مقدمة هذه الطبعة

انتهيتُ من كتابة الطبعة الأولى لهذا الكتاب في فبراير ٢٠١٢، وسطَ قدرٍ هائل من الغموض حيال ما سيحمله لنا المستقبلُ القريب؛ مَن سيفوز في الانتخابات الأمريكية المُزْمَع إجراؤها في نوفمبر المقبِل؟ وهل ستمزِّق الأزمةُ المالية أوروبا أشلاءً؟ وكيف ستصمد الرسالةُ الأساسية للكتاب في مواجهة الأحداث؟

الآن، تبدَّد بعض ذلك الغموض؛ ففي الولايات المتحدة، حقَّقَ الديمقراطيون نصرًا كبيرًا — وإن لم يكن كاملًا — في الانتخابات؛ إذ أعادوا باراك أوباما إلى البيت الأبيض، وزادوا أغلبيتهم في مجلس الشيوخ، غير أنهم أخفقوا في إسقاط الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب. وفي أوروبا، هدأتِ الأسواقُ المالية إلى حدٍّ ما، ويُعزى الفضلُ في ذلك إلى حدٍّ كبيرٍ إلى الدعم الذي قدَّمَه البنك المركزي الأوروبي، لكن الاقتصادَ الحقيقي استمرَّ في التدهورِ في معظم دول القارة الأوروبية؛ على وجه التحديد، تفاقَمَ الوضعُ الذي كان متردِّيًا أصلًا في جنوب أوروبا؛ فارتفعَتْ معدلاتُ البطالة في كلٍّ من اليونان وإسبانيا الآن لِتَبْلغَ مستوياتٍ لم تصل إليها الولاياتُ المتحدة في أَوْج أزمة الكساد الكبير. وخلال عام ٢٠١٢، ارتدَّتْ منطقةُ اليورو بأَسْرها إلى حالة الركود.

هل غيَّرَ أيٌّ من هذه الأحداث الرسالةَ الأساسية لهذا الكتاب؟ الإجابة هي لا، للأسف؛ بل على العكس من ذلك، لقد أصبحَتِ الرسالةُ — التي مفادها أننا نواجِه كارثةً خطيرةً لا داعيَ لها — أوثَقَ صلةً بالواقع من أي وقتٍ مضى؛ فالعالَم المتقدِّم لا يزال غارقًا في الكساد؛ حيث يبحث عشراتُ الملايين من الرجال والنساء عن عمل دون جدوَى، وتُهدَر إمكاناتٌ اقتصادية تُقدَّر بتريليونات الدولارات. ومع ذلك، فإن الأدلة تشير بوضوحٍ أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى إلى أن هذا الكساد غيرُ مبرَّر، فهو ليس سوى نتيجةٍ لعدم كفاية الطلب، وإذا عكسَتِ الحكوماتُ اتجاهاتها التقشُّفية الكارثية، وسعَتْ نحوَ تجديدِ التدابير التنشيطية عوضًا عن ذلك، فسيمكننا أن نَنْعَمَ بتعافٍ سريعٍ.

دعُونا ننظر إلى الوضع الحالي، وبخاصة آفاق العمل في الولايات المتحدة الآن وقد انتهَتْ من الانتخابات.

كارثة التقشُّف الأوروبية

إذا أردتَ أن تفهم أين نحن الآن، فالشكل أدناه نقطةُ انطلاقٍ لا بأسَ بها؛ يبيِّن الشكلُ معدلاتِ البطالة في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو، وهي مجموعة من الدول الأوروبية الغنية في معظمها، التي اعتمدَتِ اليورو عملةً موحَّدةً لها. ويوضِّح الشكلُ نقطتين رئيسيتين: لقد تَشارَكَ جانِبَا المحيط الأطلسي الأزمةَ منذ عام ٢٠٠٧ وحتى عام ٢٠١٠، لكنَّ أوضاعهما تبايَنَتْ منذ ذلك الحين.

في المرحلة الأولى — من أواخر عام ٢٠٠٧ وحتى أوائل عام ٢٠١٠ — غرقَتْ أوروبا والولايات المتحدة، على حدٍّ سواء، في حالةٍ من الركود العميق، وشهدَتَا ارتفاعًا سريعًا في معدلات البطالة. كان هذا الارتفاعُ أكثرَ حدَّةً في الولايات المتحدة؛ حيث يكون فصْلُ الموظفِين من العمل أسهلَ منه في معظم دول أوروبا، ولكن على أي حال، فإن الضربةَ كانت أشدَّ وطأةً على اقتصادِ شمال الأطلسي كلِّه منذ بداية الكساد الكبير.

لكنْ بدايةً من عام ٢٠١٠، بدَأَ التبايُنُ يظهر بين جانبَيِ المحيط الأطلسي؛ فعلى أحد الجانبين، بدأَتِ الولاياتُ المتحدة في خلْقِ فُرَصِ عملٍ جديدة. ومع أن الهبوطَ الأوَّليَّ في معدلات البطالة كان خدعةً إحصائيَّةً في جزءٍ منه (كما هو موضَّح أدناه)، فإنه بحلول ٢٠١١-٢٠١٢ بدأَتْ بوادرُ التحسُّنِ الاقتصادي تَلُوح واضحةً. وعلى النقيض من ذلك، راحَتْ أوضاعُ الاقتصاد الأوروبي تسير من سيِّئٍ إلى أسوأ؛ وبحلول عام ٢٠١٢ كانت القارةُ قد عادَتْ رسميًّا إلى الركود.

figure

ما سببُ هذا التبايُنِ؟ يمكن إيجادُ التفسير في الفصل الحادي عشر، الذي يصف كيف شَهِد عامُ ٢٠١٠ ظهورَ «أنصارِ التقشُّف» المفاجئ، الذين أصرُّوا على أن تَفرض الحكومات تخفيضاتٍ في الإنفاق وتَزيد الضرائب حتى مع ارتفاع معدلات البطالة. وفي الولايات المتحدة — حيث لم تتغلغل سياسةُ التقشُّف كثيرًا — حدَثَ بالرغم من ذلك بعضُ التقشُّف الفعلي بسبب التخفيضات التي فرضَتْها حكوماتُ الولايات والحكومات المحلية. أما في أوروبا فقدْ سيطَرَ أنصارُ التقشُّف على مناقشاتِ السياسات، وفُرِضَ التقشُّفُ الحادُّ على البلدان المَدِينة المتعثِّرة شرطًا للحصول على المعونة. وكي نَحْصل على صورة قريبة من الواقع، لو افترضنا أن الولايات المتحدة اعتمدَتْ سياسةَ تخفيضِ الإنفاق وزيادةِ الضرائب بالقدر نفسه الذي فُرِضَ على اليونان، فستصل قيمة المبلغ المتحصِّل نحو ٢٫٥ تريليون دولار «سنويًّا». وفي الوقت ذاته، فَرضَتْ أيضًا البلدانُ التي لا تواجِهُ أيَّ متاعب في الاقتراض — مثل ألمانيا وهولندا — على نفسها تدابيرَ تقشُّفيةً متواضعة؛ لذا جاءَتِ النتيجة الإجمالية لأوروبا في صورة انكماشٍ ماليٍّ حادٍّ.

ووفقًا لمذهب التقشُّف، كان ينبغي تعويضُ أيِّ آثار سلبية تَنتج عن هذا الانكماش من خلال التحسُّن في ثقة المستهلكين والشركات، وهو ما وصفْتُه من قبلُ بأن «جنيَّةَ الثقة» كان من المفترض أن تهبَّ للنجدة. إلا أنه على أرض الواقع لم تَظهر جنيَّة الثقة، وكانت النتيجة أنه في حين أن الولايات المتحدة تعافَتْ تعافيًا متواضِعًا على الأقل من آثار الأزمة المالية، فإن أوروبا ازدادَ غرقُها في بئر الكساد منذ ٢٠١٠، مع تزايُد وتيرةِ الانهيار على مدار عام ٢٠١٢.

ينبغي أن نولي المملكة المتحدة اهتمامًا خاصًّا هنا، وهي التي لم تعتمد اليورو؛ ومن ثَمَّ تتمتَّع باستقلالية كبيرة في سياساتها. كان يمكن لبريطانيا أن تستغلَّ هذه الاستقلالية — التي تنعكس في صورة تكاليف اقتراض منخفضة جدًّا، ضِمن أمور أخرى — لتجنُّبِ الوقوع في الكارثة الأوروبية، ولكن للأسف، فإن حكومة كاميرون — التي جاءَتْ إلى السلطة عام ٢٠١٠ — آمَنَتْ تمامًا بمذهب التقشُّف، ربما أكثر من أيِّ نظامٍ آخَر في سائر الدول المتقدِّمة. وفي حين أنه ثمة بعض الخلاف حول الأهمية النسبية للتقشُّف في مقابل عوامل أخرى في دفع الاقتصاد البريطاني إلى الكساد، فثمة حقيقة واحدة مؤكَّدة؛ أَلَا وهي: أن أداء الاقتصاد البريطاني كان متردِّيًا بشكل ملحوظ؛ إذ انخفَض الناتج المحلي الإجمالي منذ بداية الأزمة عن أمثاله، ليس فقط في الولايات المتحدة، ولكن في منطقة اليورو كذلك وحتى في اليابان.

الأخبار السارَّة هنا — إنْ جاز التعبير — هي أن بعض أفراد النخبة المعنِيَّة بوَضْعِ السياسات أقرُّوا على الأقل بأنهم أساءوا التقدير. على وجه التحديد، احتوَتْ طبعة أكتوبر ٢٠١٢ من تقرير آفاق الاقتصاد العالمي لصندوق النقد الدولي على اعترافٍ مدهِشٍ بالذنب فيما يتعلَّق بآثار التقشُّف؛ فقد اعترف صندوق النقد الدولي أنه بعد عام ٢٠١٠ كان أداء عددٍ من الأنظمة الاقتصادية الأوروبية أسوأَ بكثيرٍ مما كان متوقَّعًا، مُضِيفًا أن هذه الأخطاء في التوقُّعات كانت مرتبطة ارتباطًا ممنهجًا ببرامج التقشُّف؛ حيث كانَتِ الدولُ التي فَرضَتْ أكبرَ خفض في الإنفاق أو زيادة في الضرائب هي الأكثرَ تدنِّيًا عن المستويات المتوقَّعة. وماذا كانت النتيجة التي خلص إليها صندوق النقد الدولي من ذلك؟ أنه في الظروف التي تغلِب عليها سمةُ الكساد، تكون «المضاعفات المالية» — وهي أثرُ التوسع أو الانكماش الحكومي على الاقتصاد — أكبرَ كثيرًا مما توقَّعَ صندوقُ النقد الدولي ووكالات أخرى مثل المفوضية الأوروبية. في الواقع، لقد خلص صندوق النقد الدولي إلى أن هذه المضاعفات تتماشَى — إلى حدٍّ ما — مع ما كان أتباعُ كينز يزعمونه دائمًا.

للأسف، في وقتِ كتابة هذه السطور، ليس ثمة ما قد يشير إلى استعدادِ سائر اللاعبين الرئيسيين على الساحة الأوروبية لتقبُّل هذه المعلومات؛ ففي اليونان والبرتغال، ما زالت «المجموعة الثلاثية» — صندوق النقد الدولي، والبنك المركزي الأوروبي، والمفوضية الأوروبية — تُصرُّ على اشتراطِ اتخاذِ إجراءاتٍ تقشُّفية أكثر ضراوةً للحصول على القروض الطارئة، بالرغم من الأدلة الدامغة التي تشير إلى أن ذلك الدواءَ قاتلٌ. وفيما أعلَنَ البنك المركزي عن استعداده من حيث المبدأ لشراء سندات الدول المتعثِّرة، مثل إسبانيا وإيطاليا، فقد أوضَحَ أن إسبانيا — التي تتَّبِع بالفعل إجراءاتٍ تقشُّفيةً صارمة — عليها أن تَزيد من هذه الإجراءات كشرطٍ لتفعيل عمليات الشراء.

إذَنْ، ما الذي يتطلَّبُه إنقاذُ أوروبا؟ لا تزال وصفةُ الإنقاذ التي أُقدِّمها في الفصل العاشر هي الأملَ الباقي؛ أَلَا وهي: أن نُخفِّف حدة التقشُّف في البلدان المَدينة، وأن نُدخِل ولو بعضَ التوسُّعِ المالي في البلدان الدائنة، وأن يَتَّبع البنكُ المركزي الأوروبي سياساتٍ توسُّعيةً تهدف إلى رفع معدل التضخُّم بعضَ الشيء في أوروبا بأَسْرها؛ إلا أنه لم يتضح بعدُ ما إذا كانت مثل هذه الأفكار ستلقَى قبولًا سياسيًّا أم لا، ومتى سيحدث ذلك؛ كما أننا لا نعلم مقدار ما تمتلك أوروبا من وقت.

لا تنحصر مشكلةُ الكساد المستمر والمتفاقِم في أوروبا في مجرد كونه مأساةً إنسانية مروِّعة فحسب، بل تتجاوز ذلك بما لها من تداعيات سياسية مرعبة؛ ففي اليونان، يتزايد نفوذُ الحركات السياسية المتطرِّفة، بما في ذلك حركة «الفجر الذهبي» ذات الميول الفاشية الصريحة؛ وفي إسبانيا، أَخَذَ نجمُ الحركات الانفصالية في الصعود، لا سيما في كتالونيا. لا أحد يَعْرف أين تكمن نقطة الانهيار، ولكنَّ أصداءَ حقبة ثلاثينيات القرن العشرين تتردَّد بقوةٍ لا يمكن تجاهُلها.

التعافي الجزئي في أمريكا

منذ عام ٢٠١٠، حظيَتِ الولايات المتحدة بميزتين كبيرتين مقارَنةً بأوروبا؛ الميزة الأولى هي أننا لدَيْنا عملة واحدة تدعمها حكومة واحدة؛ لذلك لم تواجِه المناطقُ التي تعاني من الكساد أزماتٍ ماليةً على النمط الأوروبي. فدورة الانتعاش والتراجُع التي تَعرَّضَ لها قطاعُ الإسكان في ولاية فلوريدا لم تختلف كثيرًا عمَّا شهدَتْه إسبانيا، إلا أن فلوريدا تستطيع الاعتمادَ على واشنطن لإرسالِ شيكاتِ الضمان الاجتماعي لسكَّانها، ودَفْعِ فواتير الرعاية الصحية، وإنقاذِ بنوكها؛ ونتيجةً لذلك، لم تشهد الولايات المتحدة أزمةً ماليةً تماثِلُ تلك التي وقعَتْ في جنوب أوروبا.

الميزة الثانية هي أن نفوذَ أنصار التقشُّف لم يتغلغل في هذا الجانب من المحيط الأطلسي قطُّ قدْرَ توغُّله في أوروبا؛ صحيح أنهم استطاعوا تحويلَ دفةِ النقاش الاقتصادي من فُرَصِ العمل إلى المخاطر المزعومة للعجز؛ وهي مخاوف — كما أوضحْتُ في الفصل الثامن — كانَتْ دائمًا من نسج خيالهم. (كما تنبَّأَ أتباعُ كينز، ظلَّتْ تكاليفُ الاقتراض في الولايات المتحدة في أدنى مستوياتها على مرِّ التاريخ بالرغم من ارتفاع حجم الديون والعجز الكبير.) إلا أن التحرُّك الفعلي نحو التقشُّف في الولايات المتحدة كان متواضِعًا نسبيًّا، وهو ما نتج في المقام الأول عن تخفيضِ الإنفاق على مستوى الولايات، وكذلك على المستوى المحلي.

بعبارةٍ أخرى، نجحَتِ الولايات المتحدة في تجنُّبِ الوقوع في أخطاء السياسات الفادحة التي تعانيها أوروبا، ويشهد اقتصادُ الولايات المتحدة تقدُّمًا حقيقيًّا — وإنْ كانَ غير كافٍ — منذ أواخر عام ٢٠١١. لكن لسوء الحظ، فإن هذا التقدُّمَ الذي أحرزَتْه أصبَحَ في خطرٍ بسبب حالة الجمود السياسي التي فشلَتِ انتخاباتُ ٢٠١٢ في حلِّها.

وكما يبيِّن الشكلُ السابق، فقد انخفَضَ معدلُ البطالة الرسمي في الولايات المتحدة انخفاضًا كبيرًا عن ذروته في أواخر عام ٢٠٠٩. يعود جزءٌ من هذا الانخفاض إلى الخداع الإحصائي؛ فالعمَّال لا يُعتبَرون عاطلين عن العمل إذا كَفُّوا عن البحث الجاد عن عمل؛ ومن ثَمَّ يمكن لإحباط العاملين وحده أن يخفض معدلات البطالة المسجَّلة. أما منذ خريف عام ٢٠١١ فصاعدًا، فقد حدَثَ تحسُّنٌ حقيقيٌّ ملحوظ في سوق العمل؛ إذ راح معدلُ توظيف الأمريكيين في أَوْج سِنِّ العمل ينمو بوتيرةٍ أسرع بوضوحٍ مِن معدل نمو السكان.

تعكس هذه المكاسب «عمليةَ التعافي الطبيعية» الموصوفةَ في الفصل الثاني عشر؛ حيث تسعى الشركات لشراء المعدات والبرمجيات مجدَّدًا، حتى إنْ كان ذلك بهدفِ مواكَبةِ التقدُّم التكنولوجي فحسب. وقد تخلَّصَتْ سنوات الركود التي شهدَها قطاعُ الإسكان من أيِّ أعمالِ تشييدٍ زائدة تمَّتْ خلالَ سنوات الفقاعة، وبدأ القطاع يتعافى تدريجيًّا؛ كما انخفضَتْ تدريجيًّا ديونُ الأُسَرِ نسبةً إلى دَخْلها؛ مما حرَّر المستهلكين وأتاح لهم البدءَ في العودة إلى زيادة الإنفاق على استحياءٍ.

إلا أنه من المهم تجنُّبُ المبالَغةِ في تقدير المكاسب؛ فالاقتصاد الأمريكي لا يزال يعاني كسادًا عميقًا.

فَلْننظر في مشكلة البطالة الطويلة الأجل تحديدًا، وهي بالتأكيد أسوأ آفةٍ تعانِيها العمالةُ الأمريكية؛ فقبل الأزمة المالية، كانَتْ معدلاتُ البطالة الطويلةُ الأجل لدَيْنا متدنِّيةً جدًّا؛ فعلى الرغم من أنه كان ثمة ٦٫٨ ملايين أمريكي عاطل عن العمل في أكتوبر ٢٠٠٧، فإن ٧٥٠ ألفًا منهم فقط ظلُّوا عاطلين عن العمل لمدةٍ تزيد عن العام. وبعد مرور أربع سنوات، تضاعَفَ هذا الرقم ستةَ أمثال تقريبًا؛ حيث وصَلَ إلى ٤٫١ ملايين نسمة. وعلى الرغم من مؤشرات التعافي، ففي أكتوبر ٢٠١٢ ظلَّ ٣٫٦ ملايين أمريكي في فئة العاطلين عن العمل لمدةٍ تزيد عن العام.

المغزى من هذا هو أنه على الرغم من التقدُّم الذي أحرزه اقتصادُ الولايات المتحدة، فإن هذا التقدُّمَ أبطأُ بكثيرٍ ممَّا ينبغي أن يكون عليه، ولا يزال العمَّالُ الأمريكيون وأُسَرُهم يقاسون معاناةً هائلةً بلا داعٍ، وثمة خطر حقيقي من أن يقوِّض الجمودُ السياسي حتى هذا القدرَ غيرَ الكافي من التعافي؛ وذلك بسبب «الهاوية المالية».

في الواقع، تحوَّلَتْ تلك العبارة — التي صاغَها بن برنانكي — إلى إشكاليةٍ؛ لأنها جعلَتِ الناسَ يظنُّون، خطأً، أن المشكلةَ التي تلوح في الأفق ذاتُ صلةٍ بعجزِ الميزانية، وأنا أفضِّل مصطلحًا اقترَحَه براين بويتلر — من الموقع الإلكتروني توكينج بوينتس ميمو — وهو مصطلح «قنبلة التقشُّف»؛ تلك القنبلة التي أشعَلَ فتيلَها تصرُّفان أتى عليهما الحزبُ اليميني.

الأول كان في عام ٢٠٠١، حين صدم جورج دبليو بوش — الذي كان رئيسًا آنذاك — الجميعَ بتمرير خفضٍ كبيرٍ على الضرائب من خلال الكونجرس، مستغِلًّا المناورةَ البرلمانية المعروفة باسم التسوية لتجاوُزِ العراقيل من جانب مجلس الشيوخ. ووفقًا لقواعد مجلس الشيوخ، ينبغي أن تنتهي صلاحيةُ التشريعات الضريبية التي تُمَرَّر من خلال هذه المناورة بنهاية عام ٢٠١٠، وهو ما لم يُبْدِ بوش أيَّ ممانعةٍ له؛ وجزء من السبب وراء هذا هو أنه كان يتوقع استمرارَ سيطرة الجمهوريين عند انتهاء المهلة، إلى جانب أن تاريخَ انتهاءِ المهلة يُخفِي التكلفةَ الحقيقية التي تكبَّدَتْها الميزانيةُ نتيجةً لتلك الهبة.

لكن واقع الأمر كان أنه بحلول ٣١ ديسمبر ٢٠١٠، كان مَن يقيم في البيت الأبيض مرشَّحًا ديمقراطيًّا. وعلى الرغم من ذلك، فبدلًا من ترك الضرائب ترتفع بينما يعاني الاقتصادُ الكسادَ، عقد الرئيس أوباما صفقةً لتمديد تخفيضات بوش الضريبية سنتين أُخريَيْن. أمَّا الآنَ وقد تجاوَزَ مرحلةَ الانتخابات، فقد أبدَى رغبته في السماح بإنهاء بعض التخفيضات الضريبية، وتحديدًا تلك التي يستفيد منها أغنى الأمريكيين. إلا أن الجمهوريين لا يزالون محتفظين بسيطرتهم على مجلس النواب، وهم يهدِّدون حاليًّا بعدم تمرير أيِّ تشريعٍ ضريبيٍّ ما لم يُحافَظْ على انخفاض معدلات الضرائب على الأغنياء. وإذا لم يُحَلَّ هذا المأزقُ، فسترتفع الضرائبُ على الطبقتين المتوسطة والغنية معًا؛ ما سيوجِّه ضربةً كبيرةً في وقتٍ لا يزال الاقتصاد يعاني فيه الكسادَ.

بالإضافة إلى ذلك، في عام ٢٠١١ هدَّدَ الجمهوريون بعدم إقرار الرفع اللازم لسقف مديونية الولايات المتحدة؛ ما من شأنه أن يمنع الحكومةَ من اقتراض النقود التي تحتاجها لدفع فواتيرها، ولتجنُّبِ هذه النتيجة — التي كان من الممكن أن تكون كارثيةً — طالَبُوا بامتيازاتٍ في السياسات. اختارَ الرئيسُ ألَّا يتحدَّاهم لرؤية مدى صدْقِ تهديدهم، ولجأ في المقابل إلى التفاوُضِ على صفقةٍ من شأنها أن تخفض الإنفاقَ في نهاية عام ٢٠١٢، ما لم يتمَّ التوصُّلُ إلى اتفاقٍ آخَر، وهو ما لم يحدث حتى وقت كتابة هذه الكلمات.

وعلاوةً على كلِّ ما سلف، فمن المقرَّر وَقْفُ العمل بعدة إجراءات مهمة تستهدف تنشيطَ الاقتصاد — تتمثَّل بالأساس في خفضٍ مؤقَّتٍ لضريبة الرواتب وتمديد إعانات البطالة — بنهاية عام ٢٠١٢.

ويعني كلُّ هذا أنه في حالة استمرار الجمود السياسي، ستنخرط حكومة الولايات المتحدة بصورة شبه تلقائية في نوبةٍ مفاجئةٍ من التقشُّف على النمط الأوروبي، فترفع الضرائبَ وتخفض الإنفاقَ في اقتصادٍ ضعيفٍ في الأساس؛ وهذا قطعًا ليس العلاجَ الصحيح.

إلا أن هذا قد يحدث على أي حال؛ فالرئيس أوباما يرى أنه يواجِه محاولاتِ الابتزاز؛ إذ يهدِّد الجمهوريون بتقويض الاقتصاد ما لم يحقِّقْ لهم مبتغاهم، وقد استسلَمَ بالفعل لمثل هذا الابتزاز في نهاية عام ٢٠١٠، ومرة أخرى في عام ٢٠١١ فيما يتعلَّق بسقف المديونية؛ وإذا كان أوباما ينتوي أن يتَّخِذَ موقفًا حازمًا يومًا ما، فسيكون من الصعب أن يجدَ توقيتًا أفضل من اللحظة التالية على فوزه في انتخابات الفترة الثانية، وأنا شخصيًّا سأخلع قبعة خبير الاقتصاد الكلي مؤقَّتًا، وأشجِّعه على تحدِّي الحزب الجمهوري. قد لا يكون أثرُ ذلك طيِّبًا من ناحية الاقتصاد الكلي على المدى القصير، ولكن ثمة قضايا أكبر على المَحَكِّ.

في الوقت نفسه، قد يكون الجمهوريون تعرَّضوا لهزيمة كبيرة، إلا أنهم لا يزالون مسيطرين على مجلس النواب. وعلى الرغم من أن أصحاب المصالح التجارية راغبون بشدة في التوصُّل إلى اتفاقٍ يتجنَّبُ قنبلةَ التقشُّف، فإن اليمين المتشدِّد — الذي يشعر بالغضب والمرارة بسبب فشله في إسقاط الرئيس، ويسعى إلى الانتقام — لا يزال مُحْكِمًا قبضته على الحزب.

يشير ذلك كله إلى أنه من الممكن جدًّا ألَّا نتوصَّل إلى أيِّ اتفاقٍ قبل نهاية عام ٢٠١٢، وليس لزامًا أن تكون تلك كارثةً؛ فمشكلة أخرى تتسبَّب فيها لغةُ «الهاوية المالية»؛ هي أنها تعطي إيحاءً كاذبًا بأنه حتى الفشل لفترةٍ وجيزةٍ في الوصول إلى صفقةٍ، من شأنه أن يكون أمرًا كارثيًّا. ولكن الحقيقة هي أنه يمكننا الصمود عدة أشهر في عام ٢٠١٣ دون التعرُّضِ لأضرارٍ اقتصاديةٍ بالغة. بالنسبة إليَّ، أظنُّ — وهو مجرد ظَنٍّ يمكن أن يكونَ قد ثَبَتَ خطؤه بحلول وقت قراءتك هذه السطور — أن جزءًا من عام ٢٠١٣ سينقضي قبل أن نتوصَّلَ إلى اتفاقٍ، ولكن ضغوط مجتمع الأعمال ستُجبِر الحزبَ الجمهوري فعليًّا على الرضوخ لمطالب الرئيس قبل أن يقع ضررٌ كبيرٌ.

إلا أنه حتى لو حدث ذلك، فإن الحالة الاقتصادية في ظلِّ ذلك الوَضْع ستظلُّ غيرَ مُرضِيَة بالمرة؛ إذ ستواصِلُ الولايات المتحدة تَعافيها التدريجي، ولكن هذا لا يزال يعني سنواتٍ من المعاناة والهَدر الاقتصادي دون مبررٍ. إذَنْ، ما الذي يمكننا — بل وينبغي أيضًا لنا — أن نفعله؟

سُبُل المضيِّ قدمًا

لا يزال الاقتصاد الأمريكي في حالة كساد، ولا تزال قواعد اقتصاد الكساد تنطبق عليه؛ فما نحتاج إليه أكثر من أي شيء هو زيادة الإنفاق، لتشغيل العمَّال العاطلين عن العمل، وكذلك تشغيل القدرة الإنتاجية المعطَّلة. وأفضل وسيلةٍ أكيدة لنجاح ذلك الهدف هي زيادة الإنفاق الحكومي، وهو — كما أقول في هذا الكتاب — ما يمكن أن يتحقَّقَ بسهولةٍ عن طريق تقديم مساعدات كافية لحكومات الولايات، والحكومات المحلية تتيح لهم إعادة توظيف مئات الآلاف من معلِّمي المدارس، وإصلاح الطرق المليئة بالحُفَر، وما إلى ذلك.

وللأسف، فإن المشهد السياسي ليس مواتيًا بالقدر المرجوِّ؛ فالجمهوريون لا يزالون يسيطرون على مجلس النواب، وعلى الرغم من أنه قد يكون إخفاقهم في الاستحواذ على البيت الأبيض ومجلس الشيوخ أصابهم ببعض الاضطراب، فإنهم لن يقتنعوا بسهولة بفعل الصواب؛ فما الذي يمكن عمله غير ذلك؟

إحدى الإجابات هي أن بنك الاحتياطي الفيدرالي لا بد أن يبذل مزيدًا من الجهد؛ ففي عام ٢٠٠٠، عندما كانت اليابان تعاني ركودًا ممتدًّا، دعَا بروفيسور يُدعَى بن برنانكي بنكَ اليابان لإظهارِ بعضٍ من «عزم روزفلت» بالقيام بكلِّ ما يلزم لتحريك الاقتصاد مرة أخرى. وكما سوف أشرح في هذا الكتاب، فقد كانَتْ خيبة أمل كبيرة أن نفتقد هذا النوع من العزم عندما اضطُرَّ البروفيسور برنانكي — وقد أصبح الآن رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي — إلى مواجَهةِ موقفٍ مماثِلٍ في الولايات المتحدة. ولكن ثمة دلائل على أن بنك الاحتياطي الفيدرالي سيتبنَّى القضيةَ أخيرًا، ربما بعد أن حرَّرَتْه الانتخاباتُ من مخاوف اتهامه بتنشيط الاقتصاد لمساعدة حملة أوباما.

حتى الآن على الأقل، لم يتخذ بنكُ الاحتياطي الفيدرالي سوى خطوات جزئية نحو انتهاج سياسة أكثر حسمًا. الحل هنا — وفقًا لمعظم التحليلات — هو أن يُقنِع بنكُ الاحتياطي الفيدرالي المستثمرين بأنه سيسمح بزيادة التضخُّم إلى حدٍّ ما على المدى المتوسط. وبينما يبدو أنه يتحرَّك في هذا الاتجاه، فإن تحرُّكاته قد اتخذَتْ شكل إشارات غامضة في هذه المرحلة عوضًا عن الالتزامات الصارمة. والخبر السار هنا هو أنه يبدو أن الفئة المتخوِّفة من التضخُّم قد تراجعَتْ، ويبدو استعداد بنك الاحتياطي الفيدرالي متزايدًا للمخاطرة من أجل الوصول إلى حالة التوظيف الكامل.

إلا أن بنك الاحتياطي الفيدرالي قد لا يتمكَّن من تخطيط التعافي التام بمفرده، بل سيحتاج إلى المساعدة، وبعض تلك المساعدة يمكن أن يأتي عن طريق تخفيفِ عبْءِ الديون. ونذكر هنا تحديدًا الوكالةَ الفيدرالية لتمويل الإسكان، التي تُشرِف على مؤسَّستَيْ فاني ماي وفريدي ماك، والتي لا تزال تحتفِظُ بالقدرة على تخفيف عبء الديون على نطاقٍ واسعٍ بجَرَّة قلم؛ كل ما عليها فعله هو التنازُلُ عن شرطِ دفْعِ مُقدَّم لإعادة تمويل قروض الرهن العقاري المملوكة لمؤسَّستَيْ فاني وفريدي، فيصبح في إمكان الملايين من أصحاب المنازل أن يقلِّلوا من عبء الفائدة بسرعةٍ عن طريق إعادة التمويل بأسعار فائدة أقل كثيرًا.

وأخيرًا، في حين يبدو الطريق إلى التنشيط المالي صعبًا من الناحية السياسية، فلا يوجد سبب لليأس. في الواقع، يطالِب عددٌ من الديمقراطيين في الكونجرس بإدراج تحقيقِ دَفْعةٍ اقتصاديةٍ على المدى القصير في أيِّ صفقة تُعقَد بشأن قنبلة التقشُّف، وهي فكرة جيدة حقًّا. وبينما يمضي عام ٢٠١٣، يتعيَّن على الرئيس أوباما أن يوضح — مرة بعد أخرى — أن العراقيل التي يضعها الجمهوريون تعترض طريقَ خَلْقِ فرص العمل، ويطالب بإزاحة الحزب الجمهوري عن الطريق.

هذا الكساد يبدو بعيدًا كلَّ البعد عن الانتهاء، على الرغم من عدم وجود سببٍ وجيه لاستمراره. صحيح أنه لا تزال ثمة اختناقات سياسية وأيديولوجية تعرقِل صدورَ السياسات التي يمكن أن تأتي بالتعافي السريع، إلا أن هذه الاختناقات يبدو أنها في طريقها للحلِّ تدريجيًّا، وإنها لَمسئولية كلِّ مَن يملك رأيًا مسموعًا أن يعمل على التعجيل بتلك العملية، وإغاثة العاطلين عن العمل من معاناتهم التي طال أمدها. نحن نمتلك الأدوات، وكلُّ ما يلزمنا هو وضوح الفكر والإرادة؛ فلا يزال في وسعنا أن نُنهِيَ هذا الكساد الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤