الفصل السادس

حلاوة اللقاء

ومرت بي الأيام على تلك الحال حتى دنا ميعاد رحيلي، واقتربت ساعة سعادتي، فأخذت ما كان لي من المال، ووهبتني أمي آخر خاتم بقي لها، وكنت قد نظمت بعض القصائد والمقطَّعات في خلواتي، ورجوت أن أجد في باريز من يطبعها لي، وأن تروق في أعين بعض الناس، فكتبت إلى صديق لي هناك كنت أراسله بحديث من أهوى ليعدَّ لي مكانًا عنده أنزل فيه، ثم رحلت إلى باريز وأنا أقتصد في نفقات الطريق ما يكون لي ذخر أيام كنت أحسبها سعادة أعمار هناك حتى وصلتها مساء، فقابلني صديقي فأرسلته إليها يعلمها بقدومي، ويستأذن لي بزيارتها بعد خروج الناس، وأقمت أنتظره في أحد الأندية وقلبي يخفق خفوقًا شديدًا لقرب اللقاء.

حتى إذا كانت الساعة الحادية عشرة من الليل أقبل إليَّ، وأخبرني أنها في انتظاري، فسرت وإياه وأنا أكاد أطير سرورًا وابتهاجًا حتى بلغنا الباب فتركني وانصرف، وكانت ساعة لا أقدر أن أتصورها فكيف أقدر أن أصف حالتي فيها؟ إذ صعدت فوجدت غصن البان واقفة في انتظاري وهي لابسة ثوبًا أسود يزيد في بياضها وجمالها، فدُهشت لمرآها كما تندهش العين من نور الشمس، وأقبلت مسرعًا وأنا محتبس اللسان حتى سقطت على قدميها، وكانت في حالة لا تفرق عن حالتي من الدهشة والسرور، فجعلت أقبِّل الأرض بين يديها، ثم أشخص إليها ببصري كأنني أريد أن أتثبت موقفي وأنني لست في حلم، فوضعت إحدى يديها على شعري واستندت بالثانية على كتفي، وسقطت راكعة أمامي وجهًا لوجه، وأقمنا على ذلك مدة نحاول أن نتكلم فلا نقدر أو لا نجد كلامًا يفي ببيان ما نحن فيه، وطال بيننا السكوت ولا لغة إلا لغة العيون توحي نظراتها بعضها إلى بعض ما يخالج قلبينا من بهجة المسرة والاغتباط، ولا أدري كم لبثنا على تلك الحال:

أعانقها والدمع بالدمع واشج
نمازجه والخد بالخد ملصقُ

سوى أن أقول: إنها أبد الدهر في موقف ساعة، حتى استفقنا لخفق أقدام تصعد السلم فنهضنا، واتخذ كل منا مكانًا.

ثم دخل علينا رجل من أصدقاء قرينها ساءني قدومه إذ كدَّر عليَّ سكرة ذلك الغرام، وسرني إذ حماني وإياها من عواقب تلك السكرة التي لا تكاد تقف نفس دونها لولا مثل هذه الموانع، فنهضت وسلمت عليه، وعرفتني به، وكانت قد قرأت له شيئًا من شعري فسُرَّ منه وأثنى عليَّ، وجلسنا برهة نتحدث، ثم قمت وانصرفت لكيلا ينصرف قبلي ويداخله ريب من انفرادي بها، وخرجت وأنا لا تسعني الدنيا سرورًا بحاضري وتصور سرور في مستقبل أيامي بأني سأراها كل يوم بعد ذلك اللقاء.

وصرت أهيم على وجهي في شوارع باريز، وأفتح صدري للهواء طمعًا بأن يطفئ بعض ما بي من حرارة الجوى، حتى انتهيت إلى منزل صديقي وقد بقي هَزِيع من الليل، فلم أقدر أن أنام إلا وقد بزغت الشمس وتعالى النهار، وجعلت كل يوم أقوم فأكتب لها لأقطع بذلك نهاري إلى المساء، ثم أذهب فأقابلها قرب منتصف الليل وأعود في الغد إلى مثل شأني بالأمس، وأنا في خلال ذلك لا أنفك عن المطالعة والدرس حتى تعلقت بالسياسة وكتبت فيها شيئًا قيل لي أن قد كان له حسن الوقع لدى القراء، حتى إذا دنت ساعة اللقاء أذهب فأتراوح أمام منزلها وأنا أعد بلاط الطريق، وألقي بعض الدراهم في صحون الفقراء، وأرجو أن يكون لرنينها صوت يبلغ إلى عرش الله، فيتخذه دعاء مني له ليحفظ لي من أحب ولا يحرمني قربه واجتماعه.

وكان بيني وبينها علامة في أنوار المنزل تنبئني بانصراف الضيوف لأصعد إليها، فلا أبرح أراقب تلك الأنوار حتى تبدو لي منها العلامة التي أنا بانتظارها.

وكانت غصن البان قد عرفتني بأبيها فقابلني أحسن مقابلة، لما قصته عليه من أخبار أيامنا في سافوا، ولما عرفه في قلبينا من طاهر الود والولاء، وما زال يحادثني وأتحبب إليه حتى مال إليَّ وأحبني وسمح لي أن أصرف ليالي في مجلسه بين ضيوفه وزائريه، فكنت بين أعظم شيئين يحبهما من كان مثلي، وهما: رؤية من أحب جالسة أمامي، وشيخ خليل تحيط به العلماء الأفاضل وخزائن الأسفار، حتى إذا تناصف الليل وانصرف الجميع خلوت بها في تلك القاعة على حديث أرق من الزلال، وشكوى غرام أعذب من السلسبيل، ثم ينقطع الكلام وتنطلق بيننا رسل العيون وتفيض القلوب غرامًا وصبابةً، وتلتقي الشفاه حتى لا يخرج الكلام من بينها إلا صفيرًا، وكله كلام متقطع لا سؤال يسبقه ولا جواب عليه، وهو كل يوم يتجدد على مثل الحلاوة التي مرَّ بها كما تقطف الزهرة بعد أختها وكلتاهما من لون وعطر واحد؛ لأننا لم نكن نجني الثمرة بينهما ولا جنيناها قط إلى أن قضى الله بيننا بقضائه.

وكانت لغة الحب بيننا كثيرة الألفاظ متعددة العلائم والطرائق: من النظرة التي توحي كل شيء إلى إغماض العين الذي يمثل للنفس كل صورة، ومن نشوة الحب إلى ذهوله، ومن التنهد المستطيل إلى الأنة الخفيفة، ومن السكوت المتواصل إلى الكلمات المتقطعة التي يلفظها اللسان مكرهًا ولا تفهم منها الألباب شيئًا، فكنا نقضي ساعات جالسَين وجهًا لوجه نتحدث بحديث لا أذكر منه عبارة سوى أننا كانت تمر بنا الأوقات ونحن لا نحسبها إلا طرفة عين أو رجع نفَس حتى تأمرنا دقات الساعة بالافتراق، وقد قضينا وقتًا طويلًا في تذكار أيامنا السابقة وتعداد الأماكن التي زرناها والأحاديث التي تطارحناها والصخور التي كنا نجلس عليها في وديان سافوا وآكامها، كأننا فتاة انتثر منها عقدها وهي سائرة فعادت مطرقة تلتقط كل حبة من حباته وتحرص على ألا تضيع واحدة منها.

وكانت تشرد بها الأفكار أحيانًا في أثناء حديثنا، فتجري دموعها على خديها كالدر انقطع سلكه، وما هو إلا من ظنها أنها تحرمني السعادة التي يصبو إليها كل عاشق ووجدانها نفسها خيالًا بين يدي وغصنًا له أزهار الحب وليس فيه ثماره، فتقول لي بصوت حزين: كم أتمنى أن أموت الآن وأنا فتاة محبوبة عاشقة؛ لأنني أجد نفسي هبةً وحرمانًا لك، ولذة وشقاء بين يديك، وهما أشد مرارة الحب وحلاوته يمتزجان في وقت واحد، فاسأل الله أن يجعل حياة هذا الغرام سببًا لموتي حتى تخلص من قيود ذله وتكون مطلقًا في أن تهوى سواي؛ لأنه أحب إليَّ أن أموت لهنائك من أن أحيا عثرة في سبيل لذاتك.

فأجيبها وأنا واضع كفَّيَّ تحت عينيها لأتلقف ما يسقط من دموعها: ألا تجدين في وقفتنا هذه ما يعادل سرور العالم بأسره؟ وألا يكفيني أن تسقط هذه الدمعة من دموعك على يدي كما يسقط ندى السماء على الزهرة الذابلة ثم أرشفها كما يرشف الظمآن ماء حياته؟ وبعدُ، أفليس أرفع لنا في درجات الغرام أن يذهب كل منا شهيد عفافه حتى تحسدنا أولياء الأرض بل تحسدنا الملائك في السماء؟ أوَلَيست الشعلة التي نزلت عليَّ من نار غرامك كافية لأن تحرق كل ما بي من العشق الدنيِّ وتذروه رمادًا؟ فأحسني ظنك بنفسك، واحفظي دموعك لحزن أشرف من الحزن الذي تتوهمينه بي؛ لأنني لا أجد من حبك عذابًا على الإطلاق، ولا أجد حياتي معك إلا سعادة مستمرة وسلامًا دائمًا ونومًا هادئًا لا أحلام فيه سواك، أفتحسبينني بعد ذلك في حرقة وعذاب وأنت قد محوتِ كل ما كان بي من قبل حتى لم يعد في حاضري أثر من ماضيَّ، وحتى صرت أتمنى أن أجد بعض الحزن والعذاب أقدمه ضحية لله وشكرًا على إنعامه بك عليَّ؟ وهبي أن حبي لك مماتًا فما أحلاه فناءً يعقب حياة خالدة ومُلكًا لا يبلى!

وجرت بنا الأيام على ذلك مدة حتى رحل صديقي وترك لي منزله أقيم فيه كما كنت، ثم أخذت أمي تكاتبني بوجوب أن أجد لي مقامًا يليق بشأني أو أن أعود إليها وأقيم في بيت أبي أقاسم من فيه معيشتهم في السراء والضراء، فأثرت بي هذه الأقوال من أمي وعزمت على أن أجد لي مركزًا في باريز، فجمعت ما كنت قد نظمته من الشعر وقصدت به أحد أصحاب المطابع، وسألته أن يطبعه لي ثم يأخذ أجرته من ثمن ما سأبيع منه، فأخذ القصائد مني وسألني أن أعود بعد أيام يقرؤها فيها، فذهبت وأنا أعلق آمالي بذلك اليوم الذي أعود فيه إليه حتى انقضت المدة، وذهبت أتقاضاه الوعد فقابلني باسمًا وقال لي: لقد قرأت شعرك فوجدت فيه بعض الطلاوة، ولكنني لم أجد له نسقًا يشبه الشعر القديم، وما أدري أين تعلمت النظم ولا من أوحى إليك هذه الطريقة البكر التي لم يجرِ عليها شاعر قبلك، وعندي أن من الأَولى لك أن تتبع آثار من تقدمك من الشعراء الذين يحبهم الناس ويميل إلى شعرهم المطالعون. ثم ردَّ إليَّ الكتاب فوضعته تحت ثوبي، وخرجت حزينًا كئيبًا حتى دخلت منزلي، فأوقدت النار وألقيت تلك الأوراق فيها وأنا أقول: لا خير فيك ما دمتِ لا تشترين لي يومًا من أيام غرامي، أما المجد وبقاء الذكر فأمر لا يهمني لأن مجدي وبقائي في غرامي. ثم خرجت في المساء فبعت الخاتم الذي كنت قد أخذته من أمي بثلاثين دينارًا وأنا آسف على هذه الذخيرة أن تذهب مني، ولا أزال أود إلى الآن أن أسترجعها لو كنت أعرف مقرها بألوف من الدنانير.

وكان الربيع قد أقبل وبرزت حدائق باريز بأثوابها الخضراء حول قصورها، واكتمل البدر يزينها بأنواره كأنها ماء الفضة على تلك الزمردة الخضراء، فعادت غصن البان إلى تعافيها، وأخذ يعاودها رونق الشباب وزهوه كما كان يعاود الأرض في ذلك الفصل، فسألتها أن نخرج للنزهة في ضواحي باريس ورياضها فرضيت واستأذنت أباها فأذن لها، وأخذنا نخرج كل يوم إلى الصحراء في مركبة مقفولة تحجبنا عن أنظار الناس، حتى إذا بلغنا تلك المروج نزلنا وتوغلنا في غاباتها ولسان حالنا ينشد:

ونجوس هاتيك الغياض كأننا
لصان نبغي في الخبا أقصاهُ
أو صائدان من السماة تبطنا
خمرًا أثيثًا يقنصان ظباه
هذا وقد فرش الربيع بساطه
في ظل قبته التي تغشاه
هي قبة الأغصان والأوراق قد
حَجَبت عن النظر الحديد سماه
متسايرَين وتارة متخاصرَين
أضمه ويضمني زنداه

ثم كنا نسير ونحن نتكلم عن مستقبل أيامنا ويتمنى كل منا أمنية ينالها في تلك الأيام، حتى نعود مساء فأوصلها إلى دارها وأنطلق إلى منزلي فأقيم فيه أنتظر الصباح؛ لأعود معها إلى مثل شأني بالأمس، فنمر على الأشجار والأنهار، ونجلس في ظلال الدوح حيث أحفر أول اسمي على كل شجرة جلست تحتها لكيلا تضيع عني ولا يضيع وسمي من قشورها.

حتى إذا كنا مرة جالسَين في حديقة بين الخضرة والزهر وقد سكت كل منا وذهبت به أفكاره كل مذهب نظرت إليها، فرأيت الدمع يجول في عينيها، فقلت لها: من أي شيء تبكين؟ قالت: من السعادة، فإن هذا اليوم وهذه السماء وهذا المنظر وهذا السكون والسكوت والوحدة واختلاط نفسينا حتى لا تحتاج إحداهما إلى الكلام؛ كل هذه أكثر من أن تحملها فتاة مثلي يقتلها السرور كما يقتلها الحزن. ثم تورَّد خداها وبرقت عيناها حتى خفت أن يستحسنها الموت على تلك الحال فيأخذها مني، ورأت ما كان بي من الاندهاش، فقالت كمن ينبهني من حلم: يا روفائيل، إن في الدنيا إلهًا، وإن الله موجود. قلت: وما الذي دعاك إلى هذا الكلام الآن؟ قالت: الحب، فإن الذي أشعر به منه أشبه بنهر يجري في فؤادي وله صوت لطيف تطرب له آذاني بما لم أتعود سماعه قبل اليوم، ولا شك أن المنبع الذي يجري منه مثل هذا النهر فيسر قلوب العاشقين لهو الله يرسله من أعلى سمائه، إذن فالله موجود ومحبته عظيمة فائقة ليست محبتنا إلا نقطة منها، فلا تحسبنَّ أنني أحبك أو تحبني، فإنما نحن نحب الله ولا ندري، ونحسب أن كلًّا منا يحب أخاه.

فأعجبني كلامها حتى نهضت فقبلت الشجرة التي كنا نستظل بها على اعتبار أن ما قلناه كان وحيًا هابطًا علينا من خلال أغصانها، ثم اتفقنا فسميناها شجرة العبادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤