حقائق الأشياء

انتهى بنا الحديث في الكلمة السابقة عند حدِّ القول بأن لله حكمة في خلق المخلوقات ناقصة أنفسهم، محتاجة أرواحهم إلى الكمال بالجد والعمل والكد، وقلنا: إن الله — جلَّت قدرته — لو كان قد خلق المخلوقات كاملة تامة لا يعوزها الجد والنشاط والعمل لإدراك كمالاتها؛ لما كنَّا نشعر بلذة الحياة الأبدية والسعادة الحقيقية. انظر كيف تعيش طوال حياتك والصحة تلابسك والعافية تحدوك، ولكنك لا تقدر هذه الصحة قدرها، ولا تحس بلذة هذه العافية إلا بعد أن تذوق ألم المرض.

ولقد يخامر بعض الناس الشك في حكمة الخالق — جلَّ وعلا — إذ يولون وجوههم شطْرَ عالم الحيوان، وما ينتابه من وحشية وفوضى، وتسلط القوي على الضعيف، واجتياح الشديد كلَّ ما يقع عليه نظره من هزيل مسكين، هنالك حيث يقع ما يسمونه تنازع البقاء وبقاء الأنسب.

على أنا قد أسلفنا القول بأننا ننظر في حكمة المولى بعيوننا، ونريدها أن تكون على أقيسة أدمغتنا، ولكن عقولنا الهيولانية هذه ضئيلة ضعيفة، لا تقوى على إدراك كنه حكمة الخالق، وإننا بحاجة إلى حاسة أخرى غير الحواس التي ألفناها واعتدناها، حاسة روحانية عالية تساعدنا على الوصول إلى إدراك ذلك. فإذا نظر الإنسان بعقله الضعيف الضئيل هذا إلى ما في عالم الحيوان من تناحر للبقاء، وتنازع على العيش، وقتل القوي كل ضعيف تقذف به الظروف أمامه؛ ليقتات به، وليحفظ كيانه هو من فريسته هذه، قال في نفسه: وأين الحكمة الإلهية إذن في هذه الفوضى؟ وأين العدالة التي يدعونها ويترنمون بها؟ نقول: والرأي عندنا أننا نعيش مع الوهم في كلِّ ما يَعْتوِرنا في هذه الحياة وفي أنظمتنا وأقيستنا ومعلوماتنا ومعارفنا، نقول: إننا في كلِّ ذلك نعيش مع الوهم والوجدان أكثر مما نعيش بالتحقيق والعقل؛ فإن القوة الواهمة غالبة علينا، وإن تيار الوجدان متحكم فينا، يقع نظرنا على إنسان يذبح طيرًا أو كبشًا فيجسم لنا الخيال ما يكون لهذا الحيوان من شديد الألم، وبالغ الشقاء، والرأي عند بعض الفلاسفة أن الذبح لا يؤلم أبدًا؛ لأن الذبيح يؤخذ فينسى نفسه.

يقول ولس في حالة الذبح وفي حالة شعور الذبيح: إنه إحساس بالدفء، نوم عميق، نسيان أبدي.

يقول بعضهم: كيف يمكن لخير حقيقي أن ينشأ من شر ظاهر؟ نقول: وإنما مدار اللائمة ومستقر الذمة، أننا مع ما نحسه من نقصٍ فينا نريد أن نحاول معالجة كلِّ ما يقع بخاطرنا من فكر وتخيلات. إننا نفكر. فنحن أحياء بالروح والجسد، وما هي الروح وما هو الجسد؟ نسبة الروح للجسد كنسبة الجسد للثوب الذي يعلوه، وإنما هذا الجسد كثياب أو كدِثار، ندَّثَّره أو نلبسه من وقت إلى وقت، فإذا انقضت هذه الفترة خلعنا هذا الجسد كما نخلع الثوب إذا رث وخلق. ليست ثمت قيمة لهذا الجسد أبدًا، وإنما القيمة الحقيقية والماهية الشخصية إنما تقوم بالروح، وهو الجوهر الحقيقي للحياة، تلك الروح السابقة واللاحقة للجسد، فماذا تكون أهمية ثوب تلبسه ثم تخلعه بعد حين؟ إلا أننا في حياتنا المادية نغلو في التعلق بالماديات، ونعيش مع الخيال والوهم، ونخشى الموت، والموت إنْ هو إلا خلع هذا الرداء المادي وخروج الروح من حبسها، وانطلاقها في العالم الروحاني الذي استعدت له، وسرورها بهذا الفراق وهذا الانطلاق كسرور الطيرِ حبسته في قفص ردحًا من الزمن ثم فتحت له باب القفص، فتنفَّس الصعداء، وخرج يحلِّق في الفضاء، فلا خوف من الموت ولا جزع من الفراق، وإنما من وراء ذلك، الحياة الحقة والسعادة الأبدية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤