في الروح

إنا نقول: والوجه في ذلك أننا بما فينا من حواس مألوفة معروفة، ليس يمكننا أن ندرك الخالق جل شأنه، ولكن حاسة أخرى نحن بحاجة لها لندرك ذلك، وهذه الحاسة لن تُخلَق فينا إلَّا بجهد وجهاد، وعناء وكدح؛ ولذلك سبل متعددة، فالعالم أو الفيلسوف يتبعها من طريق توسيع دائرة معارفه، فيعكف على البحث والتحصيل وإدراك خواص الطبيعة وماهياتها وكيفياتها، ثم هو من بعد ذلك يخلو بنفسه؛ ليطلق لها عنان البحث والتفكير والتأمل وهذه سبيله للوصول؛ أي إنه يريد أن يصل إلى الحقيقة من طريق العقل. وأما المتدين فإنه يريد أن يصل إلى ذلك من طريق الصلاة والصيام والاعتكاف على التنسك والتعبد. وهناك من يسعى إلى ذلك من طريق إدراك الوجدان، وهو عندي أقرب طريق موصلة إلى هذه الغاية، وأصحاب هؤلاء هم المتصوفة.

ومهما يكن من الأمر فإن حالة كهذه لا يدركها المرء إلَّا بعد أن يلقى صعوبات لا بد من تذليلها؛ حتى يصل إلى نِشْدانه، هنالك لا يبلغ هذه الدرجة مريدٌ إلا بعد أن تبلغ روحه درجة النقاء.

إذن فلا يمكن لمخلوق — مهما كان — أن يصل إلَّا بعد بذل جهد شديد، وإنما من مقدمة برهان وجوده تعالى نستطيع أن نستدل على صفات ضرورية فيه لا يمكن بغيرها أن يكون إلهًا، وهذه مسألة من أعظم المسائل الدينية، نقول: وأهم هذه الصفات وألزمها أنه سبحانه وتعالى أحد أزلي، غير مادي، ممتنع التغير، ضابط الكل، غير متناه في الوجود والعدل وسائر الكمالات.

وإنما يقصر عقل الإنسان ويكون فوق قدرته أن يدرك عدم تناهي الله، وليس لذلك من سبب إلَّا تأخره العقلي والأدبي، فيتصور المولى — جلَّت قدرته — محدودًا، ويتصور له صورًا متشابهة له، ويتصوره جالسًا على عرش رفيع في أعلى السماوات لا يليق به التدخل في أمور صغيرة حقيرة.

قالوا: فلنتصور سيالًا في منتهى الدقة واللطافة ينفذ إلى الأجسام والكائنات بأسرها كما ينفذ الجسم الروحاني في الجسد الهيولاني في كلِّ أجزائه، على أن الجسم الروحاني ليس في ذاته عاقلًا، بل هو موصل لأفكار الروح والعامل الناقل لإحساسها وإدراكها، فمادته السيالة تتشرب على نوع القول فكر الروح، فتصير معه واحدًا كما يصير الهواء مع الصوت واحدًا، قالوا: فكما نقول مجازًا: دوي الهواء، وهزيج الريح، هكذا يسوغ لنا بطريق المجاز أن ننسب للمعلول ما للعلة، فنقول عن السيال الروحاني: إنه عاقل، والسيال الروحاني هذا بذاته لا يعقل، وإنما يعقل بسبب وعلة أخرى.

قالوا: إن أعيننا الجسدية محدودة في شعورها وكثير من العوامل المادية تفوتها، وإنا مثلًا نرى مفاعيل الوباء، ولا يمكن لنا أن نبصر العامل الذي ينقله، مع أننا نؤمن بوجوده ونحس بفعله، ونشاهد الأجرام الفلكية تسير بقوة الجاذبية ولا نرى بأعيننا ولا بنظاراتنا المكبرة هذه القوة، أما الأشياء الروحية فلا يمكن أن نراها إلا بأعين النفس، هنالك الرقي الكمالي، وهنالك نرى الحقيقة. قالوا: مثل ذلك كإنسان مستقر في واد عميق، يكتنفه ضباب من كلِّ جانب، فلا يرى الشمس، وإنما يتحقق وجودها من انتشار بعض النور حوله، فإذا طفق يصعد في الجبل ازداد النور حوله وضوحًا على قدر ارتقائه، ومتى تعالى فوق الضباب الكثيف، وبلغ الهواء النقي أبصر الشمس في كلِّ جلائها، هكذا فإن النفس كساؤها الروحاني ولئن كان خفيًّا عن نظرنا لتناهي لطافته إلَّا أنه في نظر النفس مادة غليظة، تعوقها عن شعور كثير، فهذا الكساء يزداد دقة ولطافة على قدر ترقي الروح الأدبي؛ لأن نقائص النفس كطبقات ضبابية تحجب نظرها عن رؤية النور. أما الأرواح الناقصة فلا تشاهد الله؛ لأنها محجوبة عن رؤيته بنقص الاستعداد فيها لذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤