الفصل السابع

تحليل الاستجابة القاصرة

أتوقَّعُ السيناريو التالي: تُوضَع خطةُ تنشيطٍ ضعيفةٌ — ربما أضعف حتى ممَّا نتحدَّث عنه الآن — لِكسب الأصوات الإضافية المنشودة من الحزب الجمهوري. ستحدُّ هذه الخطةُ من الزيادة في معدلات البطالة، ولكن ستظلُّ الأوضاعُ سيئةً جدًّا مع ارتفاع المعدلات لتبلغ ذروتها عند ما يقرب من ٩ في المائة، ثم هبوطها ببطء. وحينها سيقول ميتش ماكونِل: «أرأيتم؟ الإنفاق الحكومي غير مُجدٍ.»

فَلْنأمل أن يكون تصوُّري هذا خاطئًا.

من مدونتي، ٦ يناير ٢٠٠٩

في ٢٠ يناير ٢٠٠٩، أدَّى باراك أوباما اليمينَ الدستورية رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية. وفي خطاب تنصيبه، أقرَّ أوباما بتَرَدِّي الأوضاع الاقتصادية، ولكنه وعَدَ «باتخاذ إجراءاتٍ جريئة وعاجلة» لإنهاء الأزمة، وقد كانت الإجراءات التي اتخذها عاجلةً بالفعل؛ عاجلةً بما يكفي لوقف الانهيار السريع والمستمر للاقتصاد بحلول صيف ٢٠٠٩.

إلا أنها كانت تفتقر إلى الجرأة؛ فقد تصدَّرَ استراتيجيةَ أوباما الاقتصادية — وهو قانون التعافي وإعادة الاستثمار الأمريكي — أكبرُ برنامج لخلق فُرَص العمل في تاريخ الولايات المتحدة، إلا أنه كان غير كافٍ على الإطلاق لأداء المهمة، ولم تكن تلك حالةً من حالات إدراك الصواب بعد فوات الأوان. ففي يناير ٢٠٠٩، ومع ظهور الخطوط العريضة للخطة، أعلَنَ الاقتصاديون المتعاطفون مع الخطة من خارج الإدارة عن قلقهم البالغ من التبعات الاقتصادية والسياسية لأَنْصاف الحلول التي كانت موضِعَ التفكير آنذاك، ونحن نعلم الآن أن بعض الاقتصاديين من داخل الإدارة — منهم كريستينا رومر، رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين — كانوا يشاركون زملاءهم من خارج الإدارة تلك المشاعر.

إنصافًا لأوباما، فقد جاء فشَلُه مماثِلًا لفشَلِ نظرائه في جميع أنحاء العالم المتقدِّم بشكلٍ أو آخَر؛ حيث عجز صنَّاع السياساتُ في كلِّ مكان عن الوفاء بالتزاماتهم، وتدخَّلَت الحكوماتُ والبنوكُ المركزية مستخدِمةً سياساتٍ لخفض أسعار الفائدة، ومساعدات للبنوك كانت كافيةً لمنع تكرار الانهيار الكامل للقطاع المالي الذي وقع في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين؛ مما تسبَّبَ في ضائقةٍ ائتمانية استمرَّتْ ثلاثَ سنوات، واضطلعت بدورٍ رئيسي في حدوث الكساد الكبير. (حدثَتْ ضائقةٌ ائتمانيةٌ مماثِلة في ٢٠٠٨-٢٠٠٩، إلا أنها كانَتْ أقصرَ أمدًا؛ إذ امتدَّتْ من سبتمبر ٢٠٠٨ حتى أواخر ربيع عام ٢٠٠٩.) ولكن السياسات لم تكن بأي حال قويةً بما يكفي لتجنُّبِ حدوث ارتفاعٍ ضخمٍ ومستمرٍّ في معدلات البطالة. وعندما جاءت الجولة الأولى من استجابات السياسات قاصِرةً، اعتَبرَتِ الحكوماتُ في شتى أنحاء العالم المتقدِّمِ أنَّ ذلك دليلٌ واضح على أنه لا يوجد ما يمكن — أو ينبغي — فعْله لخلق فرص العمل، عوضًا عن أن تقرَّ بقصورِ سياساتها.

إذَنْ، فقد فشلَتِ السياساتُ في معالجة الأزمة؛ كيف حدث هذا؟

من ناحيةٍ، كان مَن يمتلكون أفكارًا صائبةً، إلى حدٍّ ما، عمَّا يحتاجه الاقتصاد — بمَا فيهم الرئيس أوباما — يفتقرون إلى الحسم، فلم يرغبوا قطُّ في الإقرار بكَمِّ الإجراءات المطلوبة، ولا الاعتراف في وقت لاحق بأن ما فعلوه في الجولة الأولى لم يكن كافيًا. وفي المقابل، كان الأشخاص ذوو النهج الخاطئ في التفكير — سواء أكانوا من السياسيين المحافظين أم اقتصاديي المياه العذبة الذين تناولْتُهم بالحديث في الفصل السادس — شديدي الحماس لآرائهم وغير مكبَّلين بالشك في أنفسهم. وحتى في شتاء ٢٠٠٨-٢٠٠٩ المرير — عندما كان من المتوقَّع أن يفكِّروا حتى في احتمالِ كونهم مخطئين — شَنُّوا حملةً شرِسةً ضد كل ما يناهض أيديولوجيتهم؛ فمَن كانوا على حقٍّ افتقروا إلى القناعة، في حين أن مَن كانوا مخطئين اتَّسموا بحماسٍ جارِفٍ.

فيما يلي، سأركز على تجربةِ الولايات المتحدة الأمريكية، مع الإشارة إلى عددٍ قليلٍ من الأحداث التي شهدَتْها بلدان أخرى، ويعود ذلك جزئيًّا إلى أن قصة الولايات المتحدة هي ما أعرفه حقَّ المعرفة — وبصراحةٍ، هي أكثر ما أهتمُّ به — ولكن ذلك يُعزَى أيضًا إلى أن التطوراتِ التي شهدَتْها أوروبا اتسمَتْ بطابع فريد — نظرًا لمشكلاتِ العملة الأوروبية المشتركة — ما جعلها في حاجةٍ إلى معالجة من نوعٍ خاصٍّ.

ودون أن أُطِيلَ عليكم أكثرَ، دعونا ننتقِل إلى قصةِ تكشُّف الأزمة، ثم إلى تلك الأشهر المصيرية التي شهدتها أواخر عام ٢٠٠٨ وأوائل عام ٢٠٠٩ عندما أظهرَتِ السياساتُ الاقتصادية قصورًا حاسمًا وكارثيًّا.

حلول الأزمة

لم تكن لحظةُ مينسكي في الولايات المتحدة لحظةً فعليًّا، وإنما كانَتْ عمليةً امتدَّتْ أكثرَ من عامين، وتصاعدت وتيرتُها بصورة جذرية قربَ نهاية تلك الفترة؛ فأولًا بدأَتْ في الانكماش فقاعةُ الإسكان الكبرى التي ظهرَتْ في عهد بوش، ثم بدأَتِ الخسائرُ الناتجة عن الأدوات المالية المضمونة بالقروض العقارية في النيل من المؤسسات المالية، ووصلت الأمور إلى ذروتها مع انهيار بنك ليمان براذرز، الذي تسبَّبَ في موجةِ ذُعْرٍ مصرفيٍّ عامةٍ في منظومة «بنوك الظل». في تلك المرحلة، استدعَتِ الحاجةُ اتخاذَ إجراءات جريئة وجذرية في مجال السياسات، إجراءات تتجاوز إخماد النيران المشتعلة؛ ولم تُتَّخَذ.

بحلول صيف ٢٠٠٥، ارتفعَتْ أسعارُ المساكن في المدن الرئيسية فيما يُطلَق عليه «ولايات الرمال» — وهي فلوريدا وأريزونا ونيفادا وكاليفورنيا — إلى ما يقرب من ١٥٠ في المائة ممَّا كانت عليه في بداية العقد، وشهدت مدنٌ أخرى زياداتٍ أصغر، لكن كان جليًّا وجود طفرةٍ في أسعار المساكن المحلية حاملةٍ كلَّ دلائل فقاعة الأسعار الكلاسيكية — الاعتقادِ بأن الأسعار لن تنخفض أبدًا، واندفاعِ المشترين للحصول على المنازل قبل ارتفاع الأسعار أكثر، والكثيرِ من أنشطة المضاربة — حتى إنه ظهَرَ برنامجٌ من برامج تليفزيون الواقع يحمل اسم «فليب ذيس هاوس» (بمعنى شراء منزل وتجديده ثم بيعه لتحقيق ربح سريع)؛ إلا أن الفقاعة كانَتْ قد بدأَتْ في تسريب الهواء بالفعل؛ فقد كانَتِ الأسعارُ ما زالت ترتفع في معظم الأماكن، إلا أن بيع المنازل بدأ يستغرق وقتًا أطول بكثير.

ووفقًا لمؤشر كيس شيلر الواسع الاستخدام، بلغَتْ أسعارُ المساكن ذروتها على الصعيد الوطني في ربيع ٢٠٠٦، وفي السنوات التالية ثبَتَ بما لا يَدَعُ مجالًا للشكِّ خطأُ الاعتقاد السائد بأن أسعار المساكن لا تنخفض أبدًا؛ فقد شهدت المدن التي حدثَتْ بها أعلى زياداتٍ في الأسعار خلال سنوات الفقاعة أكبرَ معدلات انخفاض؛ فانخفضَتِ الأسعار في ميامي بنسبةٍ تصل إلى ٥٠ في المائة، بينما وصَلَ الانخفاض في لاس فيجاس إلى ما يقرب من ٦٠ في المائة.

وكان ممَّا أثار بعض الدهشة أن انفجار فقاعة الإسكان لم يؤدِّ إلى ركودٍ فوريٍّ؛ فقد شهدَتْ سوق الإنشاءات العقارية هبوطًا حادًّا، لكنَّ ذلك الانخفاضَ عادَلَتْه طفرةٌ في الصادرات، نجمَتْ عن ضعف الدولار الأمريكي الذي جعل تكاليف التصنيع في الولايات المتحدة تنافُسيةً جدًّا. وعلى الرغم من ذلك، فمع حلول صيف ٢٠٠٧، بدأت متاعب قطاع الإسكان تتحوَّل إلى متاعب بالنسبة إلى البنوك، التي بدأَتْ تعاني من خسائر كبيرة في الأوراق المالية المضمونة بقروض الرهن العقاري، وهي أدواتٌ مالية تنشأ عن طريق بيع المطالبات المستحقة على عددٍ من الرهون العقارية المجمعة، مع الأخذ في الاعتبار أن بعضَ تلك المطالبات كان ذا أولويةٍ أعلى من غيره؛ أيْ إنَّ له حقَّ الحصول على أولى النقود الواردة.

كان من المفترض أن يكون عنصرُ المخاطرة في تلك المطالبات ذاتِ الأولوية منخفِضًا جدًّا؛ فعلى أي حالٍ، ما مدى احتمال أن يتخلَّف عددٌ كبيرٌ من الناس عن تسديدِ أقساط قروضهم العقارية في وقتٍ واحدٍ؟ الإجابة بالطبع هي أن ذلك كان محتملًا جدًّا في ظلِّ انخفاضِ قيمة المنازل بنِسَبٍ تصل إلى ٣٠ أو ٤٠ أو ٥٠ بالمائة عمَّا دفع المقترضون فيها عند شرائها؛ لذا فقد انتهى الأمرُ بالكثير من الأصول التي كان يُفترَض أمانها — والتي منحَتْها وكالةُ ستاندرد آند بورز أو وكالةُ موديز أعلى تصنيف ائتماني — إلى أن أصبحَتْ «نفاياتٍ سامةً»، لا تساوي سوى جزء ضئيل من قيمتها الاسمية. وقد بِيعَ بعضُ تلك النفايات السامة لمشترين غافلين — مثل نظام تقاعُد معلمي فلوريدا — لكن أكثرها ظلَّ داخل النظام المالي؛ إذ اشترتها البنوك أو بنوك الظلِّ. ونظرًا لأن نسبة الاستدانة في البنوك التقليدية وبنوك الظلِّ عاليةٌ أصلًا، لم تلبث الملاءةُ المالية للعديد من المؤسسات أن صارَتْ موضعَ شكٍّ بعد وقوع خسائر كثيرة بهذا النطاق.

بدأت خطورةُ الوضع تتجلَّى في ٩ أغسطس ٢٠٠٧، عندما أخبَرَ بنكُ الاستثمار الفرنسي بي إن بي باريبا المستثمرين في صندوقين من صناديقه أنهم لم يَعُدْ باستطاعتهم سحْبُ نقودهم؛ لأن الأسواق التي تتضمَّنُها هذه الأصول قد أُغلِقت فعليًّا؛ ونشأَتْ ضائقة ائتمانية حين صارَتِ البنوكُ — من جرَّاء قلقها من الخسائر المحتملة — يُحْجِم بعضها عن إقراض بعض. وتسبَّبَتِ الآثارُ المجتمِعة للتراجُع في سوق الإنشاءات العقارية، وضَعْف الإنفاق الاستهلاكي نتيجةَ الهبوط في أسعار المساكن، بالإضافة إلى الضائقة الائتمانية؛ في دفع الاقتصاد الأمريكي إلى الركود بحلول نهاية عام ٢٠٠٧.

إلا أنه في البداية، لم يكن الهبوط حادًّا جدًّا، وحتى أواخر سبتمبر ٢٠٠٨ كان من الممكن أن يُرجَى ألَّا يكونَ الهبوطُ الاقتصادي شديدًا، بل في الواقع، كان كثيرون يرون أن الولايات المتحدة لم تكن تشهد حالة من الركود حقًّا. أتذكرون فيل جرام، عضو مجلس الشيوخ السابق الذي خطَّطَ لإلغاء قانون جلاس-ستيجال، ثم ذهب بعد ذلك للعمل في القطاع المالي؟ في عام ٢٠٠٨، كان جرام مستشارًا لجون ماكين — المرشح الرئاسي الجمهوري — وفي يوليو من ذلك العام أعلَنَ أننا كنَّا في حالةٍ من «الركود العقلي» فحسب، وليس ركودًا حقيقيًّا، وأضاف قائلًا: «لقد أصبحنا أمةً من النائحين نوعًا ما.»

في الواقع، كان الانكماش الحقيقي موجودًا بالفعل؛ إذ ارتفَعَ معدلُ البطالة فعلًا من ٤٫٧ في المائة إلى ٥٫٨ في المائة، ولكن من المؤكد أن المصيبةَ الحقيقية كانَتْ لا تزال تنتظرنا في المستقبل؛ إذ لم يبدأ الاقتصاد سقوطه الحر إلا بعد انهيار ليمان براذرز في ١٥ سبتمبر ٢٠٠٨.

لماذا كان سقوطُ ما يُعَدُّ في نهايةِ المطاف بنكًا استثماريًّا متوسِطَ الحجم سببًا في حدوث كلِّ هذا الضرر؟ الإجابة الفورية هي أن سقوط ليمان براذرز أثارَ نوبةَ ذُعْرٍ مصرفي في منظومة بنوك الظل، ولا سيما نوعًا معينًا من أنشطة الظل المصرفية يُعرَف باسم «عمليات إعادة الشراء». نذكر من الفصل الرابع أن ذلك نظامٌ تموِّل فيه المؤسساتُ المالية — مثل بنك ليمان — استثماراتِها عن طريق الحصول على قروض قصيرة الأجل — كثيرًا ما تكون لمدةِ ليلةٍ واحدةٍ — من مؤسسات أخرى، متَّخِذةً من بعض الأصول، مثل الأوراق المالية المضمونة بقروض الرهن العقاري، ضماناتٍ للقروض. كان ذلك أحد أنواع الأنشطة المصرفية؛ لأن المؤسسات من نوعية ليمان كانت تمتلك أصولًا طويلةَ الأجل (مثل الأوراق المالية المضمونة بالرهن العقاري)، والتزاماتٍ قصيرةَ الأجل (عمليات إعادة الشراء)، غير أنه نوع من الأنشطة المصرفية غير محكوم بأي ضمانات، مثل التأمين على الودائع. وقد كانت الضوابط التي تحكم المؤسسات من قَبيل بنك ليمان واهيةً جدًّا؛ وهو ما يعني أنها تقترض عادةً بأقصى حدٍّ ممكنٍ، بحيث يصل حجمُ ديونها إلى حجم أصولها تقريبًا؛ ولذلك كان انهيار مثل هذه المؤسسات لا يستلزم أكثرَ من انتشار القليل من الأنباء السيئة، مثل أنباء حدوث هبوطٍ حادٍّ في قيمة الأوراق المالية المضمونة برهن عقاري.

إذَنْ فقد كانَتْ عملياتُ إعادة الشراء — باختصار — عرضةً لنوبات الذُّعْر المصرفي في صورتها الجديدة في القرن الحادي والعشرين، وهذا بالضبط ما حدَثَ في خريف عام ٢٠٠٨؛ فالمقرضون الذين كانوا فيما سبق مستعِدِّين لإقراض المؤسسات من قبيل ليمان براذرز لم يعودوا واثقين في قدرة الجانب الآخَر على الوفاء بوعده بإعادة شراء الأوراق المالية التي باعها مؤقتًا، وبدأَتْ تطلب تأمينًا إضافيًّا في صورة «هوامش ضمان»؛ وهو ما يعني ببساطةٍ استخدامَ المزيد من الأصول ضمانًا؛ إلا أنه بما أن البنوك الاستثمارية كانت تمتلك أصولًا محدودة، فقد كان ذلك يعني أنها لم تَعُدْ قادرةً على اقتراضِ ما يكفي لتلبية احتياجاتها النقدية؛ ومن ثم بدأَتْ نوباتٌ محمومةٌ من بيع الأصول؛ ما زاد انخفاض الأسعار ودفَعَ المقرضين إلى طلبِ المزيد من هوامش الضمان على القروض.

في غضون أيام بعد إفلاس ليمان براذرز، عاثَتْ هذه الصورةُ الحديثة من ذُعْر المصارف فسادًا، ليس في النظام المالي فحسب، ولكن في تمويل الأنشطة الحقيقية كذلك؛ فقد ظلَّ أكثرُ المقترضين أمانًا — مثل حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بطبيعة الحال، والشركات الكبرى ذات القاعدة الصلبة — قادرين على الاقتراض بأسعار منخفضة نسبيًّا، أما المقترضون الذين بَدَا عليهم أدنى قدرٍ من المخاطرة، فقد أُغلِقَتْ دونَهم أبوابُ الاقتراض، أو أُجبِروا على دفع أسعار فائدة مرتفعة جدًّا. ويوضِّح الشكلُ المبيَّن أدناه العائدات على الأوراق المالية التجارية «المرتفعة العائد» — المعروفة أيضًا بالسندات الرديئة — التي كانت عوائدها تقلُّ عن ٨ في المائة قبل الأزمة، ثم ارتفعَتْ لتصل إلى ٢٣ في المائة بعد سقوط بنك ليمان براذرز.

figure
بعد سقوط ليمان براذرز في ١٥ سبتمبر ٢٠٠٨، ارتفَعَ سعر الفائدة على جميع الأصول عدا الأصول الأكثر أمانًا؛ ما ساهَمَ في الهبوط المفاجِئ للاقتصاد (المصدر: بنك الاحتياطي الفيدرالي بسانت لويس).

تبلورت احتمالية وقوع انهيارٍ كاملٍ للنظام المالي في أذهان صانعي السياسات، وعندما باتَ الأمرُ يتعلَّقُ بإنقاذ البنوك، تصرَّفوا بقوةٍ وحسمٍ؛ فقدَّمَ بنك الاحتياطي الفيدرالي قروضًا ضخمةً للبنوك وغيرها من المؤسسات المالية المختلفة لضمان عدم نفاد السيولة النقدية لديها، كما أصدر حزمةً من ترتيبات الإقراض الخاصة تحمل أسماءً واختصاراتٍ شتَّى لسدِّ فجوات التمويل التي نشأَتْ بسبب حالة الشلل التي أصابَتِ البنوكَ. وبعد محاولتين، مرَّرَتْ إدارةُ بوش برنامجَ إغاثة الأصول المتعثِّرة من خلال الكونجرس، وأنشأَتْ بموجبه صندوقَ إنقاذٍ بقيمة ٧٠٠ مليار دولار، استُخدِم أساسًا لشراء حصص في البنوك وزيادة رءوس أموالها.

ثمة الكثير من الانتقادات التي يمكن توجيهها لذاك النهج في التعامُل مع برنامج الإنقاذ المالي. كانت البنوك بالفعل تحتاج للإنقاذ، ولكن كان يجب على الحكومة أن تعقدَ صفقةً بشروط أصعب، مطالِبةً بحصص ملكية أكبر في البنوك مقابِلَ حصولها على تلك المساعدات الطارئة. في ذلك الوقت، حَثَثتُ إدارةَ أوباما على فرض الحراسة على مجموعة سيتي جروب وبضعة بنوك أخرى، ليس بغرض تشغيلها على المدى البعيد، وإنما للتأكُّد من وصول المنفعة كاملةً إلى دافعي الضرائب عندما تتعافَى تلك البنوك بفضل مساعدات مجلس الاحتياطي الفيدرالي، إنْ تعافَتْ. وبالإحجام عن هذا الخطوة، كان ما فعلَتْه إدارةُ أوباما فعليًّا هو تقديم إعانات كبيرة وفعَّالة لحاملي أسهم، أصبحوا في وضعٍ يسمح لهم بالفوز في حالة تحسُّنِ الأمور، أما إذا أتَتِ الرياحُ بما لا تشتهي السفن، فثمة مَن سيتحمَّل الخسارةَ عنهم.

ولكن على الرغم من تنفيذِ خطة الإنقاذ المالي بشروطٍ أكثر سخاءً مما يجب، فقد كانت ناجحةً في مجملها؛ فقد نجَتِ المؤسساتُ المالية الكبرى، وارتدَّتْ ثقةُ المستثمرين، وبحلول ربيع عام ٢٠٠٩، كانت الأسواق المالية قد استعادَتْ وضْعَها الطبيعي إلى حدٍّ كبيرٍ، وأصبح في مقدور معظم المقترضين — وإن كان ليس في مقدورهم كلهم — الاقتراضُ مجدَّدًا بأسعارِ فائدةٍ معقولة إلى حدٍّ ما.

ولكن للأسف، لم يكن ذلك كافيًا؛ فلا يمكن أن يعُمَّ الرخاءُ دون نظامٍ ماليٍّ فعَّالٍ، ولكنَّ استقرارَ النظام المالي لا يُسفِر عن رخاءٍ بالضرورة. ما كانت الولايات المتحدة تحتاج إليه هو خطة إنقاذ للاقتصاد الحقيقي الذي يمثِّل الإنتاجَ والوظائفَ، على القدر ذاته من القوة والكفاية كخطة الإنقاذ المالي. أما ما حصلَتِ الولاياتُ المتحدة عليه بالفعل فكان أقلَّ بكثيرٍ من هذا الهدف.

تدابير تنشيطية قاصرة

بحلول ديسمبر ٢٠٠٨، كان أعضاء فريق باراك أوباما الانتقالي يستعِدُّون لتولِّي إدارةِ الاقتصاد الأمريكي، وكان قد اتضح بالفعل أنهم يواجِهون احتمالاتٍ مخيفةً جدًّا؛ فهبوط أسعار المنازل والأسهم وجَّهَ ضربةً قاصمةً للثروات، وانخفَضَ صافي ثروة الأُسَر ١٣ تريليون دولار — وهو ما يعادِل تقريبًا قيمةَ إنتاج عامٍ كاملٍ من السلع والخدمات — على مدى عام ٢٠٠٨؛ وبطبيعة الحال تعرَّضَ الإنفاقُ الاستهلاكي لهبوطٍ حادٍّ، وتبعه إنفاقُ الشركات، الذي كان يعاني كذلك من آثار الضائقة الائتمانية؛ حيث لم يكن ثمة سببٌ للتوسُّع في شركةٍ اختفَى عملاؤها.

إذَنْ، ما الذي كان يتحتَّم علينا فعله؟ في المعتاد يكون خطُّ الدفاع الأول ضد نوبات الركود هو بنك الاحتياطي الفيدرالي، الذي يقلِّل عادةً أسعارَ الفائدة عندما يتعثَّر الاقتصاد، ولكن أسعار الفائدة القصيرة الأجل — التي يتحكَّم بها بنك الاحتياطي الفيدرالي في المعتاد — كانت قد وصلَتْ بالفعل إلى الصفر ولم يَعُدْ من الممكن خفْضُها أكثرَ من ذلك.

تركَنا هذا أمامَ خيار بديهي واحد؛ هو التنشيط المالي؛ أي زيادة الإنفاق الحكومي مؤقَّتًا أو تخفيض الضرائب أو كلَيْهما؛ بهدف دعم الإنفاق العام وخلق فرص عمل. وفي الواقع، فقد وضعَتْ إدارة أوباما قانونًا للتنشيط المالي وفعَّلَتْه، وهو قانون التعافي وإعادة الاستثمار الأمريكي. وللأسف، فإن المبلغ الذي وفَّره ذلك القانون — ٧٨٧ مليار دولار — كان أقلَّ كثيرًا من المبلغ اللازم لتأدية الغرض. لا شكَّ أنه خفَّفَ وطأةَ الركود، لكنه كان أقلَّ كثيرًا من القدر اللازم لاستعادة التوظيف الكامل للعمالة، أو حتى لبَثِّ إحساسٍ بالتقدُّم. والأسوأ من ذلك أنَّ فشَلَ التدابير التنشيطية في تحقيقِ نجاحٍ واضحٍ أدَّى إلى تقويضِ فكرة استخدام الإنفاق الحكومي لخلق فُرَصِ العمل من أساسها في أذهان الناخبين؛ ومن ثم لم تَنَلْ إدارةُ أوباما فرصةً لإعادة المحاولة.

قبل أن نصل إلى أسباب القصور البالغ للتدابير التنشيطية، اسمحوا لي أن أردَّ على اعتراضَين يواجِهُهما أمثالي في كثيرٍ من الأحيان. الاعتراض الأول هو ادِّعاء أن كلَّ ما نقوم به هو تقديم الأعذار، وأن ما نفعله كله محاولةُ تبريرٍ لاحقةٌ لفشل سياستنا المفضلة. أما الاعتراض الثاني فهو قول إن أوباما قادَ عمليةَ توسُّعٍ هائلة للحكومة؛ ولذلك لا يمكن أن يكون من الصواب أن نقول إنه أنفَقَ أقلَّ من اللازم.

الإجابة على الادِّعاء الأول تتلخَّص في أن هذا الرأي «ليس» لاحقًا؛ فقد حذَّرَ كثيرٌ مِن الاقتصاديين منذ البداية من أن اقتراح الإدارة الأمريكية غير كافٍ على الإطلاق؛ فعلى سبيل المثال: بعد يوم واحد من التوقيع على قانون التدابير التنشيطية، صرَّحَ جوزيف ستيجليتز من جامعة كولومبيا (الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد) بالتالي:

أعتقِدُ أنه ثمة اتفاقٌ واسِعُ النطاق — وإنْ لم يكن إجماعًا — بين خبراء الاقتصاد على أن حزمة التدابير التنشيطية التي تمَّ تمريرها جاءَتْ سيئةَ التصميم وقاصرةً. وأنا أعلم أنه ليس ثمة إجماعٌ على هذا الرأي، ولكن دعوني أحاوِل أن أشرح لكم ما أعنيه؛ أولًا: ينبغي أن يكون قصورُ هذه الحزم واضحًا ممَّا ذكرته للتوِّ؛ فهي تسعى إلى تعويض نقص الطلب الكلي، وهي أقل بكثير من أن تحقِّق هذا الغرضَ.

بالنسبة إليَّ كنتُ أعلِنُ عن بالغ سخطي على الملأ حينما بدأَتْ ملامحُ خطة الإدارة تتَّضِح، وكتبتُ:

ترِدُنا المعلومات عن خطة أوباما التنشيطية شيئًا فشيئًا، ما يكفي لبدء وضْعِ تقديراتٍ تقريبيةٍ لآثارها. خلاصة القول هي التالي: نحن أمامَ خطة من شأنها أن تزيل أقلَّ من ٢ بالمائة من متوسط معدلات البطالة على مدى العامين المقبِلين، وربما أقل من ذلك بكثيرٍ.

وبعد إجراء عدد من العمليات الحسابية، خلصتُ إلى نتيجةٍ مفادها التصريح الذي استشهدتُ به في بداية هذا الفصل؛ حيث ذكرتُ أنني أخشى أن حُزَمَ التدابير التنشيطية القاصرة سوف تفشل في إحداث تعافٍ كافٍ، كما أنها ستقوِّض الدعوة السياسية لاتخاذ مزيدٍ من الإجراءات.

للأسف، لم نكن أنا أو ستيجليتز مخطئَين في مخاوفنا؛ فقد ارتفعَتِ البطالةُ إلى حدٍّ أعلى حتى ممَّا توقعْتُه — إذ بلغَتْ أكثرَ من ١٠ في المائة — ولكنَّ النتائجَ الاقتصادية وتداعياتها السياسية جاءَتَا في جوهرهما كما كنتُ أخشى تمامًا. وكما ترون بوضوحٍ، كنَّا نحذِّر من عدم كفاية حزم التدابير التنشيطية منذ البداية، ولسنا نقدِّم الأعذارَ بعد وقوع المشكلة.

ماذا عن التوسُّع الهائل في الحكومة المفترض أنه حدث في عهد أوباما؟ حسنًا، لقد زادَ الإنفاقُ الفيدرالي كنسبةٍ مئويةٍ من الناتج المحلي الإجمالي بالفعل، من ١٩٫٧ في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية ٢٠٠٧ ليصل إلى ٢٤٫١ في المائة في السنة المالية ٢٠١١. (تبدأ السنةُ المالية في الأول من أكتوبر من السنة التقويمية السابقة.) ولكنَّ هذا الارتفاعَ لا يعني ما يعتقده الكثيرون؛ لِمَ لا؟

أولًا: أحد أسباب ارتفاع نسبة الإنفاق إلى الناتج المحلي الإجمالي هو أن الناتج المحلي الإجمالي كان منخفضًا. استنادًا إلى الاتجاهات السابقة، كان ينبغي أن نتوقَّعَ أن يصل نموُّ الاقتصاد الأمريكي إلى حوالي ٩ في المائة على مدى السنوات الأربع من ٢٠٠٧ إلى ٢٠١١؛ ولكن في الواقع، يمكن أن نقول إن الاقتصاد لم يشهد نموًّا يُذكَر؛ حيث إن التراجُعَ الحاد في ٢٠٠٧–٢٠٠٩ تبعه تعافٍ ضعيفٌ، لم يحقِّق بحلول عام ٢٠١١ سوى تعويضِ الفاقد. إذَنْ، فحتى النمو الطبيعي في الإنفاق الفيدرالي كان من شأنه أن يُنتج ارتفاعًا حادًّا في نسبة الإنفاق إلى الناتج المحلي الإجمالي، ويعود ذلك ببساطةٍ إلى أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي كان أقلَّ بكثيرٍ من وتيرته الطبيعية.

إلا أنه يمكن التأكيد على أن الفترة من ٢٠٠٧ وحتى ٢٠١١ شهدَتْ تسارُعًا استثنائيًّا في زيادة معدل الإنفاق الفيدرالي، غير أن ذلك لا يمثِّل توسُّعًا هائلًا في العمليات الحكومية؛ فقد كان السواد الأعظم من الإنفاق المرتفع موجَّهًا للمساعدات الطارئة للأمريكيين المحتاجين.

figure
لقد ارتفعَتْ معدلات الإنفاق ارتفاعًا أسرع من المعتاد فعلًا، ولكنَّ كلَّ هذا الفرق يرجع إلى توسيعِ نطاق برامج شبكات الأمان استجابةً لحالة الطوارئ الاقتصادية (المصدر: مكتب الميزانية في الكونجرس).

يوضِّح الشكل التالي حقيقةَ ما حدث، وذلك باستخدام بيانات مكتب الميزانية في الكونجرس. يقسِّم مكتبُ الميزانية في الكونجرس الإنفاقَ إلى عددٍ من الفئات؛ وقد استخلصتُ اثنتين منها — هما «تأمين الدخل» والرعاية الصحية للمحتاجين — وقارنتُهما بما عداهما؛ فقارنتُ معدلَ زيادة الإنفاق لكلِّ فئة من عام ٢٠٠٠ وحتى ٢٠٠٧ — أيْ في فترةٍ شهدتْ توظيفًا شبه كامل، تحت إدارة الحزب الجمهوري المحافظ — مع معدل زيادة الإنفاق من ٢٠٠٧ وحتى ٢٠١١، في ظلِّ الأزمة الاقتصادية.

«تأمين الدخل» يتضمَّن في الأساس إعاناتِ البطالة، وقسائمَ الغذاء، والإعفاءَ الضريبي على الدخل المكتسب؛ وهو ما من شأنه أن يساعِدَ الطبقةَ العاملة الفقيرة؛ أيْ إنه يتكوَّن من برامج مساعَدة الفقراء أو شبه الفقراء من الأمريكيين، والتي يمكن توقُّعُ زيادة الإنفاق عليها إذا ارتفَعَ عددُ الأمريكيين الذين يمرُّون بضائقة مالية. وفي الوقت نفسه، فإن برنامج الرعاية الصحية للمحتاجين برنامجٌ قائمٌ على تقييم الإمكانيات يهدف إلى مساعدة الفقراء وشبه الفقراء؛ لذلك من المتوقَّع أن يزيد الإنفاق فيه هو الآخَر إذا كانَتِ الأمةُ تمرُّ بأوقات عصيبة. ويمكننا أن نلاحظ على الفور من الشكل السابق أن التسارُعَ في معدل زيادة الإنفاق يمكن أن يُعزَى «كلُّه» إلى برامج تمثَّلَتْ بالأساس في مساعَداتٍ طارئةٍ للأشخاص الذين وقعوا في ضائقةٍ من جرَّاء الركود؛ فلا مجالَ للحديث عن انخراطِ أوباما في عمليةِ توسُّعٍ حكوميٍّ هائلة.

فماذا فعل أوباما؟ قُدِّرَتِ التكلفةُ الإجمالية لقانون التعافي وإعادة الاستثمار الأمريكي — وهو الاسم الرسمي الذي أُطلِق على خطة التدابير التنشيطية — بمبلغ ٧٨٧ مليار دولار، وإنْ كان بعضها تمثَّلَ في تخفيضاتٍ ضريبيةٍ كان من شأنها أن تحدُث على أيِّ حال. في الواقع، تألَّفَ ما يقارب ٤٠ في المائة من إجمالي المبلغ من تخفيضات ضريبية، كانت فعاليتها في تنشيط الطلب لا تكاد تبلغ نصفَ فعاليةِ الزيادة الحقيقية في الإنفاق الحكومي.

أما الجزء المتبقِّي من المبلغ، فتألَّف قسمٌ كبيرٌ منه من توفير التمويل لغرضِ توسيعِ نطاق إعانات البطالة، فيما وُجِّهَ قسمٌ آخَر للحفاظ على استمرارية الرعاية الصحية للمحتاجين، وتمثَّلَ قسم ثالث في معوناتٍ لحكومات الولايات والحكومات المحلية لمساعدتها على تجنُّب خفْضِ النفقات عند انخفاض عائداتها؛ ولم يوجَّهْ سوى جزءٍ صغير، إلى حدٍّ ما، إلى نوعيةِ الإنفاق التي عادةً ما يتَّجِه إليها تفكيرُنا عندما نتحدَّث عن التدابير التنشيطية؛ مثل بناء الطرق وإصلاحها وما إلى ذلك. لم يكن ثمة أيُّ وجهٍ من أوجه التشابُه بين خطة التدابير التنشيطية وإدارة تقدُّم الأشغال التي أنشأها روزفلت وقت الكساد الكبير. (في ذروتها، وظَّفتْ إدارةُ تقدُّم الأشغال ثلاثةَ ملايين أمريكي؛ أيْ حوالي ١٠ في المائة من قوة العمل، ومن شأن أيِّ برنامج بهذا الحجم في يومنا هذا أن يوظِّفَ ثلاثةَ عشر مليون عامل.)

ومع ذلك، يبدو ٨٠٠ مليار دولار مبلغًا كبيرًا لمعظم الناس؛ كيف يَعلم مَن أخذوا هذه الأرقام على محمل الجد أنه مبلغ غير كافٍ على الإطلاق؟ يحمل الجواب شِقَّين: معرفةً بالتاريخ، بالإضافة إلى تقديرٍ لحجمِ الاقتصاد الأمريكي.

لقد أخبرَنا التاريخُ أن الركودَ الذي يتبع الأزماتِ الماليةَ عادةً ما يكون شديدًا وقاسيًا وطويلَ الأمد؛ على سبيل المثال: شهدَتِ السويد أزمةً مصرفية عام ١٩٩٠، وعلى الرغم من تدخُّلِ الحكومة لإنقاذ البنوك، فقد أعقب تلك الأزمة ركودٌ اقتصادي خَفَضَ الناتجَ المحلي الإجمالي الحقيقي (بعد تعديله وفق معدلات التضخُّم) بنسبة ٤ في المائة، ولم يستعِدْ الاقتصادُ مستوى الناتج المحلي الإجمالي السابق للأزمة حتى عام ١٩٩٤. كانت ثمة أدلة وافرة تدعو إلى الاعتقاد بأن تجربة الولايات المتحدة ستكون على نفس القدر من السوء — إنْ لم تكن أسوأ — والسبب في ذلك (في جملةِ أمورٍ أخرى) هو أن السويد تمكَّنَتْ من التخفيفِ من حدَّةِ الركود عن طريق التصدير إلى النُّظُم الاقتصادية الأقل تعثُّرًا، بينما في عام ٢٠٠٩ كان على الولايات المتحدة مواجَهةُ أزمة اقتصادية عالمية؛ لذلك كان التقييم الواقعي يشير إلى أن التدابير التنشيطية ستضطر إلى مواجَهةِ ثلاث سنوات أو أكثر من المعاناة الاقتصادية الشديدة.

والاقتصاد الأمريكي ضخم جدًّا؛ حيث يُنتج ما يُقَدَّر بنحو ١٥ تريليون دولار من السلع والخدمات سنويًّا. والآن فَلْنُعمِل تفكيرنا في الأمر؛ إذا كان الاقتصادُ الأمريكي سيواجِهُ أزمةً تستمر ثلاثَ سنوات، إذَنْ فحُزَم التدابير التنشيطية تسعى إلى إنقاذِ اقتصادٍ قيمته ٤٥ تريليون دولار — وهي قيمة إنتاجه على مدى ثلاث سنوات — بخطة تبلغ قيمتها ٧٨٧ مليار دولار؛ أيْ أقل بكثير من ٢ في المائة من إجمالي إنفاق الاقتصاد خلال تلك الفترة. فجأةً أصبَحَ مبلغ ٧٨٧ مليار دولار لا يبدو كبيرًا، أليس كذلك؟

ثمة شيء آخَر: فقد وُضِعَت خطة التدابير التنشيطية بهدف إعطاء دفعةٍ قصيرةِ الأجل للاقتصاد، وليس لتقديم الدعم على المدى الطويل، وقد بلغ الأثر الإيجابي لقانون التعافي وإعادة الاستثمار الأمريكي على الاقتصاد ذروته في منتصف عام ٢٠١٠، ثم بدأ يتلاشى بسرعةٍ كبيرةٍ نسبيًّا. كان هذا سيبدو ملائمًا في حالة الركود القصير المدى، ولكن نظرًا لاحتمالية تعرُّضِ الاقتصاد لضربةٍ أطول أمدًا بكثيرٍ — وهو ما يحدث غالبًا بعد التعرُّض للأزمات المالية — فقد كان ذلك بمنزلة كارثة محققة.

كل هذا يدعونا لطرح السؤال التالي: لماذا كانَتْ خطةُ الإنقاذ قاصرةً إلى هذا الحدِّ؟

الأسباب

اسمحوا لي أن أقول دون مواربة إنني لا أنوي أن أقضي الكثيرَ من الوقت في إعادة النظر في قراراتِ بدايةِ عام ٢٠٠٩، والتي أصبحَتْ أمرًا واقعًا في هذه المرحلة؛ فهذا الكتاب معنِيٌّ بما يجب القيام به «الآن»، وليس بتوجيه الاتهامات فيما يتعلَّق بأخطاء الماضي. إلا أنني لا أستطيع أن أتجنَّبَ مناقَشةً وجيزةً لكيفية فشل إدارة أوباما — على الرغم من كونها كينزية من حيث المبدأ — إلى حدٍّ كبيرٍ في استجابتها التالية على الأزمة مباشَرةً.

ثمة نظريتان متنافستان حول سبب كوْنِ التدابير التنشيطية لأوباما قاصرةً إلى هذا الحد؛ تؤكِّد النظريةُ الأولى على أن السببَ هو القيود السياسية؛ فوفقًا لهذه النظرية، حصل أوباما على أقصى ما يمكن أن يصل إليه. وتَرى النظرية الأخرى أن الإدارة فشلَتْ في إدراك مدى فداحة الأزمة، كما فشلَتْ في تقدير التداعيات السياسية لمثل هذه الخطة القاصرة. أما نظريتي الخاصة، فهي أن الإجراءات السياسية اللازمة لاتخاذ تدابير تنشيطية كافية كانت من الصعوبة بمكان، لكننا لن نعرف أبدًا ما إذا كان ذلك فعلًا ما حالَ دونَ تنفيذِ خطة وافية؛ لأن أوباما ومساعديه لم يحاولوا أصلًا التخطيطَ لتدابيرَ كبيرةٍ بما يكفي لتحقيق هذا الهدف.

ليس ثمة شكٌّ في أن البيئة السياسية كانَتْ قاسيةً جدًّا، ويعود السببُ وراء ذلك بدرجةٍ كبيرةٍ إلى قوانين مجلس الشيوخ الأمريكي؛ حيث يلزم الحصولُ على ٦٠ صوتًا لتجاوُزِ أيِّ مماطلةٍ سياسية. ويبدو أن أوباما قد وصل إلى منصبه متوقِّعًا دعْمَ الحزبين لجهوده الرامية لإنقاذ الاقتصاد، ولكنه كان مخطئًا تمامًا؛ فمنذ اليوم الأول، عارَضَ الجمهوريون أيَّ شيء وكُلَّ شيء اقترَحَه أوباما بلا هوادة، متَّبِعين سياسةَ الأرض المحروقة. في نهاية المطاف، استطاع أوباما أن يحصل على ٦٠ صوتًا عن طريق استمالة ثلاثة من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين المعتدلين، ولكنهم طالَبوا — مقابِلَ دعمهم — بخصم ١٠٠ مليار دولار من المساعدات الموجَّهة لحكومات الولايات والحكومات المحلية من المبلغ الذي رُصِد بمقتضى ذلك القانون.

ويرى العديد من المعلِّقين في المطالبة بتدابير تنشيطية أضيق نطاقًا دليلًا واضحًا على أنه لم يكن من الممكن صدورُ قانونٍ أوسع نطاقًا من ذلك، أما أنا فلا أرى ذلك دليلًا شديدَ الوضوح؛ أولًا: ربما يكون سلوكُ أعضاء مجلس الشيوخ الثلاثة ينطوي على شيء من المقايضة؛ فقد كان عليهم إظهارُ أنهم خفضوا شيئًا حتى يثبتوا أنهم ليسوا في موقف ضعف. إذَنْ فمِن المعقول أن نفكِّرَ في أن الحدَّ الحقيقي للتدابير التنشيطية لم يكن ٧٨٧ مليار دولار، وإنما أقل ممَّا رصدَتْه خطةُ أوباما بمبلغ ١٠٠ مليار دولار، أيًّا كان ما ترصده هذه الخطة؛ فلو كان أوباما طلب أكثرَ منذ البداية لَكان حصَلَ على أكثر ممَّا حصل عليه بالفعل، حتى إنْ لم يأخذ كلَّ ما طلب.

بالإضافة إلى ذلك، كان ثمة بديلٌ متاحٌ عوضًا عن استرضاء الجمهوريين الثلاثة؛ فكان يمكن لأوباما أن يمرِّرَ خطةَ تنشيطٍ ماليٍّ أكبر باستخدام إجراء التسوية، وهو إجراء برلماني يتجاوز خطر المماطلات السياسية؛ ومن ثم يقلِّل عددَ الأصوات اللازمة إلى ٥٠ صوتًا (لأنه في حالة التعادل يمكن لنائب الرئيس أن يُدلِيَ بالصوت الحاسم). في عام ٢٠١٠، استطاعَ الديمقراطيون أن يستخدموا تكتيكَ التسوية بالفعل لتمرير إصلاحات الرعاية الصحية، ولم يكن هذا التكتيك متطرِّفًا وفقًا للمعايير التاريخية؛ فقد مُرِّرَتْ جولتَا تخفيضات بوش الضريبية — في عامَيْ ٢٠٠١ و٢٠٠٣ — عن طريق التسوية، ولم تحصل جولةُ عام ٢٠٠٣ إلا على ٥٠ صوتًا في مجلس الشيوخ، وأدَلَى ديك تشيني بالصوت الحاسم.

إنَّ الزعم القائل إن أوباما حصل على كلِّ ما كان بوسعه الحصول عليه ينطوي على مشكلةٍ أخرى؛ فلم يُبْدِ أوباما وإدارته رغبةً في الحصول على قانون أوسع نطاقًا، بل على العكس، عندما كان مشروع القانون معروضًا على مجلس الشيوخ، أعلَنَ الرئيس أوباما أنه «بوجهٍ عامٍّ، وُضِعت هذه الخطة بالنطاق المناسِب، وهذا هو النطاق السليم.» وحتى يومنا هذا يدَّعِي مسئولو الإدارة أنَّ الخطة لم تُقَلَّص بسبب معارضة الجمهوريين، وإنما في ذلك الوقت لم يكن ثمة مَن يدرك أن ثمة حاجةً لخطة أكبر من ذلك بكثير. وحتى ديسمبر ٢٠١١، كان جاي كارني — السكرتير الصحفي للبيت الأبيض — يردِّد أشياءَ من هذا القبيل: «لم يكن ثمة خبيرٌ اقتصاديٌّ أكاديميٌّ واحدٌ من خبراء الاتجاه السائد في وول ستريت يعرف آنذاك — في يناير ٢٠٠٩ — مدى عُمْقِ الهاوية الاقتصادية التي وقعنا فيها.»

كما رأينا بالفعل، لم يكن ذلك صحيحًا على الإطلاق؛ فما الذي حدث فعلًا؟

حصل ريان ليزا من صحيفة ذا نيويوركر على مذكرةٍ معنِيَّة بالسياسة الاقتصادية أعَدَّها لاري سامرز — الذي شغل بعدها بقليلٍ منصبَ كبيرِ الخبراء الاقتصاديين في إدارة أوباما — للرئيس المنتخب باراك أوباما في ديسمبر ٢٠٠٨، ونشرها للجمهور، وكان من الواضح أن تلك الوثيقة المؤلَّفة من سبع وخمسين صفحة كتَبَها عدد من الكتَّاب المتبايِنِي الآراء. ولكن ثمة فقرة كاشفة في [الفصل الأول: ما مدى سوء الوضع؟ – حياة خربة] تطرح الحجةَ المعارضة لاتخاذ تدابير تنشيطية واسعة النطاق، ظهر في هذه الفقرة ثلاثُ نقاط رئيسية؛ هي:
  • (١)

    يمكن لحزمةِ تعافٍ مُبالَغٍ فيها أن تثير الذُّعْرَ في الأسواق أو لدى الجمهور، وتفضي إلى نتائج عكسية.

  • (٢)

    ثمة حدٌّ لما يمكن للاقتصاد أن يستوعِبَه من «أولويات الاستثمار» خلال العامين المقبِلين.

  • (٣)

    أثناءَ التنفيذ الفعلي تكون زيادةُ تدابير التنشيط المالي غير الكافية أسهلَ من تقليص التدابير التنشيطية المالية المفرطة، ويمكننا — إنْ لزم الأمرُ — أن نتَّخِذَ المزيدَ من الخطوات.

مما سبق، نرى أن النقطة الأولى تنطوي على استحضارِ خطرِ «حرَّاس السندات»، الذي سنتحدث عنه بمزيدٍ من الاستفاضة في الفصل التالي، ولكن يكفي أن نقول إن هذا الخوف قد ثبت أنه لم يكن له مبرِّر. وكانت النقطة الثانية سليمةً تمامًا، ولكنها لم توضِّح سببَ منْعِ تقديم المزيد من المساعدات لحكومات الولايات والحكومات المحلية؛ ذكر جوزيف ستيجليتز في تصريحاته بعد صدور قانون التعافي وإعادة الاستثمار الأمريكي مباشَرةً أنه قدَّمَ «مساعدات فيدرالية قليلة، ولكنها غير كافية؛ إذَنْ فما سنحاول فعله هو تسريحُ المعلِّمين والاستغناء عن العاملين في قطاع الرعاية الصحية، بينما نوظِّف عمالَ بناء. إنه تصميم غريب بعض الشيء لتدابير تنشيطية.»

بالنظر كذلك إلى احتمالية طول أمد الركود، يمكننا أن نتساءل لماذا وضعوا حدًّا عامين فقط في الحسبان؟

وأخيرًا؛ النقطةُ الثالثة المعنِيَّة بإمكانية الزيادة فيما بعدُ كانت خاطئةً تمامًا، وكان هذا الخطأ واضحًا جدًّا — على الأقل بالنسبة إليَّ — حتى آنذاك؛ لذلك فقد كان ثمة سوءُ تقديرٍ سياسي جسيم من قِبَل الفريق الاقتصادي.

فلعدة أسبابٍ إذَنْ، يمكن أن نقول إن إدارة أوباما فعلَتِ التصرُّفَ الصائب، ولكن على نطاقٍ غير كافٍ على الإطلاق. وكما سنرى لاحقًا، كان ثمة قصورٌ مماثلٌ في أوروبا، ولكنْ لأسباب مختلفة إلى حدٍّ ما.

فشل ذريع في قطاع الإسكان

حتى الآن، تناولتُ بالحديث مسألةَ قصور عملية التنشيط المالي، ولكنَّ فشلًا كبيرًا وقَعَ في مجالٍ آخَر؛ وهو تخفيف أعباء الرهن العقاري.

قلتُ من قبلُ إنَّ ارتفاعَ مستويات الدَّيْن في قطاع الأُسَر سببٌ رئيسيٌّ في أن يكون الاقتصادُ عُرضةً للأزمات، وأن العامل الأهم في استمرار ضعف الاقتصاد الأمريكي هو أن الأُسَر تحاوِلُ سدادَ الديون عن طريق تقليل الإنفاق، في حين أنه لا يوجد مَن يرغب في زيادة الإنفاق لتعويض النقص. وهنا تستند السياسة المالية بالضبط إلى أنه من خلال زيادة الإنفاق الحكومي يمكن حماية الاقتصاد من السقوط في هوَّةِ الكساد العميق، أثناء تعافي الأُسَر المثقلة بالديون ماليًّا.

إلا أن هذه القصة تشير كذلك إلى طريقٍ بديلٍ، أو ربما يكون من الأفضل أن نعتبِرَه طريقًا مكمِّلًا للتعافي؛ أَلَا وهو: خفض الديون مباشَرةً؛ فالديون في نهاية المطاف ليسَتْ ذاتَ كيان مادي، بل هي عَقْد، شيء مكتوب على الورق، وتعمل الحكومة على تنفيذه؛ فلِمَ لا نُعِيد كتابةَ هذه العقود؟

ولا تقولوا إن العقود مقدَّسة، ولا يمكن إعادة التفاوض بشأنها أبدًا. فالإفلاس المنظَّم، الذي يقلِّل من حجم الديون حينما يصير سدادُها مستحيلًا ببساطة، يمثِّلُ جزءًا راسخًا من نظامنا الاقتصادي؛ فالشركات تعلن إفلاسَها بصفةٍ روتينيةٍ — وغالبًا ما تكون طوعيةً — بموجب الفصل الحادي عشر من قانون الإفلاس الأمريكي؛ حيث تظلُّ عاملةً، ولكنها تكون قادرةً على إعادةِ كتابة بعض التزاماتها وتخفيضها. (أثناء كتابة هذا الفصل، أعلنت شركة الخطوط الجوية الأمريكية إفلاسها طوعًا للخروج من مأزقِ عقود النقابات العالية الكلفة.) ويمكن للأفراد كذلك أن يُعلِنوا إفلاسهم، وعادةً ما تُخفِّف عنهم التسويةُ عبءَ بعض الديون.

إلا أن معاملة القروض العقارية كانَتْ مختلفةً على مرِّ التاريخ عن معاملة سائر الديون مثل ديون بطاقات الائتمان؛ فكان الافتراض السائد دائمًا هو أنَّ أول ما يَحدث عندما لا تستطيع الأسرةُ سدادَ أقساط الرهن العقاري هو أن تفقد المنزل؛ وهذا يُنهِي الأمرَ في بعض الحالات، بينما في بعض الحالات الأخرى يمكن للمقرض أن يواصل مطاردة المقترض إذا كان سعْرُ المنزل أقلَّ من قيمة الرهن العقاري؛ إلا أنه في كلتا الحالتين، يتعرَّض أصحاب المنازل الذين لا يستطيعون تسديدَ الأقساط العقارية لحبس الرهن. ربما يكون هذا النظامُ لا بأسَ به في الأوقات العادية، ويعود ذلك جزئيًّا إلى أن الأشخاص الذين يعجزون عن تسديد أقساط الرهن العقاري يَلجئون عادةً إلى بيْعِ منازلهم بدلًا من انتظار حبس الرهن.

إلا أنَّ هذه ليسَتْ أوقاتًا عادية؛ ففي الظروف العادية قليلون نسبيًّا مِن أصحاب المنازل هم مَن تزيد ديونهم عن قيمة منازلهم، غير أن فقاعة الإسكان الكبيرة وانكماشها، تسبَّبَا في زيادة ديون أكثر من عشرة ملايين من أصحاب المنازل — أو ما يعادِل واحدًا من بين كلِّ خمسة قروضِ رهن عقاري تقريبًا — عن قيمة منازلهم، في حين أن الركود الاقتصادي المستمر لم يترك للعديدِ من الأُسَر سوى جزءٍ من دخْلِها السابق؛ ومن ثَمَّ، أصبح ثمة عددٌ كبيرٌ ممَّن لا يستطيعون سدادَ أقساطهم أو سدادَ قيمة الرهن العقاري من خلال بيع منازلهم، وهي وصفة أكيدة لنشر وباء حبس الرهن.

وحبس الرهن يجلب الوبالَ على جميع الأطراف المعنِيَّة؛ فصاحب المنزل يفقد منزله، ولكن نادرًا ما يحقِّق المقرِضُ ربحًا؛ وذلك لأن إجراءات تلك العملية مكلِّفة جدًّا، وأيضًا لأن البنوك تحاوِلُ بيعَ المنازل المحجوز عليها في سوقٍ منهارة. على ما يبدو، سيستفيد الجانبان من وجود برنامج يقدِّم للمقترضين المتعثِّرين بعضَ العون، وعلى الجانب الآخر، يجنِّب المقرِضين تكاليفَ حبس الرهن. سيعود ذلك بالنفع على أطراف أخرى كذلك؛ فعلى الصعيد المحلي، تصبح العقاراتُ المحجوز عليها المهجورة وبالًا على الأحياء؛ وعلى الصعيد الوطني، من شأن تخفيف أعباء الديون أن يحسِّنَ وضْعَ الاقتصاد الكلي.

إذَنْ كلُّ شيء على ما يبدو يستدعي وضْعَ برنامجٍ لتخفيف أعباء الديون، وقد أعلنَتْ إدارة أوباما بالفعل عن برنامج من هذا القبيل في ٢٠٠٩، ولكن كل هذا الجهد تحوَّلَ إلى ما يشبه دعابةً سمجةً؛ فقد حصل عددٌ قليلٌ جدًّا من المقترضين على مساعدات كبيرة، فيما وجَدَ آخَرون أنفسَهم غارقين أكثر في الدَّيْن نتيجةَ ما يتَّسِم به البرنامجُ من قواعدَ وأساليبِ عملٍ مفرطةِ التعقيد.

ماذا حدث؟ التفاصيل معقدة ومجهدة للفكر، لكن ملخَّص ما حدث هو أن إدارة أوباما لم تكن مؤمِنةً بهذا البرنامج قطُّ، وظلَّ المسئولون يعتقدون فترةً طويلةً من الوقت أنَّ كلَّ شيء سيصبح على ما يرام إذا استقرَّتِ البنوك. علاوةً على ذلك، كانوا متوجِّسين خيفةً من انتقاد اليمينيين للبرنامج ووصْفِه بأنه هبةٌ لمَنْ لا يستحق، وأنه سيكون مكافأةً لأشخاصٍ تصرَّفوا بطريقةٍ غير مسئولة؛ ونتيجةً لذلك، كان البرنامجُ حريصًا جدًّا على تجنُّبِ أيِّ مظهرٍ من مظاهر الهبات، ما أدَّى في النهاية إلى تحوُّلِه إلى برنامجٍ غير صالح للاستخدام إلى حدٍّ كبير.

كان هذا إذَنْ مجالًا آخَر من المجالات التي أثبتَتْ فيها السياسةُ فشَلَها التامَّ في معالجةِ المشكلة.

الطريق المهجور

على مَرِّ الزمان، عادةً ما كان يَتْبَع الأزماتِ الماليةَ الاقتصادية ركودٌ طويلٌ، ولم تكن تجربةُ الولايات المتحدة منذ عام ٢٠٠٧ استثناءً للقاعدة. في الواقع، كانَتْ معدَّلات البطالة والنمو في الولايات المتحدة قريبةً بدرجةٍ ملحوظةٍ من المتوسط التاريخي للبلدان التي عانَتْ هذه النوعية من المشكلات؛ وبينما كانت الأزمة تحتدم، نشَرَ كلٌّ من كارمن راينهارت (من معهد بيترسون للاقتصاد الدولي) وكينيث روجوف (من جامعة هارفرد) تأريخًا للأزمات المالية تحت العنوان الساخر «هذه المرة مختلفة» (لأنه في واقع الأمر لا يكون ثمة أيُّ اختلافٍ على الإطلاق). وقد أدَّتْ أبحاثهم إلى توقُّعِ القرَّاء المرورَ بفترةٍ طويلةٍ من ارتفاع معدلات البطالة، وبينما أخذَت القصةُ تتكشَّف، ذكَرَ روجوف أن الولايات المتحدة تعاني من «أزمة مالية حادة تقليدية».

ولكن لم يكن من المحتَّم أن تصلَ الأمورُ إلى هذه الدرجة، ولا يتحتم أن تظلَّ عليها؛ فثمة أشياء كان يمكن لصنَّاع السياسة أن يفعلوها في أيِّ وقتٍ خلال السنوات الثلاث الماضية، كان من شأنها أن تؤدِّي إلى تحسُّنٍ كبيرٍ في الأوضاع؛ فقد كانَتِ السياسة والتخبُّط الفكري — وليس الحقائق الاقتصادية الأساسية — هي التي أعاقَتِ اتِّخاذَ إجراءات فعَّالة.

لم يَزَلْ بابُ الخروج من الكساد والعودة إلى حالة التوظيف الكامل مفتوحًا على مصراعَيْه، فليس من المحتم علينا أن نتحمَّلَ هذه المعاناة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤