الفصل التاسع

الخطر الوهمي

باين : إذَنْ ما رأيك يا بيتر في قضية التضخُّم؟ هل تعتقد أنه سيكون الحدثَ الأكبر لعام ٢٠١٠؟
شيف : أعرف أن التضخُّمَ سيزداد سوءًا في ٢٠١٠؛ لا أعلم إنْ كان سيستفحل خلاله، أم سينتظر حتى عام ٢٠١١ أو ٢٠١٢، لكن ما أعلمه هو أننا سنواجِهُ أزمةَ عُملةٍ هائلةً عمَّا قريب؛ وهي الأزمة التي سوف تطغى على الأزمة المالية، وترفع أسعارَ السلع الاستهلاكية حتى تبلغ عنانَ السماء، وكذلك أسعار الفائدة ومعدلات البطالة.
الخبير الاقتصادي بيتر شيف «نصير المدرسة النمساوية» في برنامج جلين بيك، ٢٨ ديسمبر ٢٠٠٩

قضية زيمبابوي/فايمار

على مدار السنوات القليلة الماضية — وخاصةً منذ تولَّى باراك أوباما الرئاسةَ — اكتظَّتِ البرامجُ وصفحاتُ الرأي بالتحذيرات الخطيرة من أن ارتفاع التضخُّم قد أصبَحَ قاب قوسين أو أدنى، وليس التضخُّم فحسب؛ وإنما شاعَتِ التنبؤاتُ بالتضخُّم الجامح الشامل، وسيْر الولايات المتحدة على خطى زيمبابوي الحديثة أو ألمانيا في عهد جمهورية فايمار في عشرينيات القرن العشرين.

اعتنَقَ الطرفُ الأيمن من الطيف السياسي في الولايات المتحدة مخاوِفَ التضخُّم بقوةٍ، وقد ترأَّسَ رون بول — الذي أعلَنَ اعتناقَه فِكْرَ المدرسة النمساوية في الاقتصاد، وأخَذ يُنذِر مرارًا وتكرارًا من التضخُّم — اللجنةَ الفرعية المعنِيَّةَ بالسياسة النقدية بمجلس النوَّاب، ويجب ألا يُعْمِيَنا فشلُ طموحاته الرئاسية عن نجاحه في تحويل أيديولوجيته الاقتصادية إلى عقيدةٍ لدى الجمهوريين؛ فنوَّاب الكونجرس الجمهوريون وَبَّخوا بن برنانكي لأنه «خفض قيمة» الدولار، ويتبارى مرشَّحُو الرئاسة الجمهوريون في إدانتهم الضارية لسياسات بنك الاحتياطي الفيدرالي التي يزعمون أنها أدَّتْ إلى التضخُّم؛ حيث تفوَّقَ عليهم جميعًا ريك بيري بتحذيره رئيسَ بنك الاحتياطي الفيدرالي من أنه: «سيلقَى منَّا معاملةً سيئةً جدًّا في تكساس» إذا استمَرَّ في اتِّبَاعِ السياسات التوسُّعية.

ولم يكن المهووسون الواضحون هم وحْدَهم مَن روَّجوا مخاوفَ التضخُّم؛ فقد اضطلع الاقتصاديون المحافظون المنتمون إلى التيار السائد بدورٍ أيضًا؛ فقد وجَّهَ آلان ميلتسر — خبيرُ الاقتصاد النقدي المعروف ومؤرِّخ بنك الاحتياطي الفيدرالي — رسالةَ تهديدٍ ووعيدٍ على صفحات نيويورك تايمز يوم ٣ مايو ٢٠٠٩، جاء فيها:

إن سعر الفائدة الذي يتحكَّم به بنكُ الاحتياطي الفيدرالي قريبٌ من الصفر، والزيادة الهائلة في احتياطيات البنوك — الناجمة عن شراء بنك الاحتياطي الفيدرالي للسندات والرهون العقارية — ستتسبَّبُ بالتأكيد في تضخُّمٍ حادٍّ إذا سمح لها بالاستمرار …

لم يسبق لبلد يواجِهُ ما نواجِهُه من عجزٍ هائلٍ في الميزانية ونموٍّ سريعٍ في العرض النقدي واحتمالِ استمرارِ انخفاضِ سعر العملة، أن شهد انكماشًا؛ فهذه العوامل تُنذِر بالتضخُّم.

ولكنه كان مخطئًا؛ فبعد عامين ونصفٍ من تحذيره، كان سعر الفائدة الذي يتحكَّم به بنك الاحتياطي الفيدرالي لا يزال قريبًا من الصفر، واستمَرَّ بنك الاحتياطي الفيدرالي في شراء السندات والرهون العقارية، مُضِيفًا المزيدَ للاحتياطيات المصرفية؛ وظلَّ عجْزُ الميزانية هائلًا، إلا أن متوسط معدل التضخُّم خلال تلك الفترة كان ٢٫٥ في المائة فقط، وإذا استبعدْنا الأسعارَ المتقلِّبةَ للمواد الغذائية والطاقة — التي قال ميلتسر نفسه أنه ينبغي استبعادها — فسنجد أن متوسطَ معدل التضخُّم كان ١٫٤ في المائة فحسب. ومعدلاتُ التضخُّم تلك أدنى من المعايير التاريخية، وتحديدًا — كما يروق للاقتصاديين الليبراليين أن يوضِّحوا — كان التضخُّمُ في عهد أوباما أقلَّ كثيرًا ممَّا كان عليه في الفترة الذهبية المزعومة أثناء فترة الرئاسة الثانية لرونالد ريجان، التي كانَتْ تحمل اسم «طلوع النهار على الولايات المتحدة».

وعلاوةً على ذلك، كان أمثالي يعرفون أن هذا ما ستُسفِر عنه الأمور؛ أن التضخُّمَ الجامح لن يَحدث ما دام الاقتصادُ في وضعِ الكساد. وقد عَلِمْنا ذلك من الأدلة النظرية وكذلك التاريخية؛ لأنه في الواقع بعد عام ٢٠٠٠، جمعَتِ اليابان بين عجْزٍ كبيرٍ ونموٍّ نقديٍّ سريعٍ في ظلِّ اقتصادٍ يعاني الكسادَ، وعلى العكس من التعرُّض لتضخُّمٍ شديدٍ، بقيت عالقةً في حالة الانكماش. ولكي أكون صادقًا، فقد اعتقدتُ أنا أيضًا أننا قد نواجِه انكماشًا فعليًّا بحلول هذا الوقت، وسأتحدَّثُ في الفصل التالي عن سببِ عدم حدوث هذا. ومع ذلك، فقد ثبتَتْ صحةُ النبوءة القائلة إن الإجراءات التضخُّمية التي اتَّخَذَها بنكُ الاحتياطي الفيدرالي لن تؤدِّي في الواقع إلى ارتفاعِ معدلات التضخُّم.

إلا أن تحذيرَ ميلتسر يبدو معقولًا، أليس كذلك؟ فمع طباعة بنك الاحتياطي الفيدرالي الكثيرَ من النقود — إلى حدٍّ ما هذا هو السبيلُ إلى دفع ثمنِ كلِّ تلك السندات والرهون العقارية التي يشتريها بنك الاحتياطي الفيدرالي — وتحمُّل الحكومة الفيدرالية عجزًا يربو على تريليون دولار، لماذا «لا نشهد» ارتفاعًا حادًّا في معدل التضخُّم؟

تكمن الإجابة في اقتصاديات الكساد، وتحديدًا في فخِّ السيولة، الذي آمل أن يكون قد صار مفهومًا مألوفًا لدى القارئ، حين تصبح أسعار الفائدة التي وصلَتْ إلى الصفر أعلى من اللازم لحثِّ الإنفاق الكافي لاستعادة حالة التوظيف الكامل؛ عندما «لا تكون» واقعًا في فخِّ السيولة، تصبح طباعةُ الكثير من النقود إجراءً يؤدِّي إلى التضخُّم فعلًا؛ ولكن عندما تكون واقعًا في فخِّ السيولة بالفعل، لا تؤدِّي إليه، بل لا تعود ثمة أهميةٌ تُذكَر لكَمِّ النقود التي يطبعها بنكُ الاحتياطي الفيدرالي.

دعونا نتحدَّث عن المفاهيم الرئيسية قليلًا، ثم ننظر إلى ما حدث بالفعل.

النقود، والطلب، والتضخُّم (أو انعدامه)

يعلم الجميع أن طباعة الكثير من النقود عادةً ما تؤدِّي إلى التضخُّم، ولكن كيف يحدث ذلك تحديدًا؟ الإجابة على هذا السؤال هي المفتاح لفهم لماذا «لا» يحدث ذلك في ظلِّ الظروف الراهنة.

بادئ ذي بدء: لا يطبع بنكُ الاحتياطي الفيدرالي النقودَ فعليًّا، وإنْ كانت تصرُّفاته قد تدفع الخَزَانةَ إلى طباعة النقود؛ ما يفعله بنك الاحتياطي الفيدرالي — عندما يختار أن يتدخَّلَ — هو شراءُ أصولٍ، عادةً في شكل أذونِ الخزانة، أو ما يُطلَق عليه الدَّيْن الحكومي الأمريكي القصير الأجل، لكن في الآونة الأخيرة اتَّسَعَ نطاقُ تلك الأصول كثيرًا. بالإضافة إلى ذلك، يقدِّم بنكُ الاحتياطي الفيدرالي قروضًا للبنوك مباشَرةً، إلا أن هذا نفس الشيء فعليًّا؛ حيث يمكن النظر إليه كما لو كان شراءً لتلك القروض. مربط الفرس هنا هو مصدر النقود التي يحصل عليها بنك الاحتياطي الفيدرالي لشراء تلك الأصول، والإجابة على ذلك هي أنه يأتي بها من العدم؛ حيث يخاطِبُ بنكُ الاحتياطي الفيدرالي سيتي بنك — على سبيل المثال — عارِضًا عليه شراءَ ما قيمته ١ مليار دولار من أذون الخزانة، وعندما يَقْبل سيتي بنك هذا العرض، ينقل ملكيةَ هذه الأذون لبنك الاحتياطي الفيدرالي، وفي المقابل يضيف بنكُ الاحتياطي الفيدرالي اعتمادًا قدرُه مليارُ دولار إلى الحساب الاحتياطي الذي يحتفِظ به سيتي بنك — مثل البنوك التجارية كافةً — لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي. (يمكن للبنوك أن تستخدِمَ هذه الحسابات الاحتياطية كما نستخدِمُ نحن حساباتنا المصرفية؛ فيمكنها كتابةُ الشيكات، كما يمكنها سحبُ النقود إذا رغب عملاؤها في ذلك.) وليس ثمة رصيدٌ وراءَ هذا الاعتماد المصرفي؛ فبنك الاحتياطي الفيدرالي وحده له الحق في استحضارِ المال إلى حيِّزِ الوجود متى شاء.

وماذا يحدث بعد ذلك؟ في الأوقات العادية، لا يرغب سيتي بنك في ترْكِ نقوده خاملةً في حساب احتياطي؛ حيث لا تُدِرُّ سوى القليل من الربح — إنْ وُجِد — ومن ثَمَّ يقوم بسحب النقود وإقراضها، وينتهي الأمر بعودة معظم تلك النقود المقرَضة إلى سيتي بنك أو غيره من البنوك — معظمها وليس كلها، لرغبةِ عامةِ الناس في الاحتفاظِ بجزءٍ من ثروتهم في هيئة عملة؛ أيْ أوراق تحمل صورَ الرؤساء الراحلين — وتعاوِدُ البنوك إقراضَ النقود التي تعود إليها، وهكذا دواليك.

حتى في تلك الحالة، كيف يتحوَّلُ هذا إلى تضخُّمٍ؟ ليس بطريقةٍ مباشِرةٍ؛ صاغَ المدوِّن كارل سميث مصطلحًا مفيدًا؛ هو: «التضخُّم الخالص»، الذي يُقصَد به الاعتقاد في أن طباعة النقود ستؤدِّي بطريقةٍ ما إلى ارتفاع الأسعار على نحوٍ يتجاوز القوى الطبيعيةَ للعرض والطلب، وهذه ليسَتْ طريقةَ عملِ التضخُّم؛ فالشركات لا تقرِّر رفْعَ أسعارها لأن المعروض من النقود قد ازداد، بل ترفع الأسعارَ بسبب زيادة الطلب على منتجاتها، فتظن أن بإمكانها أن ترفع أسعارَها دون أن تفقد الكثيرَ من المبيعات. ولا يطالِب العمَّال برواتب أكبر لأنهم قرءوا عن التوسُّع الائتماني، بل يبحثون عن أجورٍ أعلى لأن الوظائف أصبحَتْ أكثرَ توفُّرًا؛ ومن ثم زادَتْ قدرتُهم على المساومة. السبب في أن «طباعة النقود» — فعليًّا هي عملية شراء بنك الاحتياطي الفيدرالي أصولًا بنقودٍ مصنوعةٍ بأوامر عليا، ولكنَّ الوصفَ قريبٌ بما فيه الكفاية — يمكن أن تؤدِّي إلى التضخُّم، هو أن التوسُّع الائتماني الذي تحرِّكه مشتريات بنك الاحتياطي الفيدرالي تلك يؤدِّي إلى زيادة الإنفاق والطلب.

يخبرنا هذا على الفور أن الطريقة التي تتسبَّبُ من خلالها طباعةُ النقود في حدوث تضخُّمٍ تأتي من خلال الطفرة التي تتسبَّبُ في فورةِ النشاط الاقتصادي؛ فدونَ تلك الطفرة، لن يكون ثمة تضخُّمٌ، وإذا ظلَّ الاقتصاد في حالة كساد، فلا داعِيَ لأن نقلق من العواقب التضخُّمية لطباعة النقود.

وماذا عن الركود التضخُّمي، وهو الوضع المعيب الذي يجمع بين التضخُّمِ وارتفاعِ معدلات البطالة؟ نعم، هذا يحدث في بعض الأحيان؛ فيمكن أن تتسبَّبَ «صدماتُ العرض» — مثل فسادِ المحصول أو الحظر النفطي — في ارتفاع أسعار المواد الخام، على الرغم من الكساد الذي يعانيه الاقتصادُ بأسره. ويمكن لهذه الزيادات في الأسعار أن تتحوَّلَ إلى تضخُّمٍ عامٍّ إذا كان كثيرٌ من العمَّال يعملون بموجب عقودٍ مقترنة بمؤشراتِ تكاليف المعيشة، كما كان الحال في سبعينيات القرن العشرين، عقد الركود التضخُّمي. ولكنَّ اقتصادَ الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين لا تَكْثر فيه مثلُ تلك العقود، وقد واجهْنا بالفعل عدةَ صدمات في أسعار النفط — أبرزها في ٢٠٠٧-٢٠٠٨ — رفعَتِ الأسعارَ الرئيسية للمستهلك مؤقتًا، ولكنها لم تصل قطُّ إلى الأجور؛ ومن ثم لم تتسبَّب في حدوث دوامةِ الأجور والأسعار.

ولكن ما زال يمكننا أن نتصوَّرَ أن كلَّ عمليات شراء الأصول التي قام بها بنكُ الاحتياطي الفيدرالي تلك كان من الممكن أن تؤدِّي إلى ازدهارٍ جامحٍ؛ ومن ثَمَّ إلى تفشِّي التضخُّم، إلا أنه من الواضح أن هذا لم يحدث؛ فلماذا؟

الإجابة هي أننا وقعنا في فخِّ السيولة، في ظلِّ اقتصادٍ يعاني الكسادَ على الرغم من أن أسعارَ الفائدة القصيرةِ الأجلِ تقترب من الصفر، ويتسبَّب هذا في تعطيل العملية التي تؤدِّي من خلالها مشتريات بنك الاحتياطي الفيدرالي عادةً إلى حدوث طفرةٍ، وربما تفضي إلى التضخُّم.

فَلْنمعِنِ التفكيرَ فيما قلتُه للتوِّ عن سلسلةِ الأحداث التي تبدأ عندما يشتري بنكُ الاحتياطي الفيدرالي حفنةً من السندات من البنوك، ويدفع ثمنَها في صورةِ اعتمادٍ مصرفيٍّ للحسابات الاحتياطية للبنوك. في الظروف العادية، لا ترغب البنوكُ في بقاء هذه النقود محلها، بل ترغب في إقراضها للآخَرين، ولكننا لا نعيش في ظلِّ ظروفٍ عاديةٍ؛ فالأصول الآمنة تدرُّ عائدًا يكاد يكون صفرًا؛ وهو ما يعني أن القروضَ الآمنة لا تقدِّم أيَّ عائدٍ، فلِمَ يقدِّمُونها؟ القروض غير الآمنة — مثل قروض الشركات الصغيرة أو الشركات المحفوفة بالمخاطر — تقدِّمُ أسعارَ فائدة مرتفعة، غير أنها — كما أقول — غير آمِنةٍ.

لذلك عندما يشتري بنك الاحتياطي الفيدرالي أصولًا مقابلَ اعتمادٍ مصرفيٍّ في الحسابات الاحتياطية للبنوك، غالبًا تتركها المصارف حيث هي. يبيِّنُ الشكلُ التالي القيمةَ الإجمالية لتلك الحسابات المصرفية على مَرِّ الزمن؛ فقد تحولَّتْ من كونها طفيفةً إلى ضخمةٍ بعد سقوط بنك ليمان براذرز، وهي طريقة أخرى لنقول إنَّ بنك الاحتياطي الفيدرالي قد «طبع» نقودًا كثيرةً لم تذهب فعليًّا إلى أي مكان.

يجدر بنا الإشارة هنا إلى أن هذا لم يجعل شراءَ الاحتياطي الفيدرالي للأصول بلا جدوى؛ ففي الشهور التي تلَتْ سقوطَ ليمان براذرز، قدَّمَ بنك الاحتياطي الفيدرالي قروضًا كبيرةً للبنوك والمؤسسات المالية الأخرى، ربما تكون ساعَدَتْ على تجنُّبِ نوبةِ ذُعْرٍ مصرفيٍّ أكبر من التي شهدناها في الواقع؛ ثم نزل بنكُ الاحتياطي الفيدرالي سوقَ الأوراق التجارية، التي تستخدِمها الشركاتُ للحصول على التمويل القصير الأجل؛ ما ساعَدَ على استمرار دوران عجلة التجارة في وقتٍ ربما كانت البنوكُ ستُحجِم فيه عن توفير التمويل اللازم. إذَنْ، لقد كان بنك الاحتياطي الفيدرالي يقوم بدورٍ يمكن القول إنه حالَ دونَ وقوعِ أزمةٍ ماليةٍ أسوأ بكثيرٍ، إلا أنه لم يكن يتصرَّف على نحوٍ من شأنه أن يُفضِي إلى التضخُّم.

figure
تشير المناطق المظلَّلة إلى موجاتِ الكساد التي تعرَّضَتْ لها الولايات المتحدة الأمريكية (بنك الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس research.stlouisfed.org). شهدَتِ الحساباتُ الاحتياطية ارتفاعًا كبيرًا منذ تدخُّلِ بنك الاحتياطي الفيدرالي، ولكنْ دونَ التسبُّبِ في تضخُّمٍ (المصدر: مجلس المحافظين لنظام الاحتياطي الفيدرالي).

ولكن مهلًا — هكذا قد يهتف بعضُ القرَّاء — يوجد تضخُّمٌ كبير «بالفعل»؛ هل هذا صحيح؟ دعونا نتناوَل دلالاتِ الأرقام.

إلى أيِّ مدًى وصَلَ التضخُّم إذَنْ؟

كيف نقيس التضخُّم؟ أول محطة نتوقَّف عندها هي مؤشِّر أسعار المستهلك — وهو ما ينبغي أن يكون — حيث يقوم مكتب إحصاءات العمل بحساب تكلفة مجموعةٍ من السلع والخدمات التي من المفترض أن تمثِّل مشتريات الأسرة المتوسطة؛ فبماذا يخبرنا مؤشِّرُ أسعارِ المستهلك؟

حسنًا، لنفترِضْ أننا سنبدأ من سبتمبر ٢٠٠٨ — وهو الشهر الذي شهد سقوطَ بنك ليمان — وهو نفسه الشهر الذي بدأ فيه بنك الاحتياطي الفيدرالي في شراء الأصول على نطاقٍ واسعٍ، و«طباعة النقود» على نطاق هائل، وهذا ليس من قبيل الصدفة. على مدى السنوات الثلاث التالية، ارتفعَتْ أسعارُ المستهلك ليبلغ المجموعُ الكلي للزيادة ٣٫٦ في المائة، أو ما يعادل ١٫٢ في المائة سنويًّا. لا يبدو هذا أشبه بذلك «التضخُّمِ الحادِّ» الذي تنبَّأ به الكثيرون، ولا يؤدِّي بالطبع إلى تحوُّلِ الولايات المتحدة إلى زيمبابوي أخرى.

إلا أنه من الجدير بالذكر أن معدل التضخُّم لم يكن ثابتًا خلال تلك الفترة؛ ففي السنة الأولى بعد انهيار بنك ليمان براذرز، انخفضَتِ الأسعارُ في الواقع بنسبة ١٫٣ في المائة، وفي السنة الثانية ارتفعَتْ بنسبة ١٫١ في المائة، وفي السنة الثالثة ارتفعَتِ الأسعارُ بنسبة ٣٫٩ في المائة؛ فهل كان التضخُّمُ في ازديادٍ؟

في الواقع، لا؛ ففي أوائل عام ٢٠١٢، كان واضحًا أن التضخُّمَ قد بدأ ينحسر؛ وكان متوسطُ التضخُّم وفق المعدلات السنوية خلال الأشهر الستة السابقة ١٫٨ في المائة فقط، وبَدَا أن الأسواق تتوقَّعُ أن يظلَّ التضخُّمُ منخفِضًا مستقبلًا. ولم يكن ذلك مفاجِئًا لكثيرٍ من الاقتصاديين بما في ذلك أنا (وبن برنانكي)؛ لأننا كنَّا نقول طوالَ الوقت إن ارتفاعَ معدلات التضخُّم الذي وقَعَ في أواخر عام ٢٠١٠ والنصف الأول من عام ٢٠١١، كان مجرد حدثٍ عارضٍ، يعكس الارتفاعَ الكبير في الأسعار العالمية للنفط وسلَعٍ أخرى، ولكن لم يكن ثمة تضخُّمٌ حقيقيٌّ متوقَّعٌ، ولا ارتفاعٌ كبيرٌ في معدل التضخُّم الحقيقي في الولايات المتحدة.

ولكن ماذا يعني «التضخُّم الحقيقي»؟ هنا علينا أن نتحدَّثَ بإيجازٍ عن مفهومٍ يُسَاء فهْمُه إلى حدٍّ بعيدٍ؛ وهو مفهوم التضخُّم «الأساسي». لماذا نحتاج إلى مثل هذا المفهوم؟ وكيف ينبغي أن يقاس؟

عادةً ما يُقَاس التضخُّمُ الأساسي عن طريقِ استبعادِ الغذاء والطاقة من مؤشِّر الأسعار، ولكنَّ ثمة عددًا من أساليب القياس البديلة، يحاوِلُ كلٌّ منها الوصولَ إلى النتيجة نفسها.

بدايةً، اسمحوا لي أن أصحِّحَ مفهومين خاطئين؛ التضخُّم الأساسي «لا» يُستخدَم لأشياء من قبيل حساب تسوية تكلفة المعيشة في الضمان الاجتماعي، بل يُستخدَم مؤشرُ أسعار المستهلك لهذه الأغراض.

أمَّا مَن يقولون إن «هذا مبدأ غبيٌّ؛ فالناس ينفقون المال على الغذاء والوقود؛ ولذلك ينبغي أن تكون ضمن مقاييس التضخُّم.» فهم لم ينتبهوا إلى نقطةٍ مهمةٍ، هي أنه ليس من المفترض أن يقيس التضخُّم الأساسي تكلفةَ المعيشة، بل من المفترض أن يقيس شيئًا آخَر؛ هو القصور الذاتي للتضخُّم.

فَلْنفكِّرْ في الأمر بهذه الطريقة: بعضُ الأسعار في الاقتصاد تتقلَّبُ على الدوام في مواجهة العرض والطلب، ومن أبرز هذه الأمثلة الغذاء والوقود، إلا أن العديد من أسعار السلع لا تتقلَّبُ بهذه الطريقة، وإنما تحدِّدها شركاتٌ لديها عددٌ قليلٌ من المنافِسين، أو تنشأ عن التفاوُضِ في عقودٍ طويلة الأجل؛ ومن ثَمَّ فهي لا تُراجَع إلا على فترات تتراوح ما بين شهورٍ وسنواتٍ؛ وكثيرٌ من الأجور تُحدَّد بالطريقة نفسها.

الشيء الرئيسي المتعلِّق بهذه الأسعار الأقل مرونةً هو أنه بسبب عدم مراجعتها على فتراتٍ متقارِبةٍ، تُحدَّد هذه الأسعار مع وضْعِ التضخُّم المستقبلي في الاعتبار. لنفترِضْ أنني سأحدِّد أسعارَ العام المقبِل، وأتوقَّعُ أن يرتفع المستوى العامُّ للأسعار — بما في ذلك الأشياءُ من قبيل متوسط أسعار السلع المتنافسة — ١٠ في المائة على مدار العام؛ إذَنْ فمِن المرجَّح أن أحدِّدَ سعرًا أعلى بحوالي ٥ في المائة مما كنتُ سأفعل إذا أخذتُ الظروفَ الحالية وحدها في الاعتبار.

والأمر لا يقتصر على ذلك؛ فبسبب مراجعة الأسعار الثابتة مؤقَّتًا على فتراتٍ متباعِدةٍ، كثيرًا ما تنطوي مراجعتُها على قفزةٍ كبيرةٍ لِلَّحاق بالركب. مرة أخرى، لنفترِضْ أنني سأحدِّد الأسعارَ مرةً في السنة، ومعدلُ التضخُّم الإجمالي يبلغ ١٠ في المائة؛ فعندما أقوم بإعادة ضبط الأسعار، سوف تكون على الأرجح أقلَّ بحوالي ٥ في المائة ممَّا «يجب» أن تكون عليه، وعند إضافة هذا الأثر إلى التحسُّب من التضخُّم في المستقبل، فربما أزيدُ الأسعارَ بنسبة ١٠ في المائة؛ «حتى إنْ كان العرضُ والطلب متوازنَيْن إلى حدٍّ كبيرٍ الآن.»

والآن، فَلْنتخيَّلِ اقتصادًا يَسِير الجميعُ فيه على هذا النهج؛ يخبرنا ذلك أن التضخُّمَ يميل إلى أن يكون مستديمًا بذاته، ما لم يحدث فائضٌ كبيرٌ إما في العرض وإما في الطلب. وعلى وجه التحديد، فما إن «تتأصَّل» في الاقتصاد توقُّعاتُ استمرارِ تضخُّمٍ بنسبة ١٠ في المائة، فسوف يقتضي خفضُ معدل التضخُّم فترةً كبيرةً من الركود؛ وهو ما يعني سنواتٍ من البطالة المرتفعة. ومن الأمثلة على ذلك تباطُؤ معدلِ التضخُّم في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، والذي تطلَّبَ ركودًا حادًّا جدًّا للنزول بالتضخُّم من نحو ١٠ في المائة إلى حوالي ٤ في المائة.

في المقابل يمكن لنوبةٍ من التضخُّم غير المتأصِّل في الاقتصاد على هذا النحو أن تهدأ حدَّتُها بسرعةٍ، بل يمكن أيضًا أن تسير في الاتجاه المعاكس؛ ففي ٢٠٠٧-٢٠٠٨، ارتفعَتِ أسعارُ النفط والغذاء — مدفوعةً بمزيجٍ من سوء الأحوال الجوية، وارتفاعِ الطلب من قِبَل بعض الاقتصادات الناشئة مثل الصين — ودفعَتِ التضخُّمَ للارتفاع فترةً وجيزةً بمقياس مؤشر أسعار المستهلكين ليصل إلى ٥٫٥ في المائة؛ ولكن ما لبثَتْ أسعارُ السلع أن هبطَتْ مرةً أخرى، وتحوَّلَ التضخُّمُ إلى الاتجاه المضاد.

ومن ثَمَّ، فكيفيةُ الاستجابة لارتفاع التضخُّم تعتمد على ما إذا كان حَدَثًا عابرًا مماثِلًا لارتفاع الأسعار في ٢٠٠٧-٢٠٠٨، أم نوعًا من زيادة التضخُّم التي تبدو في سبيلها إلى الترسُّخ في الاقتصاد، والتي سيكون من الصعب القضاء عليها.

وإذا ما كنتم منتبهين في الفترة من خريف عام ٢٠١٠ إلى صيف عام ٢٠١١، فلا بد أنَّ ما رأيتموه قد بَدَا مماثِلًا لأحداث ٢٠٠٧-٢٠٠٨؛ فقد حدثَتْ طفرةٌ في أسعار النفط والسلع الأخرى لفترةٍ قدرها ستة أشهر تقريبًا، مرة أخرى بسبب زيادةِ الطلب من الصين والاقتصادات الناشئة الأخرى، ولكنَّ مقاييسَ الأسعار التي تستبعِدُ الغذاءَ والطاقةَ ارتفعَتْ بمعدلاتٍ أقلَّ كثيرًا، ولم يتسارَعْ معدلُ نموِّ الأجور على الإطلاق. في يونيو ٢٠١١، أعلَنَ بن برنانكي أنه «ليس ثمة أدلةٌ كثيرةٌ تشير إلى أن التضخُّمَ أصبح شاملًا أو متأصِّلًا في اقتصادنا؛ ففي الواقع، الزيادةُ في سعر منتج واحد — أَلَا وهو الوقود — يُعزَى إليها الجزءُ الأكبر من الزيادة الأخيرة في معدل التضخُّم في أسعار المستهلك.» وواصَلَ حديثه متنبِّئًا بأن التضخُّمَ سوف ينحسر في الشهور المقبلة.

بالطبع، سخر يمينيون كُثُر من برنانكي بسبب لامبالاته بالتضخُّم، ورأى الفصيلُ السياسي الجمهوري كله تقريبًا أن ارتفاعَ أسعار السلع ليس حدثًا عارضًا يخلُّ بمعدل التضخُّم الكلي، وإنما هو طليعةُ موجةِ تضخُّمٍ كبيرةٍ، وكان على كلِّ مَن يختلف مع هذا الرأي أن يتوقَّعَ ردًّا لاذعًا. ولكن برنانكي كان مُحِقًّا؛ فقد كان ارتفاعُ التضخُّمِ مؤقَّتًا فعلًا، وقد انحسَرَ بالفعل الآن.

ولكن هل يمكنك أن تَثِقَ في الأرقام؟ اسمحوا لي أن أتطرَّقَ مرةً أخيرة إلى عالَمِ نظريات المؤامرة المرتبطة بالتضخُّم.

في مواجهةِ استمرارِ إحجام التضخُّم عن الارتفاع كما كان يفترض به أن يفعل، أصبَحَ المتخوِّفون منه أمامَ عدة خيارات؛ فإما أن يعترفوا بأنهم كانوا مُخطِئين، وإما أن يتجاهَلوا البيانات، وإما أن يدَّعوا أنها زائفةٌ وأن بنك الاحتياطي الفيدرالي يُخفِي المعدلَ الحقيقي للتضخُّم. قليلون جدًّا — على حدِّ علمي — لَجَئُوا إلى الخيار الأول، وتشير تجربتي خلال عقدٍ من العمل مستشارًا إلى أنه ما من أحدٍ تقريبًا يعترف مطلقًا بخطئه إزاءَ أي شيء؛ وقد اختار كثيرون الخيارَ الثاني، وتجاهلوا ببساطةٍ خطأَ توقُّعاتهم في الماضي؛ إلا أنَّ عددًا كبيرًا لجَأَ إلى الخيار الثالث، وصدَّقوا المزاعِمَ القائلة إن مكتب إحصاءات العمل يتلاعب بالبيانات لإخفاء التضخُّم الفعلي. وقد تلقَّتْ هذه الادِّعاءات دعمًا رفيعَ المستوى عندما استخدَمَ نيال فيرجسون — المؤرِّخ والمعلِّق الذي جئتُ على ذِكْره في مناقشةِ العجز وتأثيره — عمودَه في صحيفة نيوزويك ليؤيِّدَ المزاعِمَ القائلة إن التضخُّمَ بلغ في الواقع حوالي ١٠ في المائة.

كيف نعرف أن هذا خطأ؟ حسنًا، يمكننا أن نبحث فيما يقوم به مكتبُ إحصاءات العمل في الواقع — حيث إنه يتَّسِم بقدرٍ كبيرٍ من الشفافية — ونرى أنه معقول؛ أو ربما يمكنكم ملاحظة أنه لو كان التضخُّمُ قد وصل إلى ١٠ في المائة بالفعل، لَتدهوَرَتِ القوةُ الشرائية للعمَّال، وهو ما لا يتفق مع المشاهدة العملية؛ صحيح أنَّ ثمة ركودًا تضخُّميًّا، ولكن ليس ثمة تدهور، وأفضل حلٍّ هو مقارنة إحصاءات الأسعار الرسمية مع تقديرات الجهات الخاصة المستقلة، وأبرزها التقديرات القائمة على الإنترنت من مشروع المليار سعرٍ لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وبصفةٍ عامةٍ تتطابَقُ هذه التقديرات مع الأرقام الرسمية.

بالطبع، ربما يكون معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا جزءًا من المؤامرة هو الآخَر …

ففي نهاية المطاف، كلُّ هذا التخويفِ من التضخُّم كان بلا أساس؛ فالتضخُّم الحقيقي منخفِضٌ، ونظرًا لحالة كساد الاقتصاد، فمن المرجَّح أن ينخفض أكثرَ في السنوات المقبلة.

وهذا ليس أمرًا محمودًا؛ فتراجُعُ معدل التضخُّم — والأسوأ من ذلك احتمالية انكماش النشاط الاقتصادي — سيُفضِي إلى صعوبةٍ شديدةٍ في التعافي من هذا الكساد، وما ينبغي أن نهدف إليه هو عكس ذلك؛ أَلَا وهو ارتفاع معتدل في معدل التضخُّم، بحيث يصل معدلُ التضخُّم الأساسي لنحو ٤ في المائة. (بالمناسبة، كان هذا هو المعدل السائد خلال فترة الرئاسة الثانية لرونالد ريجان.)

الحجج الداعمة لزيادة التضخُّم

في فبراير ٢٠١٠، أصدَرَ صندوق النقد الدولي ورقةً بحثيةً من إعداد أوليفييه بلانشار — كبير الاقتصاديين بالصندوق — واثنين من زملائه، تحت عنوانٍ يبدو مسالِمًا؛ أَلَا وهو: «إعادة النظر في سياسة الاقتصاد الكلي»، إلا أن مضمونَ البحث لم يكن ما تتوقَّعُ أن تسمعه من صندوق النقد الدولي؛ إذ كان البحث تلوح فيه سمة واضحة لمراجعة النفس؛ إذ شكَّكَ في الافتراضات التي استنَدَ إليها صندوقُ النقد الدولي وسائرُ مَن يحتلون مواقع المسئولية في وضع سياساتهم على مدى السنوات العشرين الماضية. وكان أكثرَ ما يثير الاهتمامَ فيه الإشارةُ إلى أن البنوك المركزية، مثل بنك الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي، كانت تستهدف معدلاتِ تضخُّم منخفضةً بدرجة مفرطة، في حين أنه ربما كان الأفضل أن تستهدف معدلَ تضخُّم يبلغ ٤ في المائة بدلًا من ٢ في المائة أو أقل، وهو المعدل الذي أصبح القاعدةَ للسياسات «السليمة».

تفاجَأَ الكثيرون منَّا؛ ليس لأن بلانشار — عالم الاقتصاد الكلي البارز — «يفكِّر» في مثل تلك الأمور، وإنما لأنه سُمِح له بقولها. كان بلانشار زميلًا لي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لسنواتٍ طويلةٍ، وآراؤه عن كيفية عمل الاقتصاد — في اعتقادي — لا تختلف كثيرًا عن آرائي، إلا أن سماح صندوق النقد الدولي بالتصريح بمثل هذه الآراء علنًا — حتى إن لم تكتسِ بالطابع المؤسسي — لَأمرٌ جدير بالثناء.

ولكن ما هي الحجج المؤيِّدة لرفع معدل التضخُّم؟ كما سنرى خلال دقيقةٍ، ثمة ثلاثةُ أسباب في الواقع لكوْنِ ارتفاع التضخُّم مفيدًا في ظلِّ وضعنا الحالي. ولكن قبل أن نصل إلى هذه النقطة، دَعُوني أتناول تكاليفَ التضخُّم؛ إلى أيِّ مدًى سيسوء الوضع إذا كانَتِ الأسعارُ ترتفع بنسبة ٤ في المائة سنويًّا عوضًا عن ٢ في المائة؟

الإجابة — وفقًا لمعظم الاقتصاديين الذين حاوَلوا قياسَ ذلك — هي أن التكلفةَ ستكون طفيفةً؛ فالتضخم الشديد الارتفاع يمكن أن يحمِّلَ الاقتصادَ تكلفةً باهظة، سواء أكان السبب أنه يَثنِي الناسَ عن استخدام النقود — حيث يُعِيدهم إلى مرحلة اقتصاد المقايضة — أم أنه يجعل التخطيط أمرًا مستعصيًا. لا أحدَ يريد أن يهوِّن من هولِ وضْعٍ مماثِلٍ لوضْعِ فايمار، حين يستخدم الناسُ كُتَلَ الفحم على سبيل النقود، وتصبح العقودُ الطويلة الأجل وإجراءُ الحسابات المفيدة في عداد المستحيلات.

ولكنَّ التضخُّمَ بنسبة ٤ في المائة لا يَنتج عنه ولو طيفَ هذه الآثار، ومجدَّدًا أقول إن معدل التضخُّمَ كان حوالي ٤ في المائة خلال فترة الولاية الثانية لريجان، ولم يَبْدُ ذلك معوِّقًا كبيرًا آنذاك.

في الوقت نفسه، يمكن لمعدل تضخُّمٍ أعلى قليلًا أن يكون له ثلاث فوائد.

أولًا — وهو ما أكَّدَ عليه بلانشار وزميلاه — أنه يمكن لارتفاع معدل التضخُّم العادي أن يخفِّفَ من القيودِ التي تفرضها حقيقةُ أن أسعارَ الفائدة لا يمكن أن تهبط إلى ما دون الصفر. ذكَرَ إرفينج فيشر — وهو نفسه مَن جاء بمفهوم تقليصِ الدَّيْن الذي كان مفتاحَ فهْمِ الكساد — منذ فترةٍ طويلةٍ أن ارتفاعَ التضخُّمِ المتوقَّع — بِتَساوي جميع العوامل الأخرى — يجعل الاقتراضَ أكثرَ جاذبيةً؛ أيْ إنه إذا اعتقَدَ المقترضون أنهم سيمكنهم سداد القروض بنقودٍ قيمتُها أقلُّ من قيمة النقود التي اقترضوها اليوم، فسيكونون أكثر استعدادًا للاقتراض والإنفاق بأي سعر فائدة.

في الأوقات العادية، يُلغي ارتفاعُ أسعار الفائدة هذه الرغبةَ الزائدة في الاقتراض؛ فنظريًّا — وعمليًّا إلى حدٍّ ما — تسير الزيادةُ المتوقَّعة في معدلات التضخُّم مع ارتفاعِ أسعار الفائدة خطوةً بخطوة، ولكننا الآن واقعون في فخِّ السيولة؛ حيث «ترغب» أسعار الفائدة بشكلٍ ما في الهبوط لأقل من الصفر، ولكنها لا تستطيع لأن الناس أمامهم خيارُ التمسُّكِ بنقودهم السائلة؛ ففي هذه الحالة، لن يُتَرجَم الارتفاعُ المتوقَّع في معدل التضخُّم — على الأقل في البداية — إلى ارتفاعٍ في أسعار الفائدة؛ ولذا فسوف يؤدِّي في الواقع إلى زيادة الاقتراض.

بصياغةٍ مختلفةٍ بعض الشيء (وهي الصياغة التي استخَدَمها بلانشار في الواقع)، إنْ كان التضخُّمُ حوالي ٤ في المائة بدلًا من ٢ في المائة قبل الأزمة، فستصبح أسعارُ الفائدة على المدى القصير حوالي ٧ في المائة عوضًا عن ٥ في المائة تقريبًا، وسيحظى بنك الاحتياطي الفيدرالي بهامِشٍ أكبر كثيرًا لخفض سعر الفائدة عندما تضربنا الأزمة.

إلا أن هذه ليسَتِ الفائدةَ الوحيدة لارتفاع معدلات التضخم؛ فثمة أيضًا عبءُ الديون، وهو فرط الديون في القطاع الخاص الذي مهَّدَ الطريقَ أمام لحظة مينسكي والركود الذي أعقَبَها. يقول فيشر إن الانكماش يمكن أن يدفع الاقتصادَ إلى الكساد من خلال رفْعِ القيمة الحقيقية للدَّيْن؛ أما التضخُّم فعلى النقيض، يمكن أن يساعد الاقتصادَ من خلال خفْضِ القيمة الحقيقية للدَّيْن. وحاليًّا، يبدو أن الأسواقَ تتوقَّعُ أن يصبح مستوى الأسعار في الولايات المتحدة أعلى بنحو ٨ في المائة بحلول عام ٢٠١٧ عن مستواها اليوم، وإذا تَمكَّنَّا من الوصول إلى نسبة تضخُّمٍ تبلغ ٤ أو ٥ في المائة خلال تلك الفترة — بحيث ترتفع الأسعارُ بنسبة ٢٥ في المائة — فستنخفض القيمةُ الحقيقية لديون الرهن العقاري كثيرًا عمَّا تبدو عليه وفقًا للاحتمالات الحالية؛ ومن ثَمَّ، يكون الاقتصادُ قد قطع شوطًا كبيرًا على طريق التعافي المستدام.

ثمة حجة أخيرة مؤيِّدة لارتفاع معدل التضخُّم، لا تحمل أهميةً كبيرةً للولايات المتحدة، ولكنها مهمة جدًّا بالنسبة إلى أوروبا؛ فالأجور تخضع لظاهرةِ «الجمود الاسمي تجاه الخفض»، وهو مصطلح اقتصادي يشير إلى الحقيقة التي أثبتَتِ التجاربُ الأخيرة صحتَها بما لا يَدَعُ مجالًا للشكِّ؛ أَلَا وهي أن العمَّال غير مستعِدِّين إطلاقًا لقبول تخفيضات صريحة في الأجور. وإذا كان ردُّكَ هو أنهم مستعِدُّون لذلك بالطبع، فقد فاتَتْكَ نقطةٌ مهمة؛ فالعمَّال أقلُّ استعدادًا بكثيرٍ لتقبُّلِ استقطاع ٥ في المائة من راتبهم — على سبيل المثال — من استعدادهم لقبول راتب ثابت دون تغيير، وقد تآكلَتْ قوته الشرائية بفعل التضخُّم. لا ينبغي أن نقول إن العمَّال يتَّصِفون بالعند أو الغباء في هذا الموقف؛ فعندما يُطلَب منك تحمُّلُ خفض راتبك، يكون من الصعوبة بمكانٍ معرفةُ ما إذا كان ربُّ العمل يستغلك أم لا، في حين أن مثل هذا التساؤل لا يثور عندما تتسبَّبُ قوًى خارجةٌ بوضوحٍ عن نطاق سيطرة رئيسك في رفع تكلفة المعيشة.

هذا الجمود الاسمي تجاه الخفض — واعذروا استخدامي للمصطلح لأنه في بعض الأحيان يكون استخدامُ اللغةِ المتخصِّصة ضروريًّا للوقوف على مفهومٍ بعينه — هو على الأرجح سببُ عدمِ تعرُّضِ الولايات المتحدة لانكماشٍ فعليٍّ، على الرغم من كساد الاقتصاد. فلا يزال بعضُ العمَّال يحصلون على زيادةٍ في رواتبهم — لأسبابٍ عدة — وعددٌ قليلٌ نسبيًّا وجَدَ أن راتبَه انخفَضَ فعليًّا؛ ولذلك فإن المستوى العام للأجور يرتفع ببطء، على الرغم من ارتفاع معدلات البطالة الجماعية، ما ساعَدَ بدوره على الحفاظ على الارتفاع البطيء في الأسعار ككلٍّ.

هذا لا يمثِّلُ مشكلةً للولايات المتحدة؛ على العكس، فإنَّ آخِر ما نحتاجه الآن هو هبوطٌ عامٌّ في مستوى الأجور يؤدِّي إلى تفاقُمِ أزمة تقليص الدَّيْن؛ ولكن كما سنرى في الفصل التالي، تمثِّل هذه مشكلةً كبيرةً بالنسبة إلى بعض الدول الأوروبية، والتي أصبحَتْ في حاجةٍ ماسَّةٍ لخفض أجورها مقارَنةً بالأجور في ألمانيا. إنها مشكلةٌ رهيبةٌ، ولكنها كانت ستبدو أبسطَ بكثيرٍ لو كانت معدلاتُ التضخُّم في أوروبا تبلغ ٣ أو ٤ في المائة، وليس ١ في المائة أو أكثر قليلًا كما تتوقَّعُ الأسواقُ في السنوات المقبِلة. وسنتطرَّقُ لكلِّ هذا بمزيدٍ من التفصيل لاحقًا.

قد تتساءلون الآن عن جدوى تمنِّي ارتفاعِ التضخُّم؛ فَلْنتذكَّرْ أن مبدأَ التضخُّمِ الخالص محض هراءٍ؛ فإذا لم تأتِ الطفرةُ، فلن يحدث التضخُّم. وكيف لنا أن نحصل على طفرةٍ؟

الحل هو مزيج من التنشيط المالي القوي والسياسات الداعمة من قِبَل بنك الاحتياطي الفيدرالي ونظرائه في الخارج، ولكننا سنصل إلى هذه النقطة في وقتٍ لاحِقٍ في هذا الكتاب.

دعونا نلخِّص ما نحن فيه الآن؛ نحن نتعرَّضُ منذ بضعِ سنواتٍ لسلسلةٍ من التحذيرات المتعلِّقة بمخاطر التضخُّم، إلا أنه كان من الواضح — لمَنْ يفهمون طبيعةَ الكساد الذي نعانيه — أن هذه التحذيرات كانت كلها خاطئةً، وبالفعل لم تَحْدث تلك القفزةُ الهائلة في معدلات التضخُّم بالتأكيد. الحقيقة هي أن معدلَ التضخُّمِ أقلُّ من اللازم، وهذه الحقيقة تمثِّل جزءًا من وضعٍ مُزْرٍ بحقٍّ تعانيه أوروبا، التي سوف نتناولها فيما يلي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤