢  يطلى الطبق بالزبل لتدفئة دود القز.
٣  قطعة من تنك على شكل الظفر توضع بالإبهام لقطف ورق التوت.
٤  منضبط لا ثغرة فيه.
٥  بساط من شعر المعزى.
٦  خيل السباق والقتال.
٧  أي: تجف الرطوبة من الأرض وتتبخَّر سريعًا إن لم تحرث الأرض في الربيع.
٨  أوهُوه نداء يوجهه الفلاح لثيرانه، وزجره: صاح به موجهًا.
٩  ينادي.
١٠  اسم محلة.
١١  ما ارتبك ساعة.
١٢  إشارة إلى النابغة الذبياني، وقد كان كثير الهموم.
١٣  شوك البلان، يغزل عليه القز فيالجه.
١٤  تسرُّب مياه المطر من السقف.
١٥  هركولة: الحسنة الجسم والخلق والمشية، أو الضخمة الأوراك المرتجَّة الأرداف. والهركلة أيضًا ضرب من المشي فيه اختيال وبطء.
١٦  تضرب على كتفه أو ظهره برفق.
١٧  امرأة تغزَّل بها الأعشى الشاعر الجاهلي الشهير.
١٨  من جميلات العرب.
١٩  لا تأتي بحركة ولا تتكلم.
٢٠  وَصَفَ امرؤ القيس ليله بالطول وشدة الظلام.
٢١  أرضنا بائرة، قاحلة، غير محروثة.
٢٢  تساوي، تعادل.
٢٣  الأسبوع الذي يسبق عيد الفصح، وفيه تذكر الآلام التي احتملها المسيح.
٢٤  السبت السابق لعيد الفصح أو القيامة.
٢٥  أي فيه روح شريرة.
٢٦  الأطباء المشعوذون.
٢٧  ماسوني، من البنائين الأحرار، وهم شيعة معروفة.
٢٨  أي يعيش في البرية كالحيوانات.
٢٩  حب صغير، ومن طعام الدجاج والطيور.
٣٠  تعتقد العامة أن العفاريت تضع رَصَدًا، أي حراسة على بعض الكنوز لمنع الناس من الاستيلاء عليها، وفك الرَّصَد هو طريقة سحرية لرفع هذه الحراسة.
٣١  قشاعم جمع قشعم، وهو المسن من النسور والرجال والنساء.
٣٢  النابي، من نبا، وهو صوت في جفاف مزعج.
٣٣  شكل الشخص.
٣٤  مسح المحتضر بالزيت المقدس ليواجه ربَّه نقيًّا، وهي كلمة سريانية الأصل تعني المسح بالزيت.
٣٥  من يصدق كل شيء ويوافق على مختلف الآراء عن سذاجة.
٣٦  بلدة في لبنان وكانت آنذاك مركزًا للقضاء.
٣٧  يتشاوف معتزًّا.
٣٨  دور.
٣٩  مَنْ تكون لحيته في ذقنه لا على العارضين.
٤٠  فيه ملامح النطح، أي الهجوم والعنف.
٤١  الناقد العارف بتمييز الجيِّد من الرديء.
٤٢  صفة الشاه؛ أي السلطان.
٤٣  لا تمزح ضاحكًا.
٤٤  النتيجة.
٤٥  كبرياء وغطرسة.
٤٦  بلدة في لبنان، وفيها مدرسة من أشهر مدارس ذلك الزمان.
٤٧  ثورة اللبنانيين على حكم إبراهيم باشا المصري في أواخر عهد الأمير بشير شهاب الثاني.
٤٨  أجهضدتها، جعلتها تجهض جنينها.
٤٩  يتكبر.
٥٠  القيم على الكرار، وهو مستودع المواد الغذائية في الأديار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤