دمياط في العصر العربي

(١) الفتح العربي

فإذا كان الفتح العربي (سنة ٢٠ﻫ/٦٤٠م) فإنا نجد هذه المدن الثلاث تقاوم مقاومةً عنيفة، فلا تخضع إلا بعد جهادٍ مرير، ومعرفتنا بأخبار دمياط التفصيلية تبدأ بحوادث هذا الفتح؛ فقد وجَّه الجيش العربي — بعد استيلائه على حصن بابليون — فِرقًا منه بقيادة البطل العربي المقداد بن الأسود لإخضاع مدن الشاطئ الشرقي. وتقول الرواية العربية إن المدينة وقت الفتح كان يحيط بها سورٌ قوي، وإن جندها بقي يقاوم مدةً طويلة داخل هذا السور، فلما طال الحصار جمع «الهاموك» — حاكم المدينة — أصحابه وشاورهم في الأمر، فنصحه سوادهم بالتسليم، ولكنه خالفهم وظلَّ يقاوم، وكان له ابن يسمى شطا، فخرج إلى المسلمين في الليل، ودلَّهم على عورات البلد، فلم يشعر الهاموك إلا والمسلمون يُكبِّرون على سور المدينة ويدخلونها، ثم سار الجيش العربي إلى تنيس، فلقي من حصانة موقعها — كجزيرة تحيط بها المياه — ومن حاميتها نضالًا أشدَّ وأعنف. وتعود الرواية العربية فتذكر أنه عندما اشتدَّ النضال للاستيلاء على تنيس تقدَّم شطا لمساعدة العرب — ومعه ألفان من الجند — فأعلن إسلامه، واشترك في قتال أهل تنيس فأبلى بلاءً حسنًا إلى أن استشهد في ليلة الجمعة النصف من شعبان سنة ٢١ﻫ (١٩ يوليو ٦٤٢) فقُبر حيث هو الآن خارج دمياط.

وهذه الرواية العربية لا تقف طويلًا أمام النقد التاريخي؛ فإن مدينة شطا — التي يقال إنها سميت باسم هذا القائد المدفون بها — كانت موجودة ومعروفة بهذا الاسم قبل الفتح، كما أن حاكم دمياط في ذلك الوقت معروف أيضًا، وقد ذكر المؤرخ حنا النقيوسي أنه كان يسمى «حنا» لا «شطا» ولا «الهاموك»، غير أننا مع هذا لا نستطيع أن نتجاهل بعض الحقائق الثابتة المتَّصلة بهذا الحادث؛ فالمؤرخون العرب يذكرون أن هذا البطل قد استشهد يوم الجمعة النصف من شعبان سنة ٢١ﻫ، وهذا التاريخ يقابل التاسع عشر من يوليو سنة ٦٤٢م، وهو العام الذي تم فيه فتح هذه المنطقة، كما أن التقاويم تثبت أن هذا اليوم كان يوم جمعة حقًّا، فإذا قرنَّا هاتين الحقيقتين بحقيقةٍ ثالثة، وهي وجود قبرٍ خاص في قرية شطا لا يزال قائمًا، ولا يزال أهالي دمياط يحتفلون بذكرى صاحبه في النصف من شعبان من كل سنة حتى اليوم، استطعنا أن نصل إلى حلٍّ معقول، وهو أن قائدًا رومانيًّا انضم إلى العرب فعلًا أثناء حربهم لدمياط وتنيس، وأنه استُشهد في هذا التاريخ ودُفن في هذا المكان، أما اسمه الحقيقي فلسنا نعرفه، ولكن هذا الاسم لم يكن شطا على كل حال، وإذا كان كذلك فإنه لم يكن قطعًا حاكمًا لدمياط أو ابنًا لحاكمها.

(٢) دمياط في عصر الإمارة

وخلصت مصر للعرب بعد إتمام فتحها، وعُيِّن على دمياط وتنيس ولاة من المسلمين يحكمونهما، غير أن معظم أهليهما ظلُّوا على دينهم المسيحي سنينَ طويلةً بعد ذلك، ولم تنسَ الدولة البيزنطية أنها قد فَقدتْ — بخروجها من مصر — خير أملاكها؛ فظلَّت قرونًا طويلة تغير على شواطئ مصر الشمالية بأساطيلها؛ عساها تستطيع استردادها، وكانت أولى هذه المحاولات في عهد الوالي العربي الثاني على مصر «عبد الله بن سعد بن أبي السرح» ولكن أساطيل الروم هُزمت في موقعة ذات الصواري، ولم تُثنِهم هذه الهزيمة عن عزمهم، فظلُّوا يُغِيرون على سواحل مصر، وإنما اتجهت غاراتهم بعد ذلك عن الإسكندرية إلى موانئ مصر الشرقية: الفرما وتنيس ودمياط؛ مما دفع الخلافة الإسلامية وولاة مصر من العرب إلى العناية كل العناية بتحصين هذه الموانئ وتزويدها بالحاميات تقيم وترابط فيها دائمًا للدفاع عنها برًّا وبحرًا.

وقد قام جند دمياط وحاميتها في القرون الإسلامية الأولى بواجبهم خير قيام، فردُّوا عن المدينة غزوات الروم المتتابعة، كما كانوا يُسهِمون في إخضاع الثورات الداخلية التي كان يقوم بها سكان الحوف الشرقي (أي الأراضي الواقعة شرقي الدلتا)، وكانت غالبيتهم من الأقباط.

تعدَّدت غارات الروم على دمياط في القرون الثلاثة الهجرية الأولى، وقد أشار المؤرخون إلى بعضها، وهي التي حدثت في السنوات: ٩٠ﻫ/٧٠٩م و١٢١ﻫ/٧٣٨م و٢٣٨ﻫ/٨٥٣م و٢٤٥ﻫ/٨٥٩م و٢٤٧ﻫ/٨٦١م و٣٥٧ﻫ/٩٦٨م، وكانت أخطر هذه الغارات وأهمها الغارة التي وفدت على دمياط في سنة ٢٣٨ﻫ/٨٥٣م في عهد ولاية عنبسة بن إسحاق على مصر.

ففي تلك السنة وَفَد الروم إلى دمياط يحملهم أسطولٌ كبير يزيد على ثلاثمائة سفينة، واستطاعوا أن ينزلوا إلى المدينة ويستولوا عليها، فقتلوا عددًا كبيرًا من سكانها وسبَوا النساء، وساعدهم على هذا كله خلوُّ المدينة وقتذاك من حاميتها وجندها، فقد انتهز والي مصر «عنبسة بن إسحاق» فرصة عيد الأضحى من تلك السنة، وأراد أن يحتفل بطهور ولديه حتى يجمع بين العيد والفرح، واحتفل لهذا احتفالًا كبيرًا، فدعا إليه حاميات دمياط وتنيس والإسكندرية ليشتركوا في هذا الحفل، ويبدو أنه كان للروم عيون وجواسيس في هذه الثغور، فأبلغوهم خبر استدعاء حامياتها، فانتهزوا هذه الفرصة السانحة، وانقضُّوا على دمياط صباح يوم عرفة، فقتلوا ونهبوا وأسروا. ولكن الكتب التاريخية تروِي أن عنبسة كان قد غضب على قائد من قوَّاد دمياط يُدعى أبو جعفر بن الأكشف؛ فسجنه في بعض أبرجة المدينة، فلما اشتدَّ الخَطْب بنزول الروم، مضى إلى أبي جعفر في سجنه بعضُ أعوانه، فكسروا قيده وأخرجوه، والتفُّوا حوله، وانضمَّ إليهم نفر من أهل المدينة وتقدَّموا جميعًا لمحاربة الروم حتى هزموهم وأخرجوهم من المدينة، فنزحوا عنها إلى تنيس فلم يقدروا عليها، وعادوا إلى بلادهم.

وبلغ الخبر إلى عنبسة في عاصمته — الفسطاط — فنفر في الحال بجند مصر، ولكنه وصل إلى دمياط متأخرًا بعد مغادرة الروم لها، فأخذ يُعنَى بتحصين المدينة.

وأخبار الفتح العربي لمصر تروي أن دمياط كان يحيط بها سور، فلعلَّه أنشئ في عهد الرومان. وأخبار هذه الغارة تروي أيضًا أن أبا جعفر بن الأكشف سُجن في بعض أبرجة المدينة، فالمدينة إذن كان لها سورٌ قديم، وكان بها بعض الأبرجة والحصون، ولكن نجاح هذه الغارة يُبيِّن أن هذه التحصينات جميعًا كانت قد تهدَّمت وتشعَّث بنيانها؛ لهذا لم يكن من الغريب أن يأخذ الذعر من الخليفة العباسي المتوكل مأخذه عندما تصله أخبار هذه الغارة الخطرة؛ فيرسل في الحال إلى واليه على مصر يأمره ببناء أسوارٍ قوية تحيط بثغور مصر الشرقية: دمياط وتنيس والفرما. وأسرع عنبسة بتنفيذ أوامر الخليفة؛ فبدأ في بناء سور دمياط وحصونها يوم الاثنين لثلاثٍ خلون من شهر رمضان سنة ٢٣٩ﻫ (٥ فبراير ٨٥٤م)، وفي نفس السنة بُنيت أسوار تنيس والفرما وحصونهما.

وكان لهذه الغارة أثرٌ خطيرٌ آخر؛ فقد أدرك الخليفة أيضًا أن هذه الأسوار والحصون لا تكفي للدفاع عن ثغورٍ تُطلُّ على البحر، وإنما الدفاع الحق عنها يكون بإنشاء الأساطيل؛ لأن الروم لا يفدون إليها إلا في البحر وفي أساطيل قوية، فأمر وَاليَه أن يُعنى بشئون الأساطيل. يقول المؤرِّخ المصري الكبير تقي الدين المقريزي تعقيبًا على أخبار هذه الغارة: «وأنشأ من حينئذٍ الأسطول بمصر.» ويقول في مكان آخر: «فوقع الاهتمام من ذلك الوقت بأمر الأسطول، وجُعلت الأرزاق لغُزاة البحر كما هي لغُزاة البر، وانتدب الأمراءُ له الرماة، فاجتهد الناس بمصر في تعليم أولادهم الرماية.» فالفضل في إنشاء أساطيل مصرية — سيكون لها شأن أي شأن في الدفاع عن سواحل مصر بعد ذلك، وفي حروب مصر الإسلامية — إنما يرجع إلى هذه الغارة.

ونحن نلاحظ أن العناية بتحصين دمياط برًّا وبحرًا في عهد المتوكل قد آتت ثمارها، فلم تَفِدْ على دمياط غارة بعد ذلك قويةٌ خطيرة كتلك التي وفدت في عهد عنبسة، وإنما كانت الغارات اللاحقة جميعًا غارات قرصنة هدفها الأول والأخير النهب والسلب، والأَسر والقتل، أما دمياط فبقيت سليمة تردُّ عادية المعتدين بفضل جندها وأهليها وحصونها وأساطيلها.

(٣) دمياط في العصر الفاطمي

وقد ازدهرت دمياط في العصر الفاطمي، وبدأت تتفوق على رصيفتيها تنيس والفرما، وتأخذ مكان الصدارة بين موانئ مصر الشرقية، وساعدها على هذا أن الفرع البلوزي أخذ منذ ذلك الحين يضيق وتطمره الرمال ويفقد أهميته شيئًا فشيئًا، بينما أخذ فرع دمياط يتَّسع وينطلق إلى البحر وتزيد أهميته ويكثر استعماله.

ولعل أكبر الدوافع التي دفعت الفاطميين للعناية بثغر دمياط أنه كان مركزًا هامًّا لصناعة النسيج، وتحيط به وتتبعه مدنٌ وقرًى كثيرةٌ كلها مراكز لصناعة النسيج أيضًا؛ فقد كانت مصر تنقسم إداريًّا وقتذاك إلى كُوَر (وواحدتها كورة)، وهي ما يقابل المديرية أو المحافظة في مصطلحنا الحديث. وكان الجزء الشمالي الشرقي من مصر يُكوِّن كورةً كبيرة واحدة تسمى «كورة تنيس ودمياط»، وللكورة — كما يتبين من اسمها — مركزان هامان، هما: تنيس ودمياط، لا تفضُل إحداهما الأخرى، وإنما كانتا تتناوبان في احتلال الصدارة بين مدن هذه الكورة، إلى أن ضعف شأن تنيس وتلاشت في العصر الأيوبي؛ فأصبحت دمياط هي المدينة الأولى بين مدن هذه الكورة.

وكان يتبع دمياط مدنٌ وقرًى كثيرةٌ لها ذكر ومقامٌ ملحوظ في أقوال المؤرخين؛ لأنها كانت جميعًا مراكز هامة — كما ذكرنا — لصناعة النسيج، وأهم هذه المدن: شطا وتنيس وتونة وبورة ودبيق.

وكان يلي دمياط وتنيس دائمًا واليان من قبل والي مصر العام، ثم من قبل الخلفاء الفاطميين بعد ذلك، كما كان يشرف على القضاء في مصر كلها قاضٍ أكبر، وهو الذي لُقِّب في أول العصر الفاطمي بقاضي القضاة، وكان هذا القاضي الأكبر — أو قاضي القضاة — يُعيِّن من قبله قضاة ينوبون عنه في الحكم بالمدن الكبيرة كدمياط وتنيس، وكان هذا القاضي يتخذ مقره في تنيس أحيانًا وينيب عنه بدوره من يتولى عنه الحكم في دمياط، وقد يحدث العكس، أو قد يتولى الحكم بنفسه في المدينتين متنقلًا بينهما.

ويستفاد من كلام الكندي وهو يُؤرِّخ لبعض قضاة دمياط أن قاضي هذه المدينة في العصر الفاطمي كان يمكث بها تسعة أشهر للنظر في القضايا والأحكام، ثم يعود إلى الفسطاط فيقيم بها «ثلاثة أشهر: رجب وشعبان ورمضان … بحسب العادة.»

وكان في كلٍّ من دمياط وتنيس في العصر الفاطمي مُحتسِب خاص — يعيَّن من قبل محتسِب القاهرة — للإشراف على شئون المدينتين الاجتماعية والاقتصادية.

والدولة الفاطمية نشأت أول ما نشأت في تونس، وكانت تسمى وقتذاك إفريقية، وهي إقليم يُطلُّ على البحر الأبيض المتوسط؛ ولهذا عُني الفاطميون — وهم لا يزالون في إفريقية — عنايةً فائقة بالأسطول، فأنشئوا السفن الكثيرة وزوَّدوها بالرجال والعتاد، وقد أسهمت أساطيلهم مساهمةً فعالة في غاراتهم المتتالية على مصر حتى تم لهم فتحها في سنة ٣٥٨ﻫ.

فلما انتقلوا إلى مصر لم تقلَّ عنايتهم بالأساطيل، بل زادت، ويقال إن المعز — أول خلفائهم بمصر — أنشأ في عهده أسطولًا يتكون من ستمائة سفينة.

وكانت هذه السفن الحربية تُبنى فيما كان يسمى في العصور الإسلامية: «دار الصناعة» أي دار صناعة السفن، وكان في الفسطاط قبل العصر الفاطمي دار صناعة فأبقى عليها الفاطميون، وأنشئوا إلى جانبها دار صناعة جديدة في «المقس» — ميناء القاهرة — وكان هناك لا شك دار صناعة في دمياط منذ بُدئ بإنشاء الأسطول في عهد عنبسة، كما كانت هناك دار صناعة أخرى في الإسكندرية.

وقد عُني الفاطميون عنايةً زائدة بهذه الدور، وخاصة دار صناعة دمياط؛ فقد دخلت بلاد الشام في ملكهم، ودمياط أقرب موانئ مصر لهذه البلاد، كما أنها معرَّضة لغارات الصليبيين عليها، كما كانت معرَّضة لغارات البيزنطيين من قبلُ.

وكان الفاطميون يُعنَون بالأساطيل وتجهيزها والإشراف على الثغور عنايةً سنويةً دائمة لا تقف ولا تنقطع، وكان موعد هذه العناية في شهر برمهات من كل سنة عندما يصحو الجو، يقول المقريزي: «وفي برمهات تجري المراكب السفرية في البحر الملح إلى ديار مصر من المغرب والروم، ويُهتم فيه بتجنيد الأجناد إلى الثغور كالإسكندرية ودمياط وتنيس ورشيد، وفيه كانت تجهز الأساطيل ومراكب الشواني لحفظ الثغور.» وينص في مكانٍ آخر على أن سفن الأسطول كانت تُصنَع في دور الصناعة جميعًا في مصر والإسكندرية ودمياط، يقول: «وكان من أهم أمورهم (يقصد الفاطميين) احتفالهم بالأساطيل والأجناد، ومواصلة إنشاء المراكب بمصر والإسكندرية ودمياط من الشواني الحربية والشلنديات والمسطحات إلى بلاد الساحل حين كانت بأيديهم، مثل صور وعكا وعسقلان.»

وكان أسطول دمياط يقوم على حمايتها من عدوان المُغير، كما حدث في عهد الخليفة الفاطمي الفائز، ففي جمادى الآخرة من سنة ٥٥٠ﻫ (أغسطس ١١٥٥م) وصل إلى دمياط أسطول صاحب صقلية في نحو ستين مركبًا «فعاثوا وقتلوا ونزلوا بتنيس ورشيد والإسكندرية فأكثروا فيها الفساد.» فتصدَّى لهم أسطول دمياط حتى ردهم.

وحدث أيضًا في خلافة العاضد — آخر خلفائهم — ووزارة شاور الثانية، أن نزل أسطول الصليبيين في عشرين شونة (أي سفينة حربية كبيرة) على تنيس فقتل وأسر وسبى، فتولى أسطول دمياط محاربة هذه السفن وردها.

هاتان هما الغارتان اللتان نزلتا على دمياط وما يجاورها طيلة العصر الفاطمي، إحداهما وفدت من صقلية، والثانية أرسلها الصليبيون في الشام، مما يبين في وضوح أن غارات البيزنطيين على شواطئ مصر قد انقطعت في العصر الفاطمي؛ ولعل السبب في هذا أن الدولة البيزنطية كانت قد أصابها الضعف والكلال، وأن العلاقات بين الفاطميين والبيزنطيين كانت في معظمها علاقاتٍ طيبة.

ولكننا نلاحظ أيضًا أن خطرًا مسيحيًّا جديدًا أخذ يظهر في الأفق، ويُهدِّد دمياط وسواحل مصر، كان يمثل هذا الخطر أساطيل النورمانديين في صقلية، وأساطيل الصليبيين في سواحل الشام بعد استيلائهم عليها في أعقاب الحملة الصليبية الأولى في أواخر القرن الخامس الهجري (١١م).

غير أن واجب الأسطول المصري في العصر الفاطمي لم يكن مقصورًا على الدفاع عن الشواطئ فحسب، وإنما كان واجبه الأصلي الخروج إلى مياه البحر الأبيض المتوسط للغزو، وكانت الأساطيل تخرج للغزو من ثغر دمياط — لا من الإسكندرية — فإذا عادت بغنائمها نزلت عليه أولًا.

وكان الخلفاء الفاطميون يحتفلون بالأساطيل عند خروجها للغزو احتفالًا كبيرًا رائعًا، فقد كان لهم منظرة بالمقس (ميناء القاهرة) يجلس فيها الخليفة لوداع الأسطول قبل خروجه للغزو، ولاستقباله إذا عاد، وكانت العادة إذا تم إعداد الأساطيل أن يجلس الخليفة في هذه المنظرة وبين يديه الوزير، ويأتي القواد بالسفن من دار الصناعة بالفسطاط حتى يصلوا بها إلى المقس، فيقومون بعرض حربي بحري جميل، فتتحرك السفن في النيل بين يدي الخليفة «وهي مُزيَّنة بأسلحتها ولبوسها، وفيها المنجنيقات، تلعب فتنحدر، وتقلع بالمجاذيف، كما يفعل في لقاء العدو بالبحر الملح، ويحضر بين يدي الخليفة المقدم والرئيس، فيوصيهما، ويدعو للجماعة بالنصرة والسلامة … إلخ.» هكذا وصف المقريزي في خططه حفلة العرض البحري قبل خروج الأساطيل المصرية للغزو في العصر الفاطمي، ثم استطرد فنص في وضوحٍ تام على أن هذه الأساطيل كانت تخرج للغزو من ثغر دمياط، قال: «وتنحدر إلى دمياط، وتخرج إلى البحر الملح، فيكون لها ببلاد العدو صيت وهيبة، فإذا وقع لهم مركب لا يسألون عما فيه سوى الصغار والرجال والنساء والسلاح، وما عدا ذلك فللأسطول.» أي أن رجال الأسطول كانوا يقدمون للدولة أسراهم من الأطفال والرجال والنساء، وغنيمتهم من السلاح، أما غنائمهم من الأموال والمتاع فكانت تترك لهم جزاءً وفاقًا على بلائهم في الغزو.

وقد وصلتنا أخبار قليلة عن بعض هذه الغزوات البحرية وانتصاراتها في العصر الفاطمي، وكيف كانت تستقبل عند عودتها، وماذا كان يُفعل بأسراها.

ذكر المقريزي أنه قدم على الأسطول مرة أمير يقال له: حرب بن فور، فكسب بطسة (أي سفينة حربية كبيرة) حصل فيها خمسمائة رجل.

واتفق مرة أن قدم على الأسطول قائد آخر يدعى سيف الملك الحمل، فخرج للغزو، وأسر بطسة عظيمة فيها ألف وخمسمائة شخص، بعد أن قتل منهم نحوًا من مائة وعشرين رجلًا، وعاد بالسفينة والأسرى إلى دمياط، ثم صعد بها إلى القاهرة، فخرج الخليفة إلى منظرة المقس، واحتفل بعودته احتفالًا رائعًا، وأطلق الأسرى بين يديه، «واستُدعيت الجمال لركوبهم، وشق بهم القاهرة ومصر، وهم كل اثنين على جمل ظهرًا لظهر.»

(٤) دمياط في العصر الأيوبي

وفي منتصف القرن السادس الهجري (١٢م) قُضي على الدولة الفاطمية الشيعية وخلفتها في حكم مصر دولةٌ جديدةٌ سنية المذهب هي دولة بني أيوب. وفي عهد بني أيوب لعبت دمياط دورًا خطيرًا في تاريخ مصر السياسي والحربي، فقد كثرت غارات الصليبيين العنيفة على هذا الثغر، ولكن دمياط صمدت لهذه الغارات، ودافعتها ودفعتها في شجاعة وبطولة.

(٤-١) في عصر صلاح الدين

بدأت هذه الغارات في سنة ٥٦٥ وصلاح الدين لا يزال بعدُ وزيرًا للعاضد، ففي الثالث من صفر من تلك السنة وصلت إلى دمياط أساطيل الصليبين في نحو ألف مركب تحمل مائتي ألف فارس وراجل، واستطاعوا أن ينزلوا بالبر، وظلوا يحاصرون المدينة ثلاثة وخمسين يومًا؛ فأسرع صلاح الدين وأرسل إليها الجيوش بقيادة ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه وخاله شهاب الدين الحارمي، وأسرع الخليفة العاضد فقدَّم لصلاح الدين كل مساعدةٍ ممكنة، ثم خرج صلاح الدين بنفسه ليشرف على القتال في دمياط، ووصلت أخبار هذه الحملة إلى نور الدين في الشام؛ فأرسل إليه الأمداد، وخرج نور الدين بنفسه لمناوشة أملاك الصليبيين في الشام، فاضطروا أمام هذا وذاك أن يغادروا المدينة في الحادي والعشرين من ربيع الأول بعد هذا الحصار الطويل دون أن يصيبوا منها شيئًا، وبعد أن «غرق لهم نحو ثلاثمائة مركب، وقَلَّت رجالهم بفَناءٍ وقع فيهم، وأحرقوا ما ثقل عليهم حمله من المنجنيقات وغيرها.»

واجه صلاح الدين هذه الشدة العظمى في دمياط وهو لا يزال يخطو خطواته الأولى نحو مُلك مصر؛ لهذا نجده يُعنى بهذا الثغر وبتحصينه — في قابل أيامه — عنايةً خاصة، ففي الثاني والعشرين من شعبان سنة ٥٧٢ (فبراير ١١٧٧م) — وقد استقلَّ صلاح الدين بمصر — خرج من القاهرة فقصد إلى دمياط لزيارتها، وكان في صحبته ولداه: الأفضل علي، والعزيز عثمان، وكاتبه العماد الأصفهاني، فمكث بالمدينة يومين ثم رحل منها إلى الإسكندرية، وقد حدد العماد الأصفهاني الغرض من هذه الزيارة بقوله: «ورأى (أي صلاح الدين) في الحضور بالثغر المذكور ومشاهدته الاحتياط.» كما ذكر أن سفن الأسطول بدمياط كانت قد خرجت للغزو وعادت بسبيٍ كثير، قال: «وكان له سبيٌ كثير جلبه الأسطول.»

وفي سنة ٥٧٧ (١١٨١-١١٨٢) كان قد مضى على صلاح الدين منذ استقلَّ بمصر عشر سنوات، وأراد أن يرحل إلى الشام ليوفِّر جهوده كلها لتحقيق هدفه الأسمى وهو محاربة الصليبيين وطردهم من البلاد الإسلامية، ولكنه أراد — قبل أن يغادر مصر — أن يستوثق من مناعتها وقوة حصونها وثغورها، ففي هذه السنة بدأ بناء قلعة الجبل بالقاهرة، وفيها (في ربيع الأول) أغار الفرنج على تنيس واغتصبوا مركبًا للتجَّار؛ فاشتدَّ خوف أهلها، وأرسل السلطان رجاله لعمارة قلعة تنيس وتجديد الآلات بها، فقدروا «لعمارة سورها القديم على أساساته الباقية مبلغ ثلاثة آلاف دينار.» وفيها أيضًا انتشر الخبر بأن (الابرنس أرناط) صاحب الكرك على عزم الخروج إلى أيلة ومنها إلى تيماء رغبة في الاستيلاء على المدينة المنورة «فورد الخبر من نائب قلعة أيلة بشدة الخوف من الفرنج.»

واتخذ صلاح الدين لهذا الخطر عدته، فاستدعى خمسين مركبًا من مراكب دمياط لتشارك في حماية ساحل مصر (الفسطاط)، وأمر ببناء برج في السويس فيه الفرسان لحفظ طريق الصعيد، وأمر بعمارة قلعة تنيس وأسوارها — كما سبق أن ذكرنا — وكتب إلى دمياط بترتيب المقاتلة على البرجين، ورُمَّ شعث سور المدينة، وسُدَّت ثلمه، وأتقنت السلسلة التي بين البرجين، يقول المقريزي: «فبلغت النفقة على ذلك ألف ألف دينار.»

وفي شعبان من نفس السنة شرع في إصلاح سور دمياط وبناء ما تهدَّم منه، وكان ذرع هذا السور كما نص المقريزي: «أربعة آلاف وستمائة وثلاثون ذراعًا» كما شرع في بناء برجٍ جديد بالمدينة.

ولم يقنع صلاح الدين بهذه الأوامر يصدرها، وإنما رحل بنفسه في شهر شوال إلى مدينة الإسكندرية فأشرف على حصونها وأسوارها، وتركها في أول ذي القعدة، فسار إلى دمياط وأشرف بنفسه أيضًا على ما تم من إصلاح أسوارها وتحصين قلاعها وأبراجها وسلسلتها ثم عاد إلى القاهرة.

وظلَّت العناية بدمياط وتنيس دائبةً مستمرة حتى آخر سنة من حياة صلاح الدين، ففي سنة ٥٨٨ — أي قبل وفاته بسنة واحدة — صدر الأمر بإخلاء تنيس ونقل أهلها إلى دمياط، فخلت تنيس إلا من المقاتلة، كما صدر الأمر بحفر خندق حول دمياط وعُمِل جسر عند سلسلة البرج بها.

هذه هي دمياط حتى آخر عهد صلاح الدين، قد عُني بتحصينها العناية الفائقة فحُفر حولها خندق يحميها، ورممت أسوارها ترميمًا شاملًا، وبُني بها برجٌ جديد، وجُدِّدت سلسلتها، وبُني عندها جسر لحمايتها، وشُدَّت إليها السفن لتقاتل عنها المغيرين، وشُحنت هذه الحصون جميعًا بالمقاتلة، وزيد عددهم، وزادت النفقة عليهم.

ولم تنقطع العناية بدمياط في عهد خلفاء صلاح الدين، بل استمرت وزادت، فالمؤرخون يروون أن العزيز بن صلاح الدين، عزم في ذي الحجة من سنة ٥٩٢ (أكتوبر ١١٩٥) «على نقض الأهرام ونقل حجارتها إلى سور دمياط، فقيل له: إن المئونة تعظم في هدمها والفائدة تقل من حجرها، فانتقل رأيه من الهرمين إلى الهرم الصغير وهو مبني بالحجارة الصوان، فشرع في هدمه.» ولكن هؤلاء المؤرخين لم يذكروا بعد هذا هل نقلت حجارة هذا الهرم الصغير فعلًا لتحصين سور دمياط أو أنها استخدمت في أغراضٍ أخرى.

وفي عهد العادل أبي بكر — أخي صلاح الدين — أرسل في سنة ٥٩٩ — وهو بالشام — جندًا من رجالها لحفظ دمياط من الفرنج.

(٤-٢) في عهد الملك الكامل محمد

وفي أواخر عهد الملك العادل أبي بكر أصاب الحروب الصليبية انقلابٌ جديدٌ خطير؛ فقد لاحظ الصليبيون أن مصر هي حصن الإسلام القوي وضيعته الغنية، وأنها مصدر الأمداد القوية الوفيرة من الرجال والميرة والسلاح، وبفضل هذا كله استطاع صلاح الدين أن ينتصر عليهم انتصاراته الحاسمة، ويستعيد منهم بيت المقدس والكرك والشوبك وغيرها من عشرات المدن والقرى؛ لهذا كله قرَّ رأيهم على أن يبدءوا بمصر، فإذا استولوا عليها فقد سهل عليهم كل شيء، واستطاعوا في يسر أن يستعيدوا بيت المقدس، بل ويملكوا الشام كله.

بدءوا هذا الاتجاه في سنة ٦١٥ / ١٢١٨م والملك العادل يناضلهم في الشام، وفي مصر ابنه الملك الكامل محمد ينوب عنه في الحكم.

واتخذ الصليبيون لهذا الأمر عُدَّته، ووصلتهم الأمداد الوفيرة من ممالك أوروبا المختلفة، فلما تكامل عددهم أبحروا — بقيادة جان دي بريين ملك بيت المقدس — من عكا إلى دمياط في أسطولٍ ضخمٍ كثير العدد يحمل نحو السبعين ألف فارس وأربعمائة ألف رجل، ووصلوا إلى شواطئ دمياط، ونزلوا ببرِّها الغربي يوم الثلاثاء رابع ربيع الأول من سنة ٦١٥ (يونيو ١٢١٨م)، وكان هذا البر الغربي يسمى جزيرة دمياط وهي تسمية مجازية لأن مياه البحر تُحيط به شمالًا، ومياه النيل تُحيط به شرقًا، كما كان يُسمَّى أيضًا جيزة دمياط، والجيزة في اللغة الناحية، أو لعله سمي كذلك لأنه يُجاز إليه من دمياط.

وعسكرَ الصليبيون في جموعهم الحاشدة بهذا البرِّ الغربي تجاه دمياط وحصنوا معسكرهم، فحفروا حوله خندقًا وأحاطوه بسور وستائر.

وكانت دمياط — كما سبق أن أسلفنا — مدينةً حصينة غاية الحصانة تحيط بها الأسوار والقلاع والأبراج القوية الضخمة، ويحيط بهذه الأسوار الخندق الذي أنشئ في أواخر عهد صلاح الدين، وكان عند مدخل فرع دمياط برجٌ ضخم مشحون بالمقاتلة والسلاسل الحديد المتينة تمتد منه إلى برجٍ مقابل على شاطئ دمياط لمنع سفن العدو من العبور في النيل والوصول إلى المدينة، وكان هذا البرج هو مفتاح دمياط، لا يمكن للصليبيين الوصول إليها إلا إذا استولوا عليه؛ ولهذا توفَّرت جهودهم كلها في أول الأمر للاستيلاء على هذا البرج المنيع، واستعانوا لتحقيق هذا الهدف ببناء أبراج خشبية عالية أقاموها على سفنهم وتقدموا بها إلى البرج لمحاربة جنده وحاميته، ولكن هؤلاء الجند استطاعوا أن يردُّوهم أكثر من مرة.

figure
الفرنج ينزلون بدمياط في عهد الملك الكامل.

ووصلت أخبار نزول الصليبيين إلى بَرِّ دمياط الغربي إلى الملك الكامل؛ فخرج بجيشه متجهًا إلى الشمال، وأرسل الأساطيل إلى دمياط، وأمر الولاة بجمع العربان، ونزل الكامل بمنزلة العادلية قرب دمياط، وعسكر بها، هذا والملك العادل يرسل إليه المدد تلو المدد من الشام ليستعين بها جميعًا في محنته.

وظل البرج يقاوم ويمانع أربعة أشهر طوالًا، وأخيرًا بنى الفرنج برجًا عاليًا ضخمًا وأقاموه على بسطةٍ كبيرة، وتقدموا به تحت وابل من سهام المصريين إلى أن أسندوا برجهم إلى البرج المدافع، وقاتلوا به قتالًا عنيفًا إلى أن استولوا على برج دمياط.

وكان استيلاؤهم على هذا البرج حادثًا خطيرًا أليمًا؛ فقد سهل لهم الاستيلاء على المدينة بعد ذلك. ويكفي للدلالة على خطورة هذا الحادث أن نذكر أن الملك العادل عندما سمع بخبره وهو مقيم بمرج الصفر بالشام تأوَّه تأوهًا شديدًا، ودقَّ بيده على صدره أسفًا وحزنًا، ومرض من ساعته، ثم لم يلبث أن مات من حسرته بعد أيام.

وخلص مُلكُ مصر للملك الكامل محمد، فاشتد ثقل العبء الملقى على كتفيه؛ لأن الصليبيين أقدموا بعد استيلائهم على البرج فحطَّموا سلاسله لتجوز مراكبهم في نهر النيل، فاضطر الكامل لإقامة جسر عظيم جنوبي البرج لمنعهم، ولكنهم قاتلوا عليه قتالًا شديدًا إلى أن قطعوه. ويقال إن الكامل صرف على البرج والجسر في ذلك الوقت ما ينيف على سبعين ألف دينار، ثم لم ييئس، وإنما أمر أن تُغرَق عدة من السفن في عرض النيل تمنع سفن الصليبيين من العبور جنوبًا، واحتال الفرنج على هذا الإجراء الأخير حيلةً ماكرة؛ فقد كان هناك على البرج الغربي خليجٌ قديم يعرف بالخليج الأزرق، كان يجري فيه النيل فيصبُّ في البحر ولكن الرمال طمرته، فأعادوا حفره، وأصعدوا فيه سفنهم حتى وصلت إلى مدينة بورة التي تقابل منزلة العادلية حيث يُعسكر الكامل بجيوشه، وبدأت المناوشات بين الجيشين.

كل هذا ودمياط لا زالت آمنة سالمة وسورها يحميها وأبوابها مُفتَّحة، والميرة والأمداد تصل إليها دون انقطاع، والنيل لا يزال يفصل بينها وبين العدو، والعربان تقضُّ مضاجع الصليبيين فتتخطفهم من معسكراتهم في الليل، حتى «امتنعوا من الرقاد خوفًا من غاراتهم»، وقامت رياحٌ عاصفة فقطعت مراسي مرمة الفرنج (وهي سفينة ضخمة جدًّا مشحونة بالميرة والسلاح) ويقول عنها المقريزي: «وكانت من عجائب الدنيا، فمرَّت إلى بر المسلمين فأخذوها، فإذا هي مُصفَّحة بالحديد لا تعمل فيها النار، ومساحتها خمسمائة ذراع، فكسروها فإذا فيها مسامير زِنَةُ الواحد منها خمسة وعشرون رطلًا.»

ولو سارت الأمور سيرها الطبيعي لما وصل الصليبيون إلى دمياط، ولكن البلاء نبت في معسكر المسلمين نفسه، فقد انتهز أحد أمرائهم الكبار ويدعى عماد الدين أحمد بن المشطوب فرصة موت الملك العادل، واستمال إليه عددًا من قواد الجيش، وحاول أن يخلع الكامل ويولِّي مكانه أخاه الملك الفائز. وعلم الكامل بالمؤامرة فخشي على نفسه، فترك معسكره بالعادلية في الليل وانسحب جنوبًا إلى أشموم طناح، وأصبح الجند بغير سلطان؛ فتفرقت كلمتهم «وتركوا أثقالهم وخيامهم وأموالهم وأسلحتهم ولحقوا بالسلطان.» ورحَّب الفرنج بالفرصة المواتية، ونزلوا إلى البر الشرقي يوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة دون أن يلقوا أية مقاومة، واستولوا على جميع ما كان في معسكر المسلمين «وكان شيئًا لا يحيط به الوصف.» وعسكروا في البر الشرقي، وحصنوا معسكرهم كالمعتاد فحفروا حوله خندقًا وبنوا سورًا، وبدءوا يحاصرون دمياط، ولكن أهلها صمدوا للقتال وقاوموا مقاومةً مجيدةً عنيفة، وخضعوا إبان هذا الحصار لشدائدَ مريرةٍ، فقلَّت الأقوات عندهم، وكان بالمدينة — غير أهلها — عشرون ألف مقاتل، فلما طال بهم الحصار أنهكتهم الأمراض وغلت الأسعار حتى بيع رطل السكر بمائة وأربعين دينارًا، والدجاجة بثلاثين، وراوية الماء بأربعين درهمًا، واحتال السلطان للاتصال بأهل دمياط لتشجيعهم وتقوية روحهم المعنوية؛ فانتدب لذلك رجلًا من جنوده يدعى شمائل، فكان يسبح في الماء بعيدًا عن أعين الفرنج حتى يصل إلى أهل دمياط فيعدهم بوصول النجدات.

وطال الحصار بالمدينة ستة عشر شهرًا واثنين وعشرين يومًا، حتى اشتد بهم الضيق وعدمت لديهم الأقوات، وامتلأت الطرقات والمساكن بالموتى، وتسوَّر الفرنج المدينة أخيرًا ودخلوها في يوم الثلاثاء لخمسٍ بقين من شعبان سنة ٦١٦ (نوفمبر ١٢١٩م)، فوضعوا السيف في الناس وأسرفوا في قتلهم، وجعلوا جامع المدينة كنيسة، وانبثُّوا في القرى المحيطة، وأخذوا يحصنون المدينة وأسوارها، ليتخذوها قاعدة يتقدمون منها نحو الجنوب.

وعسكر الملك الكامل قبالة طلخا عند مخرج بحر أشموم طناح (البحر الصغير الآن)، وشرع الجند يبنون الدور والفنادق والحمامات والأسواق في هذه المنزلة (وقد سميت بعد ذلك المنصورة تيمنًا بانتصار الكامل)، وكان قد أرسل الرسل إلى ملوك الأيوبيين في الشام من إخوته وأقاربه يسألهم النجدة والمعونة، فوصله في ذلك الوقت أخوه الملك المعظم عيسى بجيشٍ كبير، فقوَّى به قلبه، وخاصة أنه سعى بعد وصوله فأنجاه من ورطته بإبعاد أخيه الفائز وابن المشطوب إلى الشام، فهدأت الفتنة، ووصلت نجدةٌ أخرى من حماة بقيادة المظفر الثاني ابن أخت الملك الكامل في جيشٍ كثيف؛ ففرح بوصولها، ثم وصلت نجدةٌ كبرى بقيادة الملك الأشرف موسى أخي الكامل، وبلغت بذلك عدة فرسان المسلمين نحو أربعين ألف فارس، فقويت قلوب المسلمين، وبدءوا يستعدُّون للمعركة الحاسمة.

وتقدم الصليبيون — بعد تحصين دمياط — وبعد أن وصلتهم أمدادٌ وفيرة العدد نحو الجنوب في حدِّهم وحديدهم، ونزلوا قبالة جيش المسلمين شمال بحر أشموم طناح، ولا يفصل بين المعسكرين غير هذا البحر.

واشتد القتال بين الفريقين، وأبلى المسلمون بلاءً حسنًا، فاستولوا على نحو تسع سفن كبيرة من سفن الفرنج التي تحمل إليهم الميرة من دمياط، وأسروا منهم ألفين ومائتين، ثم احتال الكامل فأرسل سفنًا من أسطوله بقيادة الأمير بدر الدين بن حسون في بحر المحلة، وهو فرع كان يخرج من النيل قرب بنها الحالية، ويتصل به ثانية شمالي المنصورة؛ فحالت هذه السفن بين مراكب الفرنج الآتية من الشمال بالميرة وبين الوصول إلى معسكرهم عند المنصورة، ثم عبر جماعة من المسلمين في بحر المحلة هذا إلى الأرض التي يعسكر عليها الفرنج «وحفروا مكانًا عظيما في النيل، وكان في قوة الزيادة؛ فركب الماء أكثر تلك الأرض، وصار حائلًا بين الفرنج ومدينة دمياط، وانحصروا فلم يبقَ لهم سوى طريق ضيقة، فأمر السلطان في الحال بنصب الجسور عند أشموم طناح؛ فعبرت العساكر عليها، وملكت الطريق التي يسلكها الفرنج إلى دمياط إذا أرادوا الوصول إليها، فاضطربوا وضاقت عليهم الأرض.»

وفتَّ ذلك كله في عضد الفرنج، واضطربت أحوالهم وبدءوا يفاوضون الكامل، ويعرضون أن يتركوا دمياط مقابل أن تعاد إليهم القدس وعسقلان وطبرية وجبلة واللاذقية والكرك والشوبك وغيرها من المدن الكثيرة التي كان قد استعادها منهم البطل صلاح الدين، وقَبِل الكامل أول الأمر أن يسلِّم لهم هذه المدن جميعًا عدا الكرك والشوبك لمكانتهما الحربية، ولكنهم أصرُّوا على طلباتهم، فلما أحيط بهم من الشمال، وأصبحوا محاصرين بالمسلمين من كل الجهات، أدركوا أنهم هزموا فهدموا خيامهم ومجانيقهم وألقوا فيها النار، وهمُّوا بالزحف على المسلمين ومقاتلتهم للعودة إلى دمياط «فحال بينهم وبين ذلك كثرة الوحل والمياه الراكبة على الأرض، وخشوا من الإقامة لقِلَّة أقواتهم، فذلُّوا وسألوا الأمان على أن يتركوا دمياط للمسلمين» دون قيد أو شرط.

وبدأ الكامل يستشير أهله وأصحابه، فأشار عليه البعض أن يواصل القتال حتى يتمَّ له النصر النهائي، وأشار البعض الآخر أن يعطي الفرنج الأمان إجابة لطلبهم، وتغلَّب الرأي الأخير خوفًا من أن يصل إلى الفرنج مددٌ جديد فيستأنفون القتال، واتفق الفريقان على أن يقدِّم كل منهما رهائن للآخر حتى يتم تسليم دمياط، فأرسل الفرنج عشرين ملكًا من ملوكهم رهائن عند الملك الكامل، وأرسل الكامل ابنه الصالح نجم الدين أيوب وعددًا من قُوَّاده، وجلس الكامل مجلسًا عظيمًا لاستقبال هؤلاء الملوك الرهائن، وحوله إخوته وأهل بيته «وصار في أبهة وناموس مهاب.» وخرج قُسوس الفرنج ورهبانهم إلى دمياط، فسلَّموها للمسلمين تاسع عشر رجب سنة ٦١٨، فلما تم تسليمها بعث الفرنج الصالح نجم الدين ومن معه من الأمراء، كما أطلق الكامل رهائنه من الملوك، واتفق الفريقان بعد هذا على هدنة مداها ثمانية أعوام، وعلى أن يُطلِق كل منهما مَن عنده من الأسرى. ودخل الملك الكامل دمياط وفي ركابه إخوته وقواده وعساكره، «وكان يوم دخوله إليها من الأيام المذكورة.» وأرسلت البشائر بأخذ دمياط إلى كل البلاد الإسلامية.

وهكذا نزح الصليبيون عن دمياط بعد أن قضوا فيها وعلى شاطئيها الغربي والشرقي ثلاث سنين، وأربعة أشهر، وتسعة عشر يومًا.

وتبارى شعراء العصر — كالعادة — في تمجيد هذا النصر والإشادة به، وكان أجمل ما قيل في هذه المناسبة قصيدة الشاعر الكبير شرف الدين بن عنين التي قال فيها:

سَلوا صهوات الخيل يوم الوغى عنَّا
إذا جهِلتْ آياتنا والقَنا اللُّدنا
غداة الْتقَينا دون دمياطَ جحفلًا
من الرُّوم لا يُحصَى يقينًا ولا ظنًّا
وأطمَعهم فينا غرورٌ فأرقَلوا
إلينا سِراعًا بالجهاد وأرقلنا
فما برحتْ سُمر الرماح تَنُوشهم
بأطرافها حتى استجاروا بنا مِنَّا
بدا الموت من زُرق الأسنة أحمرا
فألقَوا بأيديهم إلينا، فأحسنَّا
وما برح الإحسان منا سجيةً
نُورِّثها من صيد آبائنا الابنا
وقد عَرفتْ أسيافُنا ورقابُهم
مواقعَها منا، فإن عاوَدوا عدنا
منحناهُمُ منا حياةً جديدةً
فعاشوا بأعناق مقلَّدة مَنًّا
ولو ملكونا لاستباحوا دماءنا
وُلوغًا، ولكنا ملكنا فأسجحنا

(٤-٣) في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب

باءت حملة «جان دى بريين» بالفشل، ولكن الصليبيين لم ينسَوا مشروعهم الجديد الذي كان يهدف إلى الاستيلاء على مصر ليسهل عليهم تحقيق أملهم، وهو امتلاك بيت المقدس وأراضي الشام جميعًا.

لهذا لم يكد يمضي على الحملة السابقة ثلاثون عامًا حتى أعدوا العدة للانقضاض على دمياط مرة ثالثة، ولم تأتِ الحملة هذه المرة من سواحل الشام، وإنما أتت من فرنسا، ففي ٢٥ أغسطس سنة ١٢٤٨م/٤ جمادی الأولى سنة ٦٤٦ أبحر من مياه فرنسا أسطولٌ ضخم يزيد على ١٨٠٠ سفينة تحمل ثمانين ألف مقاتل ومعهم عدتهم وسلاحهم ومئونتهم وخيولهم، وكان قائد هذه الحملة الملك القديس لويس التاسع ملك فرنسا.

ومرت هذه الحملة — في طريقها إلى مصر — بجزيرة قبرص، فقضت بها بعض الوقت وقد أخطأت في هذا؛ لأنها لو اتخذت طريقها إلى مصر دون تلكؤ لفاجأت الجيش المصري قبل أن يستعدَّ ويتخذ للحرب أهبته.

ثم أقلعت الحملة من قبرص، ودمياط قبلتها، ولكن رياحًا عاصفة اعترضتها في طريقها، فاضطرت عددًا كبيرًا من سفنها — نحو ٧٠٠ سفينة — إلى الانفصال والجنوح إلى شواطئ الشام.

وكانت علاقات الودِّ والإخاء تربط بين ملوك الأيوبيين — منذ عهد الملك الكامل — وبين ملوك صقلية النورمانديين، ويقال إن ملك صقلية في ذلك الوقت — الملك فردريك الثاني — أرسل أحد رجاله متخفيًا في زي تاجر إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب — وكان مقيمًا في الشام حينذاك — ليبلغه نبأ هذه الحملة كي يستعدَّ لمقابلتها.

وكان الملك الصالح مريضًا مرضًا خطيرًا يعوقه عن ركوب فرسه، غير أنه انزعج لهذا الخبر، ولم يُبالِ بآلام مرضه، وأمر أن يُحمَل في مَحفَّة، وعاد مسرعًا إلى مصر، ونزل عند قرية أشموم طناح في المحرم سنة ٦٤٧ (أبريل ١٢٤٩م) وأصدر أوامره في الحال بالاستعداد.

figure
حملة لويس التاسع تغادر فرنسا إلى دمياط.

فشُحنت دمياط بالأسلحة والأقوات والجنود، وبعث إلى نائبه في القاهرة — الأمير حسام الدين بن أبي علي — يأمره بإعداد سفن الأسطول، ففعل وأرسلها إلى دمياط شيئًا بعد شيء، ثم أرسل الملك الصالح الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ على رأس جيشٍ كبير ليُعسكر في البر الغربي لدمياط ليكون في مقابلة الفرنج إذا قدموا.

هذه الحوادث الأولى وحوادث الحملة جميعًا تدل على أن المصريين أفادوا كل الفائدة من الحملة الماضية، كما تدل على أن الصليبيين لم يفيدوا شيئًا من أخطائهم في الحملة السابقة، فقد أدرك المصريون أن حملة جان دي بريين قد نزلت أول ما نزلت على الشاطئ الغربي لدمياط؛ ولذلك أمر الملك الصالح جيشه بأن يعسكر على هذا البر ليمنع نزول الصليبيين عليه، وقد كان السبب الأكبر في فشل الحملة الأولى أنها نزلت على دمياط وأرادت الوصول إلى القاهرة بالمسير بمحاذاة فرع دمياط فاعترضتها المجاري المائية الكثيرة المتفرعة عن هذا الفرع، وكان يمكنهم أن يتفادوا هذا الخطأ في محاولتهم الثانية فينزلوا على الإسكندرية ولكنهم لم يفعلوا.

وفي الساعة الثانية من نهار الجمعة لتسع بقین من صفر سنة ٦٤٧ (يونيو ١٢٤٩) وصلت سفن الفرنسيين إلى الشاطئ المصري وأرست بإزاء المسلمين، فراعهم كثرة الجيوش المصرية على الشاطئ، كما خطف بأبصارهم بريق أسلحة المسلمين، وعلا صهيل خيولهم وزادت جلبة جندهم، فأفزع الفرنسيين وهم لا يزالون في سفنهم. يصف «جوانفيل» — مؤرخ الحملة وأحد قوادها — الرهبة التي ملكت على الفرنسيين أنفسهم عند رؤية الجيش المصري فيقول: «وصل الملك أمام دمياط، ووجدنا هنا كل جيوش السلطان تقف علی الشاطئ: كتائب جميلة تسر الناظرين، ذلك أن أسلحة السلطان قد صُنعت من ذهب، فكانت الشمس تشرق على هذه الأسلحة فتزيدها بريقًا ولمعانًا، وكانت الجلبة التي يأتون بصنوجهم وأبواقهم الشرقية تُدخل الرعب في أفئدة السامعين.»

وفي اليوم التالي استطاع الفرنسيون أن ينزلوا الجند إلى البر — بعيدًا عن معسكر المصريين — وبدأت المناوشات بين الجيشين.

figure
جنود لويس التاسع يدخلون دمياط ويُحيلون جامعها كنيسة.

وهكذا بدأت المعركة: الجيش المصري كبير العدد وافر العُدَّة — كما وصفه الفرنسيون أنفسهم — ودمياط على الشاطئ الشرقي مدينةٌ مسوَّرة حصينة قوية قد شحنت بالجند والأقوات والأسلحة؛ لأن السلطان لم ينسَ أن هزيمتها السابقة إنما كان سببها انعدام الأقوات بعد طول الحصار، فلو أن الأمور سارت سيرًا طبيعيًّا لاستطاع المصريون أن يهزموا هذه الحملة — رغم قوتها وكثرة جندها — ويردوها عن مصر في يسر وسهولة، ولكن الحوادث تطورت تطورًا آخر.

فكما أن مؤامرة ابن المشطوب كادت تُنزِل الهزيمة بالجيش المصري وتُوقِع الفرقة والاضطراب بين جنوده في عهد الكامل، كذلك جد في حوادث هذه الحملة حادثٌ خطير كاد ينتهي بها إلى نفس النتيجة.

كان السلطان الملك الصالح نجم الدين مريضًا — کما ذكرنا — ومقيمًا في أشموم طناح، وقد اشتد به المرض حتى أصبح على شفا حفرة من الموت، فلما وصلت السفن الفرنسية إلى شاطئ دمياط أطلق الأمير فخر الدين الحمام الزاجل يحمل النبأ إلى السلطان، وتعدَّدت رسائله دون أن يتلقى ردًّا، فأدرك أن السلطان قد مات، فانتظر حتى وافى الليل وانسحب بجيشه كله من الشاطئ الغربي إلى دمياط، ثم تركها وسار جنوبًا متجهًا إلى معسكر السلطان عند أشموم طناح، وأعمته العجلة فلم يحطم الجسر الذي كان يصل بين الشاطئين الشرقي والغربي فتركه کما هو.

ونظر أهالي دمياط فوجدوا الجيش الذي أتى لحمايتهم قد غادر المدينة، فخافوا على أرواحهم وخرجوا في الليل تاركين مدينتهم وأموالهم وديارهم «ولحقوا بالعسكر في أشموم طناح وهم حفاة عرايا جياع حيارى بمن معهم من النساء والأولاد، وفرُّوا هاربين إلى القاهرة، فأخذ منهم قطاع الطرق ما عليهم من الثياب وتركوهم عرايا.»

ومع أن السلطان كان في أشد حالات المرض فقد غضب على فخر الدين ومن كان معه من القواد غضبًا شديدًا، وأنَّبه على فعلته، وأمر بشنق خمسين أميرًا من أمراء الكنانية الذين كانوا يتولون الدفاع عن المدينة، وكاد يأمر بقتل فخر الدين نفسه، غير أن الوقت كان حرجًا فكتم غيظه إلى أن تنكشف الغمة، وأصبح الفرنسيون فوجدوا معسكر المصريين خلاء فظنوها مكيدة، فأرسلوا كشافتهم يستطلعون، ولَشدَّ ما كانت دهشتهم عندما وجدوا الجسر قائمًا والمدينة خالية تمامًا من الجنود والأهلين، فعبر الجيش الفرنسي إليها واستولى عليها دون عناء، وفرح بها الفرح كله فقد كانت مشحونة كما ذكرنا بالعتاد والمئونة.

كان الملك لويس يستطيع أن يتقدَّم في هذه اللحظة نحو الجنوب قبل أن يفيق المصريون من الارتباك الذي حلَّ بهم، ولو أنه اتبع هذه الخطة لكتب له النصر، غير أنه تلكَّأ في دمياط مدة تقرب من الستة شهور ينتظر وصول بقية سفنه التي جنحت بها الريح نحو شواطئ سوريا، هذه المدة كانت كافية تمامًا لأن يتم فيها المصريون استعدادهم ويستعيدوا نشاطهم ويجمعوا صفوفهم.

ولما وصلت السفن الشاردة دعا الملك لويس التاسع قواده للتشاور ولاختيار الطريق الذي يسلكونه، أيتجهون نحو الإسكندرية أم يسيرون قدمًا إلى القاهرة؟ وأشار الكونت بيتر البريطاني Count Peter of Brittany ومعظم قواد الجيش بالمسير إلى الإسكندرية والاستيلاء عليها أولًا، وكانت حجتهم معقولة وصحيحة من الناحية الحربية، وتتلخَّص في أن الإسكندرية كميناء تفضل دمياط في كثير؛ فهي أصلح لإيواء سفنهم، وإليها يستطيع أسطولهم أن يصل بالميرة من بلادهم في وقتٍ قصير وجهدٍ قليل، غير أن الكونت أرتوا Artois — أخو الملك لويس — عارض هذا الرأي ونصح الملك بالاتجاه مباشرة نحو القاهرة للاستيلاء عليها، وحجته في ذلك أن القاهرة هي عاصمة الديار المصرية كلها، فالاستيلاء عليها یستتبع حتمًا الاستيلاء على مصر كلها، وأضاف إلى هذا قوله: «إذا أنت أردت قتل الأفعى فاضربها على رأسها.» واحتدم النقاش، وانتهى بإعراض الملك عن رأي قواده، وأخذه برأي أخيه، وتقرر بذلك مسير الجيش الفرنسي جنوبًا نحو القاهرة، فكان هذا القرار حلقة جديدة في سلسلة الأخطاء التي انتهت بفشل الحملة.

أما المعسكر المصري فقد اضطرب اضطرابًا شديدًا لانسحاب حامية دمياط وفرار أهلها، ووقوعها في يد العدو، وكان السلطان الملك الصالح معسكرًا بأشموم طناح والمرض يشتد به يومًا بعد يوم، ولكنه مع هذا لم يفقد شجاعته، بل قرر أن يتراجع مع جيشه جنوبًا إلى مدينة المنصورة لأنها تمتاز بموقعٍ حصين، فالنيل يحميها غربًا، وبحر أشموم طناح يفصل بينها وبين قوى الفرنسيين في الشمال، وبدأ الجند المصريون في تحصين المنصورة فأصلحوا السور الذى كان يحيط بها وستروه بالستائر «وقدمت الشواني المصرية بالعُدد الكاملة والرجالة، وجاءت الغزاة والرجال من عوام الناس الذين يريدون الجهاد من كل النواحي، ووصلت عربان كثيرة جدًّا، وأخذوا في الغارة على الفرنج ومناوشتهم.» وأخذ هؤلاء المجاهدون والعربان يهاجمون معسكرات الفرنسيين حتى أقضُّوا مضاجعهم، فلم يكن يمر يوم دون أن يعودوا بعدد من الأسرى.

وفي ليلة الاثنين النصف من شعبان سنة ٦٤٧ (٢٢ نوفمبر ١٢٤٩) مات السلطان الملك الصالح فكانت الطامة الكبرى؛ لأن الجند لو علموا بموته لتفرق شملهم وضعفت روحهم المعنوية، ولكن القدر هيأ لمصر في تلك الساعة العصيبة امرأةً حازمة مدبِّرة هي شجرة الدر زوجة الملك الصالح، فقد أخفت عن الجميع خبر موت السلطان وأمرت بحمل جثته سرًّا في حَرَّاقة إلى قلعة الروضة، وعهدت للأمير فخر الدين بقيادة الجيش، وكان الأطباء يدخلون كالعادة إلى حجرة السلطان كل يوم وكأنهم يعودونه، كما كانت الأوراق الرسمية تدخل إلى نفس الغرفة وتخرج ممهورة بإمضاء السلطان وعلامته بخط يُشبه خطه كل الشبه.

وأرسلت الرسل إلى الملك المعظم تورانشاه بن الصالح — وكان مقيمًا في حصن كيفا — لاستدعائه إلى مصر. وبهذه الإجراءات السريعة الحكيمة أنقذت مصر من أزمتها، وسارت الأمور سيرًا طبيعيًّا.

ووصلت أخبار موت السلطان — رغم كتمانها — إلى الفرنسيين في دمياط، فانتهزوا الفرصة وبدءوا زحفهم نحو الجنوب حتى وصلوا إلى المنصورة، فعسكروا شمال بحر أشموم، وأصبح هذا البحر حاجزًا بين معسكرهم ومعسكر المسلمين، وبدأ كلٌّ من الفريقين يستعد للمعركة الحاسمة.

أما الفرنج فقد بدءوا يحصنون معسكرهم فحفروا حوله — كعادتهم — خندقًا وأقاموا سورًا وستروه بالستائر، ونصبوا المجانيق، وأتت شوانيهم فوقفت بإزائهم في النيل، وأما المصريون فكانوا مطمئنين إلى مدينتهم وحصانة موقعهم، فأخذوا يناوشون الفرنج ويتحيلون في اختطافهم وأسرهم، وكانوا يَفْتنُّون في مناوشاتهم ويأتون فيها بكل طريف. وقد روى بعض المؤرخين أن جنديًّا مصريًّا قور بطيخة وحملها على رأسه وغطس في الماء حتى حاذى الفرنج، فظنه بعضهم بطيخة ونزل لأخذها، فشطره المصري بسيفه وحمله إلى معسكر المسلمين.

ورأى ملك الفرنسيين أنه لا يستطيع الغلبة على المصريين إلا إذا التحم معهم في معركة، ولا سبيل إلى هذا وبحر أشموم يفصل بينه وبينهم؛ ففكَّر في بناء جسر على هذا البحر ليعبر عليه جنوده إلى البر الآخر، وصدرت الأوامر بإقامة هذا الجسر، ولكن الفرنسيين لم يكادوا يتمُّون بضعة أمتار من الجسر حتى تساقط عليهم وابل من قذائف المسلمين ردَّهم على أعقابهم، فرأى الملك أن يبني برجين زودهما بالقذائف والقاذفين لحماية العمال الذين يعملون في البحر، وعاد الفرنج إلى عملهم يبغون إتمام الجسر للعبور عليه، ولكن المسلمين استطاعوا بمهارتهم الحربية وخطتهم الموفَّقة أن يفسدوا على أعدائهم عملهم، فكان الفرنج كلما أتموا من جسرهم مترًا هدم المسلمون أمتارًا أمامه في شاطئهم المقابل، فاتسع المجرى من جديد. يقول جوانفيل — مؤرخ الحملة وأحد فرسانها: «فكانوا يفسدون علينا في يومٍ واحد ما كنا نُنجزه في أسابيع ثلاثة.»

وإلى هذا كله استعدَّ المصريون بمجانيقهم ومقاليعهم، فكانوا يمطرون الفرنسيين وأبراجهم بقذائف من النار اليونانية التي أنزلت الرعب في أفئدتهم ونالت من شجاعتهم كل منال، وليس أورع من وصف جوانفيل لهذا الذعر الذي استولى على الفرنسيين أمام هذا السلاح الخطر حين يقول: وقال ولتر دي كوريل Walter de Cureil: «أيها السادة، نحن في خطرٍ داهم لأن العدو لو صوب النار نحو أبراجنا وبقينا نحن في أماكننا لأتانا الموت من كل مكان، ولو أننا غادرنا مراكزنا التي استولينا عليها للحقَنا العار، فلا منقذ لنا من هذا الخطر الداهم إلا الله … فنصيحتي إليكم أن نخرَّ سجَّدًا — كلما صوبوا هذه النار حولنا — لنبتهل إلى الله سبحانه وتعالى أن ينجينا من هذا الخطر.» ولم يكن الملك لويس نفسه أقل جزعًا من رجاله، يقول جوانفيل واصفًا الرعب الذي استحوذ على الملك: «وكانت النار ترسل في انطلاقها الأضواء الباهرة التي تملأ رحاب المعسكر فيبدو وكأننا في وضح النهار، ولقد صوَّب العدو النار نحونا هذه الليلة ثلاث مرات، كما أطلقوها من قِسِيِّهم أربع مرات، وكان الملك القديس كلما سمع أن النار الإغريقية قد صوبت نحونا انتصب واقفًا على سريره ورفع يديه إلى السماء وابتدأ الصلاة وعيونه مُخضلَّة بالدموع وهو يقول: أيها الإله الطيب احفظ لي شعبي.»

يتضح من هذه الحوادث والأقوال أن الغلبة كانت للمصريين في أول المعركة ولو سارت الأمور سيرًا طبيعيًّا لتمَّ النصر النهائي، ولكن خائنًا من البدو دل الفرنسيين في ذلك الحين على مخاضة في بحر أشموم — يستطيع الفرسان عبورها على خيولهم — نظير مبلغ من المال.

وفرح الفرنسيون بهذا الكشف، ووضع الملك لويس خطةً جديدة للمعركة: وتتلخَّص هذه الخطة في أن يعبر الكونت أرتوا بفرقة الفرسان من هذه المخاضة، فإذا وصل إلى الشاطئ الذي يعسكر فيه المسلمون اشتبك معهم في قتالٍ مؤقت ليشغلهم عن مهاجمة الفرنسيين الذين يقيمون الجسر إلى أن يتمُّوه، فإذا تم بناء الجسر عبر عليه لويس ببقية جيشه، وانضم إلى فرسان الكونت أرتوا، وانقضُّوا جميعًا على جيش المسلمين.

كانت الخطة كما ترى مُحكَمة وخطرة، ولو أنها نُفِّذت كما وُضعت لقضى الفرنسيون على الجيش المصري قضاءً مبرمًا، ولكن تهوُّر الكونت أرتوا كان السبب في فشلها.

عبر أرتوا بفرسانه هذه المخاضة في الرابع أو الخامس من ذي القعدة سنة ٦٤٧ (فبراير سنة ١٢٥٠) وانقضَّ على معسكر المسلمين فجأة فشتَّت شملهم لأنهم لم يكونوا مستعدِّين للقتال؛ إذ لم يخطر على بالهم أن يهاجموا من هذه الناحية، وكان قائد الجيش الأمير فخر الدين في الحمام عندما علم بهجوم الفرنج على معسكره، فخرج مشدوهًا، وركب فرسه دون أن يتَّخذ للدفاع عدته، فدهمه فرسان الفرنج، فتفرق عنه جنده، وتكاثرت عليه الرماح والسيوف حتى خرَّ صريعًا، وانقلبت بهذا هزيمة الفرنسيين إلى نصرٍ باهر، وفرح أرتوا بهذا النصر السريع، وملكه حماس الشباب فلم يقف عند نهاية الجسر لحماية العاملين فيه — كما أمره أخوه — وإنما اندفع بفرسانه إلى المنصورة ودخلها، وتقدَّم حتى وصل إلى قصر السلطان بها، وكاد النصر النهائي يتم للفرنسيين لولا أن صمدت لهم فرقة المماليك البحرية بقيادة ركن الدين بيبرس، وحملت على الفرنسيين حملةً عنيفة حتى ردَّتهم عن القصر، فلما فروا راجعين تعقبتهم بالسيوف والدبابيس، وأقام الأهالي المتاريس في الطرقات، واشتبك الفريقان في قتالٍ عنيف في شوارع المدينة وأزقَّتها، واتخذ السكان حصونًا من منازلهم يلقون من نوافذها بالقذائف والحجارة على الفرنسيين.

وانتهت المعركة أخيرًا بالقضاء على فرقة الفرسان قضاءً مبرمًا، وكان في مقدمة الضحايا الكونت أرتوا قائدها.

وكان الفرنسيون — أثناء هذه المعركة — يجدُّون ويبذلون كل الجهد لإتمام الجسر حتى يتمكنوا من العبور عليه والانضمام إلى فرسانهم، ولكنهم لم يكادوا يشرفون على إتمامه حتى وصلتهم أخبار الهزيمة التي نزلت بجنودهم؛ فنال هذا الخبر من شجاعتهم وفقدوا قوتهم المعنوية، فكانوا يلقون بأنفسهم إلى النيل يبغون العودة إلى معسكرهم. وبهذه الهزيمة عاد الفريقان إلى ما كانا عليه، كلٌّ منهما على شاطئ، والبحر الصغير يفصل بينهما.

وبعد أيام قليلة وصل الملك المعظم تورانشاه إلى مصر، واستقرَّ في قصر السلطنة بالمنصورة يوم الثلاثاء تاسع عشر ذي القعدة سنة ٦٤٧ (فبراير ١٢٥٠)، وفرح المصريون بسلطانهم الجديد وبدءوا يستعيدون ثقتهم بأنفسهم.

ولجأ تورانشاه إلى الحيلة التي سبق أن لجأ إليها المصريون في عهد جده الملك الكامل عندما نزلت بنفس المكان جيوش جان دى بريين، فأمر بأن تصنع سفن بالمنصورة، وحملت هذه السفن مُفصَّلة على الجمال إلى بحر المحلة حيث أعيد تركيبها، ومُلئت بالمحاربين وسارت شمالًا، فلما وفدت سفن الفرنج تحمل الميرة من دمياط خرجت عليها هذه السفن، «فأخذت مراكب الفرنج أخذًا وبيلًا — وكانت اثنتين وخمسين مركبًا — وقُتل منها وأُسر نحو ألف إفرنجي، وغُنم سائر ما فيها من الأزواد والأقوات، وحُملت الأسرى إلى المعسكر، فانقطع المدد من دمياط عن الفرنج، ووقع الغلاء عندهم وصاروا محصورين لا يطيقون المقام ولا يقدرون على الذهاب.»

واشتدت الضائقة بالفرنسيين لانقطاع الميرة من دمياط؛ فأرسل الملك لويس إلى السلطان يطلب الصلح ويعرض عليه أن يتنازل عن دمياط مقابل بيت المقدس، ولكن السلطان رفض هذا الطلب، فلم يجد لويس بُدًّا من الاستمرار في المقاومة حتى يستطيع إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فأشعل النار في أسلحته وعتاده، ورحل بجيشه — ليلة الأربعاء لثلاث مضین من المحرم سنة ٦٤٨ (أبريل ١٢٥٠) — متجهًا إلى دمياط، ولم يكد يصل إلى فارسکور حتى كانت جيوش المصريين قد لحقت به وانقضَّت علی جيشه انقضاض الصاعقة فقضت على معظمه، حتى قيل إن من قتل من فرسان الفرنسيين كان أكثر من عشرة آلاف، كما أسر من الخيالة والرجالة والصناع ما يناهز مائة ألف، وارتقى الملك لويس وأمراء جيشه تلًّا هناك وسألوا الأمان فأُمِّنوا، وأُسر لويس وقواده وحمل إلى المنصورة حيث سُجن بدار ابن لقمان التي لا تزال بقاياها قائمة حتى اليوم، ووُكل بحراسته الطواشي صبیح.

figure
الملك لويس في الأسر بعد هزيمته.

ولم يكن المعظم تورانشاه كأبيه ثباتًا واتزانًا وحكمة، بل كان شابًّا أهوج، فلم يقدِّر لزوج أبيه شجر الدر تدبيرها، ولا للماليك البحرية جهدهم، بل أخذ يهدد شجر الدر ويطالبها بمال أبيه، كما أبعد مماليك أبيه، وقرَّب إليه حاشيته التي وصلت معه من كيفا، وصار إذا سكر جمع الشمع وضرب رءوسها بسيفه حتى تنقطع، ويقول: «هكذا أفعل بالبحرية.» فتآمر عليه هؤلاء المماليك البحرية واقتحموا عليه البرج الخشبي الذي كان يقيم به في فارسكور، فأدرك الشرَّ في عيونهم، وصعد إلى أعلى البرج، فرموه بالنشاب، وأطلقوا النار في البرج، فألقى بنفسه من أعلاه وجرى نحو النيل فلحقوا به وقتلوه. وكان ذلك في التاسع والعشرين من المحرم سنة ٦٤٨ (مايو ١٢٥٠).

وهكذا كاد المصريون يفقدون بهذه الفعلة النصر الباهر الذي أحرزوه ولم يمضِ عليه غير خمسة وعشرين يومًا، ولكن المماليك سرعان ما تداركوا الموقف فأجمعوا على إقامة شجر الدر ملكة على مصر، فكان حدثًا فذًّا في تاريخ العالم الإسلامي كله، كما عيَّنوا الأمير عز الدين أيبك قائدًا أعلى للجيش.

وبدأت المفاوضات بين الملك لويس وبين المصريين، وتولَّاها عنهم الأمير حسام الدين بن أبي علي — نائب السلطنة في عهد الملك الصالح — وتم الاتفاق أخيرًا على إطلاق سراح الملك وجميع الأسرى على أن يخلوا دمياط وأن يدفعوا مبلغ أربعمائة ألف دينار فدية للملك، يدفعون نصفها قبل أن يطلَق سراحه والنصف الآخر بعد وصولهم إلى عكا. وجمعت الملكة — وكانت مقيمة في دمياط — نصف المبلغ المطلوب، فأطلق المصريون سراح الملك، ودخل المسلمون ثانية إلى دمياط، ورفعوا عليها العلم المصري يوم الجمعة الثالث من صفر، بعد أن ظلَّت في أيدي الفرنج أحد عشر شهرًا وتسعة أيام. وهكذا أقلعت فلول الحملة إلى عكا بعد أن ودعها شاعر مصر جمال الدين بن مطروح بقصيدته المشهورة التي يقول فيها:

قل للفرنسيس إذا جئتَه
مقال نُصح عن قئولٍ فصيح
آجَرك الله على ما جرى
من قتل عُبَّاد يسوع المسيح
أتيتَ مصرًا تبتغي ملكها
تحسب أن الزمر يا طبل ريح
فَساقك الحَيْن إلى أدهمٍ
ضاق به عن ناظرَيك الفسيح
وكل أصحابك أوْدعتهم
بحسن تدبيرك بطن الضريح
سبعون ألفًا لا يُرى منهمُ
إلا قتيل أو أسيرٌ جريح
وفَّقك الله لأمثالها
لعل عيسى منكم يستريح
إن كان باباكم بذا راضيًا
فرُبَّ غِشٍّ قد أتى من نصيح
وقل لهم إن أضمروا عودةً
لأخذ ثار أو لفعل قبيح
دار ابن لقمان على حالها
والقيد باقٍ والطواشي صبيح

(٥) دمياط في العصر المملوكي

(٥-١) تخريب مدينة دمياط

وتتابعت الحوادث وعرش مصر مثار نزاع عنيف بين الأيوبيين والمماليك، فخشي المماليك أن ينتهز الفرنج فرصة هذا النزاع فينقضُّوا على دمياط ثانية، فاتفقوا على تخريبها، وأرسلوا إليها فرقة من الحجَّارين والفَعَلة، «فوقع الهدم في أسوارها يوم الاثنين الثامن عشر من شعبان سنة ٦٤٨ حتى خُرِّبت كلها ومُحيت آثارها ولم يبقَ منها سوى الجامع.» وهكذا كانت حملة لويس شؤمًا على دمياط؛ ففي أوائلها غادرها أهلوها جميعًا، وفي أعقابها — وبعد نحو ستة أشهر من خروج الفرنسيين — هُدمت المدينة جميعها بأسوارها وقلاعها ومنازلها وقصورها، ولم يبقَ منها — كما يذكر المؤرخون — سوى جامعها وهو الجامع المُهدَّم القديم الذي يعرف حتى الآن في دمياط باسم جامع أبي المعاطي القديم أو جامع الفتح.

(٥-٢) قيام دمياط الجديدة

ويقول المقريزي إن بعض فقراء الناس سكنوا بعد ذلك في أخصاص على النيل قبلي المدينة الجديدة، وسموا هذا المكان «المنشية»، ولعل هذا هو الحي المعروف حتى اليوم في دمياط بهذا الاسم.

ولم تلبث هذه المنشية حتى كبرت ونمت وأصبحت — كما يقول المقريزي — بلدةً كبيرة ذات أسواق وحمامات وجوامع ومدارس ومساجد، ودُورها تُشرِف على النيل الأعظم، ومن ورائها البساتين، وهى أحسن بلاد الله منظرًا، تلك هي دمياط الجديدة، فما قصتها في العصور التالية؟

(٥-٣) دمياط في عهدي المعز أيبك والمظفر قطز

ويبدو أن هذا النمو كان سريعًا، فموقع دمياط موقعٌ ممتاز من الناحيتين الجغرافية والاستراتيجية؛ فهو يتطلب بالضرورة أن تقوم فيه مدينة، ومدينة كبيرة، يؤيد رأيَنا هذا الأخبارُ المتناثرة عن اهتمام سلاطين المماليك الأُوَل بدمياط الجديدة في السنوات التالية مباشرة لهدم المدينة القديمة.

هذه الأخبار تَروي أن الملك المعز أيبك — وهو الذي ولي عرش مصر بعد شجر الدر — قد أقطع دمياط في سنة ٦٥٢ — أي بعد هدم المدينة القديمة بأربع سنوات فقط — إلى الأمير علاء الدين أيد غدى العزیزي، ثم تنصُّ علی أن ارتفاعها — أي إيراداتها — كان يومئذ ثلاثين ألف دينار.

وتروي هذه الأخبار أيضًا أن السلطان قطز الذي ولي بعد المعز أيبك قد أرسل في سنة ٦٥٧ / ١٢٥٩ المنصور بن أيبك وأخاه وأمه إلى دمياط، واعتقلهم في برج عمره هناك، وسمَّاه برج السلسلة. وقد يُفهم من هذا الخبر لأول وهلة أن قطز بنى في دمياط برجًا جديدًا، ولكن تسمية هذا البرج ببرج السلسلة تجعلنا نجزم بأنه هو نفسه برج السلسلة القديم، وأن المماليك الذين هدموا دمياط قد أبقوا هذا البرج، وأن الذي فعله قطز إنما هو تعمير البرج، أي ترميمه وإصلاحه.

(٥-٤) في عهد الظاهر بيبرس

وقُتل قطز بعد انتصاره على التتار في وقعة عين جالوت، وولي عرش مصر الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدراي. ويُعتبر بيبرس المؤسس الحقيقي لدولة المماليك في مصر؛ فقد طالت مدة حكمه، وقد بذل الجهود القوية للتمكين لهذه الدولة، ومن وسائله لهذا: العناية الفائقة بتحصين مصر وثغورها، وقد نالت دمياط نصيبها الموفور من هذه العناية.

أدرك بيبرس أن دمياط الجديدة لا تحميها أسوار أو حصون، كما أدرك أن برج السلسلة مع قوَّته ومناعته قد يقع في أيدي العدو؛ ولهذا لجأ إلى طريقة فعَّالة لحماية مدخل النيل عند دمياط، ففي السنة الثانية من حكمه، وهي سنة ٦٥٩ / ١٢٦١ «أمر بردم فم بحر دمياط، فخرج جماعة الحجارين وألقوا فيه القرابيص حتى يضيق وتمتنع السفن الكبار من دخوله.»

ثم لاحظ بيبرس أن العناية بالأساطيل قد فترت بعد خروج الفرنسيين من مصر، وثغورُ مصر — وخاصة دمياط والإسكندرية — لا يمكن أن يحميها إلا الأساطيل؛ «فأنشأ عدة شوانٍ بثغرَي دمياط والإسكندرية، ونزل بنفسه إلى دار الصناعة، ورتَّب ما يجب ترتيبه، وتكامل عنده ببر مصر ما ينيف على أربعين قطعة وعدة كثيرة من الحراريق والطرائد ونحوها.»

وفي شوال سنة ٦٦١ خرج بيبرس وزار الإسكندرية وأشرف على أسوارها وحصونها، وفي السنة التالية ٦٦٢ / ١٢٦٤ خرج إلى دمياط فزارها، وأمر بالعناية بأبراجها وأسطولها، وأقام بها — كما أقام بغيرها من الثغور — حاميةً كبيرة العدد للدفاع عنها.

واستعادت دمياط مكانتها شيئًا فشيئًا، وعاد إليها أسطولها، وكان مقدم أسطول دمياط — أي قائده أو رئيسه — واحدًا من كبار رؤساء الأسطول المصري العام، ومن دمياط بدأت تخرج الغارات البحرية — كما كان العهد في العصرين الفاطمي والأيوبي — ففي عهد بيبرس، وفي سنة ٦٩٩ / ١٢٧٠ خرج الأسطول المصري من دمياط يريد غزو جزيرة قبرص، ولكنه لم يوفَّق، وأُسر كثير من جنده وقُوَّاده — ومن بينهم مقدم أسطول دمياط — وبقوا في الأسر إلى أن تحيَّل بيبرس في استنقاذهم في سنة ٦۷۳. وعُني بيبرس بشئون دمياط المدنية عنايته بشئونها الحربية؛ فأمر بعمارة الجسر (الطريق الزراعي) الذي يصل بينها وبين القاهرة.

(٥-٥) دمياط في أواخر القرن السابع الهجري: الشيخ فاتح الأسمر

وظلت دمياط الجديدة تنمو شيئًا فشيئًا، وقصدها العلماء والصوفية من كل حدب وخرج علماؤها إلى الأقطار، فممن وفد عليها في أواخر القرن السابع الهجري (١٣م) الشيخ فاتح بن عثمان الأسمر التكروري، قدم إليها من مراكش حوالي سنة ٦۷۸ﻫ — أي بعد إنشاء المدينة الجديدة بنحو خمس وعشرين سنة — فأقام بها مدة، ثم نزح عنها إلى تونة فلبث بها سبع سنين، ثم عاد إلى دمياط فأقام في جامعها القديم الذى بقي بعد هدم المدينة القديمة، وجعل مقرَّه في وكر بأسفل منارته. وكان هذا الجامع — منذ هُدمت دمياط — مُهدَّمًا مهملًا لا يفتح إلا في يوم الجمعة، فاعتنى به الشيخ فاتح، ورمَّم جدرانه، ونظَّفه بنفسه حتى طرد الوطواط الذي كان يقيم بسقوفه، وساق الماء إلى صهاريجه، وبلَّط صحنه، وسبك سطحه بالجبس، ورتَّب فيه إمامًا يصلي بالناس الصلوات الخمس، وأقام هو في بيت الخطابة مواظبًا على قراءة الأوراد وتلاوة القرآن، وكان يقول: «لو علمت بدمياط مكانًا أفضل من الجامع لأقمت به، ولو علمت في الأرض بلدًا يكون فيه الفقير أخمل من دمياط لرحلت إليه وأقمت به.» وكان هذا الشيخ على خلقٍ عظيم، فكان يحب الفقر ويتواضع مع الفقراء، ويتعاظم على العظماء والأغنياء، وإذا اجتمع عنده الناس قدَّم الفقير على الغني، وإذا مضى الفقير من عنده سار معه وشيعه عدة خطوات وهو حافٍ، ووقف ينظره حتى يتوارى عنه، وكان يكرم الأيتام ويشفق على الضعفاء والأرامل، ويبذل شفاعته في قضاء حوائج الخاص والعام من غير أن يملَّ ولا يتبرم بكثرة ذلك. تزوج في آخر حياته بامرأتين، وكان يقرأ في المصحف ويطالع الكتب، وإنما لم يره أحد يخط بيده شيئًا. توفي ليلة الثامن من شهر ربيع الآخر سنة ٦٩٥ (فبراير ١٢٩٦) وخلف ولدين ليس لهما قوت ليلة، وعليه دَين قدره ألفا درهم، ودُفن في قبره بجوار الجامع القديم.

ومنذ ذلك الحين عُرف ذلك الجامع بجامع الفتح، وهو تحريف للفظ فاتح — اسم الشيخ — ثم ظن الناس تخريجًا من هذا الاسم المحرف أن هذا الجامع بني زمن الفتح الإسلامي، وهو ظنٌّ خاطئ يُعوِزه الدليل التاريخي المادي، وينفيه ما ذکره المقريزي من أنه لما زار دمياط في أوائل القرن التاسع الهجري شاهد بنفسه نقشًا بالقلم الكوفي على باب هذا الجامع يثبت أنه عُمر بعد سنة خمسمائة من الهجرة، أي أنه يرجع إلى العصر الفاطمي، وهو قول تؤيده الدراسات الأثرية للنقوش والكتابات والزخارف الخشبية التي كانت تزين جدران هذا الجامع حتى وقتٍ قريب، والتي نُقلت إلى دار الآثار العربية بالقاهرة، فهذه النقوش والكتابات جميعًا من الطراز الفاطمي.

وهذا الجامع يعرف الآن أيضًا باسم جامع أبي المعاطي القديم، كما يعرف ضريح الشيخ فاتح باسم جامع أبي المعاطي الجديد نسبة للشيخ فاتح، فقد عُرف الرجل — لكثرة عطائه — بهذه الكنية (أبو المعاطي)، ولقد غلبت هذه الكنية على الشيخ واسمه، فأهل دمياط الآن لا يعرفون مَن هو فاتح، وإنما يعرفون تمامًا من هو «سيدي أبو المعاطي».

(٥-٦) دمياط في القرن الثامن الهجري: وصف ابن بطوطة لها

وبعد نحو خمس وسبعين سنة من هدم دمياط القديمة كانت دمياط الجديدة قد نمت واكتمل نموها، وامتدت رحابها، وكثرت مبانيها، ودبَّت الحياة في أرجائها، فقد زارها الرحالة المشهور ابن بطوطة في سنة ٧٢٥ / ١٣٢٥ ووصفها وصفًا رائعًا، فقال إنها: «مدينة فسيحة الأقطار، متنوِّعة الثمار، عجيبة الترتيب، آخذة من كل حسن بنصيب.» ووصف منازلها بقوله: «ومدينة دمياط على شاطئ النيل، وأهل الدور الموالية له يستقون منه الماء بالدلاء، وكثير من دورها بها دركات يُنزَل فيها إلى النيل.»

وقد عَرَفت دمياط — لأهميتها — في ذلك العهد نظام جوازات السفر؛ فقد ذكر ابن بطوطة أنه «إذا دخلها أحد لم يكن له سبيل إلى الخروج عنها إلا بطابع الوالي، فمن كان من الناس معتبرًا طُبع له في قطعة كاغد يستظهر به لحراس بابها، وغيرهم يُطبَع على ذراعه فيستظهر به.»

وهذا النص هام من ناحيةٍ أخرى؛ فهو ينص على أن المدينة كان لها باب عليه حراس، ولا يمكن أن يكون للمدينة باب إلا إذا كان لها سور، فهل بُني حول المدينة الجديدة سور؟ ومن الذي بناه ومتى بناه؟ هذه أسئلة لا نجد لها جوابًا عند مؤرخي العصر المملوكي.

وقد زار ابن بطوطة معالم المدينة المشهورة في ذلك الحين، ووصفها في رحلته، فمما زاره البرزخ، قال: «وبخارجها جزيرة بين البحرين والنيل، تُسمى البرزخ (وهي رأس البر الحالية)، بها مسجد وزاوية، لقيت بها شيخها المعروف بابن قفل، وحضرت عنده ليلة جمعة ومعه جماعة من الفقراء الفضلاء المتعبِّدين الأخيار، قطعوا ليلتهم صلاة وقراءة وذكرًا.»

وهذا الوصف يعطينا أيضًا صورةً واضحة للحياة العلمية الدينية التي كانت مزدهرة في المدينة في ذلك الحين، والتي لا تزال دمياط تحتفظ بها وتشتهر حتى اليوم.

وزار ابن بطوطة — فيما زار أثناء مقامه بالمدينة — زاوية الشيخ جمال الدين الساوي، وقال إنه: «قدوة الطائفة المعروفة بالقرندرية (أو القلندرية) وهم الذين يحلقون لِحَاهم وحواجبهم.»

والشيخ جمال الدين الساوي هو غير جمال الدين شيحة المدفون بدمیاط أیضًا — کما يظن البعض، فابن شيحة — كما أُرجِّح — مجاهد من الذين جاهدوا ضد حملة لويس، وقد امتد به العمر إلى عصر الظاهر بيبرس.

وزار ابن بطوطة ضريح شطا، قال: وبخارج دمياط المزار المعروف بشطا، وهو ظاهر البركة، يقصده أهل الديار المصرية، وله أيام في السنة معلومة لذلك.

وكانت البساتين تحيط بدمياط، وخاصة في قرية المنية التي لا تزال تُعرف بهذا الاسم حتى الآن، وقد زارها ابن بطوطة ووصفها بقوله: «وبخارجها أيضًا بين بساتينها موضع يعرف بالمنية، فيه شيخ من الفضلاء يعرف بابن النعمان، قصدت زاويته وبتُّ عنده.»

وذكر ابن بطوطة أيضًا أن والي دمياط — وقت مقامه بها — كان يسمى المحسني، كما ذكر أنه كان من ذوي الإحسان والفضل، وأنه بنى بدمياط مدرسة على شاطئ النيل، وقد أقام ابن بطوطة بهذه المدرسة طيلة الأيام التي قضاها بدمياط، وقد غادر ابن بطوطة دمياط إلى فارسكور دون أن يعلم الوالي برحيله، فأرسل وراءه فارسًا من رجاله قدَّم له هبةً مالية يستعين بها على سفره.

هذا مجمل وصف ابن بطوطة لدمياط وضواحيها في الربع الأول من القرن الثامن الهجري (١٤م)، وهو وصفٌ قيِّم نادر لأنه يبين في وضوح كيف نمت المدينة وازدهرت واتَّسعت أطرافها، وكثرت مبانيها ودورها، ولأنه ينصُّ على أن بيوتها كانت تطل في معظمها على النيل، وعلى كثرة ما بها من مدارس وزوايا، وعلى ازدهار الحياة العلمية والدينية بها، كما أنه يشير إلى كثير من معالم المدينة، وبعضها باقٍ حتى اليوم، وبعضها اختفى مع الأيام، فهو نص هامٌّ للمؤرخ والطبوغرافي الذي يريد أن يرسم صورةً واضحة لدمياط في القرن الثامن الهجري.

هذه هي دمياط في أوائل القرن الثامن الهجري قد استعادت مكانتها، وأصبحت مزدهرةً عامرة بالدور والقصور والمساجد والمدارس والمتاجر، ولم تقف عند هذا الحدِّ، بل اتخذت طريقها نحو التقدُّم حتى غدت في النصف الثاني من هذا القرن ميناء مصر الأول؛ فقد تفوَّقت على الإسكندرية، وورثتها في مكانتها. وتفصيل ذلك أن روح الحروب الصليبية — بعد طرد الصليبيين نهائيًّا من عكا آخر مدنهم في الشام في عهد الأشرف خليل بن قلاوون — قد ضعفت شيئًا ما، ولكنها لم تخمد تمامًا، وقد حاول الأوروبيون تجديد هذه الحروب في القرن الثامن، ففي سنة ٧٦٧ أغار علی الإسكندرية أسطولٌ ضخم من قبرص، واستطاع القبارصة أن يَنزلوا إلى البر ويستولوا على المدينة، وقد لبثوا بها أيامًا قضوها في تخريب المدينة تخريبًا تامًّا، ثم عادوا محمَّلين بالأسلاب والغنائم والأسرى.

هذه الحملة هزَّت كيان الإسكندرية هزًّا عنيفًا، وأسَرَت العدد الكبير من سكانها، وشتَّتت عددًا أكبر؛ فضعف شأن المدينة منذ ذلك الحين ضعفًا شاملًا، ولم تعُد لها مكانتها الأولى، وإنما أصبحت دمياط هي الميناء المصري الأول، وقد دفعها هذا العامل الجديد إلى النمو والازدهار دفعًا قويًّا.

(٥-٧) في القرن التاسع الهجري: دمياط ميناء مصر الأول

ولم يكد يبدأ القرن التاسع الهجري (١٥م) حتى غدت دمياط المدينة المصرية الثانية بعد العاصمة، وعادت ثانيةً المقرَّ الذي تخرج منه أساطيل المصريين للغزو في البحر الأبيض المتوسط، ففي سنة ٨٢٥ (١٤٢٢-١٤٢٣) — في عهد الأشرف برسباي — خرجت أساطيل مصر من دمياط للإغارة على جزيرة قبرص، والدافع الأكبر لإرسال هذه الحملات هو الانتقام من القبارصة لما فعلوه بالإسكندرية في عهد الأشرف شعبان، ولكن السبب المباشر يتصل أيضًا بدمياط. يروي صالح بن يحيى أن «موجب ابتداء الحال مع صاحب قبرص أن شخصًا من تجَّار دمياط يسمى أحمد بن الهميم كان له مركبٌ كبير قد أوسقه من طرابلس الشام صابونًا وبضائع بمالٍ كثير، فلما وصل إلى فم دمياط صادفه مركب من حرامية الفرنج من طائفة البسقاوية، فأخذ مركب ابن الهميم وتوجَّه به إلى قبرص.»

وقد أرسل برسباي ثلاث حملات لفتح قبرص: الأولى في سنة ٨٢٧ / ١٤٢٤ والثانية سنة ٨٢٨ / ١٤٢٥، والثالثة في سنة ٨٢٩ / ١٤٢٦، وقد خرجت الحملتان الأولى والثانية من دمياط، أما الثالثة فقد خرجت من الإسكندرية، وقد نجحت الحملة الثالثة في الاستيلاء على جزيرة قبرص وضمِّها لملك مصر، وعادت أساطيلها إلى دمياط في شوال سنة ٨٣٠ (أغسطس ١٨٢٦) ثم انحدرت منها إلى بولاق مُحمَّلة بالأسلاب والغنائم والأسرى، وفي مقدمتهم ملك قبرص نفسه (الملك جانوس) وقائد قواد الجزيرة. واحتفلت القاهرة باستقبال رجال الأسطول المنتصرين، وخرج أهلوها جميعًا للاحتفال بمواكب النصر التي شقَّت الشوارع وفي مقدمتها الملك الأسير وقائده يمتطيان بغلَين وأمامهما تاج قبرص وأعلامها، ويتبعهما ألوف الأسرى.

وإبان قيام الحملة الثانية بالإغارة على قبرص أمر برسباي بتشييد برجٍ عظيم في مدينة الطينة القريبة من دمياط، وشحنه بالمقاتلين لمراقبة سفن الأعداء إذا حاولت تهديد السواحل المصرية.

(٥-٨) زيارة المقريزي لدمياط ووصفه لها في القرن التاسع الهجري

وقد زار دمياط في النصف الأول من القرن التاسع الهجري المؤرخ المصري الكبير تقي الدين المقريزي، وأرَّخ لها، ووصف الكثير من معالمها في كتابه الخطط، وقال إنها «أحسن بلاد الله منظرًا.» ثم قال أيضًا: «وقد أخبرني الأمير الوزير المشير الأستادار ينبغا السالمي — رحمه الله — أنه لم يرَ في البلاد التي سلكها من سمرقند إلى مصر أحسن من دمياط هذه، فظننتُ أنه يغلو في مدحها، إلى أن شاهدتها فإذا هي أحسن بلد وأنزهه.» ثم أثبت في كتابه السالف الذكر قصيدة قالها في مدحها، نقتطف هنا معظم أبياتها لما حوته من وصفٍ نادر لدمياط ومعالمها الهامة في ذلك العصر، قال:

سقى عهد دمياطٍ وحيَّاهُ من عهدِ
فقد زادني ذكراه وجدًا على وجدِ
ولا زالت الأنواءُ تسقي سحابها
ديارًا حكَتْ من حُسنها جنة الخلدِ
فيا حُسْن هاتيك الديار وطيبها
فكم قد حوتْ حسنًا يجلُّ عن العَدِّ!
فلله أنهار تحفُّ بروضها لكا
لمرهف المصقول أو صفحة الخَدِّ
وبَشْنينُها الريَّانُ يحكي متيَّمًا
تبدَّل من وصل الأَحِبَّة بالصدِّ
ولا سيما تلك النواعير إنها
تُجدِّد حزن الوالِهِ المُدنَف الفردِ
أطارحها شجوي، وصارت كأنما
تطارح شكواها بمثل الذي أُبدي
وفي البرك الغرَّاء يا حُسن نوفر
حلا، وغدا بالزهو يسطو على الوردِ
سماء من البِلَّور فيها كواكبُ
عجيبة صبغ اللون مُحْكَمة النضدِ
وفي شاطئ النيل المقدَّس نزهة
تعيد شباب الشيب في عيشه الرغدِ
وفي مرج البحرين جمُّ عجائبٍ
تلوح وتبدو من قريبٍ ومن بُعدِ
كأن الْتقاء النيل بالبحر إذ غدا
مليكان سارا في الجحافل من جُندِ
وقد نزلا للحرب واحتدم اللقا
ولا طعن إلا بالمثقفة الملدِ
فظلَّا كما باتا، وما برحا كما
هما من جليل الخطب في أعظم الجهدِ
فكم قد مضى لي من أفانين لذةٍ
بشاطئها العذب الشهي لذي الوِردِ
وكم قد نعمنا في البساتين برهةً
بعيش هنيء في أمان وفي سَعدِ
وفي البرزخ المأنوس كم لي خلوة
وعند شطا عن أيمن العلم الفردِ
هناك ترى عين البصيرة ما ترى
من الفضل والأفضال والخير والمجدِ
فيا رب هيئْ لي بفضلك عودةً
ومن بها في غير بلوى ولا جهدِ

فالمقريزي يشير في هذه القصيدة إلى معالم المدينة وضواحيها الهامة التي زارها، وهي البساتين ومرج البحرين والبرزخ وشطا، كما أنه نَعِم أثناء مقامه بها بجوِّها الصحو ورياحها «التي تطرد الهم والأسى.» وسمائها التي كالبِلَّور، وشاطئها الذي «يعيد شباب الشيب في عيشه الرغد» وأُعجِب ببشنينها الريَّان، وهزَّ عواطفه أصوات النواعير «التي تُجدِّد حزن الوالِهِ المُدنَف الفرد» ثم أحسَّ أخيرًا أن نفسه لم تشبع من هذا الجمال؛ فتمنى على الله — في خاتمة قصيدته — أن يهيئ له عودة إليها، وإنما «في غير بلوى ولا جهد».

(٥-٩) دمياط منفى السلاطين والأمراء

وقد اتخذت دمياط في القرن التاسع صفةً أخرى غير ما عرفنا؛ فقد أصبحت منفًى للأمراء المغضوب عليهم، وسلاطين المماليك وأبناء السلاطين المخلوعين عن عروشهم، يُبعَدون إليها ليُسجَنوا في أبراجها، أو ليعيشوا فيها أحرارًا أو مراقَبين؛ ففي منتصف القرن التاسع نُفي إلى دمياط خليل بن الملك الناصر فرج بن برقوق، فقضى بها المدة الأخيرة من حياته إلى أن وافته منيَّته بها في سنة ٨٥٨، فدُفن بالقرب من قبر الشيخ فاتح الأسمر لمدة ثمانية أيام إلى أن سمح السلطان بنقل جثته، فنقلت إلى القاهرة، ودفنت بتربة جده الظاهر برقوق.

وفي سنة ۸۷۳ (١٤٦٨-١٤٦٩) استطاع السلطان الملك الأشرف قايتباي أن يرتقي عرش مصر بعد عزل السلطان الملك الظاهر تمربغا، وأَبعد السلطان المعزول إلى دمياط معزَّزًا مكرَّمًا، سافر إليها في حراقة بطريق النيل، فلما وصل إليها «سكن في أحسن دورها، وكان يركب إلى صلاة الجمعة.» وفي نهاية هذا العام فرَّ تمربغا من دمياط إلى الطينة ثم إلى غزة، فأرسل قايتباي الجند خلفه، فلحقوا به في غزة، وقبضوا عليه، وعادوا به إلى الإسكندرية، فسمح له السلطان بالمقام فيها بعد أن اعتذر عن فعلته.

(٥-١٠) الملك المنصور عثمان بن جقمق يقيم في دمياط بعد عزله

وكان قد نُفي إلى دمياط أيضًا — قبل تمربغا — الملك المنصور عثمان بن الظاهر جقمق، فقد ولي السلطنة بعد وفاة أبيه جقمق، غير أنه لم يلبث بها إلا أيامًا، ثم وثب به الأتابك إينال وخلفه على العرش، ولُقِّب بالملك الأشرف، ونُفي المنصور عثمان إلى الإسكندرية أولًا، ثم نُقل إلى دمياط فقضى بها سنواتٍ طويلة، ولم يحاول الفرار كصاحبه الظاهر تمربغا، وإنما اتصل بالعلماء وقضى بقية حياته يشتغل بالعلم، وحرص «على الانعزال والمطالعة والتلاوة والصيام، وصرف أوقاته في الطاعات، وتحرِّيه في نقل العلم، وإعراضه عن التشاغل بأنواع الفروسية ومُتعلِّقاتها مع تقدُّمه فيها.»

وقد عرف له سلاطين المماليك قدره، فبالغوا في إكرامه، وتركوا له الحرية الكاملة للانتقال في الثغر ومنه؛ فقد سمح له قايتباي بزيارة القاهرة في صفر سنة ٨٧٤ (أغسطس ١٤٦٩)، وكانت قَدْمته هذه ليسأل السلطان أن يسمح له بالحج، فأذن له، وخرج عثمان فحج «في أُبَّهة تامَّة» ثم عاد فأقام بدمياط كما كان.

وفي ذي الحجة سنة ۸۸۰ احتفل المنصور عثمان في دمياط بختان أولاده احتفالًا عظيمًا، فبعث إليه قايتباي بألفي دينار «بسبب احتياج المهم، وتوجَّه إليه ابن رحاب المغني، ومشى في الزفة، وكان له مهم حافل.»

وقد اتخذ المنصور عثمان له حاشية من العلماء والأدباء، فكانت داره بدمياط حافلة دائمًا بمجالس العلم، وممن اتصل به هناك الأديب المؤرِّخ محمد بن أبي بكر بن عمر القادري الجوهري الدمياطي. ولد هذا الأديب بدنجية قرب دمياط في سنة ۸۲۰، وتلقَّى العلم بها وببعض مدن الصعيد، وحجَّ في سنة ٨٣٤، ثم استقر في دمياط، وناب في القضاء بها وقال الشعر، «وأتى بالقصائد الجيدة، وخمس البردة، ومدح كثيرًا من الرؤساء … وتكسَّب في سوق الجوهريين وقتًا.»

(٥-١١) المقامة الدمياطية في وصف الثغر ومحاسنه للقادري الجوهري الدمياطي

وقد مدح القادري المنصور عثمان بقصيدة جميلة سماها: «الروض الممطور في مدح الملك المنصور» وقدَّم لها بمقامة في وصف دمياط سماها: «المقامة الدمياطية في وصف الثغر ومحاسنه السنية» والقصيدة والمقامة يضمُّهما مجلدٌ واحد ولا تزالان مخطوطتَين، ولهما — إلى جانب قيمتهما الأدبية — أهميةٌ خاصَّة، فهما يرسمان صورةً شائقة لدمياط في أواخر القرن التاسع الهجري، وهذه الصورة في جملتها لا تختلف كثيرًا عن الصورة التي رسمها المقريزي لدمياط في أوائل القرن نفسه.

يصف القادري دمياط فيبالغ في مدحها، فيقول: «إنها الجنة الصغرى، والمدينة الخضرا، وريحانة أرواح الشهداء، وخزانة أرباح السعداء، رباطها عنوان المقرَّبين، وصراطها ميدان طلاب المجاهدين، وثياب غربتها من لباس المنة، وتراب تربتها من غراس الجنة.» ثم يُعدِّد بعد ذلك ما بها من قبور الأولياء الصالحين، كشطا، وفاتح الأسمر، وابن قفل، وحسن الطويل، وجمال الدين (؟) وعبد الله الشهيد (؟) فيقول: «وتقرُّ عينك من مشاهد شهداء التابعين بنواحيها، على أعلى شاطئ البحيرة التي هي من محاسن ضواحيها، مشهد شهيد المعركة يوم فتوحها ولي الله شطا، الذي أمن بسرِّه ثغرها من عَدْو العدُوِّ المخذول، ومن سطاه إذا سطا، ويُستمطَر بها الفتح عند مشهدك (أبي) العطا ولي الله فاتح الأسمر، الذي يغني سره في المهمَّات المدلهمَّات إذا اشتد الخطب عن كل أبيض وأسمر، ومن بنى قفل بعد فتح، حامي البرزخ سهمها المسدَّد سديد، ومشهد بدر حسنها عند مسجد الشهداء ولي الله حسن الطويل الشهيد، ومشهد جمالها ولي الله جمال الدين، الذي برحاب جنته ثوى، ومشهد عبد الله الشهيد، الذي استغنى في الجهاد عن دروع الحديد بدرع النوى، فما توسل أحد بهؤلاء الأولياء أو زاره، إلا حقَّق الله قصده فيما يرجو من الخيرات وخفَّف أوزاره.» ثم يستطرد بعد هذا فيصف بساتينها وما كانت تغصُّ به من «طلح منضود، وظل ممدود، وماء من دوالبها مسكوب، بأحشاء كل جدول وكوب، ويشفي الغليل من العليل، ويكرم به البخيل، وبها البهرمان من منظوم عقود بُسْرها الأحمر، واللجين والعسجد من منثورها الأبيض والأصفر.» ولا يكاد ينتهي من هذا الوصف المنثور حتى ينظمه شعرًا، يصف فيه ما تُنبته المدينة من ثمار وأزهار، كالموز والنخيل والورد والقصب … إلخ. ثم يعود إلى وصفه المنثور فيرتفع بدمياط إلى الذروة؛ لأنه يعتقد أنها «مدينة أشبه شيء في وصفها بإرم ذات العماد، مدينة شداد بن عاد، التي لم يخلق مثلها في البلاد.» ثم يعود مرةً أخرى فينظم هذا الوصف شعرًا، يقول فيه:

يا حسنها بلدًا في أُفْق بهجتها
كأنها الشمس حُسنًا ذات أبراجِ
كأنها القوس في شكلٍ له وتر
وبحره الزاخر الرامي بأمواجِ

وينتقل بعد هذا إلى هدفه الثاني، وهو مدح الملك المنصور عثمان، المقيم بدمياط، فيمدحه بقصيدة تائية طويلة، ديباجتها إشادة بالثغر ومحاسنه، ومطلعها:

من ثغر دمياطَ حيَّتنا الثنياتُ
بملثم، فلها منا التحياتُ
والبدر قابل برجيها دُجًى، فهما
والبدر في الليل أقمارٌ سنياتُ
والبحر عن برِّه بالما روى خبرًا
مسلسلًا: نسماتٌ عنبرياتُ

وختم القادري رسالته الصغيرة بتعليقٍ لطيف شرح فيه أبيات هذه القصيدة بيتًا بيتًا؛ ليُبيِّن ما فيها من «البديع والمعاني التي تخفى على كثير من شعراء هذا الزمان.»

(٥-١٢) دمياط في عهد قايتباي

وقد كان مقام المدينة الجديد — كميناء مصر الأَول — دافعًا لسلاطين مصر على العناية الدائمة بدمياط، وفي مقدمتهم السلطان الأشرف قايتباي؛ فقد كان هذا السلطان من أبرز وأعظم سلاطين المماليك، وله في المدن المصرية المختلفة المنشآت الكثيرة من مساجد ومدارس وحصون وقلاع، وقد عُني هذا السلطان بدمياط عنايةً خاصة فزارها مرتَين للإشراف على شئونها الحربية والعمرانية؛ زارها في صفر سنة ۸۷۷، ثم زارها ثانية في جمادى الآخرة سنة ۸۸۰ (أكتوبر ١٤٧٥)، وكان سفره إليها وعودته منها بطريق النيل، فقد خرج في مائة مركب وفي حاشيةٍ كبيرة من أمراء جيشه ورجال دولته «فلما طلع إلى الثغر لاقاه النائب، ومدَّ له مدةً حافلة، فأقام بها أيامًا وهو في أرغد عيش، وتنزه في غيطان البلد، وتوجَّه إلى مكان يُصاد به السمك البوري، ونزل في مركبٍ صغير، وعاين کيف يصاد البوري.»

وقد أمر قايتباي بإنشاء بُرجه العظيم في الإسكندرية في سنة ٨٨٢، وتم بناؤه في سنة ٨٨٤، وفي نفس السنة أراد أن يتمَّ تحصين شواطئ مصر الشمالية جميعًا، ويبدو أن السلسلة الضخمة التي كانت تمتد من برج دمياط إلى شاطئها قد بطل استعمالها، ونزعت من مكانها — وإن كنا لا نعرف في أي عصر نُزعت — فأرسل قايتباي في هذه السنة أميرًا من أمرائه لتجديد هذه السلسلة. يقول ابن إياس في حوادث هذه السنة: «وفيها في المحرم توجَّه الأمير يشبك الدوادار إلى ثغر دمياط، وكان السلطان قد جعله متحدثًا عليها، فلما توجَّه إلى هناك أنشأ على فم البحر الملح عند برج الملك الظاهر بيبرس البندقداري سلسلة من الحديد زنتها نحوًا من مائتين وخمسين قنطارًا من الحديد، وكانت هذه السلسلة قديمًا هناك ثم بطل أمرها؛ فجدَّدها الأمير يشبك الدوادار في هذه السنة، وحصل بها النفع لطرد مراكب الفرنج الكبار.»

وفي عهد قايتباي بُنيت في دمياط أيضًا المدرسة المتبولية — التي لا تزال موجودة حتى الآن، بناها قايتباي لولي الله الشيخ إبراهيم المتبولي، فقد كان من المعتقدين فيه.

(٥-١٣) دمياط تصبح نيابة في أواخر العصر المملوكي

هذه هي دمياط في أوج عظمتها حتى أواخر القرن التاسع الهجري (١٥م)، وقد ارتفعت — لمكانتها الجديدة — من ولاية إلى نيابة، فقد كانت في العصرين الأيوبي والمملوكي الأول ولاية من ولايات الوجه البحري، فقد كان في الوجه البحري وقتذاك أربع ولايات، في: منوف، وأشموم، ودمياط، وقطيا، وكانت كل ولاية يليها والٍ أمير عشرة، أي من صغار أمراء الدولة، وكانت الأقسام الإدارية في الدولة المملوكية إذ ذاك إما ولايات أو نيابات، والنيابة أعلى مرتبة، ويتولاها نائب عن السلطان يكون عادة من الأمراء المقدَّمين أو أمراء المئات، وهم أكبر الأمراء قدرًا. ولم يكن بمصر نيابات غير نيابة الإسكندرية، فقد كانت كدمياط ولاية ثم جُعلت نيابة في عهد الأشرف شعبان — أي بعد غزوة القبارصة.

ويبدو أن دمياط جُعلت نيابة أيضًا حوالي ذلك الوقت؛ فإن تواريخ مصر تبدأ في القرن التاسع فتسمي حاكم دمياط نائبًا — لا واليًا، وتشير إلى نيابة دمياط لا إلى ولاية دمياط، وفي تاريخ ابن إياس مثلًا ذِكْرٌ لكثير من النواب الذين حكموا دمياط في القرن التاسع وفي السنوات الأولى من القرن العاشر الهجري.

(٥-١٤) دمياط في عهد قانصوه الغوري

وكان قايتباي آخر سلاطين المماليك العظام، وكان عهده آخر عهود الازدهار، وبدأت مصر بعده في التأخر والاضمحلال، وأصاب دمياط وموانئ مصر عامة ما أصاب مصر، فإذا كان عهد الغوري خيَّم على هذه الموانئ الخراب، ووقفت حركة الصادر والوارد بها لعبث الفرنج بشواطئها، يُقرُّ هذه الحقيقة ابن إياس في تاريخه، فيقول في حوادث سنة ٩٢٠: «وكان في تلك الأيام ديوان المفرد وديوان الدولة وديوان الخاص في غاية الانشحات والتعطيل، فإن بندر الإسكندرية خراب، ولم تدخل إليه القطائع في السنة الحالية، وبندر جدة خراب بسبب تعبث الفرنج على التجَّار في بحر الهند، فلم تدخل المراكب بالبضائع إلى بندر جدة نحوًا من ست سنين وكذلك جهة دمياط.» وقال أيضًا في حوادث سنة ٩٢٢: «وكان حسين نائب جدة يأخذ العشر من تجار الهند المثل عشرة أمثال، فامتنعت التجار من دخول بندر جدة، وآل أمره إلى الخراب، وعزَّ وجود الشاشات من مصر والأزر والأنطاع وأخرب البندر، وكذلك بندر الإسكندرية وبندر دمياط، فامتنعت تجار الفرنج من الدخول إلى تلك البنادر من كثرة الظلم، وعز وجود الأصناف التي كانت تجلب من بلاد الفرنج.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤