الخليفة المهدي يقلد عبد الوهاب الإمارة!

واصلت الأميرة ذات الهمة تقدمها وانتصاراتها بفتح المدن والثغور، يرافقها ابنها الصبي عبد الوهاب، الذي رأت فيه خير سند وصديق تحن إلى مشورته في الكثير من أمورها، وذلك لخبرته بفنون الحرب والقتال التي اكتسبها رغم حداثة سنه.

وكان عبد الوهاب قد أبدى اهتمامه المبكر بذلك، فمهَّدت له ذات الهمة كل إمكانات تعلم وإتقان أسرارها، فدفعت به إلى علماء ومهندسي الورش العربية وأسرى الحرب من مخترعي جيوش الأروام بأسلحتهم تلك الجديدة، وهم الذين عاد بهم عيارها الشاب أبو محمد البطال، فأصبحوا مصدر قوة لهم ضد الأروام. وبالفعل وجد عبد الوهاب في البطال مبتغاه، نظرًا إلى ما يتمتع به البطال من ذكاء متوقد ورغبة جامحة في المغامرة، هدفها إحراز النصر للمسلمين على أعدائهم المتجمعين الطامعين من كل صوب.

خاصة وأن البطال شهد بعينيه كيفية تعذيب الأروام لوالده عند اجتياحهم مضاربهم ذات ليلة، تسللوا فيها خلسة وغدرًا من البحر؛ إذ قطعوا رأسه عن جسده أمام عينيه الصغيرتين، ليعودوا به إلى كبرائهم وبطارقتهم مع غيرها من رءوس الشيوخ والأطفال والنساء العربيات.

ولم ينسَ أيضًا كيف جُرِح هو حين لحقته نيرانهم ومفرقعاتهم النفطية، ومن يومها لم تفارق مخيلته ذكرى جثة أبيه الوادع بلا رأس وأطراف، وبقي متذكرًا جرحه الدائم الذي أحرق نصف ساقه، فظل شهورًا يكشف عنه بطرف سرواله تحسرًا لكل من صادفه.

ومنذ تلك الليلة القاتمة السواد والبطال لا ينسى مدى الأخطار المحيطة به في عالم وحشي لا مكان فيه لمغلوب أو مقهور.

فتفجرت طاقاته في الإلمام بلغات الأعداء ورطاناتهم، وفي تغيير ملامحه، وفي المعرفة بأسلحتهم وخططهم ومسالكهم البحرية، واحتفالاتهم الموسمية وكرنفالاتهم الماجنة، وتجمعاتهم لاحتساء الخمر والسُّكر؛ ليفقدوا كل وعي وإحساس، فيسهل تصيدهم الواحد إثر الآخر، بل إن ما ساعد البطال حقًّا على اكتشاف قدراته ومهاراته منذ الصغر، خاصة عقب حادث استشهاد والده وأستاذه الأول «ثعلبة بن الحصين»، الذي سبق له إسداء كل معونة حقَّقت الانتصار لذات الهمة.

وكان الحصين عيارًا أو بصاصًا خارق الذكاء، واسع المعرفة، مُلمًّا بتفاصيل حياة تحالف الأعداء الأروام وخططهم وأسلحتهم ومراكز اتخاذ قراراتهم؛ لذا اعتبرته ذات الهمة مصدرًا لا ينقطع عطاؤه من المعلومات الصحيحة؛ نتيجة لكبر سنه وخبراته التي اكتسبها عبر رحلاته وأسفاره التنكرية لعواصمهم ومدنهم، يرصد ويدون كل ما تقع عليه عيناه من تحركات وتحالفات.

تلك الخبرة يسرت له رعاية وتربية جيل بكامله من البصاصين والعيارين وجامعي المعلومات، من أشبال أبناء المحاربين العرب، كان أبرزهم أبو محمد البطال، فكانت الأميرة ذات الهمة تتخذ قراراتها الأخيرة في ضوء ما كان يشير به «ثعلبة بن الحصين»، بل وكثيرًا ما لجأت هي ذاتها لتغيير خططها أو تأخير مواعيدها عقب استشارته والاجتماع به تحت أقصى درجات التكتم والسرية.

ولعل أفضل نموذج لجيل ذلك العيار العجوز ثعلبة بن الحصين مكيدته التي أحكم تخطيطها وتنفيذها، فتم لذات الهمة عن طريقها اقتحام آخر حصون وقلاع مالطة التي صمدت أمام الجيش العربي طويلًا، وهو الحصن الذي احتمت به الأميرة «باغة».

إذا أوقعت الظروف كتيبة هائلة من جند الأروام العائدة مظفرة إلى الحصن، تقود أمامها كتيبة من أسرى المسلمين، وهنا أشار الحصين بقتل قادة الأروام وارتداء ملابسهم على ذات الهيئة التي كانوا عليها، ومواصلة المسيرة إلى الحصن الذي ما إن انفرجت بواباته منفتحة تهليلًا بالنصر، حتى تم لذات الهمة وكتائبها الاستيلاء على الحصن وقلاعه الملحقة، والوصول إلى مخدع الأميرة باغة ومنازلتها وقطع رأسها.

وعلى هذا النحو المخادع شرب العيار الجديد أبو محمد البطال من ذات النهل المتوقد الذكاء؛ من أستاذه ثعلبة بن الحصين، إلى أن تفوق عليه مكرًا وحيلة، وهو الذي وُلد وشب عن الطوق منذ مطلع صباه في أحياء الأروام، فتعلم منهم أكثر مما تعلم من أبناء جلدته العرب.

وساعده في هذا تكوينه الجسدي الرقيق، وذكاؤه المتوقد كحد النصل، وخفة ظله في الإيماء والتحول وجذب الانتباه والسخرية المضحكة.

ومنذ صباه أبدع البطال في جمع المعلومات المفيدة لذات الهمة، إلى درجة دفعتها إلى احتضان الغلام البطال، وتعهده بالرعاية، وتيسير سبل إلمامه بلغة الأروام، إلى أن أصبح عينًا لها يجوب عواصمهم وموانئهم وبلدانهم دون كلل.

بل إن ذات الهمة تعمدت محادثة ابنها عبد الوهاب عنه، والإشادة به كجني صغير … خارق.

حتى إذا ما التقاه عبد الوهاب متوثب الحركة كجرذ صغير نبتت على الفور بذور صداقتهما وأينعت، إلى حد حال بينهما وبين الافتراق ليل نهار، وعمل الاثنان كفريق متكامل، فتولى البطال القيام بالتجسس، وتفرغ الأمير عبد الوهاب لدراسة معلوماته ووضع خطط المواجهة.

فقد برع البطال في مهامه، وأولها تصيد أسرى الأروام السكارى وهم يتطلعون إليه أو إلى أتباعه في بلاهة واستكانة من تأثير الخمر، فيقودونهم إلى سفن المسلمين المستترة الرابضة، ولتعود بهم وبأسلحتهم الجديدة في جنح الظلام إلى مضارب المسلمين وهم لا يزالون موغلين في سكرهم.

كما تفنن البطال في استخدام البنج والمساحيق أو الشموع المنومة ليتصيد بها فرائسه في وضح النهار، بعد أن يبدأ الحديث معهم ومداعبتهم بلغاتهم التي أجادها نتيجة معاشرته إياهم، ولم يكتف بذلك، بل توصل إلى معرفة مشكلاتهم، ومحاولته اقتراح الحلول لها، وتقديم هدايا المشرق لهم التي كانت تستهويهم بألوانها وتصميماتها وزخارفها البهيجة الباهرة.

وقد ضمت مجموعة هداياه منسوجات دمشق ومصنوعاتها الخشبية والمعدنية، وكل ما هو مصنوع من الفضة والزجاج والسيراميك، فضلًا عن الأرجوان وصور الحريري الأحمر، وأكداس الأحجار الكريمة من عقيق سليمان وياقوت وكهرمان حجازي، كذلك المنمنمات الإسلامية على هيئة أيقونات، وأغلفة كتب، ومطروقات نحاسية مطعمة بثمين المعادن كالفضة والذهب.

لذلك أغدقت ذات الهمة على البطال وأتباعه من العيارين العطاء؛ نظرًا إلى أهمية خدماتهم المقدمة إلى جيش المسلمين، سواء ما تعلق منها بأدق المعلومات والخطط الغادرة ضد الجيش العربي، التي كان يبدع في وضعها الأعداء، أو جلب الأسرى من أبرز مهندسي أسلحة الحرب الجديدة ووسائلها وأسرارها الدفينة، من داخل معسكرات وورش صنع أسلحة الأروام المستمرة دائمًا في التقدم والتحسن لإحراز النصر السريع في مواجهة تقاليد الحروب العربية، التي تستلزم المواجهة والفروسية.

وهو ما لم يعد نافعًا لإحراز النصر؛ نظرًا لتطور الأسلحة الجديدة التي تعتمد أولًا وأخيرًا على عنصري المباغتة والحركة، دون أدنى اعتبار لتقاليد الفروسية والمنازلة وجهًا لوجه.

ومن هنا جاءت رغبة ذات الهمة في امتلاك زمام المبادرة من أيدي أعدائها كلما سنحت لها الفرصة في الاستحواذ على أسرار إنتاج سلاح جديد، سواء كان ناريًّا أو كيميائيًّا غازيًّا، يجيء به البطال كعادته إلى مضارب صديقه الوفي الذي أصبح ملازمًا له كظله، وهو الأمير عبد الوهاب مازحًا متهكمًا كعادته: نجربه — بإذن الله — في جثثهم في المعارك المقبلة، ثم يقارب عبد الوهاب غامزًا: سلاح لم ينزل بعدُ في أي سوق أو بازار.

وحين يكشف عن سلاحه الجديد لعبد الوهاب وذات الهمة يواصل هزله: كما ترون … أرزاق.

وقد يضاعف من دهشتهم مصرحًا: وهذا هو «المستر» أو «السنيور» المخترع بذاته، لكنه لم يُفق بعد … سكران من فجر الأمس على هذا الحال والمنوال. «ويضحك فرحًا».

وقد يمضي ممازحًا الأسير المخترع بلهجته، شارحًا لعبد الوهاب وذات الهمة ما ينطق به الأسير: يقول إنه مبسوط شوية.

•••

وما إن تحقق النصر لجيش المسلمين بقيادة ذات الهمة، وتم رفع الرايات والبيارق الخفاقة على معظم المدن والثغور المناوئة التي أعلنت العصيان والتمرد والتحدي لخليفة المسلمين قبل ذلك، حتى هرع على الفور ملوك الأروام وبطارقتهم طلبًا للاستسلام والمهادنة على عتبات الخلافة.

وهي المهادنة التي رفضتها على الدوام ذات الهمة؛ بحجة عدم إعطاء الفرصة للأعداء لشحذ النصال من جديد.

إلا أنها لم تجد في النهاية بدًّا سوى الامتثال لما يراه أمير المؤمنين وكبار وزرائه، بعد أن قبل الأروام بالامتثال وفرض الجزية، ودفع خسائر الحرب كاملة غير منقوصة، وهكذا فُرضت الهدنة عليها فرضًا.

لكن ما إن نُكست النصال، وعمت أفراح النصر الكبير مختلف الأقوام العربية والرومية، واستراح الجميع خلودًا للسلم والاسترخاء، حتى اندلعت حرب جديدة أشد ضراوة ضد ذات الهمة وابنها عبد الوهاب.

إذ جدد عمها ظالم وابنه الحارث مطلبهما المؤجل، حول طرح قضية عبد الوهاب على حكماء الحجاز وبغداد لحسم الأمر ودون إبطاء، ودون إعطاء ذات الهمة الوقت الكافي لترطيب جراحها الثقيلة من أثر المعارك الضارية التي خاضتها.

ولم يجد أمير الحملة عبد الله بن سليم حجة يسوقها سوى ضرورة الامتثال لما اتفق عليه.

كما لم تجد ذات الهمة مهربًا أمام إصرار الجميع على إعادة عبد الوهاب إلى مضارب الأهل، حتى أبيها مظلوم ساند أخاه ظالمًا وابنه، وزاد الطين بلة إصرار عبد الوهاب نفسه على الرحيل إلى مضارب الأهل في مكة والحجاز ونجد — المرية — وهو الذي ولد وترعرع في ساحات الحرب والجهاد والاغتراب بعيدًا عن موطنه الحجاز.

وهكذا وجدتها ذات الهمة فرصة أجمعت عليها المشورة، فآثرت الرحيل عقب الانتهاء من تنظيم أمر البلاد المفتوحة، وشحن السبايا والآلاف من رءوس الأسرى وكنوز البلدان المفتوحة إلى عاصمة الخلافة.

•••

ويوم الرحيل، استعدت المراكب والسفن المكدسة بالسبايا، والجنود الزائرين لأهاليهم، وثروات الحرب، وعينات الأسلحة الجديدة.

واعتلت هي وابنها عبد الوهاب وأبوها سفينتها.

والأمير عبد الله وابنه عمر، وظالم وابنه الحارث سفنهما.

وأقلعت المراكب العربية عائدة إلى مقر أمير المؤمنين، تسبقهم الأخبار بالنصر وفرض الجزية، فما إن دخلوا عاصمة الخلافة حتى فوجئوا بها مزدحمة كيوم الحشر بالآلاف المؤلفة التي قدمت من كل صوب لاستقبال ذات الهمة وابنها عبد الوهاب، محملين بالعروش والتيجان، ونفيس الجواهر والهدايا، وصفوف السبايا والأسرى.

فضربوا مضاربهم على مقربة من قصر أمير المؤمنين المهدي — والد هارون الرشيد — الذي سارع لاستقبالهم والترحيب بذات الهمة وعبد الوهاب، متسائلًا عما دفع بهم إلى العودة على هذا النحو، دون أن تغفل عينه من تحسس أمر الإسراع بالمجيء بعدتهم وعتادهم وحسم قضية عبد الوهاب.

إلى أن انبرى الأمير ظالم وابنه فطرحا أمر الخلاف حول شرعية زواج ذات الهمة من الحارث، ثم التطرق لانتماء عبد الوهاب ابنهما شرعًا وبشهادة الخليفة.

وكان الخليفة قد وجد لعبد الوهاب الشاب مكانًا رحبًا في قلبه، حتى إنه قربه وباركه، وأجلسه إلى جانبه على مرأى من الجميع.

وبدت مؤامرة التقليل من ذات الهمة واضحة حين تدخل كبار وزراء بلاط الخليفة إلى جانب عمها وقبيلته، وعلى رأسهم الوزير مصعب والفضل بن الربيع.

إلا أن الخليفة استمع مطولًا إلى وجهة نظر ذات الهمة، وتفاصيل ما عانته في السنوات الأخيرة من تآمر وفتن وصلت إلى مضربها ومخدعها.

ووصل الأمر بالخليفة إلى حد الغضب والاقتناع بأقوال أم المجاهدين، والأمر بإيداع عمها ظالم وابنه الحارث غياهب سجنه الملحق بالقصر.

وأنعم الخليفة المهدي على ولدها عبد الوهاب أعلى درجات الإمارة، فنصبه أميرًا لبني كليب ووحيد وعامر.

ولكن ما إن انقضت أيام ذات الهمة في بغداد، وتحرك ركبها بصحبة الأمير عبد الوهاب إلى مضارب الأهل بالحجاز ومكة، حتى اندلعت ألسنة الفتنة ونسج الأقوال الملفقة لذات الهمة وشوكتها الضاربة؛ تخوفًا من أن تشهرها يومًا في وجه الخلافة ذاتها، مستعينة بجندها وعتادها ومصادر قوتها التي لا ينضب لها معين، والتي أصبحت مهددة لأعظم الإمبراطوريات رسوخًا.

ونجحت الفتن التي شارك في صياغتها وتنميقها وزراء البلاط وحجاب الخليفة ومقربوه، ومنهم الوزير المخادع عقبة بن مصعب، والفضل بن الربيع، في تحويل غضب الخليفة المهدي عن عمها ظالم وابنه الحارث، والإفراج عنهما، وإعادة تكريمهما.

وهكذا لاحقت العيون الحاسدة والحاقدة موكب ذات الهمة والأمير عبد الوهاب وهما في طريقهما إلى الحجاز ومكة ونجد — المرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤