الفصل الثالث والثمانون

كنيسة ماري يوحنا

ولم يكد يفيق في صباح اليوم التالي حتى سمع دق النواقيس في سائر كنائس المدينة ورأى أهل القصر يتهيأون للذهاب إلى الكنيسة فسأل خفيره عن ذهابهُ فقال: «تعال معنا إن الصلاة لا تمنع عن طالبها» ولم تمض برهة حتى خرج توما بأحسن ما يكون من اللباس فمشى وحولهُ الأعيان والوجهاء ورجال الدولة بأفخر الألبسة من الحرير المزركش على أجمل ألوانهُ وأزهاها.

وكانت الكنيسة على مقربة من القصر فلم يكن إلاَّ القليل حتى وصلوها فإذا هي محاطة بسور عظيم الارتفاع يوقع في النفس رهبة فدخلوا منهُ إلى باب الكنيسة الجنوبي وهو كبير مرتفع الأعتاب فدخلوا منهُ إلى صحن الكنيسة وهو فسيح مبلط بالرخام الملون طولهُ نحو ٢٠٠ خطوة وعرضهُ ١٥٠ وتحيط بهِ الأروقة وفيها الأعمدة الهائلة من الرخام الأبيض النقي أو الغرانيت الملون بأحسن ما يكون من الدقة تعلوها تيجان جميلة الصنعة على النمط الروماني أكثرها محلى بالذهب حتى إذا أشرف على الهيكل حيث تقام الصلاة بهره ما على جدرانهُ من الصور البديعة بالألوان الطبيعية وفيها الذهب فضلًا عن النقوش الجميلة من الفسيفساء البلورية بالألوان البديعة. وكان حماد فيما التفت تمثلت لهُ عظمة الروم في أبان مجدهم فبهِت لأنهُ لم يشاهد مثل هذه الكنيسة قط.

فأدرك خفيره ذلك منهُ فقال لهُ: «ما بالي أراك منذهلًا». قال: «إني لم أر مثل هذه الكنيسة في الشرق إلاَّ بإنطاكية من هو الذي بناها من الملوك» قال: «أنهُ بناء أقدم من النصرانية عهدًا فقد كان هيكلًا وثنيًا من أيام الآراميين الذين ورد ذكرهم في التوراة بنى على اسم الهُ من آلهتهم اسمهُ رامون وكان لهُ مذبح جميل أمر آحاز ملك يهوذا أن يبنى مثلهُ في هيكل سليمان بأورشليم».

فلما استولت دولتنا الرومانية على الشام قبل النصرانية اتخذوه معبدًا لأوثانهم حتى إذا تنصرت قياصرتنا جعلهُ أحدهم أرخاديوس قيصر كنيسة على اسم يوحنا المعمدان وكان قد تخرب بعضه فرممه ونقش فيهِ صور القديسين ومن جملة ما نقشوه آيات من الكتاب المقدس ترى كثيرًا منها على الجدران والسقف وأظنك قرأت ما هو منقوش على الباب عند دخولنا فقد كتبت عليهِ هذه العبارة (باليونانية) «ملكوتك أيها المسيح ملكوت أبدي وسلطانك يمتد مدى الأدوار».

ولم يكد ينتهي الرجل من حكايته حتى انتظم عقد الصلاة وقام الأساقفة بمباخرهم وصلبانهم وعلت أصوات الترتيل والترنيم والجدران تردد الصدى حتى صمت الآذان وتخشع الناس ونظر حماد إلى الجماهير فرآهم وقوفًا وقد ولوا وجوههم المشرق وفي مقدمتهم توما في كرسي من العاج المرصع بالفسيفساء فوقهُ قبة من العاج بديعة النقش. ولما انقضت الصلاة حول توما وجههُ نحو الجماهير وبيده صليب من الذهب مرصع بالحجارة الكريمة وأمامهُ طاولة عالية فوقها كتاب مغشى بالذهب عرف حماد أنهُ الإنجيل الشريف والتفت توما وقد تغير منظره وهو يهيئ كلاما يقولهُ فأصغى الناس ففتح الإنجيل ووضع يده اليسرى عليهِ وفي يده اليمنى الصليب يشير بهِ وهو يتكلم وقال ما معناه: «اعلموا يا معشر النصرانية أن عمي ومولاي جلالة الإمبراطور هرقل قد كتب إلينا يستحثنا على دفع هؤلاء الأعراب عن أسوار دمشق وإخراجهم من بلاد الشام فقد القوا الفتن فيها وما هم بالحقيقة إلاَّ قوم جياع عراة ساقهم فقر بلادهم وجدب أرضهم إلى التماس الغزو من غياض الشام وخيراتها وقد أطمعهم فيها ما لا قوة من ضعف حامية بصرى وقائدها روماس اللعين الذي قاده الانتقام إلى التسليم. أما أنتم فإنكم رجال أشداء قائمون على الولاء فلا يهمكم من أمر هؤلاء شيء. ولا أحرضكم إلاَّ على الاتحاد ونبذ الاختلافات المذهبية فقد آن لنا أن نفقه حالنا ونعتبر بما صار إليه الناس قبلنا وما هؤلاء العرب بشيء يذكر إذا نحن اتحدنا وإلاَّ فان العاقبة وخيمة فإذا رأيتم الخروج إليهم خرجنا وأذقناهم مرُّ العذاب».

فقال رجل واقف بالقرب منهُ: «ما لنا وللخروج إليهم ونحن آمنون في أسوارنا فلنهملهم حتى يملوا الإقامة فينقلبوا على أعقابهم».

فتأمل حماد في حال ذلك الجمع وفيهم خيرة رجال الدولة فرأى التردد والخمول مستوليين عليهم وكان يحسب كلام توما يثير فيهم حمية فإذا هو لم يسمع منهم إلاَّ تمتمة ولم ير إلاَّ تقاعدًا وقد فقدوا الحمية بما انغمسوا فيهِ من الترف والبذخ والرخاء وفسدت أخلاقهم وساءت آدابهم فقابل ذلك بما آنسهُ في جند العرب من الأنفة وعزة النفس والنشاط ووحدة الكلمة فتمثلت لهُ عاقبة الأمر جليا وأيقن أنها عائدة على الروم إذا هم لم يصالحوا العرب فلبث ينتظر ما يأتى بهِ القدر.

وعادوا من الكنيسة وهم يتحدثون بما سمعوه وحماد مشتغل بهند وقد حاول الخروج منفردًا إلى كنيسة مريم فلم يستطع لما ضيقه عليهِ توما من الحجر فإن خفيره لم يكن يفارقهُ لحظة وخاف إذا خرج خلسة أن يرتكب ذنبا يستوجب عليهِ القتل فصبر نفسهُ رغمًا عنهُ. وفي صباح الغد خرج توما ومعهُ رجالهُ إلاَّ الخفير فأنهُ بقى في القصر وحماد معهُ وآنس في خروجهم حركة غير اعتيادية فاستطلع الخبر فقال الخفير: «إن البطريق سار إلى الأسوار يرمى العرب منها بالنبال ولم يأت المساء حتى عاد الروم وفيهم توما ويده على عينه وقد جاءه الأطباء فسأَل حماد عن حالهُ فقيل أنهُ أصيب بنبلة من نبال العرب فقأت عينه وأنهُ تشاءم من ذلك كثيرًا» فقال حماد في نفسهُ: (فعسى أن يرجع إلى صوابه ويرغب في الصلح).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤