التاريخ التجاري

كان يقع على ساحل مصر الشرقي ثغورٌ ثلاثة: دمياط وتنيس والفرما، وكانت دمياط في العصور القديمة أقل هذه المدن أهمية، غير أنها جميعًا لعبت دورًا خطيرًا في تاريخ مصر التجاري في العصور القديمة والوسطى؛ وذلك لأن تجارة الشرق الأقصى الوافدة عبر البحر الأحمر كانت تصل إما إلى عيذاب، ومنها تُحمل بطريق القوافل إلى أسوان، ثم تنحدر في السفن شمالًا إلى العاصمة عند قمة الدلتا، ثم إلى دمياط أو الإسكندرية، وإما أن تصل إلى القلزم (السويس الحالية) حيث تُحمَل بطريق القوافل إلى الفرما أو إلى العاصمة، ثم تُشحَن بطريق النيل إلى دمياط أو الإسكندرية.

وكانت التجارة الواصلة إلى الفرما أو دمياط تُصدَّر إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط الشرقية، وخاصة سوريا وآسيا الصغرى واليونان، وإليهما كانت تَرِد بضائع هذه الأقطار، وقلَّما كانت ترد إلى هاتين المدينتَين أو تصدر عنهما سفن غرب أوروبا، فقد كانت الإسكندرية هي مركز الاتصال التجاري بين مصر وغرب أوروبا؛ فهي أقرب إليه من دمياط، أما تنيس فكانت تصدر عنها إلى الشرق منتجاتها الصناعية وخاصة المنسوجات.

وقد حافظت هذه المدن على مكانتها التجارية في العصور القديمة، فلما كان الفتح العربي بدأت دمياط تحتل مكان الصدارة بين هذه المدن الثلاث، وخاصة أن الفرع البلوزي القديم الذي كان ينتهي عند الفرما أخذ في الاضمحلال شيئًا فشيئًا، ثم طمرته الرمال نهائيًّا في الوقت الذي اتسع فيه فرع دمياط وأصبح طريق الملاحة بين العاصمة والبحر.

وقد صمدت دمياط لغارات البيزنطيين والصليبيين عليها، أما الفرما وتنيس فقد نالت منهما هذه الغارات، فساعدت على إضعافهما، وقد نزل الفرنج أخيرًا بالفرما سنة ٥٤٥ فنهبوها وأحرقوها، ثم خرَّبها تخريبًا تامًّا الوزير شاور في منتصف القرن السادس الهجري، وكذلك تنیس تداول علی تخريبها البيزنطيون ثم الفرنج، إلى أن كانت سنة ٦٢٤ فأمر الملك الكامل محمد الأيوبي بتخريبها وهدم حصونها؛ فرحل أهلوها إلى دمياط. وهكذا زالت من الوجود هاتان المدينتان؛ الأولى في القرن السادس الهجري والثانية في القرن السابع.

وورثتهما دمياط فغدت الميناء المصري الوحيد في الركن الشمالي الشرقي من البحر الأبيض المتوسط؛ فنشطت تجارتها وازدهرت، ثم لم تلبث الحروب الصليبية التي توالت عليها أن أثرت فيها، وهُدمت دمياط القديمة بعد آخر حملة من هذه الحملات على مصر، ثم أنشئت جنوبيها مدينةٌ جديدة ظلَّت تنمو شيئًا فشيئًا؛ وذلك لأن موقعها الجغرافي يستلزم قيام مدينة في هذه البقعة رغم قسوة الحروب وأحداثها.

ولما خرَّب القبارصة الإسكندرية في القرن الثامن الهجري فقدت أهميتها التجارية وأفادت دمياط من هذا الحادث ونتائجه؛ فغدت منذ ذلك الحين ميناء مصر الأول، ونشطت تجارتها مع الغرب والشرق معًا، وزادت أهميتها أيضًا بعد الفتح العثماني لمصر لكونها أقرب إلى مركز الدولة الحاكمة من الإسكندرية، فأنشئت بها الوكائل والفنادق والخانات التي كانت آثارها لا تزال قائمة بها حتى عهدٍ قريبٍ جدًّا.

وظلَّت دمياط تحتفظ بمكانتها التجارية حتى سنوات الفتح الفرنسي لمصر في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، فقد قام علماء الحملة الفرنسية — كما سبق أن ذكرنا — بإحصاء السكان في مدن مصر الكبيرة، وأثبت هذا الإحصاء أن دمياط كانت ثاني مدينة بعد العاصمة «القاهرة» وتليها رشيد ثم الإسكندرية.

واتجه محمد علي باشا في إصلاحاته وصِلاته التجارية إلى بلدان غرب أوروبا، ودفعته هذه السياسة إلى العناية بمدينة الإسكندرية، فأخذت تستعيد مكانتها القديمة — وخاصة بعد إنشاء ترعة المحمودية سنة ١٨٢٠ — وبدأت دمياط تضمحل تجاريًّا شيئًا فشيئًا، ثم زاد في اضمحلالها التجاري مع مرور السنين عواملُ كثيرةٌ أخرى، أهمها أن البخار الذي اكتُشف مع مَوْذلد القرن التاسع عشر استُعمِل في تسيير السفن، ثم أخذت السفن البخارية يكبر حجمها وغاطسها؛ وبذلك اتجهت اتجاهًا طبيعيًّا إلى ميناء الإسكندرية، وصدفت نهائيًّا عن ميناء دمياط لأنه ميناء رملي لا يصلح لاستقبال السفن الكبيرة، ومدخله ضحل غير عميق بتأثير الرواسب السنوية التي يأتي بها النيل، وبتأثير الصخور التي ألقاها الظاهر بيبرس عند هذا المدخل في القرن السابع الهجري (١٣م).

ثم أنشئت قناة السويس وأنشئ معها ميناء جديد على ساحل البحر الأبيض المتوسط هو ميناء بورسعيد، فسلب هذا الميناء الجديد ما بقي لدمياط من مجدٍ تجاري، وخاصة بعدما وصلت السكة الحديد بين بورسعيد وداخل القطر. وفي سنوات الحرب الكبرى الأولى أُنشِئت سكة حديد فلسطين، فتعاونت مع العوامل السابقة على القضاء نهائيًّا على مركز دمياط كميناء تجاري يتعامل مع بلدان البحر الأبيض الشرقية.

تضافرت هذه العوامل جميعًا على القضاء على تجارة دمياط الخارجية، ولكن نشاط أهلها الطبيعي الموروث اتجه إلى النهضة بتجارة المدينة الداخلية وصناعاتها حتى أصبحت من مدن مصر الأولى في هاتين الناحيتين.

وقد بدأت الحكومة المصرية منذ سنوات تشعر بمبلغ الخسارة التي أصابت دمياط كميناء تجاري له أهميته، فأخذت تُفكِّر في خير الوسائل لإحيائه، وبدأ هذا التفكير في عهد الملك المصلح فؤاد الكبير، فاستدعى عددًا من الخبراء الأجانب في سنة ١٩٢٦ لدراسة الميناء واقتراح خير الحلول لتعميق البوغاز، وزارت لجنة الخبراء ميناء دمياط كما زارت كثيرًا من الموانئ الأوروبية الشبيهة بدمياط والواقعة عند مصبَّات الأنهار، وقدمت تقريرها النهائي حوالي سنة ١٩٣٠، وفيها تقترح:
  • العمل عل تعميق البوغاز وبناء رصيفين طويلين داخل البحر لتمر من بينهما السفن إلى البوغاز.

  • أو إنشاء ترعة جديدة تخترق البر غربي جنوبي طابية الشيخ يوسف وتصبُّ في البحر الأبيض المتوسط غربي رأس البر الحالية، لتكون بمثابة مصبٍّ جديد ومدخل صالح للسفن الكبيرة.

وحوالي نفس الوقت قدم المهندس المصري الكبير أحمد راغب بك مشروعًا آخر لحفر ترعةٍ ملاحية عبر بحيرة المنزلة، يقوم على ضفتيها طريقان يصلان بين دمياط وبورسعيد، والمشروع عظيم جدًّا ويحقق الأهداف المطلوبة من إحياء ميناء دمياط وربطها بالعالم الخارجي وبداخل القطر، وقد فصل راغب بك الحديث عن مشروعه ومزاياه في كتابٍ ضخم مزود بالخُرُط والإحصاءات والصور الإيضاحية أصدرته جمعية المهندسين الملكية.

ومع هذا كله فإن الحكومة لم تأخذ باقتراحَي الخبراء ولا باقتراح راغب بك، وأنشأت طريقًا بريًّا يصل بين بورسعيد ودمياط، ويمر في معظمه بالجزر المتناثرة في بحيرة المنزلة، وقد أثبتت الحوادث والسنون عيوب هذا الطريق، وأنه لم يُحقِّق الأغراض التي أنشئ من أجلها، فعسى أن تُعنی الحكومة من جديدٍ بإعادة التفكير في مشروع راغب بك والعمل على تنفيذه؛ فهو في نظرنا خير المشروعات التي قُدِّمت حتى اليوم لإحياء ميناء دمياط وإعادتها إلى سابق مجدها التجاري الخارجي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤