مولد بغداد

لم ينقذ ذات الهمة من براثن ذلك الزواج المفروض عليها فرضًا من جانب ابن عمها الحارث سوى ما جدَّ من أخبار، وهو الزوج الذي أصبحت بالفعل تكرهه وتمقت ذكره، ولا تطيق تواجده في مكان واحد يجمعهما معًا، بعدما حدث في حضرة الخليفة؛ حيث تم تحويل جلسة اللقاء الأولى معه للتبصير بالخطر الداهم، ومحاولة جمع الشمل العربي، وطرح قضية الاستعداد للجهاد، إلى قضية ذاتية شخصية، وهي الضغط عليها من كل المنافذ والجهات، حتى من جانب والدها نفسه مظلوم؛ لحملها على الاستسلام للزواج، الذي لم يتطرق إلى فكرها لحظة واحدة.

لم ينقذ ذات الهمة سوى الأخبار التي داهمت الجميع مرة واحدة كمثل كابوس قوي جاثم في عاصمة الخلافة، وهي خروج الروم البيزنطيين، بعد توحيد صفوفهم وجحافلهم الجرارة في تسعين ألف محارب، تتقدمهم سفنهم ومراكبهم، بعدما تساقطت ثغور المسلمين، الذين أبلى جدودُهم في فتحها وتأمينها بتشييد الحصون والمتاريس وكافة الإنشاءات الدفاعية الحربية.

بل زاد من فداحة الأمر سقوط حملات جيوش المسلمين أسرى في قبضة الروم يسومونهم صنوف العذاب ألوانًا، بمختلف وسائل الانتقام، عن طريق قتل شيوخهم وأطفالهم وشبابهم المحاربين دون أدنى رحمة أو شفقة.

وقدمت وفود الرسل التي تمكنت من الفرار في جحيم الاجتياح الرومي للثغور إلى عاصمة الخلافة، محملة بالأخبار والمعلومات الحربية، خاصة ما يتصل بالأسلحة الجديدة التي أدخلها الأعداء في الحرب، وحققوا بها انتصاراتهم في غفلة من العرب المتناحرين، منها: القنابل النفطية، والمفرقعات، والبخور المركب الذي يُحدث تأثيره في أعصاب المقاتلين العرب، ومنها: الخطط البحرية الجديدة التي وضعتها ملكتهم العاتية «مالطينة»، وأختها التي تدعى الأميرة «باغة»، وقائد جيوشهم المدعو «إرمويل».

بل إن ما ضاعف من آلام ذات الهمة وكمدها هو مدى المشقة التي بذلتها أيامًا في حضرة أمير المؤمنين الخليفة المنصور وجمع وزرائه وقواده ومقربيه ومجلس حربه، تشرح لهم مدعمة كلامها ووجهة نظرها بمختلف الوثائق والخرائط والأسانيد التي جلبتها معها، ومنها مخطوطات وكتابات جدها الصحصاح حول أساليب تجهيز جيوش الأعداء لاجتياح ثغور المسلمين، وتهديم حصونهم، واستباحة دمهم بكل وسائل وأحابيل الحرب الجديدة، وما جلبته من أسلحة دمار جماعي للآلاف المؤلفة منهم.

صحيح أن الخليفة تبدى لها على معرفة عميقة بما ساقته له من خطط الأعداء، وما يمكن تلافيه وكسر أمده في المهد باليقظة في وضع خطط عربية مواجهة، إلا أن الأمر لم يحتمل بعدُ التروي ولا التسويف.

وها هو ما ارتأته الدلهمة، ونفذت إليه بصيرتها الثاقبة، وحذرت مرارًا وتكرارًا من وقعه يومًا … يجيء فاجعًا داميًا إلى حد تعريض أمن العرب والمسلمين لكل الأخطار المحتملة.

وحين عادت بها مخيلتها إلى ذلك الاجتماع المطول مع خليفة المسلمين، وما انتهى إليه من ذلك التنكر المخادع الذي اتخذه الحارث ووالده — عمها — ظالم، ومن انحراف بالقضية الكبرى، وإلى كيفية اقتناصها هي تحت تأثير سخافات الحب واللوعة، التي انتهت كلها إلى زواج تمقته من أعماقها؛ استبد بها الغيظ إلى أقصى مداه.

فعلى هذا النحو غير المتوقع بدأت ذات الهمة تساق إلى مصيرها المحتوم بالزواج من ابن عمها رغمًا عنها، عن طريق الإحراج الشديد الذي أوقعها فيه الخليفة الطيب القلب والنوايا المنصور.

فما إن تولتها نوبة الغضب المفاجئة من مراسم الاستعدادات لإقامة فرحها أو عرسها، بالغناء والرقص والموسيقى، ونحر الذبائح، وإقامة الزينات، وذكر اسمها ذاته فاطمة العروس، حتى امتشقت سيفها، واعتلت صهوة جوادها، وأحس الجميع ما بها فولوا الأدبار في كل صوب واتجاه.

حينئذ لم تجد ذات الهمة لها مهربًا سوى الفرار في شعاب عاصمة الخلافة ووديانها، طلبًا للنجاة بجلدها من جحيم — وليس عرس — ما يحدث.

وهكذا حققت الداهية انتصارها، وفرضت سيادة أفكارها حول أهمية وحتمية التبصر بالخطر الذي تلوح معالمه في الأفق.

فما إن بزغت شمس اليوم التالي حتى تواترت الأخبار لتصبح على كل فم ولسان: الجند الرومية أعلنت الحرب الغادرة.

– وفود الروم أسقطت واجتاحت آمد وقبرص ومالطة وقرطاج.

– الأسرى المسلمون بالآلاف في أيديهم.

– يقتلون الأطفال ويبقرون بطون الحوامل والأمهات، ويصلبون المحاربين العرب.

– الأعداء في الطريق إلى البصرة ذاتها.

ولم يجد أمير المؤمنين منفذًا سوى جمع وزرائه وقواده وطرح الأمر الغادر المستعجل، واتخاذ إجراءات وقرارات إعلان الجهاد والحرب.

بل إن الخليفة تذكر من فوره كلمات وتحذيرات الأميرة ذات الهمة، فأرسل من فوره في طلبها هي وعمها ظالم، وقادة بقية الأقوام من بني عامر وسليم وبني الوحيد؛ لمشاورتهم في الأمر وإعلان الجهاد.

وعقد الاجتماع المفاجئ الطارئ في مقر الخلافة دون أن تحضره ذات الهمة في البداية، لحين دخول كبير وزراء الخليفة «أبو أيوب» معلنًا وصول الداهية.

وهنا تعلقت أنظار الجميع على مدخل القاعة الكبرى؛ حيث اندفعت ذات الهمة داخلة متعممة متشحة بزيها العسكري، متقدمة محيية أمير المؤمنين، الذي رحب بها مفسحًا لها؛ كي تجلس إلى جانبه على مرأى من الجميع، حتى من ابن عمها الحارث الذي غرق من فوره في هواجسه، معانيًا مما يعتمل في أعماقه من تلك العروس الهاربة.

وانتهى الاجتماع بإعلان الجهاد العاجل، فدقَّت طبول الحرب، وتحولت عاصمة الخلافة إلى خلية نحل لا تهدأ ليل نهار لإعداد الفيالق والكتائب، وصفوف الجند والسلاح، وشحن السفن الراسية، استعدادًا للإقلاع والرحيل.

وتبدت على الفور شجاعة وحماس ذات الهمة في تلك الحملات التي بدأت بفك حصار «آمد» واجتياحها، وفك وثاق الأسرى، ثم التقدم إلى جزيرة مالطة، التي فيها امتد الحصار لشهور طويلة، نتيجة للتحصينات الهائلة التي بناها وشادها الأعداء، إلى أن اضطر الخليفة إلى إرسال حملات التعزيز والرسائل الشخصية لذات الهمة، التي بذلت شهورًا متوالية كلَّ جهدٍ يعجز عنه أعلى الرجال شأنًا.

وظل الحال على هذا المنوال إلى أن اندكت أسوار المدينة وحصونها وتم فتحها، وسُمعت على الفور هتافات التهليل والتكبير بالجيش العربي القادم، من حناجر أفواه أسرى المسلمين المغلغلين في الأصفاد.

وهكذا تساقطت بقية الثغور الواحدة تلو الأخرى، وكانت كلما فتحت جزيرة أو ثغر — ميناء — وسقط في أيدي الجيوش الإسلامية المتحدة الزاحفة؛ جرى على الفور إعادة بناء تحصيناتها وقلاعها، وجرى أيضًا تخليص المأسورين والسبايا من سلاسل وأصفاد الجيوش الرومية المندحرة.

ورفضت ذات الهمة العروض التي تقدم بها الأمراء والقادة لإطلاق اسمها على ما يتم تحريره من مدن وجزر وقلاع.

بل هي آثرت إطلاق الأسماء العربية عليها، مثل: قلعة المنشار، وقلعة المنجية، وقلعة المشرفة وهكذا.

وكانت أخبار انتصارات ذات الهمة وفتوحاتها تصل عاصمة الخلافة متواترة من عاصمة عربية وإسلامية لأخرى؛ لينشدها الرواة والمداحون أولًا بأول في الأسواق والساحات والتجمعات الشعبية المتعطشة لكل انتصار يحقق أمن العرب والمسلمين.

بل إن ذات الهمة كشفت خلال تلك الحملات عن مهاراتها المتوارثة عن آبائها وجدودها حراس الثغور، على صعيد الخدع وإحداث فرقعات «النار الإغريقية» والبخور المركب، وطرق ومؤامرات قطع الماء التي كان يلجأ إليها الأعداء للإيقاع بجند المسلمين.

وهو ما لم يفت على بصيرة وذكاء ذات الهمة أو الداهية، وهكذا تمكنت الأميرة ذات الهمة من الإيقاع بجنود أعدائها المتحالفين، الذين لا هدف لهم سوى الإحاطة بالأمة الإسلامية، وتدبير المؤامرات، وعقد التحالفات التي تتيح لهم التقدم البحري من جميع الثغور المحيطة بالأقوام العربية؛ أملًا في الوصول يومًا إلى عاصمة الخلافة بالبصرة.

إلا أن اتساع بصيرة الخليفة المنصور جعلته يُفكِّر يومًا في نقل عاصمة الخلافة، وإعادة تحصين موقعها.

وذات يوم، خرج أمير المؤمنين لرحلات قنصه وصيده وتريُّضه، واستكشاف أحوال رعيته على عادة الراشدين، إلى أن قادته قدماه إلى موقع حصين على نهر دجلة خالٍ من الناس، سوى من شيخ سرياني وقور مسن. استدعاه الخليفة سائلًا عن اسمه فقال: اسمي «باغ» يا أمير المؤمنين، وأشار الخليفة متطلعًا إلى اتساع رحابة ذلك السهل الشاهق الممتد على نهر دجلة، سائلًا الشيخ: وما اسم هذه الأرض يا باغ؟ ثم استدرك أمير المؤمنين قائلًا: لولا مشاكل كيفية التحكم في الماء هنا … لبنيت مدينة وأسميتها باسمك، فأدعوها: بغداد.

حينئذ أخبره الشيخ السرياني الذي كان على معرفة واسعة بطبيعة الأرض هنا، وكيفية التحكم في منسوب مائها: أنا أخبرك يا مولاي.

وعندما اقتنع الخليفة بوجهة نظر الرجل السرياني الطاعن في السن، الواسع المعرفة، أقدم من فوره على إشادة مدينة بغداد على نهر دجلة، فأحضر إليها المهندسين والبنائين والفنانين، وبنيت المدينة واتسعت أسواقها وأنشطتها تحت اسم ذلك الشيخ السرياني: «باغ-داد».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤