في تاريخ سورية في القرن الأول بعد الميلاد

(١) في مولد المخلِّص وسنته

لما كان الإنسان عصى ربه وانغمس البشر بأوحال المآثم، وتاهوا في بيداء الضلال ولم تكن خليقة كفؤًا لاسترضاء الإله المتسخط عليهم؛ ولهدايتهم إلى سواء السبيل، دعا الله حنوه ورأفته أن يتخذ كلمة الله أي: ابنه أحد أقانيم ذات الإله الواحد الأحد جسدًا بشريًّا، ويصير إنسانًا كاملًا مستمرًّا إلهًا كاملًا … بنوعٍ يفوق المدارك البشرية، ويهدي الناس إلى طريق الحياة ويكفِّر بنفسه عن آثامهم، ويسترضي الله عنهم ويفتح لهم أبواب السماء التي كانت موصدة في وجوههم، وكان الله قد أوحى بهذا السر العجيب إلى الآباء والأولياء والأنبياء القدماء، حتى كان ينتظره كل من اعتقد الوحي، وقد خص الله بهذا الشرف الباذخ سورية موطننا، فولد في بيت لحم وتربى في الناصرة وتردد في اليهودية والجليل.

وأما في أية سنة ولد المخلص من السنين التي انقضت بعد خلق الإنسان؛ ففي ذلك أقوالٌ كثيرة جدًّا، تتراوح هذه الأقوال بين ٣٤٨٣ سنة إلى ٦٩٨٤ سنة بعد خلق الإنسان، ومنشأ هذا الاختلاف الواقع في الأعداد الواردة في النص العبراني، وترجمات التوراة وعدم التيقن بكون الأعداد التي نراها الآن هي التي خطتها يد موسى، فجملة المدة التي خلت من خلق الإنسان إلى دعوة إبراهيم على ما في النص العبراني ٢٠٢٣ سنة، لكنها على موجب ترجمة السبعين ٣٣٨٩، وفي السامرية ٢٣٢٤ … وهذا التباين حاصلٌ من خطأ النساخ في الأعداد التي كانوا يرسمونها بالحروف، والحروف العبرانية تتقارب هيئة كثير منها، ولم يشأ الله أن يعصم النساخ بآيات تتعدد كعديدهم، والكنيسة الكاثوليكية أطلقت لكل من المؤرخين أن يختار ما شاء من هذه الأقوال ولا حرج.

إن التاريخ بسني مولد المخلص الذي يستعمله المسيحيون الآن لم يكن أسلافهم في القرون الأولى يستعملونه، بل كانت كل أمة تؤرخ بسني مملكتهم أو ملوكهم إلى أن رأى ديونيسيوس الصغير أحد كهنة كنيسة رومة في القرن السادس أن الخليق بالمسيحيين أن يؤرخوا بسنة مولد المخلص، وأذاع رأيه سائلًا المتابعة له عليه، فاستحسنه بعضهم أولًا إلى أن عم استعماله، على أن العلماء رأوا بعد ذلك أن ديونيسيوس لم يصب بتعيين سنة المولد، بل بدأ فيه بعد أربع سنين من المولد على قول بعضهم، وقال غيرهم: بعد خمس سنين أو ست أو أكثر أيضًا؛ لأن ديونيسيوس افترض أن المسيح وُلد في سنة ٧٥٤ لبناء رومة، ولكن من المؤكد أن هيرودس توفي سنة ٧٥٠ لبناء رومة، ولما كان مؤكدًا أن هيرودس مات بعد مولد المخلص بسنة أو سنتين، فالمسيح لم يولد سنة ٧٥٤ لبناء رومة، بل ولد سنة ٧٤٦ وكان عمره خمس سنين أو ست سنين في السنة التي عينها ديونيسيوس لمولده … وأكثر العلماء على أن هذا الفرق هو أربع سنين، وسموا تاريخ ديونيسيوس التاريخ العامي، أي: الذي اتبعته العامة خلافًا للتاريخ الحقيقي الذي يزيد على العامي أربع سنين أو أكثر، فاتبع المسيحيون الحساب العامي من قبيل أن الخطأ المشهور أولى بالاتباع من الصواب المهجور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤