الأرض بالنسبة للوجود الكلي

العلم: هو الصورة الماثلة من الشيء عند العقل. وهو قسمان: (١) تصديقي. (٢) وتصوري.

(١) فإن كان إدراكًا للنسبة التقريبية على سبيل الإذعان فتصديق. (٢) وغير ذلك تصور. والعامة من الخلق، والكافة من أهل كلِّ جيل يأتيهم العلم من تلك الناحية أو عن طريق النوع الأول، أي من طريق الإذعان والتصديق، وأما الخاصة من الناس فيأتيهم ذلك عن طريق التصور والتأمل والتفكر، ولنتبسط في الحديث قليلًا، ونلمع بالكلام إلماعًا؛ لنطلع القارئ على شيء من عظمة الكون، وندله على أن عالمنا هذا الذي نعيش عليه إنْ هو إلا كحبة طافية في محيط الوجود المطلق فنقول: إذا سألت صبيًّا أو جاهلًا عن الدنيا ما هي؟ أجابك على التو: إنها مصر، هذ البلد الذي نعيش فيه، ولو أنك وجهت السؤال هذا إلى رجل عادي ممن له إلمام بشيء من أخبار العالم لصوَّر لك الدنيا بأنها مصر ولندن وباريس وأوروبا، وهكذا كلما ساءلت إنسانًا أرقى زادك علمًا بشيء أكثر، وتوسع في تعريف العالم، فالعالم عندنا والدنيا عند الخلق صورة تقريبية تتسع مع ماهيتنا الإدراكية، وتتناسب مع مبلغ علمنا، وما حصَّلناه من معرفة، وكلما كان الموجود عظيمًا كان الموجِد أعظم، وموجِد هذا الوجود لا بد له من أربعة أمور، وهي: (١) الوجود؛ إذ لا بد أن يكون موجودًا. (٢) والقدرة؛ إذ لا بد أن يكون قادرًا على إيجاد هذ الوجود. (٣) والعلم؛ إذ لا بد أن يكون عالمًا بما يصنع. (٤) والإرادة؛ إذ لا بد أن يكون قد صنع هذا بإرادة وإحكام وتدبر، هذا هو الواجب الوجود مطلقًا.

ولقد يؤمن المؤمن بقدرة الله التي لا حدَّ لها، ويعلم أن من حقِّ إيمانه أنه يؤمن بالقدرة اللانهائية لواجب الوجود مطلقًا، وإنما يكون ذلك من طريق الوجدان، ولقد يتأمل المتأمل، ويفكر العالم، فيضل بعقله، ويشذ بعلمه، فالأول آمن مطمئن النفس مرتاح البال، طيب الحال، أما الآخر فقد يشقى بعقله، وقد يضل بعلمه.

نقول: ولقد كانت أبحاث الفلسفة قديمًا مُقسَّمة إلى قسمين اثنين: نظري وعملي، والنظري ينقسم إلى طبيعيات ورياضيات وإلهيات.

والعملي إما أن يتناول أعمال الإنسان وأحواله، ويُسمَّى علم الأخلاق، وإما أن يتناول الإنسان، هو وأهل بيته، ويسمى تدبير المنزل، وإما أن يتناول الإنسان مع أهل مدينته، ويسمى علم السياسة.

فالذين يريدون أن يصلوا إلى الحقيقة من طريق العلم والعقل لا بد لهم من دراسة هذه العلوم، ثم إتباعها بالعلوم المحدثة والفروع الكثيرة، والعلم خاضع لناموس التطور والارتقاء — كغيره من الأشياء — وكل يوم يتدرج صوب الكمال النسبي خطوة، وهو مع ذلك ومع ما قطعه وعبره من عمره الطويل لا يزال في مهده.

سيقولون لقد اخترع المخترعون، واستكشف المستكشفون، فأشرقت الأرض بنور ربها، وزها العلم وترعرع، فغاص الإنسان عباب الماء، وحلَّق في الفضاء، وسخَّر الهواء، فما بعد ذلك من علم، وما وراء ذلك من مدنية. سيقولون إن إنسان الزمن الغابر لو أنه أُتِيح له أن يُبعَث فوقع نظره على ما وصلت إليه حضارة اليوم، ومدنية العصر الحاضر؛ لظن أن هذه الأرض قد صارت جنة النعيم، فصارت أحرى بالملائكة تسكنها لا بالإنسان الذي لا يزال يظلم ويعيث في الأرض فسادًا.

أما نحن فلا نزال نعتقد أننا ما زلنا نعيش في حجرة مظلمة، ملأى بما نرتطم فيه من أشياء نظنها حقائق، وهي بعدُ خاضعة لناموس التطور والتحول، بين تغيير وتبديل، انظر إلى ما أحدثه استكشاف الراديوم من تغيير وتبديل في جو المعارف، ثم انظر إلى ما أحدثته نظرية النسبية للعلامة «أينشتين» وما كان متغلغلًا في أدمغة الناس، مرتكزًا في فطرهم قبل أن ينادي غاليلي بما نادى به، واحكم على قيمة الحقائق العلمية ومقدار ثباتها.

لقد كانت المعرفة محصورة في دائرة ضيقة، وكان العلم في نطاق محدود، ثم انفرجت زاوية العلم شيئًا فشيئًا حتى بلغت مبلغها من السعة، وسنعالج البحث في مكانة الأرض من الوجود، وما فيه من عوالم في المقال التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤