الفصل الأول

تربية الخلق

ليس للغزالي رأي محدود في الفطرة البشرية: فهو تارة يراها خالصة تصلح لكل شيء، وتقبل كل صورة، وتارة يراها أميل إلى الخير منها إلى الشر. يدل على ذلك قوله: «وإذا كانت النفس بالعبادة تستلذ الباطل وتميل إليه وإلى القبائح، فكيف لا تستلذ الحق لو ردت إليه، والتزمت المواظبة عليه؟ بل ميل النفس إلى هذه الأمور الشنيعة خارج عن الطبع، يضاهي الميل إلى أكل الطين، فقد يغلب على بعض الناس ذلك بالعادة، فأما ميله إلى الحكمة وحب الله تعالى، ومعرفته، وعبادته، فهو كالميل إلى الطعام والشراب: فإنه مقتضى طبع القلب، لأنه أمر رباني، وميله إلى مقتضيات الشهوة غريب عن ذاته، وعارض على طبعه.» ص٦٣ ج٣.

وما نريد أن نناقش هذا الرأي بأكثر من أن نلفت النظر إلى أن الميل إلى مقتضيات الشهوة لا يبعد كثيرًا عن الميل إلى الطعام والشراب، فهو جزء من الفطرة البشرية، كما أن الميل إلى الخير جزء من الفطرة البشرية، وإنما توجه النفس بمقتضى الظروف. فكما أن المرء لا يشتهي في كل لحظة أن يكون خيرًا أو شريرًا، وإنما يظهر ميله إلى الخير حين يوجد موجب الخير، ويظهر ميله إلى الشر حين يوجد موجب الشر. بل قد تقوى الموجبات حتى ترد الرشيد غويًّا أو ترد الغوي رشيدًا. ولولا صلاح الفطرة للخير والشر لما احتجنا الى تربية الأخلاق.

كيف يُرَبَّى الخلق

يرى الغزالي أن من الناس من ولد حسن الخلق بفطرته، بحيث لا يحتاج إلى تعليم، ولا إلى تأديب كعيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا، عليهما السلام، وكذا سائر الأنبياء. ولا يبعد فيما يرى أن يكون في الطبع والفطرة ما قد ينال بالاكتساب، فرب صبي خلق صادق اللهجة سخيًّا جريئًا.

وما أريد أن أناقش الغزالي في حكمه بأن الأنبياء لا يحتاجون إلى التعليم والتأديب، ويكفي أن أذكر أن عصمة الأنبياء — في غير تبليغ الرسالة — كانت مما اختلف فيه العلماء، وأن في القرآن شواهد كثيرة على غفران ما تقدم وما تأخر للنبي من الذنوب.

والطريق إلى تربية الخلق فيما يرى الغزالي هو التخلق: أي حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب. فمن أراد مثلًا أن يحصل لنفسه خلق الجود فعليه أن يتكلف فعل الجود: وهو بذل المال، حتى يصير ذلك طبعًا له.

والغزالي يهتم كثيرًا برياضة النفس على ما يرغب المرء فيه من مكارم الأخلاق، ويرى كسب الخلق بسبب التخلق من عجيب العلاقة بين القلب والجوارح، ويقول في ذلك:

كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة. وكل فعل يجري على الجوارح فإنه قد يرتفع منه أثر إلى القلب. ويعرف ذلك بمثال: وهو أن من أراد أن يصير الحذق في الكتابة صفة نفسية له حتى يصير كاتبًا بالطبع، فلا طريق له إلا أن يتعاطى بجارحة اليد ما يتعاطاه الكاتب الحاذق ويواظب عليه مدة طويلة، يحاكي الخط الحسن، فيتشبه بالكاتب تكلفًا. ثم لا يزال يواظب عليه حتى يصير صفة راسخة في نفسه، فيصدر منه في الآخر الخط الحسن طبعًا، كما كان يصدر منه في الابتداء تكلفًا. فكان الخط الحسن هو الذي جعل خطه حسنًا. ولكن الأول بتكلف، إلا أنه ارتفع منه أثر إلى القلب. ثم انخفض من القلب إلى الجارحة، فصار يكتب الخط الحسن بالطبع. وكذلك من أراد أن يصير فقيه النفس، فلا طريق له إلا أن يتعاطى أفعال الفقهاء، وهو التكرار للفقه. حتى تنعطف منه على قلبه صفة الفقه، فيصير فقيه النفس.

ومن هنا كان الغزالي يرى أن الكبيرة الواحدة لا توجب الشقاء المؤبد، لأنها بدون التكرار لا تصبح صفة للنفس. ولا معنى للشقاء المؤبد إلا أن تصير إحدى الرذائل صفة نفسية لأحد الناس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤