إدارة الرسول

دعا الرسول إلى الإسلام لأول مبعثه ثلاث سنين سرًّا، ولما اضطهد المشركون من قريش أصحابه أرادهم على التفرُّق في البلاد، وأشار إليهم بالهجرة مع نسائهم إلى أرض الحبشة؛ علمًا منه بأن صاحبها يُحسن جوارهم ولا يظلمهم ويُعنتهم، ثم دعا المسلمين إلى المهاجرة الثانية فِرارًا بدينهم من أذى قريش الذين اشتدوا عليهم، ومن جملة هذا الأذى أنهم كانوا يُلْبسون المستضعفين من المؤمنين برسالة الرسول أدراع الحديد، ثم يصهرونهم في الشمس، فبلغ منهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ من حَرِّ الحديد والشمس. وكانوا يلصقون ظهر بعضهم بالرَّضف١ حتى ذهب لحم متنه. وعن ابن عباس: «والله إن كان المشركون ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه، حتى ما يقدر على أن يستوي جالسًا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، وحتى يقولوا له: آللات والعُزَّى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم.» فكان الأمر بالهجرة أولًا وثانيًا أولَ تدبير إداري من الرسول، أنقذ به أصحابه من عَنَت المشركين، ريثما تستحكم قواه فيعود على أعدائه يعرفهم أقدارهم، ويناقشهم أوزارهم.
وصححوا حديث: «لا هجرة بعد الفتح.» وقالوا: إن الهجرة٢ كانت واجبة في أول الإسلام على ما دل عليها الحديث، ثم صارت مندوبًا إليها غير مفروضة، وذلك قوله تعالى: وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا٣ كَثِيرًا وَسَعَةً نزلت حين اشتد أذى المشركين على المسلمين عند انتقال رسول الله إلى المدينة، وأُمروا بالانتقال إلى حضرته ليكونوا معه، فيتعاونوا ويتظاهروا إن حَزَبَهم أَمْرٌ، وليتعلموا من أمر دينهم ويتفقهوا فيه، وكان أعظم الخوف في ذلك الزمان من قريش وهم أهل مكة، وكان جميع من لحق بأرض الحبشة من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارًا أو وُلِدُوا بها نَيِّفًا وثمانين رجلًا وثمان عشرة امرأة. وقال الرسول: «أنا بريء من كل مسلم مع مشرك.» قيل: لمَ يا رسول الله؟ قال: «لا تراءى ناراهما.»، أي: يلزم المسلم ويجب عليه أن يباعد منزله عن منزل المشرك، ولا ينزل بالموضع الذي أوقدت فيه نارُه تلوح وتظهر لنار المشرك إذا أوقدها في منزله، ولكن ينزل مع المسلمين في دارهم. وإنما كره مجاورة المشركين لأنهم لا عهد لهم ولا أمان، وحث المسلمين على الهجرة.
ولما ظهر الإسلام على الشرك طفق الرسول يدعو إلى دينه جهرة، وأخذ يرسل أمثل من دخلوا في الإسلام من الرجال لتلقين العرب الدين وأخذ الصدقات منهم. وإذا وفد عليه وافد يعهد إليه أن يعلم قومه دينهم و«إمام كل قبيلة منها لنفور طباع العرب أن يتقدم على القبيلة أحد من غير أهلها»، وإذا كان الوافد من رءوس قبيلة يُوَسِّد إليه جباية الفيء، ويأمره أن يبشر الناس بالخير، ويعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، ويوصيه أن يلين للناس في الحق، ويشتد عليهم في الظلم، وأن ينهاهم إذا كان بين الناس هَيْج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر؛ ليكون دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له، وأن يأخذ خمس الأموال وما كُتِبَ على المسلمين في الصدقة، وأن من أسلم من يهودي أو نصراني إسلامًا خالصًا من نفسه ودان دين الإسلام؛ فإنه من المؤمنين، له مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يفتن٤ عنها. وبعث معاذًا إلى اليمن٥ فقال له: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله تعالى، فإذا عرفوا الله تعالى فأخبرهم أن الله تعالى فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فخذ منهم، وتَوَقَّ كرائم أموالهم، واتَّقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.» وكتب إلى عمرو بن حريث عامله على نجران كتابًا في الفرائض والسنن والصدقات والديات. واكتفى الرسول بأخذ الجزية من أهل نجران وأيْلة وهم نصارى من العرب، ومن أهل دُومة الجندل وهم نصارى وأكثرهم عرب.٦ وبلغ أناسًا من المشركين ممن لم يكن لهم عهد ولم يوافوا الموسم أن رسول الله أمر بقتال المشركين ممن لا عهد لهم، فقدموا على الرسول ليجددوا حلفًا، فلم يصالحهم الرسول إلا على الإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فأبوا فخلى سبيلهم حتى بلغوا مأمنهم، وكانوا نصارى من قيس بن ثعلبة فلحقوا باليمامة، حتى أسلم الناس، فمنهم من أسلم ومنهم من أقام على نصرانيته.
ولما كان الهدف الأسمى نزع الشرك من نفوس العرب أولًا، رأينا الشارع إلى الرفق بأهل الكتاب لا يباديهم الشر إلا إذا قاوموه. وقد أحسن معاملة نصارى نجران، وفدوا عليه ستين راكبًا فيهم العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم، والذي يصدرون عن رأيه وأمره، وفيه ثِمالهم وصاحب رَحْلهم ومعهم أسقُفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مِدْراسهم٧ فعاهدوه على أداء الجزية. وقال الرسول: «من ظلم معاهدًا أو انتقضه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طِيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة.» وقال: «من قتل قتيلًا من أهل الذمة لم يَرَح رائحة الجنة.» وقال: «من قتل نفسًا معاهدة بغير حِلِّهَا حرَّم الله عليه الجنة أن يشَمَّها.» وجعل دية المعاهد كدية المسلم٨ ألف دينار، وعن مالك بن الوليد قال: أوصاني الرسول أن لا أخطو إلى إمارة خطوة، ولا أصيب من معاهد إبرة فما فوقها، ولا أبغي على إمام بالسوء.
ولم يحارب الرسول اليهود في خيبر وغيرها إلا لأنهم خانوا عهده، وأرادوا قتله، وكشفوا ستر سيدة من الأنصار. ويهود بني النضير٩ وبني وائل هم الذين حزبوا الأحزاب عليه، خرجوا حتى قدِموا على قريش مكة فدعوهم إلى حربه، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله. فقطع نخل بني النضير، ثم صالحهم وحرَّق على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يخرجهم من أوطانهم، ويسيرهم إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرًا وسقاءً على أن لهم ما أقلَّت الإبل إلا الحلقة،١٠ وطاوله يهود خيبر وماكسوه١١ ثم صالحوه على حقن دمائهم وترك الذرية، على أن يُجلوا ويخلوا بين المسلمين وبين الأرض والصفراء والبيضاء والبِزَّة إلا ما كان منها على الأجساد، وأن لا يكتموه شيئًا، ثم قالوا للرسول: «إن لنا بالعمارة والقيام على النخل عِلمًا فأقرنا.» فأقرهم. وفي بني النضير نزلت سورة الحشر، وأُبِيدَ بنو قريظة لنقضهم العهد ومظاهرتهم المشركين على الرسول. فأمر بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم واستفاءة١٢ أموالهم.

ووضع الرسول على المسلمين وغيرهم وعلى الأرضين والثمار والماشية أموالًا بيَّن الكتاب العزيز أصنافها في عدة آيات، وبين حكم إنفاقها فقال: مَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً١٣ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ ۗ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

فالفيءُ: خراج يؤخذ من أرض العنوة١٤ والخراج: ما يؤخذ من أرض الصلح١٥ ومما فتح عنوة وأكثر أهله عليه، والجزية: مال يتقاضى من أهل الكتاب، والعُشر: ما يؤخذ من زكاة الأرض التي أسلم أهلها عليها كأرض العرب، وما أسلم عليه أهله، أو فُتِح عنوة وقسِّم بين الغزاة، وما كانت الجزية تُقبل من غير الكتابيين في الأرض العربية،١٦ ولا يقبل من المشركين عبَدة الأصنام إلا الإسلام. ومن الأرض ما صولح أهله على النصف من ثمارهم كأهل فَدَك، وجعل النبي فدك له خاصة؛ لأنه لم يوجف١٧ عليها المسلمون بخيل ولا ركاب. والأنفال: الغنائم في القتال. والصدقة أنواع هي: الزكاة وهي عشر الغلات التي تأتي من الأرض التي خلت من سكانها أو كانت مواتًا فأحيوها، وصدقات الماشية هي زكاة السوائم من الإبل والبقر والغنم دون العوامل والمعلولة، والصدقات عروض التجارة. قال ابن حبيب:١٨ أول ما بعث الله نبيه بالدعوة بعثه بغير قتال ولا جزية، فأقام على ذلك عشر سنين بمكة بعد نُبُوَّتِهِ يؤمر بالكفِّ عنهم، ثم أنزل الله عليه: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا الآية، وأمره بقتال من قاتله والكف عمَّن لم يقاتله، وقال الله عز وجل: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ثم نزلت براءة لثمان سنين من الهجرة فأمره بقتال جميع من لم يُسلم من العرب من قاتله أو كفَّ عنه إلا من عاهده، ولم ينتقض من عهده شيئًا فقال: فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، وكل ذلك كان يؤخذ ممن اهتدوا إلى الدين الجديد، ومن بقُوا على دينهم من اليهود والنصارى بعدل لا شطط فيه، يدفعه المسلمون والمعاهدون طيِّبَة نفوسُهم ولم يتبرم به أحد.١٩
شكا يهود خيبر٢٠ — «وكانت قرية الحجاز ريفًا ومَنَعَة ورجالًا» وكان فيها عشرون ألف مقاتل٢١ — عبد الله بن رواحة، وكان الرسول يبعثه كل عام يخْرُص٢٢ عليهم تمرهم، ثم يقول: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي، فكانوا يضمنونه فشكوا إلى الرسول شدة خرصه٢٣ وأرادوا أن يرشوه؛ جللوا له حليًّا من حليِّ نسائهم فقالوا: هذا لك، وخفِّف عنا، وتجاوز في القَسم. فقال عبد الله: يا معشر اليهود، إنكم لمن أبغض خلق الله تعالى إليَّ، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، وأما ما عرضتم عليَّ من الرشوة فإنها السحت وإنَّا لا نأكلها. فقالوا: بهذا قامت السموات٢٤ والأرض.
ولقد كان الرسول يتخير عماله من صالحي أهله وأُولي دينه وأُولي علمه، ويختارهم على الأغلب من المنظور إليهم في العرب ليوقروا الصدور، ويكون لهم سلطان على المؤمنين وغيرهم، يحسنون العمل فيما يتولون، ويُشرِبون قلوب من ينزلون عليهم الإيمان، ويكشف أبدًا عملهم أي يفتشهم، ويسمع ما يُنقل إليه من أخبارهم، وقد عزل العلاءَ بن الحضرمي عامله على البحرين لأن وفد عبد القيس شكاه، وولَّى أبان بن سعيد، وقال له: «استوصِ بعبد القيس خيرًا وأكرم سراتهم.»٢٥ وكان يستوفي الحساب على العمال٢٦ يحاسبهم على المستخرَج والمصروف، وقد استعمل مرة رجلًا على الصدقات، فلما رجع حاسبه، فقال: هذا لكم وهذا أهدي إليَّ. فقال النبي: «ما بالُ الرجل نستعمله على العمل بما ولَّانا الله فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إليَّ! أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر أيُهدى إليه أم لا.» وقال: «من استعملناه على عمل ورزقناه رزقًا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول.»٢٧
وما أنفك الرسول من استشارة أهل الرأي والبصيرة ومن شُهد لهم بالعقل والفضل، وأبانوا عن قوة إيمان، وتفانٍ في بثِّ دعوة الإسلام، وهم سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار، منهم حمزة وجعفر وأبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وسليمان وعمار وحذيفة وأبو ذر والمقداد وبلال. وسُمُّوا النقباء؛ لأنهم ضمنوا للرسول إسلام قومهم، والنقيب الضمين، وكان له عرفاء أي رؤساء جند. ويكتب له بعض جلة الصحابة من الكَمَلة،٢٨ والكملة في الجاهلية وأول الإسلام: هم الذين كانوا يكتبون بالعربية، ويحسنون العوم والرمي.

كان كاتب العهود إذا عاهد والصلح إذا صالح علي بن أبي طالب، وممن كتب له أبو بكر وعمر وعثمان والزبير، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص وحنظلة الأسَيْدي والعلاء بن الحضرمي وخالد بن الوليد وعبد الله بن رواحة ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن أبي سلول والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان يكتب فيما بينه وبين العرب، وجُهَيْم بن الصلت وشرَحبيل بن حسنة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وبلغ كُتَّابُ الرسول اثنين وأربعين رجلًا، وكان صاحب سره حذيفة بن اليمان، وكان الحارث بن عوف المري على خاتَمه، وخاتمه من حديد ملون عليه فضة نقش ثلاثة أسطر: «محمد» سطر، و«رسول» سطر، و«الله» سطر. ويضع خاتمة أيضًا عند حنظلة بن الربيع بن صيفي بن أخي أكثم، ويكون خليفة كل كاتب من كُتَّاب النبي غاب عن عمله، فغلب عليه اسم الكاتب، وكان مُعَيقيب بن أبي فاطمة يكتب مغانم الرسول، وكذلك كعب بن عمرو بن زيد الأنصاري كان يقال له صاحب المغانم، وحذيفة بن اليمان يكتب خرص تمر الحجاز، والعلاء بن عتبة وعبد الله بن الأرقم يكتبان بين الناس في قبائلهم ومياههم وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء. وكان عبد الله بن الأرقم يجيب الملوك عن الرسول، والزبير بن العوام وجهيم بن الصلت يكتبان أموال الصدقات، والمغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان المداينات والمعاملات، وشرحبيل بن حسنة يكتب التوقيعات إلى الملوك.

ومن شرائعه: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، انتدبهم لهجو المشركين. وخطيبه: ثابت بن قيس. وكان زيد بن ثابت ترجمانه بالفارسية والرومية والقبطية والحبشية واليهودية. وناجية الطقاوي ونافع بن ظريب النوفلي يكتبان المصاحف، وشفاء أم سليمان بن أبي حنتمة تعلِّم النساء الكتابة، وعبادة بن الصامت يعلم أهل الصُّفَّة القرآن، وكانت دار مخرمة بن نوفل بالمدينة تُدعى دار القرآن، وأول قاضٍ في المدينة عبد الله بن نوفل، ومقرئ المدينة مصعب بن الزبير، وأول لواء عُقِدَ في الإسلام لواء عبد الله بن جحش، وعقد لسعد بن مالك الأزدي راية على قومه سوداء وفيها هلال أبيض. وكان لواؤه أبيض أو أصفر أو أغبر وله راية تُدعى العقاب من صوف أسود مكتوب على رايته: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وأول مغنم قسم في الإسلام مغنم عبد الله بن جحش. ومن عماله: أبو دُجانة الساعدي وسباغ بن عُرْفطة عاملاه على المدينة، وكان ثلاثة أرباع عماله من بني أمية؛ لأنه إنما طلب للأعمال٢٩ أهل الجزاء من المسلمين والغناء، ولم يطلب أهل الاجتهاد والجهل بها والضعف عنها كما قال معاوية. واستعمل أبا سفيان بن حرب على نجران فولاه الصلاة والحرب، ووجه راشد بن عبد الله أميرًا على القضاء والمظالم.
وكان الرسول كثيرًا ما يقول: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبيُّ بن كعب، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح.» وقال: «خذوا القرآن من أربعة؛ من عبد الله بن مسعود وأُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة.» وجمع القرآن أي حفظه جميعه من الأنصار: أُبيٌّ ومعاذ وزيد بن ثابت وأبو قيس بن السكن، هؤلاء أهم رجال الإدارة والقضاء والفقه والقرآن. وهناك طبقة أخرى تتولى الأعمال مثل: عتَّاب بن أسيد الذي استعمله واليًا على مكة، ورزقه كل يوم درهمًا فقام يخطب ويقول: أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم فقد رزقني رسول الله درهمًا كل يوم، فليست بي حاجة إلى أحد. وهذا الراتب من أول ما وضع من الرواتب للعمال، وقد يكون رزقهم ما يطعمون منه على نحو ما أجرى على قيس بن مالك الأرحبي من همذان لما استعمله على قومه عربهم وحمورهم٣٠ ومواليهم فأقطعه من ذرة نِسار مائتي صاع ومن زبيب خَيْوان٣١ مائتي صاع جارٍ له ذلك ولعَقِبه من بعده أبدًا أبدًا أبدًا.

أما كبار الصحابة: فكانوا يعطَوْن ما يتبلغون به من الغنائم وغيرها، ومنهم من كان غنيًّا في الجاهلية والإسلام فجهز من ماله جندًا في سبيل الله، بل منهم من أنفق كل ماله في هذا الغرض وهو راضٍ مغتبط.

ولقد آخى الرسول بين المهاجرين والأنصار بأخوة الإسلام والإيمان، ولطالما أقطع القطائع،٣٢ وكان يتألف على الإسلام، ويعطي من الصدقات من يريد تأليف قلوبهم، فدعي من يأخذون ذلك «المؤلَّفة قلوبهم» وهم واحد وثلاثون رجلًا من سادة العرب، تألَّفهم وتألَّف بهم قومهم، ليرغبوهم في الإسلام، ولئلا٣٣ تحملهم الحمية مع ضعف نياتهم على أن يكونوا إلبًا مع الكفار على المسلمين، وما منهم إلا الشريف المسودد والعالم والخطيب والشاعر والداهية الباقعة، وكل منهم سيد في قومه مطاع فيهم، قال صفوان بن أمية: لقد أعطاني رسول الله يوم حنين وإنه لمن أبغض الناس إليَّ، فما زال يعطيني حتى إنه لمن أحب الناس إليَّ. وقال الرسول: «إني لأعطي قومًا أتألف ظلعهم٣٤ وجزعهم وأكِل قومًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى.» وكان يعامل المسلمين بقواعد المساواة التامة، ويفضل مثلًا من الأزد الأنصار وهم الأوس والخزرج أبناء حارثة بن عمرو بن عامر وهم أعز الناس نفسًا وأشرفهم، وهم لم يؤدوا إتاوة قط إلى أحد من الملوك.
كانت الحكمة في تأليف من قضت المصلحة بتأليفهم، وأعطى كل واحد من المؤلفة قلوبهم في إحدى غزواته مئة من الإبل ومقدارًا من الفضة، فلما دخل الناس في الدين أفواجًا، وظهر المسلمون على جميع أهل الملل بطل العطاء للمؤلَّفة قلوبهم، ودخل بعضهم في خدمة الدولة وتولَّوْا العمالات وقيادة الجيوش، ولم يبق عربي بعد واقعة حنين والطائف٣٥ إلا أسلم، ومنهم من قدِم على الرسول ومنهم من لم يقدَم، وقنع بما أتاه به وافد قومه من الدين، ولما فتحت مكة دانت العرب لقريش، وعرفوا أن لا طاقة لهم بحرب الرسول ولا عداوته، فدخلوا في دينه، وقَلَّ أن دخل فيه إلا من اعتقد صدق صاحبه، وقد جاء قيس بن نُشبة السُّلَمِي فأسلم ورجع إلى قومه فقال: يا بني سليم، قد سمعت ترجمة الروم وفارس وأسفار الرهاب والكهان ومقاول٣٦ حمير، وما كان كلام محمد يشبه شيئًا من كلامهم. وقال أبو سفيان بن حرب: ما رأيت أحدًا يحب أحدًا من الناس كحب أصحاب محمد محمدًا.٣٧
وكثرت الوفود في السنة التاسعة للهجرة حتى سمي عام الوفود، وبعث رسله إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، وفي سنة سبعٍ بعث دحية الكلبي بكتاب إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل ليدفعه إلى قيصر، وبعث عبد الله بن حذافة السَّهمي إلى كسرى، وعمرو بن أمية إلى النجاشي، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك الإسكندرية، والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين، وشجاع بن وهب الأسدي إلى الحرث بن أبي شمر الغساني، والمهاجر بن أبي أمية إلى الحرث ملك اليمن. وجاءت وفود العرب من كل وجه، وكان الرسول يكرمهم ويفضل عليهم بعطائه، ومنهم من يضيفه عشرة أيام كوفد عبد القيس، ومنهم من يبالغ في إكرامه كملوك اليمن، وإنما سموا ملوكًا٣٨ لأنه كان لكل واحد منهم وادٍ يملكه بما فيه، وكانت كتبه إلى ملوك الأطراف خارج الجزيرة بلغة مضر وفصيح ألفاظها وكلها موجزة، واستعمل ألفاظًا في بعض كتبه إلى أهل اليمن وغيرهم غير معروفة للعرب كافة إلا في قبيل واحد؛ وذلك إرادة إفهام القوم ومخاطبتهم بمألوفهم من العبارات.٣٩ قال عليٌّ للرسول وقد سمعه يخاطب وفد بني نهد: يا رسول الله نحن بنو أبٍ واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره. فقال: «أدَّبني ربي فأحسن تأديبي، وربيت في بني سعد.» فكان يخاطب العرب على اختلاف شعوبهم وقبائلهم بما يفهمون.
ولم يكُن للرسول بيت مال، وكان يخبأ الأموال في بيته وبيوت أصحابه، وفي الغالب أن الفيء يقسَّم من يومه، خصوصًا إذا كان من الناطق كالإبل والشياه والخيل والبغال. والرسول يعطي الآهل٤٠ من الفيء حظين والعزب حظًّا.٤١
وما كانت تأخذه بالمشركين هوادة لا سيما بعد أن فُتِحَتْ مكة، وأطاعت الحجاز واليمن واليمامة وغيرها من أصقاع الجزيرة، وما كان هوى من رسخ الإسلام في قلوبهم في شيء من حُطام الدنيا، فقد بلغ من تبادل الثقة٤٢ والحب بين المسلمين في صدر الإسلام أنهم كانوا خلطاء بالمال، يأخذ فقيرهم من مال الآخر؛ مصداقًا لقوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، ولقد أهديت لعبادة بن الصامت٤٣ هدية وإن معه في الدار اثني عشر من أهل بيته، فقال عبادة: اذهبوا بهذه إلى آل فلان فهو أحوج إليها منَّا. قال الوليد بن عبادة: فأخذتها فكنت كلما جئت أهل بيت يقولون اذهبوا بها إلى آل فلان فهم أحوج منَّا إليها. حتى رجعت الهدية إلى عبادة قبل الصبح، وأسلف عبد الله بن جعفر الزبيرَ بن العوام ألف ألف درهم، فلما قُتِلَ الزبير قال ابنه عبد الله لعبد الله بن جعفر: إني وجدت في كتب أبي أن له عليك ألف ألف درهم، فقال: هو صادق فاقبضها إذا شئت. ثم لقيه فقال: يا أبا جعفر وهِمْتُ المال لك عليه فهو له. قال: لا أريد ذاك. قال: فاختر إن شئت فهو له وإن كرهت ذلك فله فيه نظيره ما شئت، وإن لم ترد ذلك فبعني من ماله ما شئت.

مثال آخر من هذا الإيثار: كان بالمدينة في زمن النبي شاب يقال له مالك بن ثعلبة الأنصاري ولم يكن بالمدينة شاب أغنى منه، فمر بالنبي والنبي يتلو هذه الآية: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ إلى قوله: فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ فغشي على الشاب، فلما أفاق دخل على النبي فقال: بأبي أنت وأمي، هذه الآية لمن كنز الذهب والفضة؟ فقال له النبي: «نعم يا مالك.» قال: والذي بعثك بالحق ليمسين مالك ولا يملك دينارًا ولا درهمًا. قال: فتصدق بماله كله.

وما كان أصحاب رسول الله بالمنخرقين٤٤ ولا المتماوتين،٤٥ يتناشدون الأشعار، ويجلسون في مجالسهم، ويذكرون جاهليتهم، فإن أريد إنسان منهم على شيء من أمر دينه دارت عيناه فترى حماليقها٤٦ غضبًا؛ بل كان منهم من إذا ارتكب كبيرة يعاقب عليها الإسلام يأتي الرسولَ بطلب إقامة الحد الشرعي عليه، أو يسمع منه ما ينقلب به إلى أهله مسرورًا، يأخذ حكمة تثلج بها نفسه، ويعتقد أنه تحلل من ذنبه واستغفر له الرسول.
وأراد النبي مرة إحصاء المسلمين فقال: اكتبوا لي من تلفَّظ بالإسلام من الناس، فكتبوا له ألفًا وخمسمائة رجل، وما كان يجمع المسلمين في أول أمرهم كتاب حافظ أي ديوان مكتوب،٤٧ وكان إذا نودي للزحف وتخلَّف عنه أحدهم لعذر أو شبه عذر، يلومه الرسول وأصحابه، وإذا تبين أنه تعمَّد أن يكون مع المتخلفين عن القتال يعاتبُ ويقاطعه الجماعة ويجتنبونه لا يكلمه أحد. ولما أمر الرسول بالتهيؤ لغزو الروم في تبوك، تثاقل المسلمون عنها وأعظموا غزوهم، فنافق من نافق من المنافقين، حين دعوا إلى ما دعوا إليه من الجهاد، وكان «ذلك في زمن عسرة٤٨ من الناس وشدة من الحر وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم فيه.» وجاء المتخلفون عن هذه الغزاة وكانوا ثمانين رجلًا فقبل الرسول منهم علانيتهم وأيمانهم، واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله، وفي هذه الغزوة حضَّ الرسول أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وكان من أفضل القربات أن يجهز أرباب اليسار أناسًا للغزو يتكفلون بطعامهم وإطعام ذويهم، ويُعطونهم السلاح والكُراع واللباس ليغزوا ويرابطوا،٤٩ وكان المسلمون كلهم جندًا يقاتلون للدين، وكان لا يزال فيهم أبدًا من يبذل شطرًا صالحًا من ماله في وجوه البر والقرب لا يريدون على إسلامهم ونصرهم للرسول جزاءً.

وجميع ما غزا الرسول بنفسه سبع وعشرون غزوة، وكانت بعوثه وسراياه ثمانيًا وثلاثين بين بعث وسرية، وكان يورِّي بغزواته، وقلَّ أن يعين لأصحابه الوجهة التي يقصدها في غزاته، وكتب مرة لأحدهم كتابًا وأمره أن لا يقرأه حتى يبلغ مكان كذا وكذا، ولا يستكره من أصحابه أحدًا أي يندبهم للعمل قسرًا، وذلك ليترصد بذلك قريشًا ويعلم له من أخبارهم.

ولم يكن للمسلمين سلاح جاهز، وسلاحهم: القوس والنبل والحربة والسيف والدرع، ثم اتخذ أنواع السلاح التي كانت موجودة إذ ذاك عند الأمم. واستعار الرسول يوم هوازن٥٠ مئة درع بما يكفيها من السلاح من صفوان بن أمية ليلقى بها العدو على أن تكون عارية مضمونة حتى يؤَدِّيَها إليه، ورأى الرسول أن اتساع الفتوح يقضي بأن يتعلم بعض أصحابه صنعة الدبابات والمجانيق والضبور؛٥١ أي صنائع القتال، فأرسل إلى جُرَش اليمن اثنين من أصحابه يتعلمانها. وكان أهل الطائف أول من رُمي بالمنجنيق، وأخذ المسلمون بُعَيْدَ ذلك يعدون لأعدائهم ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل؛ لأنهم قادمون على فتح الشام والعراق على ما بشرهم به الرسول، فقال لعدي بن حاتم: «لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذ، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عددهم وقلة عُددهم فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فُتِحَتْ عليهم.» وقال مرة: «أبشروا وأمِّلوا ما يسركم؛ فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوا فيها فتهلككم كما أهلكتهم.»
رأينا الرسول في طور ضعفه، ثم في طور قوته، يحرص على رجاله حرصه على أعز شيء لديه، ولما دخل عمر في الإسلام اعتز به، وترك به المسلمون التقية في دينهم، بل إنه كان إذا سقط في يده أحد أذكياء المشركين أبقى عليه، مهما كان من إيذائه للمسلمين أو له خاصة؛ علَّ في حياته ما يستفيد منه الإسلام إذا أسلم. أما من قتلوا النفس التي حرم الله فهؤلاء لا تأخذه بهم رحمة؛ قدم عليه نفر٥٢ من العرب قد ماتوا هُزالًا فأسلموا واجتووا المدينة، فأمرهم الرسول أن يأتوا إبل الصدقة يشربوا من ألبانها، ففعلوا وصحُّوا وسمنوا، فارتدوا وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل، فبعث في آثارهم فما ترجل٥٣ النهار حتى جيءَ بهم، وأوقع عليهم أشد العقوبة الشرعية.

وكان يحسن معاملة النساء عامة كما يحسن معاملة أزواجه خاصة، فيؤثِّرن أي تأثير في الرجال، ويجعل منهن أدوات صالحة له يبث بواسطتهن دعوته، ويرعى مصالح المسلمين، وقد أوصى بهنّ أجمل وصاة في خطبته يوم حجة الوداع. وهذا غاية في حسن الإدارة والسياسة؛ لأن حل المسائل بدون مشاكل أنفع من حلها بطرق جافة. والنساء في هذا المعنى من أفعل أسباب الدعوة، وخصوصًا إذا كُنَّ كالصحابيات يأخذن بمجامع القلوب بجميل عاطفتهن وجمال بلاغتهن. وكان يسمح باستخدام النساء في حروبه وغزواته؛ يخدمن الجرحى، ويأخذن من العطاء، ويتولين من الرجال ما يصلحن له كالطعام والإسقاء، ويحمسن من يحتاج إلى تحميس. وجعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة يقال لها رفيدة في مسجده كانت تداوي الجرحى وتحبس نفسها على خدمة من كان فيه ضيقة من المسلمين. وكذلك كانت أخت رفيدة واسمها كعبة بنت سعيد الأسلمية. ومنهن من كنَّ يخِطن القرب؛ فالنساء في حكومته ممرضات طاهيات ساقيات خياطات محمِّسات داعيات. وأمر الرسول أن لا يقتل النساء في الحرب. فكان بذلك يستفيد من كل قوة في بلده يستعين بها على الظهور على المشركين.

ومن خطبه الإدارية ما ورد في الثقات أنه قعد على بعير له وأخذ إنسان بخطامه أو بزمامه فقال: «أي يوم هذا؟» قال مَن حضر: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: «أليس يوم النحر؟» قلنا: بلى. قال: «فأي شهر هذا؟» قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: «أليس بذي الحجة؟» قالوا: بلى. قال: «فأي بلد هذا؟» قال: فأمسكنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: «أليس بالبلد الحرام؟» قلنا: بلى. قال: «فإن دماءكم وأعراضكم (وفي رواية: وأموالكم) بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا ليبلغ الشاهد الغائب.»

هذا جملة ما يقال في تدبير الرسول في الإدارة من بَثِّ دعوة وجهاد عدو، وأخذ غنائم وصدقات وجزًى وعُشور، وقسمتها بين المجاهدين وأهل البلاء من المهاجرين والأنصار، ثم على فقراء المسلمين، وما كان من توزيعه العمل بين عُمَّالِهِ ومعاملته لهم وللوفود والنساء، إلى غير ذلك من أسباب القوة واتخاذ الجند والمحاربين، واشتداده في الحق ولينه إذا دعت الحال إلى اللين، وإغضائه أحيانًا لما يلحق به من الأذى، يرتقب الفرص لمن يكيد للمسلمين.

ومما يصح التمثُّل به في باب اللين: أنه رضي يوم الحديبية أن يدخل وأصحابه مكة ثلاثة أيام فقط على أن يكونوا بجُلبان٥٤ السلاح، وصالح سهيلَ بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي فدعا عليَّ بن أبي طالب. فقال: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم.» فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب باسمك اللهم. فقال رسول الله: «اكتب باسمك اللهم.» فكتبها، ثم قال: «اكتب هذا ما صالح عليه محمدٌ رسول الله سهيلَ بن عمرو.» فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال رسول الله: «اكتب هذا ما صالح عليه محمدُ بنُ عبدِ اللهِ سهيلَ بن عمرو، اصطلحًا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه ردَّه عليهم، ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا إسلال ولا إغلال٥٥ وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه …» إلخ. فاستاء المسلمون من هذا العهد بعد أن فازوا على أعدائهم؛ وأحب الرسول حقنَ الدماءِ فقبل من خصمه هذا العنت، وكانت العاقبة له ولقومه.

هوامش

(١) الرضف: الحجارة المحماة.
(٢) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي.
(٣) مهاجَرًا.
(٤) فتن الرجل في دينه: مال عنه.
(٥) تيسير الوصول لابن الديبع.
(٦) أقضية رسول الله للقرطبي.
(٧) العاقب: الذي يخلف السيد، وهو ثانيه في الرتبة، ومنه جاء السيد والعاقب. والثمال: الغياث الذي يقوم بأمر قومه. والمدراس: البيت الذي يدرسون فيه.
(٨) كتاب الديات للضحاك الشيباني.
(٩) سيرة ابن هشام.
(١٠) الدرع، وقيل: السلاح كله.
(١١) ماكسوه: شاكسوه، والمماكسة: المشاحنة وطلب الحط من الثمن.
(١٢) استفاء المال: أخذه فيئًا. والفيء: الغنيمة.
(١٣) الدُّولة في المال: أن يتداوله الأغنياء فيكون مرة لهذا ومرةً لذاك.
(١٤) العنوة: القهر، وفتح البلد عنوة أي قسرًا.
(١٥) مفاتيح العلوم للخوارزمي.
(١٦) الخراج لأبي يوسف.
(١٧) أوجف الفرس: أعداه، والمراد: تجهيز جيش لفتح البلد.
(١٨) تيسير الوصول لابن الديبع.
(١٩) العشر والخراج في الخلافة العربية لمصطفى الشهابي (مجلة المجمع العلمي العربي م١٢).
(٢٠) المعارف لابن قتيبة.
(٢١) الخراج لأبي يوسف.
(٢٢) يقدر.
(٢٣) تاريخ دمشق لابن عساكر.
(٢٤) تيسير الوصول لابن الديبع.
(٢٥) طبقات ابن سعد.
(٢٦) الحسبة في الإسلام لابن تيمية.
(٢٧) خيانة.
(٢٨) طبقات ابن سعد.
(٢٩) تاريخ الطبري.
(٣٠) لعل صوابه: حمرها جمع أحمر، أي: الأعاجم.
(٣١) مخلاف في اليمن، والنسار: جبل في حمى ضربة.
(٣٢) القطيعة من الأراضي طائفة من أرض الخراج.
(٣٣) تاج العروس للزبيدي.
(٣٤) الظلع: العيب.
(٣٥) أسد الغابة لابن الأثير.
(٣٦) مقاول ج مقول: وهو القيل، ابن الملك الصغير بلغة اليمن.
(٣٧) أسد الغابة لابن الأثير.
(٣٨) طبقات ابن سعد.
(٣٩) العقد الفريد لابن عبد ربه، كتاب الجمانة في الوفود.
(٤٠) الآهل: المزوَّج.
(٤١) تيسير الوصول لابن الديبع.
(٤٢) الإحياء للغزالي.
(٤٣) تاريخ دمشق لابن عساكر.
(٤٤) المنخرق: السريع.
(٤٥) تماوت: أظهر من نفسه التخافت والتضاعف من العبادة والزهد والصوم.
(٤٦) الحملاق: باطن الأجفان المحمر إذا قلبت المكحل بدت حمرتها، وقيل: الحملاق ما غطى الجفن من بياض المقلة.
(٤٧) سيرة ابن هشام.
(٤٨) سيرة ابن هشام.
(٤٩) المرابطة: أن يربط كل من الفريقين خيولهم في ثغرة، وكل مستعد للقاء صاحبه، فكانوا يرابطون أي يقيمون على جهاد عدوهم بالحرب، ومرابطات المسلمين مواضع خيلهم المرابطة، والمرابِطة هم الجماعة رابطوا.
(٥٠) سيرة ابن هشام.
(٥١) الضبور: جلود تغشى خشبًا فيها رجال، وقالوا: هي الدبابات تقرب للحصون لتنقب من تحتها، الواحدة ضبرة.
(٥٢) أقضية رسول الله للقرطبي.
(٥٣) ترجلت الشمس: ارتفعت، واجتووا: استوبَئوا.
(٥٤) الجلبان: أوعية السلاح بما فيها؛ الغمد والسيف فيه، والكنانة والسهام فيها.
(٥٥) الإسلال: الخيانة، والإغلال: السرقة، والعيبة في الرجل: موضع سره، أي بيننا وبينهم في هذا الصلح صدر معقود على الوفاء بما في الكتاب نقي من الغل والغدر والخداع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤