عظمة الكون (٢)

لقد جئنا في المقال السابق بحكاية «تشارلس ديكنز» وما كان معه من أمر هذه الرواية، رواية The Mystery of Edwin Drood وكيف أتمَّها «ديكنز» وهو في العالم الآخر، وكيف طلبت روح الكاتب الإنكليزي الشهير من الصبي «جيمس» الوسيط أن يساعده بيده على إنهاء هذه الرواية، وكيف أمره جماعة العلماء في أمريكا أن يطيع أمر الروح، ويستمر على الكتابة بوحيها وعملها وإرادتها ما تريد، وكيف أنه أتمها فكانت طبق الأصل؛ حيث بدأ «ديكنز» إتمام روايته من حيث انتهى وهو في هذه الحياة الدنيا، فكان الخطُّ خطَّه، والخطأ في هجاء بعض الألفاظ، وفي الإنشاء وفي التراكيب هو هو بعينه، وبمضاهاته ومقابلته بخط «ديكنز» وكتابته وأسلوبه لم يجدوا من فرق.

أما الرواية، فقد طبعت بعد أن أكملها «ديكنز» على يد الوسيط «جيمس»، وهي قسمان: قسم كتبه الرجل في حياته، وقسم آخر أتمَّه روح «ديكنز» على يد هذا الوسيط بعد مماته، وهي معروفة مقروءة، تدحض حجة الذين يجحدون ما بعد الطبيعة، وتذهب بمزاعم منكري الأرواح وأعمالها، أفبعد هذا دليل يقوم أو برهان ينهض؟ وهل بعد الذي علمناه من أمر هذا الحادث التاريخي العظيم ينكر المفكرون عالم الأرواح؟ اللهم إن هذا دليل على صدق المذهب الروحاني، وحقيقته ومتانته وتأسيسه على قواعد قوية، ودعائم هي غاية في المتانة، وعلى الذين يجحدون أو يشيحون بوجوههم عن ذلك أن يأتوا بما ينقض ذلك نقضًا علميًّا خالصًا لوجه العلم.

وما حدانا إلى كتابة ما كتبناه من هذه الحكاية إلَّا تقدِمة للقارئ، نمهد بها لما سنظهره عليه من رأي غاليلي في عظمة الكون، وقد أدلى به من العالم الآخر، ولقد مهدَّنا لرأيه بهذا التمهيد؛ كي يذهب الشك من نفوس المشكِّكين، وتنزع الريبة من قلوب المعطلين، وحتى لا ترمي بسنة غفلة أو جهالة معرفة في تدليلنا على عظمة الكون تدليلًا علميًّا صحيحًا.

وفي سنة ١٨٦٢ و١٨٦٣ ميلادية وقع حادث تاريخي عظيم اهتمَّ به الناس جميعًا وأصحاب المذهب الروحاني خاصة، وذلك أن جمعية الوسطاء الروحانية الباريسية بينما كانت تجري أبحاثها وتجاريبها هناك، ظهر روح غاليلوس على يد وسيط منهم، فانتهزت الجماعة هذه الفرصة، وسألته عن الكون وعظمته، فأخذ يدلي برأيه على يد هؤلاء الوسطاء بالتناوب حتى جاء بالعجب العجاب، نقتطف منه ما يهم القارئ، قال: «أفضل تحديد أطلق على الفضاء أنه مسافة تفصل ما بين جرمين، فاستنتج بعض المعطلين من هذا التحديد أن لا وجود للفضاء حينما انتفى وجود الأجرام، وإلى هذا المبدأ أسند بعضهم رأيهم في ضرورة تناهي الفضاء، وعدم إمكان تسلسل أجرام محدودة إلى ما لا نهاية له، على حين أن الفضاء لفظة تدل على معنًى مفهوم في ذاته لا يحتاج إلى تعريف، وما قصدي بهذه المقالة إلَّا أن أبيِّن لكم عدم حده وتناهيه.»

أقول: إن الفضاء لا حدَّ له بدليل أن من المستحيل تصور حدود تحده، فأسهل لنا — مع ما نجد من الصعوبة في استيعاب اللانهاية — أن نسير بالفكر أبديًّا في الفلاة من أن نتصور موقفًا لا مساحة بعده نجول فيها، وإن شئنا أن نمثل في ذهننا المحدود عدم تناهي الفضاء فلنتصور أنفسنا طائرين من الأرض نحو إحدى جهات الكون بسرعة الشرارة الكهربائية التي تقطع في الثانية ألوفًا عديدة من الفراسخ، فبعد طيراننا بثوانٍ قليلة لا تعود الأرض تتراءى لنا إلا ككوكب حقير ضعيف النور جدًّا، وبعد قليل تتوارى عن نظرنا بالكلية، والشمس ذاتها لا تلوح لنا إلا كنجم حقير متوغل في أقاصي الفلا، وعوضها تتجلى لأعيننا نجوم عديدة لا نكاد نميزها من المحطة الأرضية، وإذا لبثنا طائرين بالسرعة ذاتها، فنقطع في كل هنيهة عوالم متجمعة، وسيارات ساطعة، وبقاعًا زاهية، نثر فيها الله العوالم كما نثر الزهور في المروج الأرضية.

على أنه لم يمض على سفرنا إلا دقائق قليلة، ومع هذا فقد نأينا عن الأرض ملايين في ملايين من الفراسخ، وشاهدنا ألوفًا في ألوف من العوالم، أمَّا لدى التحقيق فإننا لم نخطُ بعدُ ولا خطوة واحدة في الكون، وإذا استقام سفرنا البرقي لا دقائق ولا ساعات بل سنين وأجيالًا وألوف أجيال وملايين في ملايين في ملايين من العصور والدهور، فلا نكون مع هذا قد خطونا ولا خطوة واحدة في طريقنا، وذلك إلى أي صوب اتجهنا، وأية نقطة انتحينا من تلك الذرة الحقيرة التي بارحناها وأنتم تدعونها أرضًا، هذا ما عندي من تعريف الفضاء.١

الزمان: وأما الزمان فهو كالفضاء لفظة معبرة بنفسها غنية عن التحديد، وقد يسوغ أن ندعوه تعاقب الأشياء، وهو مرتبط بالأبدية ارتباط الأشياء باللانهاية، فلنتصور أنفسنا في بدء عالمنا؛ أي في عصر بدأت فيه الأرض تتبختر تحت النفحة الإلهية، وبرز الزمان من مهد الطبيعة السري فقبلها كانت الأبدية سائدة ساكنة، والزمان يجري مجراه في عوالم أخرى، ولما برزت الأرض إلى حيِّز الوجود استبدلت فيها الزمان بالأبدية، وأخذت السنون والقرون تتعاقب على سطحها حتى اليوم الأخير؛ أي ساعة تبلى الأرض من العتق وتنمحي من سِفْر الحياة. ففي ذلك اليوم يبطل تعاقب الأشياء، وتزول الحركات الأرضية التي كانت مقياسًا للزمن، وبزوالها يزول الزمان أيضًا، فينتج من هذا أن الزمان يتولد من تولد الأشياء، وينقضي بانقضائها، وهو بقياس الأبدية كنقطة سقطت من عباب الجو في أبحر الدأماء، فتختلف الأزمنة على اختلاف العوالم وخارج هذه التعاقبات الفانية تسود الأبدية وحدها، تملأ بضيائها فلوات الفضاء غير المحدودة، ففضاء لا حدَّ له، وأبدية لا قرار لها هما الخاصيَّتان العظيمتان للطبيعة العامة.

ولما كان الزمان تعاقب الأشياء الفانية ومقياسها، فإذا جمعنا ألوفًا من ألوف من القرون والأحقاب فلا يكون هذا العدد إلَّا نقطة زهيدة في الأبدية، كما أن الألوف في الألوف من الفراسخ تُعَدُّ نقطة حقيرة في الفضاء، وإذا مضى على حياتنا الروحية عدد من القرون يوازي قدر ما يكتب على طول خط الاستواء فينقضي هذا العدد الجسيم والنفس كأنها اليوم ولدت، وإذا أضفنا إلى العدد المذكور سلسلة أخرى من الأعداد ممتدة من الأرض إلى الشمس، وأكثر من ذلك فلينقض هذا العدد غير المدرك قياسه من القرون، والنفس لا تتقدم يومًا واحدًا في الأبدية؛ ذلك لأن الأبدية لا حدَّ لها ولا قياس، ولا يُعرَف لها بدء ولا نهاية، فإن كانت القرون المذكورة لا تُعَد ثابتة بقياس الأبدية فما أهمية عمر الإنسان على الأرض؟

قال: إذا ألقينا النظر إلى ما حولنا ألفينا اختلافًا جسيمًا وتمييزًا جوهريًّا في كلِّ المواد المُؤلَّف منها العالم، فانظر إلى كافَّة الأشياء الطبيعية — كانت أو صناعية — وانظر ما أعظم التغايُر في صلابتها وضغطها ووزنها وسواها من الخصائص التي يتميز بها الهواء مثلًا عن عرق الذهب، والنقطة المائية من الحجارة المعدنية، والأنسجة النباتية المتنوعة من الأنسجة الحيوانية على اختلاف طبقاتها، ومع هذا فنستطيع أن نثبت بوجه الإطلاق أن كلَّ المواد المعروفة والمجهولة — مهما عظم تبايُنها وكثر تنوعها — إنْ هي إلَّا أشكال وأنماط متقنَة تظهر فيها مادة أصلية واحدة تحت فعل القوى الطبيعية المتعددة.

قال: إن الكيمياء التي بلغت اليوم عندكم درجة رفيعة من التقدم، وقد كانت تُعَد في أيامي من متعلقات العلوم السحرية، قد قوَّضت مسألة العناصر الأربعة التي أجمع الأقدمون على تركب الطبيعة منها، وأثبت أن العنصر الترابي إن هو إلَّا تركب مواد متنوعة في تفنناتها إلى ما لا انتهاء له، وأن الهواء والماء قابلا التحليل، وهما متركبان من بعض الغازات، وأن النار ذاتها ليست بعنصر أصلي، بل حالة من المادة ناتجة عن نوع من الحركة العامة يصحبها احتراق حسي أو كامن.

وبمقابلة ذلك اكتشفت الكيمياء عددًا وافرًا من العناصر المجهولة، منها تتألف كلُّ الأجرام المعروفة، وسمَّتها عناصرَ بسيطة؛ إشارة إلى أنها أولية غير قابلة التحليل إلى ما هو أبسط، ولكن فعل الطبيعة لا يقف حيثما وصلت تقديرات الإنسان، وحكم أدواته، بل المتتبع بنظره إلى ما تجاوز حدَّ المعرفة البشرية لا يرى في كافة العناصر المركبة والبسيطة إلَّا مادة واحدة أصلية، تتجمع في بعض النواحي لتنشأ منها العوالم، وتتفنن أشكالًا وأنواعًا في مدار حياتها، وتعود إلى مأوى الفضاء بعد انقراضها.

قال: ومن المسائل ما نعجز نحن الأرواح المغرمين بالعلوم عن التعمق فيها، فلا نأتي بحلها إلا بآراء شخصية مبني أكثرها على أقيسة افتراضية، أما مسألة وحدة المادة فلا شبهة فيها ولا تخمين، ومن يأخذ قولي على محمل الافتراض أقول له: استوعب — إن أمكن — بنظرك تفننات أعمال الطبيعة كلها، فتتحقق يقينًا أن بدون وحدة المادة يتعذر عليك شرحُ نباتِ أصغر بذرة ونتاج أحقر دويبة، وأما الباعث لتنوع ما تراه في المادة فهو تباين القوى التي تولت أمر تحولاتها، والظروف التي كانت عليها وقت نشأتها، إنما هو جوهرها في الأصل واحد، وكل ما يقع أو لا يقع تحت نظرك من الأجرام والسوائل فهو صادر من مادة أصلية واحدة مالئة الكون غير المحدود.

… إذن إحدى الدويبات الحقيرة التي تقضي حياتها الوجيزة في قعر البحار، ولا تعرف من الطبيعة إلا الأسماك وغابات المياه، نالت فجاءة من العقل ما مكَّنها من درس عالمها، وأخذت عليه تقيس أفكارها في الكائنات، فما عسى أن يكون تصدرها للعالم الأرضي غير الواقع تحت نظرها؟

وإذا بمعجزة أخرى انتقلت هذه الدويبة من القعر إلى ما فوق المياه بالقرب من جزيرة غنَّاء اكتست بمروج زاهية، فأي تغيير يطرأ على أفكارها السابقة؟ وكم تتسع دائرة تصوُّراتها ولئن ما زالت هذه دون الحقيقة؟

هذا بين حال علومكم في الحاضر يا بني البشر.

قال: إن سيالًا عامًّا يملأ الفضاء غير المحدود، وينفذ الأجرام بأسرها يُدعَى الأثير أو المادة الأصلية، ومنه تتولد كافة العوالم والكائنات، فهذا السيَّال تلازمه أبدًا القوى أو النواميس الطبيعية المتولية تقلبات المادة ومسرى العوالم، وهذه النواميس المختلفة — على اختلاف تركبات المادة والتعننة في أنواع فعلها على مقتضى الظروف والمراكز — تُعرَف في أرضكم بالثقل والتلاصق والمناسبة والتجاذب والمغنطيسية والكهربائية، ثم حركات العامل الاهتزازية تُدعى عندكم صوتًا وحرارة ونورًا … إلخ، وأما في العوالم الأخرى فتظهر هذه النواميس تحت أوجه أخرى، وبخاصيات مجهولة عندكم، وإن في سعة السماوات غير المحدودة تفننات من القوى نعجز عن إحصائها وتقدير عظمتها، كما تعجز الدويبة في قاع البحار عن استيعاب كافة الحوادث الأرضية.

وكما أن لا وجود في الأصل إلا لمادة واحدة بسيطة تتولد منها كافة الأجرام والتركبات الهوائية، هكذا كلُّ القوى الطبيعية صادرة عن ناموس أصلي واحد متفنِّن في مفاعيله إلى ما لا انتهاء له، فرضه الخالق منذ الأزل؛ ليقوم به نظام الخلقة وبهاء الكائنات، إن الطبيعة لا تضار ذاتها، وشعار الكون هو هذا: الوحدة في التفنن، فإن صعدت في سلم العوالم وجدت وحدة النظام والخلقة مع تفنن لا يُعرَف حده في تلك الأجرام الفلكية، وإن أجَلت بنظرك في مراتب الحياة من أحقر الكائنات إلى أعلاها وجدت وحدة التناسب والتسلسل، كذلك القوى الطبيعية كلها صادرة بالتسلسل عن قوة أصلية واحدة تُدعَى بالناموس العام.

قال: يتعذر عليكم في الحاضر استيعاب هذا الناموس في شمول اتساعه؛ لأن القوى الصادرة عنه والداخلة في دائرة أبحاثكم محدودة مقيدة، إنما قوة التجاذب والكهربائية تفصحان لكم نوعًا عن الناموس العام الأصلي الشامل السماوات والكائنات، فكلُّ هذه القوى الثانوية أزلية عامة كالخلقة، بملازمتها للسيال العام تعمل ضرورة في كلِّ شيء وفي كلِّ مكان، ويتنوع عملها بالمقارنة والتعاقب، فتتغلب في مكان وتمَّحي من آخر، يظهر فعلها ههنا وتكمن هناك، عاملة أبدًا في تجهيز العوالم وإدارتها وحفظها وملاشاتها، متولية أعمال الطبيعة ومعجزاتها حيثما قامت ضامنة على هذه الصورة بهاء الخلقة الأزلية ونظامها الأبدي.

قال: … بعد أن تأملنا بوجه عام في تركيب الكون ونواميسه وخصائصه، بقي علينا أن نشرح كيفية تكوين العوالم والبرايا، ثم ننتقل بعدها إلى تكوين الأرض ومركزها الحالي في الموجودات.

قال: ولقد أَبَنَّا سابقًا ما الزمان وما نسبته إلى الأبدية، وأن هذه واحدة ثابتة عديمة الغيار، وبالتالي لا بدء لها ولا نهاية، ثم إذا لاحظنا من جهة أخرى عدم تناهي القدرة الإلهية، حكمنا ضرورة بوجوب أزلية الكون؛ لأن الله قد تكملت كمالاته القدسية، وبما أن الله أزلي سرمدي فاقتضى أن يكون عمله سرمديًّا، أي لا بدء له ولا نهاية، فإذا تصورنا لعمل الله بدءًا — ومهما كان هذا البدء في مخيلتنا بعيدًا قاصيًا — فتسبقه دائمًا أزلية، زِنوا جيدًا ذلك بعقلكم، أزلية لا قرار لها لبثت فيها إرادة القدوس بلا عمل، إن الله شمس الكائنات، ونور العالم، فكما أن ظهور الشمس يصحبها انتشار النور هكذا وجود الله يصحبه ضرورة فعل الخلقة وظهور البرايا.

أي لسان يستطيع أن يصف تلك العظائم الباهرة المستترة في دجى الدهور، التي تلألأ سناؤها في عهدٍ لم يكن قد ظهر بعدُ فيه شيء من عجائب الكون الحالي، تلك الدهور القاصية التي أسمع الله فيها صوت كلمته، فاندفعت تيارات الأهباء والذرات؛ لتشيد بتجمعها المهندم هيكل الطبيعة غير المحدود، ذلك الصوت السري الكريم الذي تجلُّه وتهواه كلُّ خليقة، وبرنَّته المرموقة ارتجَّت الأفلاك، وسبحت عجائب الله؟!

قال: إذا انتقلنا بالفكر إلى بضعة ملايين من الأجيال قبل العصر الحاضر لوجدنا أن الأرض لم تبرز بعدُ إلى حيِّز الوجود، والكواكب لم تتولد من النظام الشمسي، في حين أن شموسًا أخرى لا عدد لها كانت تسطع في أقاصي السماوات، وترسل أشعتها إلى كواكب لا يقع عليها حصر، ثَوَى بها مَن سبقنا من الأحياء في مضمار الإنسانية، وأنظار أخرى تمتَّعت بعجائب طبيعية وغرائب سماوية لم يبق لها اليوم من أثر، وقلوب وعقول أخرى لا عدد لها كانت تسجد وتعظم لقدرة الباري غير المتناهية. نحن الحقيرين الذين برزنا إلى الوجود بعد أزلية من الحياة، نريد أن ندَّعي بمعاصرتنا للخلقة! لندركن أمر الطبيعة جيدًا يا أحبائي، ولنعلمن أن الأبدية وراءنا كما هي قبالتنا، وأن الفضاء بمسرح تعاقبت وتتعاقب عليه خلقات لا عدد لها ولا انتهاء، فتلك المجرات — التي لا تكادون تميزونها في أقاصي السماوات — إنْ هي إلا تجمعات شموس منها في بدء تكوينها ومنها آهلة بالأحياء، ومنها ما بلغت دور الانحطاط، وعلى الجملة، كما أننا قائمون في وسط عددٍ غير متناه من عوالم هكذا، نحن عائشون في وسط دوَّام أزلي أبدي لاحق لوجودنا الحاضر، وإن فعل الخلقة ليس بمقصور عليكم ولا على كريتكم الحقيرة.

قال: إن المادة الأصلية تحوي في ذاتها العناصر الهيولانية والسيالة والحيوية التي تألفت وتتألف منها كلُّ العوالم المنتشرة في مساحات الفضاء، فهي أمٌّ نَثُور لكل الكائنات، والوالدة الأزلية لكل الأشياء، فلا يمكن أن يعتريها نقص أو تلاش، أو تعطي الوجود من دون انقطاع لعوالم جديدة، وتستقي بلا فتور من الأصول التكوينية المنحلة من العوالم التي بدأت تُمحَى من سِفْر الحياة، وهي المادة الأثيرية، أو السيَّال العام المالئ الأجرام وما بين الأجرام، وفيه مستقر العنصر الحيوي، الذي به تحيا كلُّ خليقة، عند ظهورها على سطح سيارة، فما من خليقة معدنية أو نباتية أو حيوانية أو غيرها؛ إذ توجد موالد أخرى، ليس في وسعكم أن تتصوروها، إلَّا وتأخذ عند نشأتها نصيبها من هذا العنصر الحيوي، وبنفاده ينقضي أجلها. فالسيال العام إذن لا يحوي في ذاته فقط النواميس القائم بها حفظ العوالم، بل يشتمل أيضًا على العنصر الحيوي العام الذي به تنشأ في كل عالم المواليد الغريزية الأولية التي تنبت من غير زرع، وذلك عند سنوح الظروف الملائمة للحياة على سطح الكرة.

قال: ولقد ضربنا الآن صفحًا عن ذكر العالم الروحي الذي هو أيضًا قسم من الخلقة العامة، ويتمم ما رسمه عليه الخالق المبدع العظيم من التقادير الأزلية. على أني لا أستطيع أن أتوسع في كيفية خلقة الأرواح؛ نظرًا إلى جهلي للمسألة، وعدم إجازتي بأن أبوح بأمور تيسر لي التعمق فيها، فقط أقول لمن تطلب الحق بخلوص نية وتواضع القلب إن الروح لا يشرق عليه النور الإلهي لينال به مع الاختيار المعتوق معرفة ذاته ونصيبه من الاستقبال إلَّا بعد أن يكون قد جاز بقضاء محتوم في مسبحة النسمات السفلية من البرايا، وفيها أنجز ببطء ما أنجز من فروض شخصيته، ففي ذلك اليوم ينخرط الروح في سلك الإنسانية، وحذار أن تبنوا على مقالي استدلالاتكم النظرية؛ إذ أحَبُّ إليَّ ألف مرة أن أطوي كشحًا عن مسائل تفوق حدَّ نظري من أن أعرضكم لإفساد تعليمي، واستنتاج أقيسة وقواعد لا أسَّ لها …

قال: حدث مرة أن نقطة من الفضاء — وفي وسط مليارات من العوالم — تكاثفت المادة الأصلية، فتولَّد عنها مجرة — أي سحابة نيرة — لا يكاد يُدرَك قياسها، وبقوة النواميس العامة المستقرة فيها — وخصوصًا التجاذب الدقائقي — أصابت الشكل الكروي، وهو الشكل الذي تصيبه في البدء كل مادة تجمعت في الفضاء، ثم تغير شكلها الكروي بقوة الحركة الدورية الناتجة من التجاذب المتساوي من كلِّ المناطق الدقائقية نحو المركز، وأصابت الشكل العدسي، وتولد عن حركتها هذه الدورية قوات أخرى أخصها قوة الجاذبة والدافعة، فالأولى تميل بالأجزاء إلى المركز والثانية تبعدها عنه، وتعاظمت سرعة حركة المجرة على قدر تكاثفها، وتوسع نصف قطرها على قدر تقربها من الشكل العدسي، إلى أن تغلبت القوة الدافعة على الجاذبة، واقتلعت من المجرة الدائرة المحيطة بخط الاستواء، كما تقطع حركة المقلاع الحبل بتزايد سرعتها وتدفع القذيفة إلى بعد، ثم انقلبت تلك الدائرة المنقطعة عن المجرة إلى كتلة قائمة بنفسها، ولكنها خاضعة لولاية المجرة الأولى، وبقي لها حركتها الاستوائية، فتغيرت إلى حركة انتقالية حول الجرم الأصلي، وأكسبتها حالتها الجديدة هذه حركة أخرى دورية حول مركزها الذاتي.

ثم عادت المجرة الأصلية إلى شكلها الكروي بعد أن أولدت عالمًا جديدًا، ولما كانت الحرارة الأصلية المتولدة عن حركاتها المختلفة لا تضعف إلا ببطء كلي، فالحادث الذي أتينا على ذكره سيتكرر مرارًا متعددة وفي مدة مديدة إلى أن تبلغ المجرة درجة من الكثافة، تحول بمتانتها دون التغيرات الشكلية الصادرة عن حركة دورانها حول مركزها، فليس جرم واحد بل مئات من الأجرام ستقتلع على النسق المذكور من المجرة الأصلية. وكلٌّ من هذه العوالم — لاحتوائه القوى الطبيعية ذاتها المستقرة في الجرم الأصلي — سينتج أجرامًا ثانوية تدور حوله، كما يدور هو حول المجرة الأصلية بصحبة سائر الأجرام المتفرعة منها. وكل من هذه الأجرام الثانوية سيكون أيضًا شمسًا — أي مركزًا لكواكب جديدة — تتفرع منه بالطريقة التكوينية ذاتها، وما الأرض إلا إحدى هذه السيارات كتبت في حينها في سِفْر الحياة، وأصبحت مهدًا لخلائق ضعيفة يكلؤها عين العناية الربانية، وجاءت وترًا جديدًا تعزف في عود الطبيعة العامة المسبحة لعجائب الخالق.

وقد تفرع من السيارات قبل تجمدها أجرامٌ أخرى صغيرة انقطعت من دائرة خط الاستواء، وأخذت تدور على محورها وحول الجرم الأصلي بقوة النواميس العامة ذاتها، فتولد من الأرض القمر، وجمد قبلها لصغر حجمه، إنما القوى التي تولت اقتلاعه من خط الاستواء الأرضي وحركته الانتقالية في هذا الخط فعلت فيه ما جعلته أن يصيب الشكل البيضي بدلًا من الكروي، فأصبح على شكل بيضة، مركز ثقلها في أسفلها لا في وسطها؛ لهذا لستم ترون من هذا الجرم إلا جهة واحدة، وهو أشبه بكرة من الفلين قاعدتها من رصاص، وهي الناحية المتجهة دائمًا إلى الأرض، فينتج من ذلك أن على سطح العالم القمري طبيعتين في غاية التباين والاختلاف؛ الأولى: وهي الناحية المتجهة دائمًا نحو الأرض، لا ماء فيها ولا هواء، وفيها تجمعت كلُّ الأجرام الجامدة الغليظة؛ لوجود مركز الثقل فيها. والثانية: التي لا يقع عليها قط نظر أرضي، حاوية كل السوائل والمواد الخفيفة، وهي متجهة أبدًا إلى الناحية المخالفة لعالمكم.

قال: ولقد اختلفت الأجرام المتفرعة من السيارات عددًا وأحوالًا، فمن السيارات ما لم يتفرع منها شيء، كعطارد والزهرة، ومنها ما أولدت قمرًا وأكثر كالأرض والمشتري وزحل … إلخ، وهذا الكوكب — أي زحل — أولد عدا الأقمار حلقة نيرة، تحيط بخطه الاستوائي، وهذه الحلقة عبارة عن منطقة انفصلت في البدء عن خط الاستواء في زحل كالمنطقة الاستوائية التي انفصلت عن الأرض فصارت قمرًا، إنما الفرق أن منطقة زحل كانت متكونة عند انفصالها من دقائق متجاذبة الجوهر، وربما متجمدة بعض التجمد، فلهذا بقيت تدور حول الجرم الأصلي بسرعة تكاد تعادل سرعة الجرم ذاته، فلو كانت المنطقة متكاثفة في إحدى جهاتها أكثر من سواها لتجمعت حالًا كتلة واحدة، أو كتلات متعددة تصبح أقمارًا جديدة تضاف إلى ما كان لزحل من الأقمار الأخرى.

قال: وأما النجوم ذوات الأذناب فقد توهمها البعض عوالم في بدعة نشأتها تجهز فيها بواعث الوجود والحياة كما في السيارات، وافترضها غيرهم عوالم آخذة في الدروس والتلاشي، حتى المنجمون أنفسهم كانوا يتشاءمون لها كدلالة على النحس والبلايا، على أن المطَّلِع على تفننات وأعمال الطبيعة يعتوره العجب لأقيسة افتراضية بناها الطبيعيون والفلكيون والفلاسفة؛ ليؤيدوا بها المذنبات سيارات حديثة أو عتيقة، في حين أنها ليست إلا كواكب متنقلة كرواد في المملكة الشمسية، وما أُعدَّت لتكون كالسيارات مساكن آهلة بالسكان من البشر، إنما اختصاصها أن تنتقل من شموس إلى شموس؛ لتستقي منها الأصول الحيوية المنعشة فتفيضها فيما بعد على العوالم الأرضية.

قال: فلنتبعَنَّ بالفكر أحد النجوم المذنبات عند بلوغه البعد الأقصى من الشمس، ولنَقْطعَنَّ تلك السعة المديدة الفاصلة ما بين الشمس وأقرب النجوم، ولنتأملَنَّ في سير هذا المذنب المتنقل، فنجد فعل النواميس الطبيعية ممتدًّا إلى بُعْدٍ لا تكاد المخيلة أن تصيبه، فهناك يبطؤ سيره إلى حد أن لا يتجاوز بعض الأذرع في الثانية، بعد أن كان يسير الألوف من الفراسخ في كل لحظة عند قرب دنوِّه من الشمس، ولا يبعد أن تتغلب عليه عند هذا الحد شمس أخرى أشد قوة ونفوذًا من التي بارحها، فتجذبه إلى دائرة فلكها، وتحصيه في عداد تباعها، وعبثًا ينتظر بَعْدَها بنو أرضكم رجوعَه في وقت عيَّنته أرصادهم الناقصة، أما نحن فنجوز معه بالفكر إلى تلك الأقطار المجهولة، فنجد فيها من العجائب ما لا يصل إليه حدُّ التصور … قلَّ منكم من لم يلحظ في الليالي الصافية الخالية من القمر سحابة نيِّرة منتشرة في أقصى السماء إلى أقصاها، تدعونها درب التبانة أو المجرة، وقد كشف لكم عنها مؤخرًا المرصاد، فرأيتم فيها ملايين من الشموس، معظمها أبهى نورًا وأعظم حجمًا وأهمية من شمسكم، إن المجرة في الحقيقة حقل فسيح، زُرعَت فيه زهور شموس وكواكب تتلألأ في أرجائها الرحبة، فالشمس وكافة السيارات والأجرام التابعة لها زهرة واحدة من تلك الزهور المنثورة في حقل المجرة، وعدد هذه الزهور، أي الشموس، لا يقل عن الثلاثين مليونًا، تبعد كلٌّ منها عن الأخرى أكثر من ثلاثة آلاف ألف ألف ألف فرسخ، فمن هذا يُستدَل على سعة تلك المجرة الممتنع تصورها، وصغارة شمسكم بالنسبة إلى باقي الشموس، ثم حقارة بل عدم أرضكم ليس فقط بالنسبة إلى حجمها وسعتها المادية، بل أيضًا وبالأخص إلى أحوال سكانها، الأدبية والعقلية.

ثم إن المجرة ذاتها مع ملايين شموسها ليست بشيء بالنسبة إلى الألوف من المجرات المنتشرة في أقاصي الفضاء، إنما تظهر أوفر سعة وسناء من غيرها؛ لاحتياطها بكم، ووقوعها تحت دائرة نظركم، في حين أن المجرات الأخرى متوغلة في أقاصي السماوات، فلا يكاد يستشفها مرصادكم، فإذا علمتم أن الأرض ليست بشيء في النظام الشمسي، وأن النظام الشمسي ذاته ليس بشيء في دائرة المجرة، وأن المجرة ذاتها ليست بشيء في عامة المجرات، وأن عامة المجرات أيضًا ليست بشيء في سعة الفضاء غير المتناهية؛ كان سهلًا عليكم إدراك حقارة الأرض، وعدم أهمية الحياة الجسدية.

إن الملايين من الشموس المؤلفة منها مجرتكم يحتاط بأكثرها سيارات وعوالم تستمد منها النور والحياة، فمنها نجم «سيريوس» مثلًا ما يربو حجمه وبهاؤه على شمسكم ألوفًا من المرات، والسيارات المحتاطة به تفوق سيارات الشمس كبرًا وسناء، ومنها شموس مثناة، أي نجوم قوائم تختلف وظائفها الفلكية عن وظائف شمسكم، ففي السيارات المحتاطة بتلك الشموس المثناة لا تُعَد السنون والأيام كما في أرضكم، وأحوال الحياة فيها يتعذر عليكم تصورها، ومن الشموس أيضًا ما لا سيارات لها، إنما أحوال سكناها خير الأحوال، وعلى الجملة إن تفننات هذه النجوم واختلاف أحوالها ووظائفها مما يقصر الإدراك البشري عن تخيُّلها.

إن كلَّ ما ترون من النجوم والأجرام في القبة الزرقاء يختص بمجرة واحدة تُدعَى — كما قلنا — درب التبانة، ولكلٍّ منها سير مخصوص، مصدره قوة الجاذبية، فتسير ليس على سبيل العرض والمصادفة، وإنما في طريق معينة، مركزها الجرم الأصلي، فقد تحقق لكم مؤخرًا أن الشمس ليست بنقطة مركزية ثابتة، بل تسير في الفضاء سابحة معها موكبها الحافل من السيارات والأقمار والمذنبات، وليس سيرها بعرضي، بل طريقها محدود، تسير فيه بصحبة شموس أخرى من طبقتها حول جرم آخر عظيم تولَّدت منه، إنما حركة سيرها وسير باقي الشموس رفيقاتها لا تصيبها أرصادكم السنوية؛ إذ يقتضي عددًا عظيمًا من الأجيال لإنجاز إحدى هذه السنوات الشمسية.

ثم إن هذا الجرم العظيم — الذي تدور حوله الشمس مع سائر الشموس رفيقاتها — ليس أصليًّا، بل يدور هو أيضًا بصحبة أجرام أخرى من طبقته حول نجم آخر أعظم منه، وهكذا قل عن هذا النجم الثاني إلى أن يحل العجز بمخيلتنا عن تصور هذه السلسلة المرتبة القائمة ما بين شموس مجرتكم، التي لا يقل عددها عن الثلاثين مليونًا، وكل هذه الشموس مع سياراتها مرتبطة بعضها ببعض في نظام واحد كمجموع دواليب آلة واحدة، فتظهر لعين الحكيم الناظر إليها عن بعد كحفنة من اللآلئ الذهبية، نثرتها النفحة الإلهية في الفضاء، كما نثر الريح الرمال في بقع الصحاري.

إن فلاة يكاد ألا يحدها قرار تمتد إلى كلِّ جهة حول المجرة التي أتينا على ذكرها؛ لأن تجمعات المادة الأصلية — أي المجرات — منثورة في الفضاء كجزر عزيزة الوجود في بحر لا حدَّ لسعته، فالمسافة التي تفصل ما بين كل مجرة وأخرى تفوق فئوقًا لا يقدر مسافة قطر المجرة ذاتها، فمعلوم أن قياس مجرتنا يقدر بمئات ألف ألف ألف ألف ألف فرسخ، أما قياس بُعدها عن باقي المجرات فلا يمكن لعقل أن يدركه، بل المخيلة وحدها تستطيع أن تقطع تلك الفيافي السماوية الخالية من مظاهر الحياة.

وتتجلى ما وراء هذه الفلوات عوالم أخرى تتبختر في بحر الأثير، وتظهر الحياة فيها تحت مجالي غريبة يستحيل عليكم تصورها، فالمنتقل من مجرتكم إلى تلك المجرات يعاين ضروبًا وقوى طبيعية لم تكن قط لتخطر بباله، هنالك يدرك قدرة الخالق، ويسبح عجائب أعماله.

قال: رأينا أن ناموسًا أصليًّا واحدًا يتولى تكوين العوالم وخلود الكون، وأن هذا الناموس العام يظهر لحواسنا تحت ضروب مختلفة ندعوها قوًى طبيعية، وبفعلها تتجمع المادة الأصلية، وتنجز تقلباتها الدورية، أي تكون في البدء مركزًا سيالًا للحركة ثم تتفرغ فيها العوالم، وتصبح بعدها جرمًا كثيفًا يدور حوله ما تولد منه من الأجرام.

قال: والآن أريد أن أبيِّن أن هذه النواميس ذاتها — التي تولت نشأة العوالم — ستتولى أيضًا أمر دِثارها؛ لأن منجل الموت لا يحصد ذرات النسمة فقط، بل المادة الجمادية أيضًا بانحلال تراكيبها، فلما يقضي العالم سني حياته، وتخمد منه نار الوجود، وتفقد عناصره قواها الأصلية، وتزول منه الحوادث الطبيعية بزوال القوى، هل تظنون أن سيلبث دائرًا في الفضاء كجرم ميت لا حياة فيه، ويبقى مكتوبًا في سِفْر الحياة بعد أن أصبح حرفًا ميتًا لا معنى له؟ كلَّا، إن النواميس ذاتها التي انتشلته من ظلمة الخواء، وجمَّلته بمظاهر الحياة، ودرجته من أجيال الصبوة إلى الهرم، ستتولى أمر دِثاره، وإرجاع عناصره الجوهرية إلى معمل الطبيعة العام؛ ليتكون منها فيما بعد عوالم جديدة، إلى ما لا انتهاء له.

قال: فأبدية الكون تقوم بالنواميس ذاتها المتولِّية أعمال الزمان، أي تعقب الشموس الشموس، والعوالم العوالم، دون أن يصيب قوى الكون أدنى كلل أو خمود، فما ترون في أقاصي السماوات من نجوم نيِّرة قد محتها — ربما — من أمد مديد أصبع الموت، وعقبها الخواء أو خلقة جديدة تجهلونها بعد إنما البعد الشاسع القائم بينكم وبين تلك الأجرام القاصية، والذي لا يقطعه النور إلَّا في ألوف ألوف من السنين يجعل أشعتها أن تصل إليكم اليوم، مع أنها ربما انبعثت قبل خلقة الأرض بأمد مديد، ففي هذه كما في غيرها تظهر حقارة الإنسان وعدم دنياه، إنما سيأتي يوم فيه يبقى ذكر الأرض في ذهننا كظل بخاري، بعد أن نكون قد تدرجنا أجيالًا لا عدد لها إلى العوالم العليا، ولما نتأمل في المستقبل — عند بلوغنا هذا الحد — فلا نرى نصب أعيننا إلا تعاقبًا سرمديًّا من العوالم، أو أبدية ثابتة لا انقضاء لها.

١  بعد أن نشر الأستاذ الزرقاوي سؤاله بعنوان «العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات» بدأنا الرد عليه بمقالات نشرناها في «الأهرام» بهذا العنوان أيضًا، استطعنا أن ننشر منها ست عشرة مقالة (أي من نمرة ١ إلى نمرة ١٦) وأما باقي ما في هذا الكتاب فلم يكن له حظ النشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤