الفصل السادس والعشرون

الخطبة

تركنا هندًا في صرح الغدير وقد أمَّلت الحصول على حماد ولكنها كانت ترى إظلالًا من الريب تعترض آمالها لان ذكاءَها ودقة نظرها أوحيا إليها شكًّا في رضاء والدتها عن حماد أما هذه فكانت تحاول إقناع نفسها في صلاح ما وعدت هندًا بهِ ولكنها مازالت ترى في ضميرها ما يعترض مقاصدها على أنها كانت تتغلب على ذلك الضمير إرضاءً لابنتها وتنتظر ما يأتي بهِ القدر.

وفيما هي جالسة ذات يوم في الصرح جاءَها بعض الخدم ينبئها بقادم من البلقاء فهرولت إليهِ لعلهُ جاءَ بخبر من جبلة وقد طال أَمد غيابهِ فرأَت فارسًا ترجل وقبل يدها فعرفت انهُ من رجال زوجها فاستطلعتهُ الخبر فقال: «أن الأمير جبلة قادمٌ إليكم في صباح الغد وهو يقرئك السلام.»

فقالت: «أهلًا ومرحبًا فإننا نستعد لاستقبالهِ.» ثم دخلت وقد علمت انهُ آت ليسأَلها بشأن هند وثعلبة.

فانقبضت نفسها وشعرت بحرج المقام وجعلت تفكر في حل ذلك المشكل وفيما هي غارقة في بحار الهواجس جاءَت هند وكانت قد رأَت الفارس وعلمت سبب مجيئهِ فخفق قلبها لما يعترض آمالها من الشكوك وتوقعت أن ترى والدتها في ارتباك فلما علمت بخلوتها دخلت بغتة فرأَتها في ما تقدم من الانقباض فحيَّتها فانتبهت سعدى لحالها فحاولت الابتسام لتخفي ما يخامر قلبها فابتدرتها هند بصوت مختنق قائلة: «لا يشغلك شاغل يا أُماه فما في الأمر ما يدعو إلى هذا الاهتمام.»

فقالت سعدى: «لست في اهتمام يا ولدي ولكنني اشعر بانحراف في صحتي.»

فقالت: «صدقت ولكن سببهُ هند هذه.»

قالت: «حاشا وكلاَّ فانك تسليتي ومنشأُ سعادتي أَلا ترينني حالما وقع نظري عليك انشرح صدري وانبسط وجهي.»

قالت: «أرى ذلك ولكنني أَرى عليهِ صبغة التكلف فلا ترتبكي ولا تقهر نفسك فان كل حال تزول.» وأرادت هند أن تختبر والدتها وتستعيد وعدها لها قبل قدوم والدها لان على اجتماعهما هذا يتوقف مستقبلها.

فقالت سعدى: «ما بالك تكلمينني بالرموز أَلم تتحققي حتى الآن أني على ما وعدت.»

قالت: «قد تحققت ذلك ولكنني أراني سببت لك تعبًا وارتباكًا.»

قالت: «أن تعبك راحة فاقلعي عن هذه الظنون وهلمَّ بنا نتدبر الأمر فنتفق على خطة نسير عليها لأن والدك قادم غدًا ولا أَظنهُ إلَّا فاتحًا حديث ثعلبة فما ظنك فيما نجيبهُ بهِ.»

قالت: «أنت تعلمين ما في قلبي فأجيبيه بمقتضى حكمتك أَما أنا إذا سئلت فلا جواب عندي غير السلب ولومهما كلفني ذلك.»

فقالت: «هبي انهُ سأَلنا عن سبب هذا الرفض فهل اذكر لهُ حكاية حماد.»

قالت: «لا أدري ما تقولين ولكنني أخبرتك بمكنونات قلبي وقد وعدتني بتدبير الأمر فافعلي ما تشائين.»

فسكتت سعدى وقد وطنت نفسها على مجاراة ابنتها وخرجت من الغرفة وأمرت أهل القصر بضرب المضارب وإعداد الذبائح لاستقبال جبلة وحاشيتهِ في صباح الغد.

فأصبح الصباح وقام الخدم لإعداد ما يلزم ففرشوا البسط ونصبوا الخيام وذبحوا الذبائح وأوقدوا النيران ولبست سعدى وهند أحسن ما لديهما وتهيأَ للاستقبال فلما كان الضحى ظهر الغبار من جهة البلقاء فعلم أهل القصر بمجيء جبلة ورجالهِ فخرجوا لملاقاتهم وأطلت سعدى من بعض النوافذ المشرفة على ذلك السهل أَما هند فتسلقت على سريرها وفرائصها ترتعد لهول ما تصورتهُ من غضب والدها إذا علم بما في نفسها ثم ما لبثت أن سمعت قرقعة اللجم وصهيل الخيل بجوار القصر فعلمت بوصول والدها وفرسانهِ فخفق قلبها ولكنها تجلدت وأطلت من الشرفة فرأت الفرسان قد تحولوا إلى الخيام المضروبة لهم هناك وترجل والدها أمام الحديقة ودخل بلباسِه الفاخر وقد لفَّ رأسهُ بكوفية والعقال حولها والتف بالعباءَة فوق الطيلسان فاستقبلتهُ سعدى بوجه باش يخامره بعض الانقباض ثم جاءت هند فقبلت يده فضمها وقبلها واستغرب ما رآهُ في وجهها من النحول فسألها عن سبب ذلك فأجابتهُ والدتها بأنها تشكو من ألم عارض فساروا جميعًا إلى قاعة مفروشة بالبسط والسجاد والوسائد فدخل ثعلبة ممسكًا هندًا بيدها حتى جلس في صدر القاعة وأجلسها إلى جانبهِ وقد تنبهت فيهِ عواطف الشفقة لما آنسهُ فيها من الضعف فما صدق انهُ خلا بها وبوالدتها حتى سأَلهما عن شكوى هند منهُ فطمأَنتاه وألحتا عليهِ أن يبدل ثياب السفر ويستريح ففعل وقد أوصى الخدم بإصلاح ما يحتاج إليه رجالهُ من الزاد.

أَما سعدى فآنست في وجه زوجها انقباضًا لم تعهده فيهِ وخصوصًا عند مقابلتهِ هندًا بعد غياب طويل فعولَّت على استطلاع السبب بعد الغداءِ والاستراحة ولكنها لم تستطيع ذلك لانشغالهِ بمشاهدة غرف القصر ونزولهِ إلى الإسطبل يتفقد أفراسًا لهُ كان قد تركها هناك ولكنها لاحظت انهُ إنما كان يتلاهى بذلك تخلصًا من سؤالها واستفهامها.

فلما كان المساء جلسوا للطعام وكل منهم في هاجس فلم يدر بينهم حديث غير ما لا بد منهُ كالتماس الآنية أو استبدال بعض أنواع الطعام أو الشراب ونحو ذلك.

فلما فرغوا من العشاء تفرَّق الخدم يهتمون بشؤونهم وبقي جبلة وزوجتهُ وابنتهُ في القاعة على حدة وكان جبلة متكئًا على وسادة وهند إلى جانبهِ ووالدتها بين يديهِ.

فنظر إلى هند وتأمل وجهها ثم إلتفت إلى سعدى وقال لها: «لقد اطلنا الغيبة عليكم هذه المرة لشواغل انتابتني وكنت أَعد النفس بالقدوم إليكم منذ أيام فلم استطعهُ إلَّا اليوم وكنت احسب مجيئي هذا يفرج كربتي فلم أرَ إلَّا ما يزيدني انقباضًا.»

فتطاولت سعدى بعنقها نحوه قائلة: «ليس في هند ما يدعو إلى الانقباض فقد يمرُّ على الإنسان أيام يتوعك بها مزاجه لغير سبب يعرفهُ ولكنني توسمت في وجهك انقباضًا منذ قدومك هذا الصباح وكنت أغالط نفسي وأحسبني مخطئة أما وقد أقررت بهِ من فيك فأرجو أن تفصح عن السبب.»

قال: «ليس في ما تشاهدينهُ من الانقباض ما يهمك الاطلاع على أسبابه فهو أمر عارض لا يدعو إلى البحث.»

فقالت: «لا أظن أمرًا يهمك لا يهمنا ومهما كان من شأنهِ فان بالنا لا يهدأ إلا بمعرفتهِ.»

فقال: «دعينا من الخوض فيهِ وقد يكون سحابة صيف تنقشع ولا تمطر.»

فاشتاقت سعدى إلى استطلاع الخبر وعلمت انهُ منقبض من خبر سمعهُ ولم يتحقق صدقهُ. فقالت: «هب انك لم تتحقق ما سمعتهُ فاطلعنا عليهِ.»

قال: «جاءَنا قادم من الحجاز يخبرنا بقدوم جند من العرب لمحاربتنا.»

فبغتت سعدى وقالت: «وما سبب قدومهم ولا نعرف بيننا وبينهم ما يوجب حربًا.»

فهزَّ رأسهُ واعتدل في مجلسهِ وجعل يمشط لحيتهُ بإصابعهِ وقال: «أن هؤُلاء العرب عصابة قوية برئاسة نبي ظهر بينهم يدعو الناس إلى دين جديد وقد بعث كتابًا يدعونا فيهِ إلى دينهِ فوصل كتابهُ إلى الحارث فمزقهُ وامتهن حاملهُ فشق ذلك على صاحب الدعوة فأنفذ جندًا من رجاله لمحاربتنا فبثثنا العيون والأرصاد لمراقبة مسيرهم ولا نعلم متى يصلون.»

فبغتت هند عند ذكر الحارث وقالت في نفسها (قد كتب علينا الشقاء على يد الحارث وابنهِ فلا حول ولا) ولكنها نظرت إلى والدها وقد ثارت فيها الحمية وقالت: «وما يخيفنا من قدوم هؤُلاء العدنانيين ونحن بني غسَّان رجال أشداء لا نرهب القتال.»

فانشرح صدر جبلة لما أظهرته هند من الشهامة وقال: «نعم إننا لا نخاف حربهم ولكننا كنا في غنى عن حشد الرجال وإعداد معدات الدفاع وحصوننا لا تزال مهدمه على اثر حروبنا مع الفرس سامح الله الحارث لما جرَّه علينا من البلاء.»

فقالت سعدى: «يظهر أن هؤُلاء العدنانيين إنما يريدون قتال الحارث لا قتالنا.»

قال: «نعم ولكننا جميعًا تحت سيطرة الروم فإذا احتاجوا إلى دفاع استنجدونا جميعًا ولا يسعنا إلا الإذعان.» فقالت هند: «أيخطئُ الحارث ونحن نحارب عنهُ.»

قال: «ذلك ما لا بد منهُ إذا دعت الحالة إليهِ وسنرى ما يكون من أمر هذا الجند ولكن الحارث جاءني بالأمس وتداولنا في الأمر مليًا وأخذنا في حشد الرجال وإعداد معدات القتال وعلى الله الاتكال.»

فلما سمعت سعدى باجتماع الحارث بزوجها أيقنت أنهما تداولا في شأن هند وتوقعت أن تسمع حديثهُ من جبلة ولكنها علمت انهُ لا يذكر ذلك وهند حاضرة تظاهرت بالملل وقالت: «أظنك تعبًا من جراء السفر في هذا الصباح فهل تريد الذهاب إلى الفراش.» فأدرك مرادها فأجاب دعوتها ونهض ونهضت هند ولم يفتها المراد من ذلك فانصرفت إلى غرفتها بدعوى الرقاد وقد نظرت إلى والدتها بطرف خفيَّ كأنها تذكرها بوعدها فافترقوا وخلت سعدى بزوجها في غرفة الرقاد وقد أعدَّ له الخدم ثياب النوم فبدَّل ثيابهُ وبدلت هي ثيابها وكلاهما صامت يفكر في جهة والموضوع واحد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤