الفصل الرابع

في العبرانيين

(١) في اسم العبرانيين ونسبتهم إلى عابر وإبراهيم

إننا نوجز الكلام في تاريخ العبرانيين اعتمادًا على أن أكثره معلومٌ من التاريخ المقدس، فأصلهم من سام بن نوح، فسام ولد أرفخشاد، وأرفخشاد ولد شالح، وشالح ولد عابر، فعبر الفرات نحو سورية فسمى أهل سورية ولده عبرانيين من عبور والدهم الفرات، وعابر ولد فانع ويقطان أو قحطان جد العرب، وفالغ ولد أرعو، وأرعو ولد سروج، وسروج ولد ناحور وناحور ولد تارح، وتارح ولد إبرام الذي سماه الله إبراهيم وناحور، وهاران الذي ولد لوطًا وتوفاه الله قبل ابنه (تكوين ١١ عدد ١١ وما يليه).

إن مجموع أعمار هؤلاء الآباء إلى مولد إبراهيم هو ٢٩٢ سنة بحسب النص العبراني و٩٤٢ سنة بحسب الترجمة اليونانية السبعينية، وزادت هذه الترجمة أبًا خلا عنه النص العبراني، وهو فينان بن أرفخشاد وأبو شالح، وذكرت أن أرفخشاد ولده وعمره ١٣٥ سنة، وكان المجموع ١٠٧٧ سنة.

وقد رأى المحققون أن هذا هو الأصح؛ لأن اﻟ ٢٩٢ سنة، ولو أضفنا إليها عمر إبراهيم إذ نزل إلى مصر ٧٥ سنة حتى صار ٣٦٧ هي غير كافية لانتشار الناس في المعمور؛ وللحضارة التي وجدها إبراهيم في مصر.

(٢) في إبراهيم

هو ابن تارح ولده في أور الكلدانيين، وهو على الأظهر المحل المعروف الآن بالمغاور، وسماه بعضهم أم قير في وسط الطريق بين بابل ومصب الفرات، وكان مولد إبراهيم على الأرجح سنة ٢٢٢٠، وظعن أبوه به وبسائر عياله إلى حران وموقعها إلى الجنوب من أرفه على بعد ثماني ساعات، فأقام بها مدة، ثم ارتحل إبراهيم فرارًا من بعض قومه الذين عبدوا الوثن، ولأمر الله له أن يخرج من بينهم، ويسير إلى أرض الكنعانيين، والأظهر والأنسب لحل بعض المشاكل أن شخوصه إلى أرض كنعان كان في سنة ٢١٤٥ق.م، وروى يوسيفوس اليهودي أن إبراهيم بلغ دمشق أولًا وولي أمرها، ثم زايلها وأتى إلى شخيم وهي نابلس الآن، ثم نصب مضاربه بين بيت إيل (في شمالي أورشليم)، ثم أمعن في أرض الكنعانيين جنوبًا متنقلًا، وكانت مجاعة هناك ألجأته أن ينحدر إلى مصر ومعه سارة امرأته، فأحبها فرعون وأدخلها بيته فضربه الله ضربات، فلم يدن منها، واستدعى إبراهيم وردها إليه ووهبه هدايا كثيرة، وعاد إبراهيم من مصر بعد نحو سنة ومعه ابن خياط وتوفرت قطعانهما، وكان خصام بين رعاتها دعا إلى انفصالهما، فاختار لوط السهول التي على ضفات نهر الأردن والبحر الميت حيث سدوم، وضرب إبراهيم خيامه في وطأ مَمْرَا حذاء حبرون وهي الخليل.

وكان كدرلاعومر ملك عيلام قد تولى على سكان وادي الأردن، ثم عصوه فجيَّش عليهم مع بعض أحلافه، فخرج عليهم خمسة ملوك من تلك البلاد، فانتصر عليهم ملك عيلام، وأخذ منهم أسرى كان بينهم لوط، ولما علم إبراهيم ذلك جرد حشمه وعبيده وأحلافه، واتَّبع ملك عيلام وأحلافه فكسرهم، واسترجع لوطًا ابن أخيه وجميع ما نهبوه.

وبعد أن أقام إبراهيم في أرض كنعان عشر سنين، ويئست سارة من أن تلد له ولدًا، سألته أن يتزوج بهاجر أَمَتهَا التي يُظن أن فرعون هداها إليها، فولدت هاجر ابنًا سمته إسماعيل، ثم تجلى الله لإبراهيم ووعده بأن سارة تلد له ابنًا فاستغرب أن يولد له ولد وهو ابن مائة سنة، وأن سارة تلد وعمرها تسعون سنة، ثم ظهر له ثلاثة ملائكة حققوا له أنهم سيعودون في السنة المقبلة ولسارة ابن، وسمعت هي وضحكت فلامها الملائكة لعدم إيمانها بقدرة الله، ثم حبلت وولدت إسحق، ومعناه ضحك، يشار به إلى ضحكها، وكان في هذه الأثناء أمر الله لإبراهيم بالختان واحتراق سدوم وعمورة.

وخرج إسماعيل من بيت أبيه إبراهيم وشب بين قبيلة جرهم وزوجوه امرأة منهم، وذكر الكتاب (تكوين ٢٥ عدد ١٣) له اثني عشر ابنًا وابنة اسمها بسمة، تزوجها عيسو ابن عمها إسحق، وامتحن الله إبراهيم بأن يذبح ابنه إسحق، فلم يبطئ بالإجابة فافتداه الله بكبشٍ، وكرر وعوده لإبراهيم بأن يكون أبًا لأممٍ كثيرة، وماتت سارة فابتاع المغارة المضاعفة من عفرون الحثي، ودفنها فيها وهذه المغارة قائمة الآن في جامع الخليل، وأرسل إلعازر الدمشقي قيم بيته إلى ما بين النهرين ليأتي بزوجة لابنه إسحق، فتوجه ووفقه الله إلى أن يأتي برفقة بنت بتوئيل بن ناحور أخي إبراهيم، وتزوج إبراهيم بعد وفاة سارة بامرأة اسمها قطورة، وقد يمكن أن تكون سرية له جعلها امرأة بيته بعد موت سارة وولد منها ستة أبناء، فكانوا أصلًا لستة بطون من العرب منهم المدينيون، وتوفي إبراهيم وعمره ١٧٥ سنة، ودفنه ابنه إسحق في المغارة المضاعفة (تكوين ٢٥ عدد ٧).

(٣) في إسحق ويعقوب وأولادهما

تزوج إسحق وعمره أربعون سنة، ومضت تسع عشرة سنة ولم يُرزق ولدًا، فضرع إلى الله فحملت رفقة وولدت توءمين عيسو ويعقوب، ومعلومٌ ما كان بينهما من اختلاس يعقوب بِكْرية أخيه الذي تخلى عنها بطبخ عدس، وحقْد عيسو على يعقوب وإضمار السوء له، وعرفت رفقة فأوعزت إلى يعقوب أن يهرب إلى لابان أخيها وزينت إلى إسحق بأن قالت له: سئمت نفسي الحياة من أجل ابنتَي حث اللتين تزوج بهما عيسو، فإن تزوج يعقوب من الحثيين أو بنات سائر هذه الأرض فما لي والحياة … فمضى يعقوب إلى حاران هربًا من وجه أخيه؛ ورغبة في أن يتزوج بامرأة من بنات خاله، وبقي إسحق حيًّا إلى أن عاد ابنه من حاران بعد أن أقام ثمة عشرين سنة، وتوفي إسحق وعمره مائة وثمانون سنة، ودفن في المغارة المضاعفة.

ولما بلغ يعقوب إلى خاله لابان أحب ابنته راحيل، وخدم أباها سبع سنين، فزف إليه أختها لية الكبرى محتجًّا بأن العادة في بلادهم أن لا تتزوج الصغرى قبل الكبرى، وخدمه سبع سنين أخرى فأزوجه براحيل ووهب ابنته لية أمة اسمها زلفة وابنته راحيل أمة اسمها بلهة، وولد ليعقوب من لية وراحيل وأمتيهما اثنا عشر ابنًا … وهم راوبين وشمعون ولاوي ويهوذا وإيساكر وزابلون من لية، ويوسف وبنيامين من راحيل، ودان ونفتالي من بلهة أمة راحيل، وجاد وأشير من زلفة أمة لية، وأيسر يعقوب كثيرًا فقام بقومه وماشيته عائدًا إلى أرض كنعان، ثم ابتاع يعقوب قطعة أرض من شخيم (نابلس) وضرب ثمة خباءه، وسطا شمعون ولاوي ابنا يعقوب على أهل شخيم لإذلال ابن رئيس البلد أختهما، فقام يعقوب من شخيم قاصدًا أباه إسحق بوطأ ممرا بجانب الخليل، فماتت راحيل امرأته نفساء بعد أن ولدت بنيامين، فدفنها في المحل المعروف إلى الآن بقبر راحيل بين القدس وبيت لحم، فسر به إسحق وبارك أولاده، وكان يعقوب يحب يوسف لحسن سجاياه؛ ولتذكره به راحيل أمه التي قضت في غض صباها فحسده إخوته، وأراد بعضهم قتله وشفع بعضهم به فألقوه في بئر، ثم مرت بهم قافلة سائرة من مدين إلى مصر، فباعوه بثمنٍ بخس وأخذوا قميصه وغمسوه في دم تيس، وأرسلوه إلى والدهم يوهمونه أن وحشًا افترسه.

(٤) يوسف في مصر

باع المدنييون يوسف لفوطيفار رئيس شرط فرعون، فنال حظوة في عيني مولاه، وأقامه على كل ما يملكه، وراودته امرأته عن نفسها، فأبى اتقاء الله وتحصًنا من الخيانة وتعلقت بردائه فتركه بيدها وفر، فحنقت منه وشكته لزوجها، فألقاه في السجن، فرُزق حظوة في عيني رئيس السجن، فجعل كل السَّجْنى بيده، وحلم رئيس السقاة ورئيس الخبازين حلمين، وعبَّرهما يوسف لهما فكان كما عبَّر، ثم حلم فرعون حلمين فاستدعى يوسف لتعبيرهما … فقال له: إنهما دالان على أنه سيكون سبع سنين في مصر إقبالًا وخصبًا تعقبها سبع سنين يكون فيها إمحال وجوع، فلينظر الملك رجلًا حكيمًا يقيمه على مصر يختزن الخمس من بُر سني الخصب ذخيرة لسني المجاعة.

فعجب فرعون من كلام موسى، وقال: «ليس عندي مثلك أنت تكون على بيتي، وإلى كلمتك ينقاد كل شعبي، ولا أكون أعظم منك إلا بالعرش … فقد أقمتك على جميع أرض مصر.» وخرج يوسف وجال في جميع أرض مصر وكان يجمع في سني الخصب في كل مدينة غلال ما حولها، ولما أتت سنو القحط أخذ يوسف يبيع الأهلين الغلال أولًا بالفضة ثم بالماشية، ثم سألوه أن يشتريهم وأرضهم لفرعون، وسارت جميع الأرض للملك، إلا أرض الكهنة؛ لأنه كان لهم أرزاق من عند الملك فلم يحتاجوا لبيع أرضهم، وجعل يوسف نظامًا لهذه الأرض أن يعطوا الخمس للملك والأربعة الأخماس تكون بزرًا للحقول وميرة لهم، فبقي هذا الرسم إلى الآن، والآثار المصرية تثبت انتقال ملك الأرض إلى الفراعنة، وإن لم تصرح بمن فعل ذلك.

وعمت المجاعة أرض فلسطين فانحدر إخوة يوسف؛ ليمتاروا لهم طعامًا فعرفهم يوسف، وتنكر لهم وحسبهم جواسيس، ولم يأذن بانصرافهم إلا بشرط أن يعودوا وأخوهم بنيامين معهم، وأمر أن ترد لكل منهم فضته في جولقه، ولما رجعوا ثانية تعرف إلى إخوته بالطريقة المعلومة، وأرسل إلى أبيه أن ينحدر معهم إلى مصر.

(٥) انحدار يعقوب إلى مصر بذريته

ارتحل يعقوب بجميع عياله وماله، فكان جملة الداخلين إلى مصر سبعين نفْسًا مع ابني يوسف منسى وأفرائيم، والتقى يوسف أباه إلى جاسان، ولما ظهر له ألقى بنفسه على عنقه وبكى طويلًا، ومثل يوسف أولًا خمسة من إخوته، ثم أباه بين يدي فرعون، فرحَّب بهم وأحلَّهم في أجود أرض مصر وهي جاسان، وكان للعلماء قبل الاكتشافات الحديثة أقوالٌ متضاربة في موقعها، وانكشف الآن أنها في الجهة الشمالية الشرقية من مصر حيث الآن المديرية المعروفة بالشرقية، وأكدت ذلك آثار لا ريبة فيها استوفينا شرحها في تاريخنا المطول، وعاش يعقوب في مصر سبع عشرة سنة، وكان عمره عند انحداره إليها مائة وثلاثين سنة وبارك بنيه قبل موته، وتنبأ عما يكون لهم كما في سفر التكوين فصل ٤٨، فحنط يوسف جثته ونقلها بما لا مزيد عليه من الحفاوة، ودفنوه في المغارة المضاعفة بالخليل، وعاش يوسف بعد وفاة أبيه نحوًا من أربع وخمسين سنة، ثم توفي وله من العمر مائة وعشر سنين، واستحلف أهله أن ينقلوا عظامه إلى أرض الموعد متى منَّ الله بخروجهم من مصر، وجاء في سفر يشوع بن نون (ف٣٤ عدد ٣٢) أن عظام يوسف التي أصعدها بنو إسرائيل من مصر دفنوها في شخيم (نابلس) في قطعة الأرض التي اشتراها يعقوب من بني حيمور، وروى القديس إيرونيموس أن مدفن يوسف كان يُشاهد هناك إلى أيامه، وحقق بعض الجوالة بقاءه هناك إلى عهدٍ قريب.

(٦) حالة بني إسرائيل في مصر

قد كان ملوك مصر في تلك الأيام من الملوك الرعاة السوريين أصلًا، فأكرموا يوسف وأباه وإخوته، ولم يبرح بنو إسرائيل هناك ممتازين عن المصريين في دينهم وأدبهم ولغتهم، وكان المصريون يحسبونهم رعاة، والرعاة أرجاس بسبب ملوك الرعاة الذين استحوذوا عليهم، فكان لبني إسرائيل شيوخ يلون أمرهم، وكان كل سِبْط مقسومًا إلى أسرات ولكل أسرة شيخ، ويرأس هؤلاء عمال تختارهم الحكومة من بني إسرائيل، فكانت هذه الحال نافعة لبني إسرائيل من جهة قربهم من شعب فاقهم حضارة، واقتبسوا منه بعض الصنائع، وضارة من وجه تشويش بعض تقليداتهم وآدابهم، ويظهر أن الملوك الأولين الذين تولوا مصر بعد الملوك الرعاة لم يعنتوا بني إسرائيل، بل استخدموهم في حملاتهم على آسيا، وجاء في سفر أخبار الأيام الأول (فصل ٧ عدد ٢٠) أن أبناء أفرائيم بن يوسف نزلوا إلى جت (دكرين الآن)؛ ليأخذوا ماشيتهم فقتلهم رجال جت، وذكروا أن بعض بني سيلا بن يهوذا استحوذوا على بعض مدن الموآبيين، وكُشف في صفائح مسمارية وجدت في تل العمرنة في ما بين النهرين ١٨٨٧ عن أن بعض اليهود كانوا يسكنون فلسطين في أيام أمانوفيس الرابع أحد ملوك الدولة الثامنة عشر بعد طرد الرعاة، وقبل خروج بني إسرائيل منها بنحو مائة وخمسين سنة، فارتبك العلماء في مغزى هذه الصفائح، وأظهر ما قيل بذلك أن بعض بني إسرائيل حاربوا مع ملوك الرعاة في مصر، ورافقوهم عند خروجهم منها، فأقاموا في فلسطين وأورشليم، ولا نرى مانعًا من أن يكون بعض بني إسرائيل عادوا إلى فلسطين قبل الخروج.

(٧) اضطهاد بني إسرائيل في مصر

مات يوسف وجميع إخوته وسائر ذلك الجيل، وطُرد الملوك الرعاة من مصر، ونما بنو إسرائيل وكثروا وعظموا جدًّا، وقام ملكٌ جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف، فوجس من كثرتهم ومن أن ينضموا إلى أعداء المصريين ويحاربوهم معهم، فأقاموا عليهم وكلاء تسخير؛ لكي يعنتوهم بأثقالهم، وأشغلهم رعمسيس الثاني ببناء مدينتين، وهما فيتوم ورعمسيس، وجاءت الآثار المصرية مصداقًا لآي الكتاب، فقد وُجدت صور كثيرة تمثل أسرى ساميين يشتغلون في البناء تحت إمرة عمال مصريين، بيد كل منهم سوط أو عصا طويلة، وفيتوم أو بيتوم تأويلها بيت الإله توم أو معبده، ويراد به عندهم الشمس، وكان موقع هذه المدينة على مقربةٍ من تل المسقوطة، وتجد فيها صخرًا كبيرًا مرسومة عليه صورة الملك رعمسيس بين إلهين، وأما رعمسيس فسُميت باسم رعمسيس الثاني الذي أشغل بني إسرائيل ببنائها، وموقعها في محل تل المسقوطة وهي مجاورة لأرض جاسان، وقد اكتشف العالم إدوار نافيل على فيتوم ورعمسيس المذكورتين، واستدل عليهما بآثارٍ كثيرة لا تدع محلًّا للامتراء في بناء رعمسيس لهما، وقد حلل إدوار نافيل بعض اللَبِن الذي وجده، وقدر أن يستدل منه على أنه صنع العبرانيين … طالع تاريخها المطول مجلد ٢ صفحة ٩٧.

على أن فراعنة مصر لم يكتفوا بإعنات بني إسرائيل بعمل اللَبِن، وتسخيرهم في الأشغال الشاقة بل اخترعوا لإنقاص عددهم ذريعة أخرى، وهي أن فرعون أمر قابلتي العبرانيات أن تقتلا كل ذكر يولد للعبرانيين، فاتقت القابلتان اللهَ، ولم تفعلا، فأمر الملك جميع شعبه أمرًا فظيعًا أن يطرحوا في النهر كل ذكر يولد للعبرانيين.

(٨) في موسى

ووُلد لعمران من سِبْط لاوي ولد، وخافت عليه أمه من نفوذ أمر فرعون به فأخفته ثلاثة أشهر، ولما لم تستطع أن تخفيه أكثر وضعته في سَفَط من برديٍّ وطلته بالزفت، ووضعته بين الخيزران على حافة النهر، ونزلت ابنة فرعون لتغتسل، فرأت السفط بين الخيزران ورأت فيه صبيًّا يبكي، وقالت أخته التي كانت حذا النهر لابنة الملك: إنها تأتيها بظئر ترضعه وأسرعت فدعت أمها، فقالت ابنة فرعون لها: «خذي هذا الصبي وأرضعيه وأنا أعطيك أجرتك.» فأرضعته أمه مع الحليب حب الإله والغيرة على بني قبيلته، ولما كبر جاءت به ابنة فرعون فاتخذته ابنًا وسمته موسى، أي: نشيلًا من الماء، فلم ينسه رفاه عيشه في بيت فرعون الضيق المُلِم بشعبه، ورأى يومًا مصريًّا يضرب عبرانيًّا فقتله وطمه في الرمل، ولما درى أن الخبر ذاع وأن فرعون يريد قتله فرَّ موسى إلى أرض مدين في بلاد العرب، ونزل على رجل اسمه يترو أو يترون، ويسميه علماء العرب شعيب، فوكل إليه العناية بماشيته وزوجه صفورة ابنته، فأقام موسى هناك نحو أربعين سنة، وفي آخرها ظهر له الرب، وأمره أن يذهب إلى فرعون ويسأله إطلاق شعبه، وسأله موسى آية للتيقن بنفع شعبه، فجعل الله عصا موسى حية تسعى، ومد يده إليها فعادت عصا في يده، وأمره أن يأخذ أخاه هرون؛ ليكون معه وأن يأخذ العصا التي صارت حية فمضى موسى كأمر الله.

قال الكتاب (خروج فصل ٥ عدد ١): «دخل موسى وهرون، وقالا لفرعون: كذا قال الرب إله إسرائيل: أطلق شعبي ليعبدوني في البرية. فقال فرعون: من هو الرب لأسمع قوله وأطلق إسرائيل؟» وكان فرعون هذا منفتاح بن رعمسيس الثاني، ولما لم يسمع لهما ضرب الله مصر على يدهما بضرباتٍ كثيرة ذكرها الكتاب في سفر الخروج: منها انقلاب ماء النهر دمًا، ومنها انتشار الدفاضع في البيوت والمخادع وعلى الأسرة، وظهور البعوض على كل تراب مصر، وامتلاء بيوت المصريين وأرضهم من الذبان والوباء الشديد الذي أصاب الخيل والحمير وكل الماشية إلا ما خص بني إسرائيل، والقروح التي أصابت الناس والبهائم، ثم البرد الذي لم يكن مثله في مصر، وأمات الناس والبهائم وأيبس العشب وكسر الأشجار، ولم يكن منه شيء في أرض جاسان، ثم الجراد الذي غشي أرض مصر وأكل جميع عشبها … وأخيرًا ضربة كل بكر في جميع أرض مصر من بكر فرعون إلى بكر الأسير الذي في السجن وجميع أبكار البهائم، فدعا فرعون موسى وهرون ليلًا، وقال: «اخرجا من بين شعبي أنتما وبنو إسرائيل بغنمكم وماشيتكم كلها.»

(٩) في خروج بني إسرائيل من مصر

قد أقام بنو إسرائيل بمصر أربعمائة وثلاثين سنة، وقد نوه بذلك النص العبراني وغيره من الترجمات، ولكن يظهر من الترجمتين السبعينية والسامرية أن الأربعمائة والثلاثين سنة تُحسب من خروج إبراهيم إلى بلاد الكنعانيين إلى خروج بني إسرائيل من مصر، وقد عول أكثر العلماء على ما في النص العبراني وهو الأصح، ولا سيما أن كثيرًا من الآثار المصرية يستخلص منه أن المدة التي انقضت من عهد فرعون أبامي الذي استوزر يوسف في سنة ١٧ لملكه إلى زمان منفتاح فرعون الخروج إنما هي نحو أربعمائة وثلاثين سنة لا مائتان وخمس عشرة سنة، ويؤيده أن هذه المدة المذكورة أخيرًا لا تكفي لتكون ذرية يعقوب عند خروجها من مصر ستمائة ألف ماشٍ من الرجال خلا الأطفال، كما في سفر الخروج (فصل ١٢ عدد ٣٧).

وفي تعيين سنة هذا الخروج أقوال؛ أظهرها عندنا أنه كان نحو سنة ١٥٠٠ قبل الميلاد، فقد مر أن إبراهيم شخص إلى أرض كنعان سنة ٢١٤٥، وعمره خمس وسبعون سنة، وولد إسحق بعد خمس وعشرين سنة، وإسحق ولد يعقوب وعمره ستون سنة، ويعقوب انحدر إلى مصر وعمره ١٣٠ سنة، فمجموع هذه السنين ٣١٥، وإذا أضفت إليها سني العبودية بمصر ٤٣٠ سنة كان المجموع ٦٤٥، فإذا أسقطتها من ٢١٤٥ سنة شخص إبراهيم إلى أرض كنعان كان الخروج في ١٥٠٠ق.م.

والمؤكد الآن أن بني إسرائيل أخذوا في خروجهم من مصر من تل المسقوطة، حيث كانت مدينة رعمسيس، وانتهوا بعد خمس مراحل إلى شاطئ البحر الأحمر، ولما رأى فرعون والمصريون أنهم خسروا الانتفاع بأعمال شعب كامل أمر فرعون بتتبع آثارهم، وجمع مركباته وجيشه، وأسرعوا في لحاقهم فأدركوهم عند خليج السويس، وقطعوا عليهم الطريق من جهة الشمال والشمال الشرقي، وكان في الغرب والجنوب جبل الطاقة وهو مستوعر المسالك، وفي الشرق البحر الأحمر، فارتاع بنو إسرائيل وضاقت بهم المسالك، فصلى موسى إلى الله ومد يده على البحر، فأرسل الرب ريحًا شرقية شديدة فانشق الماء، ودخل بنو إسرائيل على اليبس في وسط البحر، ودخل المصريون وراءهم فقال الرب لموسى: «مد يدك إلى البحر فيرتد الماء على المصريين.» فكان كذلك وغرقت مركبات فرعون وفرسانه وجيشه ونجا بنو إسرائيل جميعهم، والراجح أن معبرهم كان من شاطئ الخليج الغربي بخطٍّ منحرف إلى شاطئه الجنوبي الشرقي، وحلوا في الموضع المسمى الآن عيون موسى، ولم يغرق فرعون؛ لأنه لم يدخل في البحر مع مركباته وجنوده … فالكتاب لم يشر إلى غرقه، والتاريخ والآثار المصرية تنبئ بأنه مات حتف أنفه، وجعل الرب عمود نار وغمام يضيء بني إسرائيل، ويحجبهم عن نظر المصريين، ورافقهم هذا العمود في أسفارهم، ولا نرى آية عظمت الأسفار المقدسة في العهدين قدرها كآية شق البحر الأحمر، وإجازة بني إسرائيل في وسطه (طالع فصل ١٤ من سفر الخروج).

(١٠) مقام بني إسرائيل بالبرية

أقام بنو إسرائيل بالبرية أربعين سنة منتقلين في مراحل كثيرة، وأهم ما كان في هذه المدة: أولًا إنزال الله عليهم المن، فكان يسقط في الغداة حول المحلة وطعمه كقطائف بعسل، وكانوا يلتقطون منه كل واحد على قدر أكله، وكان ما بقي منه بعد الالتقاط يذوب إذا حميت الشمس، وما بقي منه إلى اليوم التالي دب فيه الدود وأنتن إلا يوم السبت، فما التقطوه يوم الجمعة لا يعتريه فساد، ثانيًا: السلوى وهي طائر معروف إذ قال الكتاب في سفر العدد (فصل ١١ عدد ٣١): «وهبت ريح من لدن الرب، فساقت سلوى من البحر وألقته على المحلة على مسير يوم من هنا ويوم من هناك حوالي المحلة، فأرسل الله السلوى إليهم مرتين ذكرهما موسى في سفر الخروج، وفي سفر العدد، وبين الأولى والثانية سنة وكلتاهما في الربيع، ثالثًا: آية إجراء الماء من الصخرة، فقد أمر الله موسى (خروج فصل ١٧ عدد ٣) أن يضرب الصخرة فتجري المياه، وقال بعض العلماء: إن محل هذه الصخرة في جوار دير القديسة كاترينا في سينا، والأظهر أنها كانت في وادي فيران، وقد ذكرها فيه رجال اللجنة الإنكليزية في بقعة تسمى حي الخطاطين، رابعًا: حربهم مع العمالقة ذكره سفر الخروج (فصل ١٧ عدد ٨ وما يليه)، وكان موسى إذا رفع يده تغلب بنو إسرائيل وإذا حطها تغلب العمالقة، فهزم بنو إسرائيل العمالقة، خامسًا: تنزيل الله السنة على موسى وأولها الوصايا العشر، وألحق بها السنن والأحكام الواردة في سفري الخروج، وتثنية الاشتراع، سادسًا: عبادة بني إسرائيل عجل الذهب لما أبطأ موسى في الجبل عندما صعد هو وهرون وشيوخ إسرائيل؛ ليشكروا الله على آلائه، سابعًا: إنشاء موسى خباء المحضر أي: قبة العهد، ثامنًا: إجراء الماء من الصخرة ثانية في قادش فإن الشعب خاصم موسى وهرون هناك لحاجتهم إلى الماء، فأخذ موسى عصاه وضرب الصخرة كأمر الرب، فخرج ماءٌ كثير شرب منه الجماعة وبهائمهم، تاسعًا: وفاة مريم أخت موسى في قادش وموت أخيها هرون في جبل هور، فإن الرب كلم موسى قائلًا: ينضم هرون إلى قومه؛ لأنه لا يدخل الأرض التي أعطيتها لبني إسرائيل؛ لأنكما عصيتما أمري عند ماء الخصومة، وأمر أن يصعد هرون إلى الجبل وينزع عنه ثيابه ويُلبسها إليعازر ابنه، فمات هرون في رأس الجبال، ودُفن هناك بحيث لا يعرف أحد قبره؛ لئلا يعبده بنو إسرائيل أو ينتهك العرب حرمته، ومع هذا ففي جبل هور مدفن يسمى مدفن هرون وقد زاره كثير من الجوالة، عاشرًا: نهي الرب عن محاربة الأدوميين أبناء عيسو والموآبيين والعمونيين بني بنتي لوط؛ لأنهم إخوتهم (وقد كانت بعدئذٍ حروب عديدة بين هذه العشائر وبني إسرائيل)، وحارب بنو إسرائيل سيحون ملك الآموريين وعوج ملك بيسان في عبر الأردن، حادي عشر: تمليك موسى سبطي راوبين وجاد ونصف سِبْط منسى بن يوسف البلاد التي أخذوها منهما، ثاني عشر: وفاة موسى فقد جاء في سفر التثنية (فصل ٣ عدد ٢٥) أن موسى سأل الرب قائلًا: «دعني أجوز فأرى الأرض الصالحة التي في عبر الأردن هذا الجبل الحسن ولبنان.» فقال له الرب: «حسبك لا تزد في الكلام معي لكن اصعد إلى قمة الفيحة (وهي قمة في جبل بنو تسمى الآن رأس الصياغة)، وارفع طرفك غربًا وشمالًا وجنوبًا وشرقًا، وانظر بعينيك لأنك لا تجوز هذا الأردن، ومر يشوع وشجعه فإنه هو يعبر أمام هذا الشعب ويورثه الأرض التي تراها.» فخطب موسى في بني إسرائيل خطبًا كثيرة ذكرهم بها بأخص مواد السنة، وحض الشعب على اتقاء الرب والعمل بسنته، وأمر الكهنة أن يتلوها على مسامع الشعب مرة في كل سبع سنين في عيد المظال، ثم بارك بني إسرائيل بركاتٍ نبوية ذكرت في الفصل ٢٣ من سفر التثنية، وصعد على جبل نابو ومات هناك وعمره مائة وعشرون سنة، ولم يعرف أحد قبره إلى يومنا هذا.

(١١) في يشوع بن نون

هو من سِبْط أفرائيم بن يوسف وكان مؤازرًا لموسى، وعهد إليه بقيادة الشعب بعد وفاته، وأعدته عناية الله لأمرين: افتتاح فلسطين وقسمة أرضها على أسباط بني إسرائيل، وأتم الأول بعبوره الأردن ببني إسرائيل وافتتاحه أريحا، وكانت بمنزلة مفتاح لبلاد الفلسطينيين، إذ طاف رجال الحرب حول أسوارها سبعة أيام، وفي اليوم السابع طافوا سبع مرات فسقطت أسوارها ودخلها بنو إسرائيل، ثم حارب مدن الجنوب فافتتحها وقتل ملوكها، واعتصب عليه ملوك شمال فلسطين فشتت شملهم وتعقبهم إلى صيدا وصرفند، وانبسطت سلطته شرقًا إلى بقعة المصفاة، وهي البقاع على الأرجح، فأصبحت ولايته من الجبل الأملس الممتد إلى سعير (جبل الشيخ) إلى بعل جاد في بقعة لبنان، وهي بانياس على الأظهر، وعاد يشوع من الشمال ظافرًا غانمًا فحارب بني عناق وكانت مساكنهم الخليل وغزة وأشدود وغيرها، وكانت هذه البلاد منقسمة إلى نواحٍ أو إقطاعات، وحاكم كل ناحية يُسمى ملكًا؛ ولذلك ترى في سفر يشوع أنه قتل ملوكًا كثيرين، وجاء في الآثار المصرية ذكر تقسيم هذه البلاد إلى ممالك صغيرة، وجاء فيها ذكر يابوسي وأموري وجرجسي وحيوي وعرقي وسيني إلخ، فكان ذلك مصداقًا لقول الكتاب: إن الملوك الذين قتلهم بنو إسرائيل واحد وثلاثون ملكًا، منهم سيحون ملك الآموريين وعوج ملك باسان اللذان قتلهما موسى، وتسعة وعشرون ملكًا قتلهم يشوع بن نون.

ثم قسم يشوع ما ملكوه من الأرض على بني إسرائيل كما في سفر يشوع فصل ١٤ وما يليه، ودبر يشوع بني إسرائيل خمسًا وعشرين سنة على ما روى يوسيفوس اليهودي، ومات وعمره مائة وعشر سنين، ودفنوه في أرض ميراثة في ثمنة سارح التي في جبل أفرائيم إلى شمال جبل جاعش (يشوع عدد ٢٣ عدد ٢٤)، وهذا المحل هو المُسمى الآن تبنة في جنوبي نابلس، وقد كشف فيها كاران عن مدفنه سنة ١٨٦٣، ثم شخص إلى هذا المحل سنة ١٨٧٠، فزاد تيقنًا بذلك وتابعه على رأيه دي سولسي والأب ريشار والأب فيكورو (طالع تاريخنا المطول المجلد الثاني صفحة ٣١٤) … وقد طالعت أخيرًا بعض المعارضة لكاران في مذهبه هذا.

(١٢) في قضاة بني إسرائيل

بعد وفاة يشوع بن نون اهتم بعض بني إسرائيل بمحاربة من بقي بينهم من الكنعانيين، فحارب بنو شمعون أدوناي بازق أي: ملك بازاق (في جهة اللد) وانتصروا عليهم، وحارب بنو يهوذا اليابوسيين في أورشليم وطردوهم منها لكنهم رجعوا إليها، وضربوا العناقيين في الخليل واستحوذوا عليها، وحاصر بنو يوسف بيت إيل وافتتحوها، وأحب بعض بني إسرائيل الراحة، وتقاعدوا عن طردهم أعداءهم بل سالموهم ومالوا إلى عبادة أوثانهم فضايقهم أعداؤهم، وكانوا إذا لجئوا إلى الرب أقام لهم مخلصًا سموه قاضيًا، فكان من هؤلاء أربعة عشر قاضيًا: عثنيل وقد خلصهم من استعباد كوشان وشعثائيم ملك آرام، وآهود ونجاهم من ظلم عجلون ملك موآب، وشمجر وأنقذهم من بعض الفلسطينيين، ودابورة مع باراق وخلصاهم من ملك حاصور، وجدعون وخلصهم من المدينيين، وتولع ويانير كانا قاضيين ولم يذكر لهما الكتاب حربًا، ويفتاح وأنقذ بني إسرائيل من الفلسطينيين وبني عمون، وأيصان من بيت لحم، وأيلون الزابلوني، وعبدون بن هليل، وهؤلاء لم يذكر لهم الكتاب حربًا، والراجح أن هؤلاء القضاة الثلاثة كانوا يلون شرقي الأردن في مدة ولاية عالي وصموئيل وسطو شمشون في غربية، وعالي وصموئيل من قضاة إسرائيل، وكان عالي حبرًا في خباء الرب الذي أقاموه في شيلو، وفي أيامه انتصر الفلسطينيون على بني إسرائيل، وأخذوا منهم تابوت عهد الرب وقُتل ابناه حفني وفنحاس، وصموئيل كان يخدم عالي في بيت الرب وبعد موته حمل بني إسرائيل على محاربة الفلسطينيين فانتصر عليهم.

وكم كانت المدة التي دبر فيها هؤلاء القضاة بني إسرائيل؟ فتلك معضلة تضاربت الأقوال في حلها، وإذا حُسبت السنون التي ذكرها الكتاب لكل منهم زادت كثيرًا على مدة الأربعمائة والثمانين سنة، التي صرح الكتاب (ملوك ٣ فصل ٦ عدد ١) بأنها انقضت من خروج بني إسرائيل إلى أن شرع سليمان في بناء الهيكل، ولحل هذه المشكلة وضعنا الجدول الآتي على سبيل استخراج العدد غير المعلوم من المعلوم:

سنة ٤٨٠ المدة التي من الخروج إلى بناء الهيكل (ملوك ٢ ف٦ عدد ١)
سنة ٤٠ مدة إقامة بني إسرائيل في البرية كما في آيات عديدة
سنة ٢٥ مدة قيادة يشوع بن نون لهم (يوسيفوس ك٥ فصل ١)
سنة ٤٠ مدة ملك شاول (أعمال الرسل ف١٣ عدد ٤١)
سنة ٤٠ من مدة ملك داود (ملوك ٢ ف٥ عدد ٤)
سنة ٤ من مدة ملك سليمان (ملوك ٣ ف٦ عدد ١)
سنة ٣٣١ فيلزم أن تكون مدة القضاة المجهولة من موت يشوع إلى ملك شاول
سنة ٤٨٠ وظهر أنه كان أحيانًا قاضيان لبني إسرائيل في وقت واحد كل منهما في جهة

(١٣) في شاول أول ملوك بني إسرائيل

اجتمع شيوخ بني إسرائيل يسألون صموئيل أن يقيم عليهم ملكًا، فصلى إلى الرب فأمره أن يبين لهم سنة الملك وما يجريه عليهم من المتاعب والخسائر، ولما ألحوا على صموئيل أوحى إليه الرب أن يختار شاول ملكًا عليهم، وهداه إليه بأن شاول أتى إلى صموئيل يسأله عن أُتُن ضلَّت لأبيه وخرج يطلبها، فعرفه الرب به ومسحه سرًّا وأمره أن يوافيه في اليوم السابع إلى المصفاة (المعروفة الآن بشفعات)، ودعا صموئيل الشعب في ذلك اليوم إليها، وأمرهم أن ينتخبوا ملكًا منهم بإلقاء القرعة على أسباط إسرائيل الاثني عشر، فأصابت بنيامين ثم ألقوا القرعة على عشائر هذا السبط، فوقعت لشاول بن قيس، ووقف بين الشعب فإذا هو يزيد طولًا عن الشعب كافة من كتفه وما فوق، فهتف الشعب: «ليحيى الملك»، وكانت باكورة أعماله محاربته لناحاش ملك العمونيين، فهذا نزل على يابيش جلعاد في ناحية الصلت وضايق أهلها وطلبوا منه الأمان، فأجابهم أنه لا يؤمنهم إلا أن يقلع كل عين يمنى لهم، فأرسلوا رسلًا إلى شاول وصموئيل، فاجتمع إليهم نحو ثلاثمائة ألف رجل ومن رجال يهوذا ثلاثون ألفًا، ورتب شاول عسكره ثلاث فرق، فشتت بني عمون شذر مذر ووجِد ناحاش ملكهم مجندلًا بين القتلى.

وفي السنة الثانية لملكه حارب الفلسطينيين، وكان الرعب قد أخذ بني إسرائيل فلم يجتمع إلى شاول إلا بعض الشجعان في الجلجال (الجلجول الآن في جهة أريحا)، وأقام ثم شاول سبعة أيام لينتظر صموئيل بحسب موعده ليقدم الذبائح لله، فلم يأت وطفق الشعب يتفرق فأقدم على إصعاد المحرقة، ولما فرغ منه إذا بصموئيل قد أقبل فلامه شديد اللوم على اختلاسه حق الكهنة بتقدمة الذبائح، وأسمعه أن ملكه لا يدوم، وخرج الفلسطينيون ثلاث فرق يخرِّبون في أرض إسرائيل، وأقبلت طلائعهم إلى معبر مكماش (مخماس)، فانفرد يوناثان بن شاول وتسلق على صخرٍ هناك مع حامل سلاحه ووثبا على محرس الفلسطينيين، فقتلا منهم نحو عشرين رجلًا، فاستولى الرعب على الفلسطينيين وأخذوا يهربون، ولما رأى عسكر شاول تشتتهم وثبوا عليهم وانضم إلى شاول من كان من بني إسرائيل مع الفلسطينيين وغيرهم حتى صار عسكره نحو عشرة آلاف رجل، واستمروا يطاردونهم من مخماس إلى يعلو وهي في شرقي عمواص، ثم حارب شاول كل من كان حوله من الموآبيين والعمونيين وملوك صوبا، وكان ظافرًا، ولم يطرفنا الكتاب بشيءٍ من تفصيل أخبار هذه الحرب.

لكن الكتاب أنبأنا أن الرب أرسل صموئيل إلى شاول؛ ليحارب العمالقة ويبيدهم؛ لأنهم اعترضوا بني إسرائيل في طريقهم إلى أرض موعدهم، فجمع شاول مائتي وعشرة آلاف راجل وزحف بهم إلى مدينة عماليق وضربهم، وقتل كل من وجده بحد السيف، وأسر أجاج ملكهم وأبقاه حيًّا وعفا عن خيار الغنم والبقر، وكل سمين وعاد ظافرًا، فأوحى الرب إلى صموئيل أنه ساخط على شاول؛ لأنه لم يبد العمالقة وكل ماشيتهم كما أمره فأتى إليه صموئيل، فأنبه على ذلك قائلًا: «أترى الرب يسر بالمحرقات كما يسر بالطاعة لكلامه!» وأبان له أن الرب قد رذله، فقال شاول: «قد خطئت فاغفر خطيتي.» وتحول النبي لينصرف فأخذ شاول بطرف ردائه فانشق، فقال له: «سيشق الرب مملكة إسرائيل عنك.» ثم قال صموئيل: «هلم إليَّ بأجاج ملك عماليق.» وأمر بقتله فقُتل.

وأمر الرب صموئيل أن يمسح داود ملكًا على إسرائيل وهداه إليه، فمسحه النبي سرًّا واعترى داء الماليخولية شاول، وأشار ذووه عليه أن يستدعي رجلًا يحسن الضرب بالكنارة حتى إذا اعترته نوبة المرض فرج كربه، وهداه بعضهم إلى داود بن يسى فأرسل إلى أبيه أن يبعث إليه به، وجعله حامل سلاحه، وكان داود قبل أن يدعوه شاول أو بعده صارع جليات الجبار، وقتله بحجر ألقاه في مقلاعه، ثم أخذ سيفه واحتذ رأسه به، وأتى به إلى شاول فوضع السيف في بيت الرب، وأحب شاول داود وقربه إليه وصافاه يوناتان بن شاول وأخلص له، ولم يعتم شاول أن أخذته الغيرة من داود ووجس أن يكون خلفًا له، فهرب داود من وجهه أولًا إلى أخي ملك الكاهن، ثم إلى جت وموآب وطارده شاول وتمكن داود من قتله فعفا عنه.

وتألب أقطاب الفلسطينيين لمحاربة شاول مؤملين الظفر به لانقسامهم، وحسبانهم أن داود ورجاله يناصرونهم على شاول، وتقدمت جيوش الفلسطينيين نحو الشمال إلى مرج بن عامر، ونزلوا بجلبوع وهو المسمى الآن جبل جلبوع، ورأى شاول كثرة جيوش الفلسطينيين، فخاف وارتعد وسأل الرب فلم يجبه لا بالحلم ولا بالكهنة ولا بالأنباء، فمضى إلى عرافة في عين دور (جهة الناصرة) وطلب منها أن تُصعد له صموئيل فأصعدته، فقال له: «شق الرب المملكة من يدك ودفعها إلى صاحبك داود، وغدًا تكون معي أنت وبنوك في القبور.» وأمثل الأقوال في ظهور صموئيل أن الرب سمح بذلك لينذر شاول بهلاكه، وقال ابن سيراخ (فصل ٤٦ عدد ٢٢) في صموئيل: «ومن بعد رقاده تنبأ وأخبر الملك بوفاته، فعاد شاول إلى معسكره كئيبًا مرتاعًا، وتقدم الفلسطينيون إلى يَزْرَعِيل (ذرعين الآن)، وتسعرت نار الحرب وانهزم بنو إسرائيل وشد الفلسطينيون على أثر شاول وبنيه فقتلوا أولاده الثلاثة، وأدرك الرماة بالقسي الأب وأثخنوه بالجراح، فقال لحامل سلاحه: «استل سيفك وأوجئني به؛ لئلا يقلتني هؤلاء.» فلم يشأ حامل سلاحه أن يمد إليه يدًا، فأخذ هو سيفه وسقط عليه فمات، وناح عليه داود مناحته المذكورة في الفصل الأول من سفر الملوك الثاني، وكان ملك شاول أربعين سنة.

(١٤) في داود الملك والنبي

كان داود يحارب العمالقة عندما قتل شاول، ولما عاد ظافرًا صعد إلى الخليل فأتى رجال يهوذا، فأقاموه ملكًا، فلم يكن من إبنير بن نير عم شاول ورئيس جيشه إلا أنه أخذ أشبوشت بن شاول وملكه على سائر بني إسرائيل، فدان له سكان عبر الأردن وكثيرون من أسباط إسرائيل، واستتب له الملك على مريديه سنتين، فأخذ إبنير بن نير رجال أشبوشت، وأتى بهم إلى جبعون (الجب الآن)، فأرسل داود لملتقاهم يواب بن صروية أخته … وكانت عاقبة القتال انهزام إبنير ورجال أشبوشت، واستُؤنف القتال مرات فكان النصر لداود، وانحاز إبنير إلى داود وعاهده بأن يجمع بني إسرائيل إليه وهمَّ بذلك، فشق ذلك على أيوب بن صروية رئيس جيش داود فقتل إبنير؛ لأن إبنير قتل أخاه عشائيل، وغدر بأشبوشت رئيسا غزاة له فقطعا رأسه وأتيا به إلى داود، فأمر داود بقتلهما فقُتلا، وناح داود على إبنير وأشبوشت واستقل بالملك.

وكان باكورة أعمال داود حصاره قلعة صهيون في أورشليم وفتحها، وكان اليبوسيون قد بقوا بها وسماها مدينة داود وزاد في الأبنية والتحصين فيها، وحالف حيرام ملك صور كما مر في كلامنا على الفونيقيين، وخشي الفلسطينيون سطوة داود وشدة بأسه وآثروا الهجوم على الدفاع تداركًا من زيادة صولته، فاجتمعوا في وادي الجبابرة (في جنوب أورشليم على الراجح ويسمى الآن البقعة)، فزحف داود إليهم فانذعروا تاركين ذخائرهم وأصنامهم، على أنهم استأنفوا القتال ثانية مستنجدين بغيرهم من ملوك سورية، فعكف داود عليهم من الوراء وأثار الرب عليهم عاصفًا شديدًا، فتبعهم داود إلى جازر التي هي التخم الفاصل مملكة داود عن مملكة الفلسطينيين، ثم نقل تابوت عهد الرب من يعريم (أبي غوش الآن)، حيث كان وضع بعد رد الفلسطينيين له إلى أورشليم باحتفاءٍ عظيم، ووضعوه في وسط المظلة التي أعدها داود له في قصره، وأقام مرنمين يسبحون الله أمام التابوت في أوقاتٍ عينها ونظم لذلك مزامير، وكان كلام الرب إلى يوناتان النبي أن يقول لداود ليهتم ببناء هيكل له وترى داود يقول لسليمان ابنه (أخبار الأيام الأول فصل ٢٣ عدد ٢): «قد صار إليَّ كلام الرب قائلًا: قد سفكت دماءً كثيرة وباشرت حروبًا عظيمة، فلا تبن أنت لي بيتًا فهو ذا يولد لك ابن هو يبني بيتًا لاسمي.» وكان داود يدخر كل ما يجمع من ذهب وفضة لينفقه ابنه في بناء الهيكل، واستأنف داود الحرب مع الفلسطينيين وأذلهم، وافتتح جت (ذكرين) عاصمتهم وما جاورها، ولما رأى نفسه آمنًا من جهة مجاوريه عبر الأردن بعسكرٍ جرار، فضرب الموآبيين وبدد شملهم وأسر منهم جمًّا غفيرًا، ثم ضرب داود هدد عازر ملك صوبة، وأخذ منه ألفًا وسبعمائة فارس وعشرين ألف راجل وعرقل خيل المركبات، وسمع توعي ملك حماة أن داود بدَّد جنود هدد عازر وآرامي دمشق، فأرسل ابنه يورام إلى داود فوقَّع على معاهدة بينهما، وكان من الجهة الأخرى معاهدًا حيرام والفونيقيين، فأصبح ملك داود شاملًا سورية من الفرات إلى حدود مصر، وأنبأتنا الآثار المصرية أن قد توفرت في تلك المدة الحروب الأهلية في مصر، فجعلت داود في مأمنٍ من سطو المصريين على جنوبي مملكته.

وتوفي في تلك الأثناء ملك بني عمون فخلفه ابنه حنون، فأرسل داود يعزيه متذكرًا أن أباه أحسن إليه عند فراره من وجه شاول، فحسب العمونيون وفد داود جواسيس فردوهم مهانين، وحلقوا نصف لحاهم، واستفاق بنو عمون إلى سوء فعلتهم، وخافوا بطش داود، فاستأجروا آراميي دمشق وسهول البقاع، وبعلبك وغيرهم من جوارهم، فأرسل داود يواب قائد جيشه وجميع الأبطال، واصطلت نار الحرب ما بين الفريقين وانهزم الآراميون والعمونيون، فحرش هدد عازر بين القوم واستدعى رجالًا من الآراميين في عبر الفرات، فرأى داود الأمر يقضي عليه بأن يشهد الحرب بنفسه، فعبر الأردن وزحف إلى الآراميين فانهزموا من وجهه وأهلك منهم سبعمائة مركبة وأربعين ألف فارس، ولما رأى باقي المتألبين جيش هدد عاز قد انكسر ذُعروا وهربوا، وصالحوا داود ودانوا له، وفي السنة التالية أرسل داود يواب ورجال إسرائيل، فدمروا مدن بني عمون وحاصروا ربة عمون، ورجع داود إلى هناك، ففتح المدينة وأخذ تاج ملكها عن رأسه.

وفي أثناء هذه الحرب اقترف داود إثميه الشهيرين: مفاجرته بتشباع امرأة أوريا وتسببه بقتل زوجها، فهذان الإثمان سوَّدا صفحات تاريخ داود، وقد صرف ما بقي من حياته آسفًا باكيًا مستغفرًا الله مكفرًا عن اقترافه لهما، وتشهد لذلك أكثر زبوره، وأرسل الرب إليه تانان يوبخه على صنيعه وينذره بما يجره ذنبه إليه من المصائب؛ وأولها موت الابن الذي ولدت بتشباع من زنائه، ثم خروج إبشالوم ابنه عليه ومحاربته له إلى أن قتل إبيشالوم فوجد عليه كثيرًا، وكانت لداود حروب أخرى مع الفلسطينيين أوجز الكتاب بذكرها (ملوك ثاني فصل ٢١)، ثم أمر داود بإحصاء بني إسرائيل فأغضب الرب بهذا الإحصاء؛ إما لأن مصدره الخيلاء والتكبر؛ وإما لأن غرض داود منه أن يحدث ضريبة على رأس كل رجل، وأرسل الرب جاد النبي إلى داود يذكره بإثمه ويخيره ليختار إحدى ثلاث ضربات: إما الجوع مدة ثلاث سنين، إما الهرب أمام أعدائه ثلاثة أشهر وإما الوباء ثلاثة أيام، فقال داود: خطئت جدًّا واختار الوقوع في يدي الرب؛ لأن مراحمه كثيرة، فأرسل الرب وباءً في إسرائيل، فمات من الشعب سبعون ألف رجل.

قد شاخ داود وطمع أدونيا أحد أبنائه أن يملك مكانه، وعلم ناتان النبي ما ينوي أدونيا، فكلم بتشباع أم سليمان أن تدخل على الملك، فتخبره ما يصنع أدونيا وتذكره بيمينه أن يجلس سليمان ابنها على عرشه، فاستدعى صادوق الحبر وناتان النبي وغيرهما من حاشيته، وعهد بالملك إلى ابنه سليمان ومسحه صادوق الحبر بمزيد الاحتفاء، فهتف جميع الشعب ليحيى الملك سليمان، وسلم داود إلى سليمان رسم هيكل الرب الذي يبنيه وسلم إليه ما كان أعده للنفقة على إنشاء الهيكل، وجمع جميع رؤساء إسرائيل وسليمان، وأوصاهم أن يتقوا الله ويعملوا بسنته، وبعد أن ملك داود أربعين سنة توفاه الله … والقول المسلم به من جمهور العلماء أن داود ملك سنة ١٠٥٥ق.م ومات سنة ١٠١٥، وقد كتب داود الزبور والأظهر أن ليس كلها له، بل بعضها متأخر عن أيامه كالزبور التي ذكر فيها سبي بابل.

(١٥) في سليمان الملك

كان عمر سليمان يوم ملك عشرين سنة، وحاول أدونيا أن يأخذ الملك منه، فجامله سليمان أولًا وعفا عنه، ولما لم ينكف عن مطامعه أرسل فقتله؛ كيلا يواصل إقلاقه الراحة العامة، وعزل أبياتار الحبر عن كهانة الرب؛ لأنه كان محازبًا لأدونيا وقتل يواب لذلك؛ ولأنه كان قد قتل إبنير وعماسا واستتب الملك لسليمان ومات كبار محالفيه، وشاء أن يكون في مأمنٍ من سطو الخارجين، فحالف فرعون ملك مصر وتزوج بابنته وصعد فرعون إلى جازر (تل جازر قريبة من عمواص شرقًا وخلده جنوبًا)، فأخذها وأحرقها وقتل الكنعانيين المقيمين بها ووهبها مهرًا لابنته، وفاق سليمان أباه وجميع ملوك أمته بحكمته، وتعظيم سطوته وغناه وكثرة آثاره وفخامتها، وجدد محالفة أبيه مع حيرام الثاني ملك صور والفونيقيين، وتزوج بابنته وعاونه حيرام على بناء الهيكل بقطعه أخشاب الأرز من لبنان، ونقلها إلى جبيل ثم جعلها أطوافًا في البحر إلى يافا، وبإرساله له عملة لبناء الهيكل وزخرفه، وقد كان إنشاؤه لهذا الهيكل في السنة الرابعة لملكه، وهي السنة الأربعمائة والثمانون لخروج بني إسرائيل من مصر، وهي سنة ١٠١١ أو سنة ١٠٢٠ق.م على قولين هما أظهر من باقي الأقوال، وأما عظمة بناء الهيكل، وفخامة أثاثه وزخرفته وهيئته، فقد ذكرها الكتاب في سفر الملوك الثالث ف٦ فطالعه.

وقد أنشأ سليمان أبنية أخرى في أورشليم وغيرها: ففي أورشليم بنى قصورًا أشهرها القصر المُسمى غابة لبنان لكثرة ما فيه من أخشاب أرز لبنان، وكان مائة ذراع طولًا وخمسين ذراعًا عرضًا وثلاثين سمكًا، وأنشأ بجانبه أروقة وبنى قصرًا آخر لسكناه، ولا جرم أنه كان فسيحًا لكثرة نسائه وحاشيته، وأنشأ دارًا أخرى خصها بامرأته بنت فرعون، وأجرى إلى أورشليم الماء من المحل المعروف ببرك سليمان بقرب منابع البرك المذكورة، وكان يسقي منها خمائل هناك ويجر باقي الماء إلى أورشليم والقناة من برك سليمان إلى أورشليم ما برحت محفوظة، وإن غير صالحة لجلب الماء إليها، وقد أنشأ سليمان أيضًا جنات وفراديس، كما قال في سفر الجامعة (فصل ٢ عدد ٤)، والأظهر أن جنات سليمان هذه كانت في وادي إرطاس، ولم يكتف بجر الماء إلى أورشليم بل أحاطها بأسوارٍ منيعة، وكان أبوه داود قد حصن مدينته، فسور ابنه المدينة كلها، والحجار الضخمة التي في الجنوب الغربي من الحرم هي من بقايا أسوار سليمان.

قد حصن سليمان خارجًا عن أورشليم المدن حاصور (فوق بحيرة الحولة)، ومجدو وهي المسماة الآن لجون وجازر (تل جازر) التي وهبها فرعون لابنته زوجة سليمان وغيرها، وجاء في سفر الملوك الثالث (فصل ٨ عدد ١٨)، وبنى سليمان بعلة وتدمر في البرية، أما تدمر فمعلوم موقعها ورأى سليمان بناءها لازمًا لتأمين طريق الفرات من سطو البدو على المارة والتجار، وإنشاؤه لها من أعظم آيات حكمته، وأما بعلة فذهب بعض المفسرين والجوابين أن المراد بها بعلبك وذهب غيرهم أن المراد بها مدينة غير بعلبك في فلسطين … فبعلة اسم لمدنٍ كثيرة فيها، وقد ورد اسم بعلبك في الآثار المصرية قبل سليمان مسمات ببقعات، والذي نراه أن بعلبك إذا لم يكن سليمان بناها، فقد حصنها وجعلها محطة للتجارة متوسطة بين تدمر وفلسطين، وبنى سليمان أيضًا مدنًا للخزن ومخافر يقيم بها الجنود جنوبًا، ورجمت بالحجارة السوداء كل السبل المؤدية إلى أورشليم.

إن أبنية سليمان هذه كانت تستلزم نفقات وافرة لا تفي بها المكوس والضرائب والهدايا والجزيات، فحذا حذو ملك صور بالاتجار فوضع مكوسًا على سلع التجارة الواردة على مملكته، بل أخذ يزاحم التجار بنقل البضائع إليها من بلاد العرب ومصر وما بين النهرين، وكان يشتري من مصر المركبات والخيل لملوك الحثيين والآراميين، واشترك مع حيرام ملك صور في عمل سفن على البحر الأحمر لنقل سلع بلاد العرب والهند وغيرهما … وكانت هذه السفن تصل إلى أوفير، وهو على الأظهر محل في الهند كانت تنقل منه الذهب والقردة والطاووس وخشب الصندل، وكان لسليمان من هذه التجارة أرباح عظيمة، فعمل خمسمائة مجنب من الذهب، وجعل جميع آنية شربه وآنية بيت غابة لبنان من ذهبٍ خالص، وعبر الكتاب عن الفضة في أورشليم أنها كانت في أيامه مثل الحجارة.

وأتت ملكة سبأ إلى سليمان لتسمع حكمته التي اشتهرت، والأظهر أنها كانت ملكة سبأ في جنوبي بلاد العرب، وربما امتدت سلطتها إلى بعض الحبشة، وأتت هذه الملكة لسليمان بهدايا ثمينة وعظيمة وأمه غيرها من الملوك، وتسامى سليمان على ملوك الأرض بحكمته وغناه، وكان راتعًا وشعبه في بحبوحة الرغد والسلم والترف، فأدى به ذلك إلى الانغماس بالملاذِّ؛ لأنه أحب نساء غريبات كثيرات مع ابنة فرعون من الموآبيين والعمونيين والأدوميين والفونيقيين والحثيين، وغيرهم من الأمم التي نهى الرب بني إسرائيل عن الاختلاط معهم، فأزاغت نساؤه قلبه ووهن عزمه في المحافظة على سنة الله، وحملته نساؤه على عبادة معبوداتهنَّ، وأقام لها معابد في أورشليم، فتجلى له الرب مرتين مؤنبًا له وأثار عليه هدد الأدومي، فكان يسطو على مملكة سليمان ويقلق راحة ساكنيها، ثم رزون بن اليداع الذي كان قائدًا في جيش هدد ملك صوبة، ثم ملك دمشق وكان يسطو على مملكة سليمان أيضًا وسلط عليه فاتنًا من بني إسرائيل، وهو ياربعام بن ناباط من سِبْط أفرائم، ولما أمر سليمان بقتله فر إلى مصر إلى ملكها شيشاق، الذي كان يتوق إلى الاستيلاء على فلسطين، فرحب بيَارُبْعَام وعظم مثواه وأمسكه عنده ليستعين به على افتتاح فلسطين، فبقي عنده إلى وفاة سليمان ومن بعدها رجع إلى اليهودية، وشق مملكة إسرائيل؛ لأن الرب لم يشأ أن يشقها في أيام سليمان إجلالًا لداود أبيه.

قال الكتاب (ملوك ٣ فصل ١١): «وكانت أيام ملك سليمان على كل إسرائيل أربعين سنة، وتوفاه الله وعمره ستون سنة.» وقال الكتاب أيضًا (ملوك ثالث فصل ٤ عدد ٣٢): «وقال سليمان ثلاثة آلاف مثل، وكانت أناشيده ألفًا وخمسة أناشيد، وتكلم في الشجر من الأرز على لبنان إلى الزوفى التي تخرج في الحائط، وتكلم في البهائم والطير والزحافات والسمك.» ولكن لم يبق مما كتبه سليمان إلا سفر الأمثال، وسفر الجامعة المفتتح بقوله: «كلام الجامعة بن داود ملك أورشليم.» وحسب بعضهم أن سليمان كتب هذا السفر بعد اقترافه الإثم توبة إلى الله، وكان لهم ذلك من الأدلة على خلاصه، وأجمع القدماء على أن سفر نشيد الأنشاد هو لسليمان أيضًا وتردد المتأخرون في متابعتهم على ذلك، وعزا بعض القدماء سفر الحكمة أيضًا إلى سليمان، ولا يمكن تحقيق هذه النسبة إليه، والمبحث في خلاصه أو هلاكه معضلة لم تحل إلى اليوم، فالأولى ترك الحكم فيها لله.

(١٦) في قسمة مملكة بني إسرائيل

بعد وفاة سليمان ملك ابنه رَحُبْعَام، ولم يكن يشبه أباه بشيءٍ من حكمته، وكان الشعب يئنون من الضرائب والأثقال التي فرضها سليمان، وقد مر أن ياربعام بن ناباط كان قد ثار على سليمان، وفر من وجهه إلى مصر، فبعد وفاته استدعى ياربعام ذووه، فأسرع إلى نابلس وحمل الشعب على أن يستدعوا رَحُبْعَام إلى هناك ليملكوه باحتفاء، فأرسل خصومه إليه وفدًا رئيسه ياربعام يشكون إليه الأحمال، التي أثقلهم أبوه بها، ويلتمسون تخفيفها، فشاور رَحُبْعَام الفتيان الذين نشئوا معه، وأجاب الوفد أنه سيزيد على نير أبيه، فانفضوا من أمامه مغضبين، وبدلًا من أن يرسل إليهم من يحبهم ليسترضيهم أرسل إليهم أدورام، وكان يثقل عليهم فرجموه بالحجارة فمات، وأسرع الملك بالعود إلى أورشليم وتمرد عليه الأسباط العشرة، وأقاموا ياربعام بن ناباط ملكًا عليهم، ولم يبق لرَحُبْعَام إلا سبطه بنو يهوذا وسبط بنيامين، فانشقت مملكة بني إسرائيل إلى مملكتين: مملكة يهوذا وبنيامين وعاصمتها أورشليم، ومملكة إسرائيل كما سموها وعاصمتها نابلس.

(١٧) في ملوك يهوذا

  • (١)

    رَحُبْعَام بن سليمان: أضيف إلى مملكته اللاويون؛ لأنهم لم يشئوا أن يكهنوا على المذابح التي أقامها ياربعام للأوثان، وحصن بيت لحم والخليل وغيرها، وحمل عليه شيشاق ملك مصر فأخذ في طريقه المدن المحصنة، وزحف إلى أورشليم، فانتهب ما في خزائن بيت الرب وخزائن دار الملك ومجان الذهب التي عملها سليمان، لكنه لم يقرض المملكة بل أقر رَحُبْعَام على عرشه، وتوفي رَحُبْعَام بعد أن ملك ١٧ سنة.

  • (٢)

    أبِيَّا: خلف أباه رَحُبْعَام في الملك في أورشليم وانتشبت الحرب بينه وبين ياربعام ملك إسرائيل، فحشد أبيا عسكرًا كثيفًا، وحشد ياربعام أكثر منه فكان النصر لأبيا وقتل في عسكر ياربعام أكثر من نصفه، وأخذ بعض المدن من مملكته فعز بنو يهوذا وذل مملكة إسرائيل، إلا أن أبيا لم يملك إلا ثلاث سنين ومات ودُفن في مدينة داود.

  • (٣)

    وخلفه ابنه آسا فأحسن المسعى، ونفى جميع أقذار الأصنام وحصن مدنًا كثيرة في مملكته، وبحكمته رتعت رعيته في رياض الأمن والسلم، وخرج عليه زارح الكوشي بألف ألف مقاتل وثلاثمائة مركبة، فنصر الرب آسا على الكوشيين، فشتت شملهم وما انفك يطاردهم إلى جنوبي غزة، وفي زارح، هذه أقوال أظهرها قولان: الأول للانرمان: أنه أزرح ملك الحبشة الذي اجتاح مصر، وعمد إلى أن يجتاح فلسطين، والثاني لشمبوليون وسميت: أن زارح هو أوزركن ملك مصر من الدولة الثانية والعشرين، وخرج بَعْشَا ملك إسرائيل على آسا، فأخذ آسا ذهبًا وفضة من خزائن بيت الرب ودار الملك، وأرسل ذلك إلى ابن هدد ملك دمشق ورغب إليه أن يخرج على أملاك بَعْشَا؛ لينكف عن أملاكه فلبى ابن هدد دعوته، وأرسل جيشًا فاستحوذ على بعض أملاك بَعْشَا، فاضطر أن يرجع للذب عن ملكه، وأرسل الرب حناني الرآي مؤنبًا آسا لاستعانته بملك دمشق على بَعْشَا، فغضب آسا على الرآي وسجنه، واعتل آسا ومات في السنة الحادية والأربعين لملكه، ودفن في مقبرة حفرها لنفسه.

  • (٤)

    وخلفه ابنه يوشافاط وعمره خمس وثلاثون سنة، وسلك في طرق داود جده وأرسل معلمين وتسعة من اللاويين وكاهنين يعلِّمون الشعب، ويحضونه على العمل بسنن الله ومعهم توراة الرب يقرءون بها ويفسرونها للشعب، وقدم له التقادم والهدايا لا رعيته فقط بل الفلسطينيون والعرب أيضًا، ولم يعب يوشافاط إلا بمصاهرته أخاب ملك إسرائيل؛ لأنه اتخذ عَثَلْيا بنته زوجة لابنه يورام، وكان غرض هذا الملك الصالح من ذلك أن يرد أخاب إلى طريق الرب، فكان عكس ما آمل لما تراه من شر عثليا، وخرج الموآبيون والعمونيون والأدوميون على يوشافاط في آخر سني ملكه، فنصره الرب، وقضى أجل يوشافاط بعد أن ملك خمسًا وعشرين سنة ودفن في مدينة داود.

  • (٥)

    وخلفه ابنه يورام وملك في يهوذا سنة في أيام أبيه وسبع سنين بعده، وكان متزوجًا بعثليا بنت أخاب كما مر فسار في طريق بيت أخاب وصنع السوء، ومن الأحداث الهامة في أيامه خروج الأدوميين من سيادة ملك يهوذا، بعد أن كانوا من أيام داود يؤدونهم الجزية والخراج، ومن فظائع هذا الملك أنه قتل إخوته الستة عن آخرهم منقادًا إلى ذلك لمشورة امرأته عثليا، وقد أثار الرب عليه الفلسطينيين والعرب، وزحفوا إلى مملكة يهوذا فافتتحوا مدنها وانتهبوا كل ما وجد من المال في بيت المال، ولكنهم لم يثبتوا في اليهودية، بل قفلوا إلى بلادهم، وضرب الرب يورام بداء عضال في أمعائه، وقضى سنتين في آلامه ومات غير مأسوف عليه ولم يدفن في مقبرة الملوك.

  • (٦)

    وخلفه ابنه أَحَزْيَا وكان عمره اثنتين وعشرين سنة، وملك سنة واحدة وكانت أمه عثليا تدبره، فاستسار في طريق بيت أخاب وكانت من سنة ملكه الحرب بين حزائيل ملك دمشق، وبين يورام خاله، وخرج أَحَزْيَا معه للقتال ولما انكسرا وأمر الرب بمسح ياهو ملكًا على إسرائيل خرج أَحَزْيَا للقائه، ولما رأى ياهو يقتل يورام خاله فر أَحَزْيَا فأمر ياهو أن يرموه، فجرح واستمر هاربًا إلى مجدو (اللجون)، فمات هناك وحملوه فدفنوه في مدينة داود.

  • (٧)

    عثليا: لما رأت أن ابنها قد مات أهلكت جميع النسل الملكي؛ لتستبد هي في الملك، لكن أخذت يوشباع أخت أَحَزْيَا يواش ابن أخيها هو ومرضعًا له وأخفته في مخدعٍ، حيث كان ينام الكهنة في جانب الهيكل، وملكت عثليا ست سنين لا تدري أن يواش حي، ولما كانت السنة السابعة استدعى يواداع رئيس الأحبار رؤساء الجنود، وأراهم يواش ابن الملك، واستحلفهم أن يكتموا السر، وأرسل بعض اللاويين يؤهبون الشعب لتمليكه، ويضربون لهم موعدًا للاجتماع في أورشليم، ولما اجتمعوا أتى بيواش ومسحه، ووضع التاج على رأسه فصفق كل الشعب، وهتفوا ليحيى الملك، وسمعت عثليا فمزقت ثيابها غيظًا وكمدًا، فأمر رئيس الأحبار أن يخرجوها خارج الصفوف، فأخرجوها وقتلوها ودخل الشعب بيت البعل الذي في أورشليم فهدموه، وكان يواداع مدبرًا للملك إلى أن شب يواش.

  • (٨)

    ملك يواش وعمره سبع سنين، واستمر على منصة الملك أربعين سنة، وأحسن المسعى كل الأيام التي كان فيها رئيس الأحبار يرشده، وتبدلت حاله بعد موته؛ لأنه كان واهنًا ضعيف العزيمة، وأقبل عليه بعض الأشرار يغرونه بعبادة الأصنام فمالأهم، ولم تمض سنة إلا وخرج حزائيل ملك دمشق على مملكة يهوذا، فقتل وضرب وهمَّ أن يفتتح أورشليم، فسولت ليواش جبانته أن يأخذ كل نفيس في خزائن الهيكل ودار الملك، وأن يرسله جزية إلى حزائيل فانصرف عن أورشليم، وأرسل في السنة التالية عسكرًا لأخذ الجزية فجيش يواش عسكرًا ينيف أضعافًا على عسكر حزائيل، فانكسر جيش ملك يهوذا أمام أولئك القلائل الذين دخلوا أورشليم، وقتلوا بعض أكابر يهوذا وأخذوه غنائم كبيرة، فلم يحتمل عبيد يواش هذا وتحالفوا عليه وقتلوه، ولم يدفنوه في مقابر الملوك.

  • (٩)

    أَمَصْيَا بن يواش: ملك في أورشليم وعمره خمس وعشرون سنة، واستمر على منصة الملك تسعًا وعشرين سنة، وقتل قاتلي أبيه وعفا عن أولادهم، وقد أزمع أن يُخضع الأدوميين لسلطته بعد أن كانوا نبذوا سلطة يهوذا في عهد يورام، فحشد جيشًا إلى بلاد أدوم، فقتل أَمَصْيَا منهم عشرة آلاف رجل وأسر عشرة آلاف، ثم طرحهم من أعلى صخرة فتحطموا وعاد ظافرًا، وأحضر معه تماثيل آلهة الأدوميين وسجد لها فسخط الرب عليه وأرسل إليه نبيًّا يؤنبه فازدجر النبي وهدده، وأرسل إلى يواش ملك إسرائيل يحرشه للقتال، فصعد عليه ملك إسرائيل فكانت بينهما حرب أفضت إلى مذلة أَمَصْيَا وشعبه، وافتتاح يواش أورشليم ونهبها، وأمسى أَمَصْيَا خاملًا، وتحالف عليه بعض رجاله فهرب إلى لاكيش (أم القيس الآن)، فأرسل المتحالفون رجالًا في أثره فقتلوه، وحمل إلى أورشليم فدفن مع آبائه في مدينة داود.

  • (١٠)

    عَزَرْيَا بن أَمَصْيَا: أخذه الشعب بعد مقتل أبيه، وملكوه وعمره ست عشرة سنة، واستمر على منصة الملك اثنتين وخمسين سنة، وحافظ عَزَرْيَا أولًا على سنة الرب، لكنه لم يزل المشارف وحارب الفلسطينيين واستظهر عليهم، وهدم سورجت (ذكرين) وأسوار يبنة وأشدود، ونصره الرب على العرب وسكان معون (معين)، وحصَّن أورشليم وبنى فيها أبراجًا، وعظمت قوته وادَّعى أن يعمل عمل الكهنة بتقدمة البخور في الهيكل، فمنعه رئيس الكهنة وثمانون كاهنًا، واضطر أن يخرج من الهيكل؛ لأن الرب ضربه بالبرص فاعتزل في بيته، وكان ابنه يوثام يدبر الملك إلى أن مات، ودفنوه في حقل مقبرة الملوك لا في مدافنهم.

  • (١١)

    وخلفه ابنه يوثام ودام ملكه ست عشرة سنة، وأحسن المسعى وأصلح شيئًا في بيت الرب ومات ودفن في مدينة داود.

  • (١٢)

    وخلفه ابنه أحاز وعمره عشرون سنة وملك ست عشرة سنة، واتفق على محاربته رصين ملك آرام وفاقح ملك إسرائيل، فجيشا وحصرا أورشليم فلم يقدرا أن يفتحاها ولا أن يقهرا أحاز، ولكن نكلا بشعب يهوذا، وأخذ رصين جمًّا غفيرًا أسرى إلى دمشق، وقتل فاقح في يوم واحد مائة وعشرين ألفًا من بني يهوذا، وسبى مائتي ألف من النساء والبنين والبنات، ثم أطلق الأسرى لتهديد عوبيد النبي له، فأرسل أحاز إلى تجلت فلاصر ملك آشور يتذلل له ويستنجده، وأخذ ما وجد من الذهب والفضة في بيت الرب ودار الملك، وأرسلها إليه هدية، ولم يصغ لإرشاد إشعيا النبي بالامتناع عن استمداد ملك آشور الذي لبى دعوة أحاز وغشت عساكره سورية، وأخذ بعض مدن فلسطين وصعد إلى دمشق، فأخذها وسبى أهلها وقتل رصين ملكها، هذا ما جاء في الكتاب، وجاءت آثار تجلت فلاصر مصداقًا له بأكثر تفصيل، فكان استنجاد أحاز بملك آشور وبالًا عليه؛ لأنه اضطر أن يسلم إليه بلاده وأن يخضع لسلطته، ويؤدي إليه الجزية، وينصب مذبحًا في هيكل الرب على هيئة مذابح الآراميين، وقدم عليه ضحايا لآلهتهم، فانتقم الله منه بتوفيه، ودُفن في مدينة داود لا في مدفن الملوك.

  • (١٣)

    وخلفه ابنه حَزَقِيَّا وكان عمره خمسًا وعشرين سنة، وملك تسعًا وعشرين سنة، وفي السادسة لملكه أُخذت السامرة وجلا ملك آشور بني إسرائيل إلى بلاده، وانقرضت مملكة إسرائيل، وكان حَزَقِيَّا مستقيمًا متشبهًا بداود جده، وكان أول مهامه وأجلها العناية بأمر الدين، ففتح الهيكل الذي كان مقفلًا في أيام ابنه وحطم الأنصاب، وكسر تماثيل الآلهة الفونيقية، بل اتصل إلى أن سحق الحية النحاسية التي كان موسى قد أقامها في البرية؛ لأن بني إسرائيل كانوا يعبدونها عبادة وثنية خلافًا لأمر الرب، واحتفى بعيد أول فصح وقع في أيامه، فجمع بني إسرائيل إلى أورشليم فعيدوا للرب سبعة أيام بحسب سنته، ومرض حَزَقِيَّا فوافاه إشعيا النبي ينذره بالموت، فصلى إلى الرب وبكى، فأوحى الرب إلى إشعيا أن يعود إليه ويبشره بزيادة خمس عشرة سنة على عمره، وبإنقاذه أورشليم من شر ملك آشور، وحقق له ذلك برجوع الظل إلى الوراء عشر درجات، وجاء في سفر الملوك الرابع (فصل ١ عدد ٧) أن حَزَقِيَّا «تمرد على ملك آشور ولم يتعبد له»، فاحتدم سنحريب غيظًا على حَزَقِيَّا، وزحف بجيوشه إلى سورية، وكانت غزوته هذه سنة ٧٠١، وحاصر مدن يهوذا المحصنة وأخذها، فأرسل حَزَقِيَّا يقول له: «قد خطئت فانصرف عني ومهما تضرب عليَّ أنقده إليك.» فضرب عليه ثلاثمائة قنطار فضة وثلاثين قنطار ذهب، فأرسلها حَزَقِيَّا إليه فلم يرض، بل طلب أن يدخل إلى أورشليم فأبى حَزَقِيَّا الإجابة، وأرسل سنحريب يتهدده فخشع حَزَقِيَّا إلى الرب وشجعه إشعيا النبي، فأرسل الرب في تلك الليلة ملاكه فقتل من آشور مائة وخمسة وثمانين ألفًا، فاضطر سنحريب أن يقفل راجعًا إلى نينوى، فقتله ابناه وجاءت آثار سنحريب مصداقًا لما قاله الكتاب في هذا الشأن.

    ومن آثار الملك حَزَقِيَّا إجراؤه الماء إلى أورشليم في قناة نقرها في الصخر عند حملة سنحريب على أورشليم؛ ليمنع الماء عن الآشوريين ولا يحتاجه أهل أورشليم، وقد كشفت هذه القناة سنة ١٨٨٠ في بركة شيلوحا، ووجِدت خطوط عبرانية بالحروف الفونيقية تثبت ذلك، ثم توفي حَزَقِيَّا وعظم شعبه الاحتفاء بدفنه في مقبرة ملوك يهوذا سنة ٦٩٦ق.م.

  • (١٤)

    وخلفه ابنه منسى وعمره اثنتا عشرة سنة، وملك خمسًا وخمسين سنة في أورشليم، وقد صنع الشر وعبد أصنام الكنعانيين وغيرهم، وازدرى تهديد إشعيا وغيره من الأنبياء، بل اتفق تقليد اليهود وأقوال كثيرين من الآباء والعلماء على أن منسى أمات إشعيا النبي منشورًا بمنشارٍ من خشب، فجلب الرب عليه قواد جيش ملك آشور فأخذوه في الأصداف وأوثقوه بسلسلتين إلى بابل، ولما كان في الضيق التمس وجه الرب، فسمع لتضرعه وردُّوه إلى ملكه (أخبار الأيام ٢ و٢٣)، ويظهر أن منسى بعد عوده إلى ملكه أحسن مسعاه، وأزال التماثيل التي كان قد نصبها لآلهة الأمم، وقدم ذبائح سلامة للرب، وكانت في مدة ملك منسى حملات آسر حدُّون وآشور نيبال على سورية، وقد جاء ذكره في صحائف آسر حدُّون وأشار ابنه آشور نيبال إليه، وكان في أيامه قتل يهوديت أليفانا قائد جيش بختنصر، وتوفي منسى ودفن في بستان بيته.

  • (١٥)

    وخلفه ابنه آمون سنة ٦٤١، وعمره اثنتان وعشرون سنة وملك سنتين فقط، وكان على شاكلة أبيه قبل توبته فإنه عبد الأصنام، فتحالف عليه عبيده وقتلوه في بيته، ودفن بمدفن أبيه وثار الشعب على قاتليه وفتكوا بهم.

  • (١٦)

    وأقاموا مكانه ابنه يُوشِيَّا وعمره ثماني سنين، فملك إحدى وثلاثين سنة وكان ملكًا صالحًا فسار على طرق داود، ولم يعدل عنها يمنة ولا يسرة، فقد أخذ منذ شب يطهر أورشليم وسائر مملكته من المنحوتات والمسبوكات، وينقض مذابح الأوثان وتماثيلها، وعني بترميم ما تهدم في بيت الرب وعهد بذلك إلى حلقيا عظيم الكهنة، وبينما كان يبحث عن الفضة في بيت الرب وجد سفر توراة الرب بخط موسى (ملوك ٣ ف٢٢ وأخبار الأيام ٢ ف٣٤)، وقرائن الحال تثبت أن ما وجد حينئذٍ بخط موسى هو أربعة فصول من الثامن والعشرين إلى الحادي والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع؛ لأن هذه الفصول الأربعة التي أمر موسى أن توضع في جانب تابوت العهد … وهي تشتمل على تهديد الله، ولعنه كل من يخالف سنته وبركاته ووعوده لكل من يعمل بها؛ ولذلك عند تلاوتها على مسمع الملك تأثر كثيرًا؛ لأنه كان يجهل التوراة، وكانت نسخ هذه الأسفار ندرت لا انقطعت عند بني إسرائيل، كما زعم فولتير وغيره من الجاحدين، وبعد تلاوة تلك الفصول عاهد الملك وشعبه الرب أن لا يخلفوا وصاياه بل يحفظوا سنته، وطهَّر يُوشِيَّا السامرة أيضًا من نجاسة الأصنام، فمضى إلى بيت إيل ونقض المذبح والمعبد اللذين أقامهما ياربعام بن ناباط، وأحرق كل ما هناك وأزال جميع المذابح التي كانت في السامرة وذبح كهنتها عليها، ثم عاد إلى أورشليم وأمر جميع بني إسرائيل بعمل فصح فلم يكن مثله فصحًا في أيام القضاة ولا في أيام الملوك.

    وصعد فرعون نكو ملك مصر على ملك آشور، فالتقاه يُوشِيَّا يريد قطع الطريق عليه قيامًا بفرض محالفته لملك آشور، وجاء لقتاله في وادي مجدو (اللجون)، فأصابته سهوم أثخنته فحمله عبيده إلى أورشليم، فمات ودُفن في مقابر آبائه، ونكو مَلِكُ مصر هو نكو الثاني مَلَكَ في مصر من سنة ٦١١ إلى سنة ٦٠٥.

  • (١٧)

    يواحاز بن يُوشِيَّا مَلَّكه الشعب بعد موت أبيه، وكان عمره ثلاثًا وعشرين سنة، وصنع الشر لكنه لم يملك إلا ثلاثة أشهر، فالظاهر أن نكو ملك مصر غضب لتمليكه، وهو الأصغر وإيثاره على أَلِيَاقِيم أخيه وهو الأكبر، وكان ناصحًا لأبيه أن لا يعترض ملك مصر فأرسل فريقًا من جنوده، فكتف يواحاز وأخذه إليه وهو في ربلة، ثم أخذه معه أسيرًا إلى مصر حيث مات.

  • (١٨)

    وأقام نكو أَلِيَاقِيم أخاه ملكًا في أورشليم، وغيَّر اسمه مسميًا إياه يوياقيم، وكان ذلك لسنة ٦٠٧ق.م، وكان عمر يوياقيم خمسًا وعشرين سنة وملك في أورشليم إحدى عشرة سنة وصنع الشر، وكانت باكورة أعماله أنه ضرب ضريبة على الشعب؛ ليفي غرامة فرضها ملك مصر عليهم وأثقل الشعب بضرائب أخرى، وأدخل عليهم نظام التسخير؛ ليقيم أبنية يتفاخر بها واضطهد الأنبياء، ولم ينج إرميا من اضطهاده فإنه أخذ نبواته وألقاها بيده في كانون النار، وعزم أن يقتله وباروك تلميذه ففرا واختبآ وعاود النبي كتابة نبواته، ولما أتى بختنصر ملك بابل إلى سورية المرة الثانية من حملاته على المصريين فتح أورشليم، وأخذ بعض آنية الهيكل وأزمع أن يأخذ الملك يوياقيم أسيرًا إلى بابل، فبدا له أن يبقيه في أورشليم خاضعًا له، لكنه جلا إلى بابل شبان شرفاء مملكته، وكان منهم دانيال وحَنَنْيَا وميشائيل وعَزَرْيَا، وكان ذلك سنة ٦٠٢ق.م، ثم عاد يوياقيم يحاول التملص من الخضوع لبختنصر بإمداد ملك مصر، فهب إليه بختنصر سنة ٥٩٩، ولم يبلغ إلى أورشليم إلا أدركت المنية يوياقيم وقال إرميا (فصل ٢٢ عدد ١٨): «إنه مات غير مأسوف عليه ودفن مهانًا.»

  • (١٩)

    يوخانيا: خلف أباه يوياقيم ولم يقو على الدفاع عن أورشليم، بل أرغم أن يسلم نفسه وأسرته وأمواله إلى ملك بابل، فكان ملكه ثلاثة أشهر وعشرة أيام، وأخذه بختنصر أسيرًا إلى بابل وجلا معه عشرة آلاف من رؤساء أورشليم وكبرائها، ونهب جميع كنوز بيت الرب وبيت الملك، وبقي يوخانيا مسجونًا في بابل سبعًا وثلاثين سنة إلى أن توفي بختنصر.

  • (٢٠)

    أقام بختنصر متنيا عم يوياقيم ملكًا مكانه وسماه صِدْقِيَّا، وكان عمره حينئذٍ إحدى وعشرين سنة وملك إحدى عشرة سنة، وصنع الشر أمام الرب، ولما شُغل بختنصر بمحاربة الماديين اغتنم صِدْقِيَّا وملوك موآب وعمون وأدوم وصور فرصة انشغاله، وحاولوا العود إلى استقلالهم، فأصلح بختنصر شئونه مع الماديين، وهب للانتقام من ملوك سورية وغشيها بعساكره مرة أخرى سنة ٥٩٠ق.م، وقسَّم جحافله قسمين، سيَّر أحدهما إلى صور فحاصرها، وافتتحها كما مر في الكلام على الفونيقيين، وسير الثاني إلى أورشليم، ولما رأى صِدْقِيَّا أن لا قدرة له على مصافتهم في خارج الأسوار دخل المدينة، فحاصرها البابليون شديد الحصار، وكان حفرع ملك مصر قد وعد ملوك سورية أن ينجدهم على بختنصر، فلم يمدهم بشيء يذكر، ودام الحصار على أورشليم ثمانية عشر شهرًا وبرح الجوع بأهلها، فثغروا أحد الأسوار وهرب صِدْقِيَّا ورجال الحرب إلى جهة الأردن، فتتبع الكلدان أثرهم وأدركوا صِدْقِيَّا في صحراء أريحا، وقد أرفض الجمع عنه، فأخذوه وأولاده إلى ملك بابل في ربلة، فذبح بني صِدْقِيَّا أمام عيني أبيهم وفقأ عينيهِ، ثم أوثقه بسلسلةٍ من نحاس وأخذه إلى بابل، وجعله في بيت الحرس إلى مماته، وعاد نابوزردان أمير جيش بختنصر، فأحرق في أورشليم بيت الرب وبيت الملك وبيوت كبرائها، وهدم أسوارها، وانتهب كل آنية الهيكل ولم يتركوا من سكان مملكة يهوذا إلا كرامين وفلاحين، وجعل بختنصر اليهودية ولاية من ولاياته وولى رجلًا اسمه جدليا عليها، فقتله بعضهم وخافوا من الكلدانيين، فارتحل جم غفير ممن لبثوا في اليهودية إلى مصر، وأخذوا إرميا النبي معهم مكرهًا، فأمسى السواد الأعظم من بني إسرائيل في بلاد الكلدان وجماعة في مصر، وبقي الأذلاء في فلسطين، وهكذا انقرضت مملكة يهوذا سنة ٥٨٩ أو سنة ٥٨٧، أو سنة ٥٨٦ على ثلاث روايات، ومدة ملوكها على ما ذكرها الكتاب هي ٢٦٠ سنة إلى انقراض مملكة إسرائيل و١٣٣ سنة إلى الجلاء البابلي، وإذا أضيفت إليها مدة ملك شاول ٤٠ وملك داود ٤٠، وملك سليمان ٤٠ كان مجموع مدة الملوك في إسرائيل من شاول إلى صِدْقِيَّا ٥١٤ سنة.

(١٨) في ملوك بني إسرائيل

  • (١)

    ياربعام بن ناباط: هو الذي كان فاتنًا على سليمان، ثم عني بشق الأسباط العشرة على سبطي يهوذا وبنيامين فملكوه عليهم كما مر، فجدد بناء شخيم (نابلس) وحصَّنها بأسوار وبنى فيها قصرًا وخاف من ذهاب بني إسرائيل إلى أورشليم، فصنع عجلين من ذهب: وأقام أحدهما في بيت إيل (بيت إين الآن)، والثاني في دان (تل القاضي حذا بانياس)، وأقام كهنةً من لفيف الشعب … ولا يظن أن جميع بني إسرائيل عبدوا العجل حينئذٍ، بل استمر جمٌّ غفير يحج إلى أورشليم، وأنذر الرب ياربعام مرات بما تفضي إليه عبادته للأوثان فأصر على شره، وكان محالفًا لملك مصر ويظن أنه هيجه على رَحُبْعَام ملك يهوذا، فحمل على أورشليم، ثم حارب يَارُبْعَامُ أبيا بنَ رَحُبْعَام فانتصر أبيا عليه، وبدَّد شمله كما مر ثم مات ياربعام بعد أن ملك ٢٢ سنة.

  • (٢)

    وخلف ياربعام ابنه ناداب، ولم يبق في الملك إلا سنتين، وبينما كان محاصرًا مدينة جيتون (جيانا الآن في قرب الناصرة) قتله بَعْشَا بن أحيا غيلة.

  • (٣)

    بَعْشَا بن أحيا: من بني يساكر ملك مكان تاداب بعد أن قتله لم يترك ليَارُبْعَام ذا نسمة إلا أهلكه، وخرج على آسا ملك يهوذا فحمل آسا بن هدد ملك دمشق على الخروج على بَعْشَا، فأخذ ابن هدد عدة مدن من شمالي مملكة إسرائيل، وأذل بَعْشَا كما مر، ومات بَعْشَا بعد أن ملك في إسرائيل ٢٣ سنة ودُفن في تِرْصة.

  • (٤)

    أَيْلَة بن بَعْشَا: خلف أباه ولم يدم ملكه في إسرائيل إلا سنتين، فحالف عليه عبده زِمْرِي فقتله.

  • (٥)

    زِمْرِي: ملك مكان أَيْلَة بن بَعْشَا بعد أن قتله وما عتَّم أن قرض ذرية بَعْشَا، ولم يدع منهم ذكرًا، وألحق بهم أقرباءهم وأصدقاءهم لكنه لم يملك إلا سبعة أيام؛ لأن الشعب إذ بلغهم ما عمله أقاموا عُمْرِي الذي كان قائد الجيش المحاصر جيتون المار ذكرها ملكًا عليهم.

  • (٦)

    عُمْرِي: أقامه من كانوا يحاصرون الفلسطينيين بجيتون ملكًا، ومضوا معه فحاصروا زِمْرِي في تِرْصَة ولما فتحوها دخل زِمْرِي قصر الملك فيها فحرقه واحترق به، واستبد عُمْرِي في الملك بعد سنتين من موت زِمْرِي، واستمر على منصته اثنتي عشرة سنة وابتاع جبلًا من رجل اسمه شامر أو سامر، وبنى عليه مدينة سماها السامرة، فصارت عاصمة ملك إسرائيل إلى حين جلاء آشور، وسار عُمْرِي في طريق يَارُبْعَام، وإذ دلف إلى آسا ملك يهوذا فلم تكن بينهما حرب، وحالف إيتوبعل ملك صور ووقَّعا على عهدةٍ بينهما ختمت بزواج أخاب بن عُمْرِي بإيزابل بنة إيتوبعل، ثم مات عُمْرِي ودُفن في السامرة.

  • (٧)

    وخلفه ابنه أخاب وصنع الشر في عيني الرب أكثر من جميع من تقدموه من ملوك بني إسرائيل، فعثا وأفسد مغريًّا بعبادة عجول الذهب، بل بعبادة بعل وعشتروت معبودي الفونيقيين، وكانت إيزابل امرأته تزين له هذه العبادة، وكانت متوقحة تحكمت به وقادته حيث شاءت، فكانت علَّة كفره ومصدر بلاياه، وجعلته يقيم لبعل لا أقل من أربعمائة وخمسين كاهنًا، ولعشتروت أربعمائة كاهن تنفق عليهم هذه الملكة الجائرة وتضطهد كهنة الرب وأنبياءه، فأقام الرب لمناصبتهم جميعًا إيليا النبي، فكان يؤنب أخاب وينذره ويفعل المعجزات إثباتًا لإرسال الرب له وانتقامًا من أعدائه، ومن آياته انحباس المطر ثلاث سنين، وذكر مينندر كاتب تاريخ صور انحباس المطر في أيام إيتوبعل مدات طويلة مصداقًا للكتاب، وتراءى إيليا لأخاب مهددًا منذرًا بسوء المصير، وطلب من أخاب أن يجمع إليه كل إسرائيل إلى جبل الكرمل فاجتمعوا، فقال لهم النبي: إلى متى تعرجون إلى الجانبين؟ إن كان الرب هو الإله فاتبعوه، وإن كان البعل إياه فإياه اعبدوا … فهؤلاء أنبياء البعل أربعمائة وخمسون رجلًا فليؤت لنا بثورين، فليختاروا لهم ثورًا ويجعلوه على الحطب ويضرموا نارًا، وأنا أهيئ الثور الآخر ولا أضع نارًا، وتدعون أنتم باسم آلهتكم وأنا أدعو باسم الرب والذي يجيب بنار هو الإله، فاستحسن جميع الشعب كلامه واختار أنبياء البعل ثورًا وأعدوه، ودعوا باسم البعل من الغداة إلى الظهر فلم يكن مجيب، وكان إيليا يسخر منهم قائلًا: «اصرخوا بأصواتٍ أعلى علَّه في سفر أو نائم فلم تكن حياة لمن ينادون.» وجعل إيليا مذبحًا أحاطه بقناة وأعد عليه الثور، وقال: «املئوا أربع جرار ماء، وصبوا على المذبح وثنوا وثلثوا.» ففعلوا حتى جرى الماء حول المذبح وامتلئت منه القناة، ونادى إيليا باسم الرب فهبطت النار، وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب، ولحست الماء الذي في القناة، فلما رأى الشعب ذلك خروا على وجوههم، وقالوا: «الرب هو الإله.» فقال إيليا: «اقبضوا على أنبياء البعل.» فقبضوا عليهم جميعًا، فأنزلهم إلى نهر قيشون (الذي يصب في شمالي حيفا) وذبحهم بأمر الرب، ثم قال لأخاب: «اصعد فكل واشرب فهو ذا دوي المطر.» فطلعت سحابة صغيرة من البحر وهبت الرياح وجاء مطر عظيم، وقص أخاب على إيزابل كل ما صنعه إيليا فاحتدمت غيظًا، وأقسمت أن تُلحق إيليا بمن قتلهم فاختبأ أربعين يومًا صائمًا، ثم أمره الرب أن يمسح حزائيل ملكًا على آرام وياهو ملكًا على إسرائيل وأَلِيشَاع نبيًّا مكانه؛ لينتقم هؤلاء للرب ممن تركوه وعبدوا الأوثان؛ وليكون من أفلت من سيف حزائيل يقتله ياهو، ومن أفلت من كليهما يقتله أليشاع، وهكذا كان كما ترى.

    وخرج ابن هدد الثاني ملك دمشق على أخاب، ودنوا من السامرة وراعت أخاب كثرة جيوشه، وأمر ابن هدد بإقامة الحصار على السامرة فلم يفتتحها، وعاد في السنة التالية لمحاربة أخاب، وحلت عساكره في أَفِيق (وهي المسماة اليوم الفيك أو الفيق في شمالي بحيرة طبرية)، وخرج أخاب للقائه فاستظهر بنو إسرائيل على الآراميين، وقتلوا منهم مائة ألف رجل وفر ابن هدد مذعورًا، وخرج إلى أخاب طالبًا الأمان فرحَّب به، وأصعده على مركبته وقطع له عهدًا وأطلقه، فالتقاه أحد الأنبياء متنكرًا وقال: «كذا قال الرب بما أنك أطلقت رجلًا قد أبسلته نفسك تكون بدل نفسه وشعبك بدل شعبه.» فعرف أخاب أنه نبي وعاد إلى الناصرة واجمًا قلقًا، وقد أبانت لنا الآثار الآشورية وجهًا لتساهل أخاب لابن هدد، وهو خوف كليهما من ملك آشور ومحالفتهما عليه، فإن سلمناصر الثاني غزا سورية ست مرات، وكتب وقائعه على مسلة من صخرٍ أسود في مائة وتسعين سطرًا، يتبين منها أن أخاب كان حليفًا لابن هدد ملك دمشق في حربه للآشوريين، وذلك مثبت للمعاهدة التي ذكر الكتاب إبرامها، ويتبين منها أيضًا أن سلمناصر في السنة السادسة لملكه غزا سورية، وأذل ملوكها الذين كانوا متحالفين عليه، وعدد جنود هؤلاء الملوك الذين يقاومونه فكان في جملتها ١٢٠٠ مركبة و١٢٠٠ فارس و٢٠٠٠٠ رجل من قبل ابن هدد ملك دمشق و٢٠٠٠ مركبة و١٠٠٠٠ رجل من قبل أخاب ملك إسرائيل.

    ومن شرور أخاب اختلاسه كرْم نابوت الإزراعيلي وقتله مرجومًا بدسائس إيزابل، فظهر له إيليا النبي، وهدده بأن الكلاب تلحس دمه حيث لحست دم نابوت وهدَّد إيزابل بالقتل، وأكل الكلاب لحمها، ولما كانت العهدة التي وقع عليها أخاب وملك دمشق قد انحلت بحرب سلمناصر المشار إليها ولم يقم ابن هدد بما شرط على نفسه من أن يتخلى لأخاب عن بعض المدن منها راموت جلعاد (السلط)، فأراد أخاب أن يستحوذ على هذه المدن، وكان يوشافاط ملك يهوذا عنده، فذهبا معًا لأخذ السلط وباقي المدن من ملك دمشق، فالتقاهما هذا الملك واستعرت نار الحرب وتنكر أخاب، وتقدم إلى ساحة الحرب فأصابه سهم بين الدرع والورك، فقال لمدير مركبته: «أخرجني من الجيش.» … فأخرجه واشتد القتال وأخاب واقف بمركبته، ودمه يسيل ومات في المساء وأخذه إلى السامرة وغسلت مركبته، فلحست الكلاب دمه كما تهدده إيليا النبي.

  • (٨)

    أَحَزْيَا بن أخاب: خلف أباه وكان على شاكلته فقد عبد البعل، وقد مرض فأرسل رسلًا يسأل بَعْلَزَبُوب إله عفرون هل يبرأ؟ فالتقى إيليا رسله وقال لهم: «ألعله ليس إله في إسرائيل حتى تسألوا إله عفرون؛ ولذلك أخبروا ملككم أنه موتًا يموت.» فعاد الرسل وأخبروه بما قيل فأرسل إلى إيليا قائد خمسين، فأهبط الله نارًا من السماء أهلكته مع خمسينه بطلب إيليا، فأرسل الملك قائد خمسين آخر فأنزل إيليا به ما نزل بالقائد الأول، فأرسل الملك قائدًا آخر فتذلل لإيليا فسار معه إلى الملك، وقال له ما قاله لرسله … فمات أَحَزْيَا بعد أن ملك سنتين بعضها في أيام أبيه وبعضها بعد موته، ولم يكن له ابن.

  • (٩)

    يورام بن أخاب: ملك بعد موت أخيه أَحَزْيَا وأزال تمثال البعل الذي صنعه أبوه، لكنه أعاد عبادة العجل التي أدخلها ياربعام بن ناباط، فأثار الرب عليه ميشاع ملك موآب، وأنكر عليه أداء الجزية التي كان هو وأسلافه يقدمونها، واستعان يورام بيوشافاط ملك يهوذا، فأعانه وذهبا معًا إلى الحرب، فنصرهما الرب فهزموا الموآبيين وقتلوا كثيرين منهم وهدموا مذبحهم، وقطعوا أشجارهم وحاصروا الكرك قصبة ملكهم، ولما يئس ملك موآب اعتقد أن كاموش معبودهم ساخط عليهم، فأصعد بكره محرقة له على أسوار المدينة، فخنق بنو إسرائيل من ذلك حنقًا شديدًا وانصرفوا عن المدينة، وبعد هذه الحرب انحاز الأدوميون إلى ميشاع ملك الموآبيين، وخرجوا على يوشافاط ملك يهوذا فدمروا مدنًا في مملكته انتقامًا منه؛ لأنه خرج مع ملك إسرائيل على الموآبيين، وفي سنة ١٨٦٩ كشف كلرمون كانو الإفرنسي عن صفيحة ميشاع الشهيرة، وهي الآن في متحف اللوفر، وما دون عليها يثبت ما جاء في الكتاب عن هذه الحروب إثباتًا علميًّا قاطعًا، وترى ترجتمها في تاريخنا المطول.

    وحاصر ابن هدد الثاني يورام ملك إسرائيل بالسامرة، وضيق عليه فكانت مجاعة عظيمة حتى أكلت بعض النساء أولادهن، فمزق يورام ثيابه وجعل على بدنه مسحًا، وأراد قتل أليشاع النبي؛ لتيقنه أنه كان قادرًا على إزالة هذا الضيق بصلاته ولم يزله، وأرسل رجلًا لقتله فعلم أليشاع بذلك وأخبر به الشيوخ الجالسين معه، وقال: «إذا دخل هذا الرجل فأغلقوا الباب واضغطوه فيه.» وأنبأهم أنه في مثل الساعة يُباع مكيال السَّميذ بمثقال ومكيال الشعير كذلك، وأسمع الرب الآراميين أصوات مراكب وخيل وعسكر جرار، فتوهموا أن ملك إسرائيل استأجر عليهم ملوك الحثيين والمصريين، فهربوا مرتاعين وتركوا كل ما يملكون ثمة، فخرج الشعب وانتهبوا كل ما كان في محلة الآراميين، فتمت نبوة أليشاع ومرض ابن هدد ربما لانخذال جيوشه، وأتى أليشاع دمشق وعرف ابن هدد بقدومه، فأرسل إليه مع وزيره حزائيل هدايا فاخرة؛ ليسأله هل يبرأ الملك؟ فقال له أليشاع: «لن يبرأ.» وأعلم حزائيل أنه سيخلفه وينكل ببني إسرائيل، وعند عوده أخذ دثارًا من مخمل وغمسه بالماء، وبسطه على وجه سيده فمات، وخلفه حزائيل وعاد إلى الحرب مع يورام، فجرح يورام في هذه الحرب واضطر أن يرجع إلى قصره في يَزْرَعِيل، وبقي ياهو رئيس الجيش، فأرسل أليشاع أحد تلاميذه فمسح ياهو ملكًا على إسرائيل، وسار إلى السامرة فالتقاه يورام عند حقل نابوت اليَزْرَعِيلي، فرماه ياهو بسهمٍ أصابه بين ذراعيه ونفذ من قلبه، فقال ياهو لأحد أعوانه: خذه واطرحه في حقل نابوت، فإن الرب جعل هذا الحمل عليه وقد ملك يورام اثنتي عشرة سنة.

  • (١٠)

    ياهو: بعد أن قُتل يورام أتى إلى يَزْرَعِيل، وأمر بطرح إيزابل من طاق قصرها وداستها الخيل، وتُركت مدة بلا دفن فأكلت الكلاب لحمها كما أنذر إيليا، ثم أمر أهل السامرة أن يقتلوا جميع أبناء أخاب، وكانوا سبعين ابنًا فقتلوهم على آخرهم وأرسلوا إليه رءوسهم، ثم قتل هو جميع الباقين من بيت أخاب وعظمائه ومحازيبه وكهنته إتمامًا لأمر الرب؛ وجزاء لإدخالهم عبادة البعل في إسرائيل، وجمع في هيكل بعل الذي أنشأه أخاب بالسامرة جميع عباده فضربهم جنوده بحد السيف، ولم يفلت منهم أحد، وكسروا تمثال بعل وهدموا هيكله وجعلوه مرحاضًا، على أن ياهو ترك عجلي الذهب اللذين أقامهما ياربعام بن ناباط، فعاقبه الله على ذلك بإثارة حزائيل ملك دمشق الحرب عليه، وجاء في الكتاب (ملوك ٤ ف١٠): «وضربهم حزائيل في جميع تخوم إسرائيل.» وأنبأتنا الآثار الآشورية أن ياهو لجأ إلى سلمناصر؛ ليمده على حزائيل ويظهر من آثار هذا الملك أنه حمل على حزائيل، وحاربه في الجبل الشرقي (أنتيلبنان) وبدد جيوشه بعد أن قتل منها ستة عشر ألفًا، وحاصر دمشق وقطع أشجارها، وسار إلى حوران ودمر مدنها وأخذ الجزية من صور وصيدا وياهو ملك إسرائيل، وعلى مسلة نمرود المحفوظة في المتحف البريطاني صورة تمثل سلمناصر تُقدم له الجزيات، وقد كُتب تحت إحداهما: جزية ياهو بن عُمْرِي، ومات ياهو بعد أن ملك في السامرة ٢٨ سنة ودفن فيها.

  • (١١)

    وخلفه ابنه يواحاز: وملك بالسامرة سبع عشرة سنة، وسلك في طرق ياربعام بن ناباط، فغضب الرب على بني إسرائيل، وأرسل عليهم حزائيل ملك دمشق وابنه المعروف بابن هدد الثالث، فأذلاهم حتى لم يبق لملكهم إلا عشرة آلاف راجل وخمسون فارسًا وعشر مركبات، فتاب يواحاز إلى الرب فشفق على بني إسرائيل وأخرجهم من ضيق الآراميين إما بانتصار يواحاز عليهم في بعض المواقع، وإما بانتصار ابنه يواش عليهم كما سيأتي، وقد مات يواحاز بعد أن ملك بالسامرة سبع عشرة نسة.

  • (١٢)

    وخلفه ابنه يواش وملك ست عشرة سنة، وسار في طريق ياربعام بعبادة العجول، وكان على الآراميين في أيامه ابن حزائيل المعروف بابن هدد الثالث وكان واهن القوة جبانًا، فانتصر يواش عليه واسترد أكثر المدن التي أخذت من مملكة إسرائيل، وكان أعظم انتصاراته في وقعة أفيق (هي أفيك الآن في الطريق بين دمشق وأورشليم)، وقد حارب يواش أَمَصْيَا ملك يهوذا فظفر به وأخذه أسيرًا، ثم أطلقه ونهب أورشليم كما مر في الكلام على أَمَصْيَا، ثم مات يواش ودفن بالسامرة.

  • (١٣)

    وخلفه ابنه ياربعام الثاني، واستمر على منصة الملك إحدى وأربعين سنة، وسلك مسلك يَارُبْعَام، على أن الله قيض له نصرًا شفقةً على بني إسرائيل، فحارب ملك دمشق وظهر عليه حتى رد تخوم مملكة إسرائيل من مدخل حماة إلى البحر الميت، واسترد بلاد العمونيين والموآبيين وأنقذ بني إسرائيل الساكنين في شرقي الأردن من ولاية ملك دمشق، والذي ساعده على ذلك حملة بنيرار ملك آشور على سورية وإذلاله ملك دمشق، وأخذه الجزية من ياربعام ثم محالفته له ونجدة ياربعام له في حصار دمشق، كما يظهر من آثار الملك الآشوري المذكور، ومات ياربعام ودفن في السامرة.

  • (١٤)

    وخلفه ابنه زكريا ولم يدم ملكه إلا ستة أشهر، وحالف عليه رجل اسمه شلوم بن يابيش فقتله أمام الشعب.

  • (١٥)

    وملك شلوم مكان زكريا الذي قتله، لكنه لم يملك إلا شهرًا واحدًا وخرج عليه مَنَحِيم بن جَادِي فقتله في السامرة.

  • (١٦)

    وملك منحيم بعد مقتل شلوم، ولما عاد إلى تِرْصَة (بلوزا شرقي السامرة) موطنه أوصد أهلها أبوابها بوجهه، فضربها وأجرى بها من القسوة ما ترتعد منه الفرائص، وأنبأنا الكتاب (ملوك ٤ ف١٥): أن تجلت فلاصر المسمى فول أيضًا حمل على سورية في أيام منحيم، فقدم له أموالًا ضربها على إسرائيل، وآثار تجلت فلاصر مؤيدة مقال الكتاب، فقد عدد في الصحيفة الثالثة من الصحائف الباقية له أسماء الملوك الذين أخذ منهم الجزية … فكان في جملتهم رصين ملك دمشق ومنحيم ملك السامرة وحيرام ملك صور، وملك منحيم عشر سنين وتوفي.

  • (١٧)

    وخلفه ابنه فقحيا وملك سنتين وحالف عليه فاقح بن رمليا أحد قادة جيشه، ودخل عليه بخمسين رجًا فقتله.

  • (١٨)

    وملك فاقح بعد قتل فقحيا عشرين سنة صانعًا السوء، واتفق مع رصين ملك دمشق على أخذ مملكة يهوذا وقسمتها بينهما، فلم يقدرا أن يفتحا أورشليم بل نكلا ببني يهوذا كما مر في الكلام على أحاز، وحالف هوشع على فاقح وقتله وفي آثار تجلت فلاصر أنه هو أمر بقتل فاقح.

  • (١٩)

    هوشع بن أيلة ملك بالسامرة تسع سنين بعد قتل فاقح، وجاء في الكتاب (ملوك ٤ ف١٧): أنه صعد عليه سلمناصر ملك آشور، فكان عبدًا له يؤدي إليه الجزية، ثم اتفق عليه مع سو ملك مصر فقبض عليه ملك آشور وأرسله مكتوفًا إلى السجن، وجاء فحاصر السامرة ثلاث سنين وفتحها وجلا بني إسرائيل إلى آشور، ومن بقي منهم انحازوا إلى إخوانهم في مملكة يهوذا، واستمروا في موطنهم يؤدون الجزية صاغرين، وكان بذلك انقراض مملكة إسرائيل سنة ٧٢٢ق.م واتفقت على هذا التاريخ آيات الكتاب والآثار الآشورية، ولكن لأهل العلم في تاريخ الآشوريين قولان في فاتح السامرة، فمن قائل: إن سلمناصر فتحها، ومن قائل: إنه مات قبل فتحها فأتم ذلك سرغون الذي أقامه الجنود خليفة له، ولسرغون خطوط ترجح أنه الفاتح، وجلا سرغون من بابل وكوت وغيرهما قومًا أسكنهم مكان بني إسرائيل في السامرة، وكان لهم معبودات مختلفة اختلاف موطنهم، فأرسل الرب إليهم أسودًا كانت تقتلهم، فأمر ملك آشور أن يُرسَل إليهم كاهن من كهنة بني إسرائيل؛ ليعلمهم عبادة إله البلاد؛ لئلا تقتلهم الأُسد، فأقام هذا الكاهن ببيت إيل وسلمهم توراة موسى مكتوبة بالحروف الكلدانية، فتسلموها منه وهي باقية عندهم يتفاخرون بها، ولا تختلف عن باقي نسخ التوراة إلا في أمورٍ يسيرة، ففي ذلك بينة قاطعة على صحة التوراة … فكان هؤلاء يعتبرون إله بني إسرائيل ومعبوداتهم، فهؤلاء هم السامريون وقد بقي منهم الآن عدد يسير.

    إذا جُمعت سنو ملوك يهوذا من رَحُبْعَام بن سليمان إلى السنة السادسة من ملك حَزَقِيَّا التي انقضت فيها مملكة إسرائيل كان مجموعها ٢٦٠ سنة، وإذا جُمعت سنو ملوك إسرائيل من ياربعام بن ناباط إلى موت هوشع الذي انقرضت هذه المملكة في أيامه كان مجموعها ٢٤٢ سنة، فقال بعضهم في توفيق هذا الخلاف: إن النُّساخ زادوا الثماني عشرة سنة عند ذكر مدات ولاية ملوك يهوذا، فيلزم حطها، وقال آخرون: إن الملك انقطع في مملكة إسرائيل مرتين: إحداهما بين ملك ياربعام الثاني وملك زكريا مدة نحو إحدى عشرة سنة، والثانية بين ملك فاقح وملك هوشع مدة نحو تسع سنين.

(١٩) جدول من نعرفهم من ملوك الآراميين في دمشق

جاء في الفصل الثامن من سفر الملوك الثاني: ضربَ داودُ هددَ عازر بن رحوب ملك صُوبة، فانتصر عليه ونجده آراميو دمشق فظفر بهم، ففرَّ دزون أحد قواد جيش هدد عازر وملك في دمشق، وصار فاتنًا على سليمان في آخر مدة ملكه، وملك بعده ابنه طَبْرِيمون وكان في أيام ياربعام الأول ملك إسرائيل، وخلفه ابنه المسمى ابن هدد الأول، ومدة ملكه من سنة ٩٥٠ إلى سنة ٩٣٠ وكان في عهد بَعْشَا ملك إسرائيل، وخلف ابن هدد ملك يعرف اسمه من سنة ٩٣٠ إلى ٩١٠ في عهد عُمْرِي ملك إسرائيل.

وخلفه ابن هدد الثاني سنة ٩١٠ إلى سنة ٨٨٦ في أيام أخاب.

حزائيل الأول سنة ٨٨٦ إلى سنة ٨٥٧ في أيام ياهو.

ابن هدد الثالث سنة ٨٥٧ إلى سنة ٨٤٤ في أيام يواحاز.

حزائيل الثاني سنة ٨٤٤ إلى سنة ٨٣٠ في أيام يواش ويوحاز. ابن هدد الرابع سنة ٨٣٠ إلى سنة ٨٠٠ في أيام يواش ويَارُبْعَام ٢ (يشك في وجودهما).

مريحا سنة ٨٠٠ إلى سنة ٧٧٠ في أيام ياربعام ٢.

هدارا سنة ٧٧٠ إلى سنة ٧٥٠ في أيام منحيم.

رصين الثاني سنة ٧٥٠ إلى سنة ٧٣٢ في أيام فاقح.

(٢٠) في حالة بني إسرائيل في السبي

فتح سرغون السامرة وجلا السواد الأعظم من سكان مملكتها إلى بلاد الآشوريين، ثم فتح بختنصر ملك بابل أورشليم ونفى كبراءها، ومعظم رجال مملكتها إلى بلاد الكلدان وفر بعضهم إلى مصر، فكانت إقامة اليهود في هذه البلاد مع ما طبعوا عليه من التقلب والملل في أمر دينهم معثرة كبرى، فترك أكثرهم الرب إلههم ودانوا بما يدين أهل البلاد التي جاءوا إليها، وبقي جمهورٌ منهم يتقي الرب ويتذكر أورشليم والهيكل على أن الله تداركهم بأعظم أنبيائه، فأقام حزقيال ودانيال بين ظهرانيهم يُكثران من النصح والتوبيخ والتهديد لهم، وإرميا استمر في أورشليم ورافق من فر منهم إلى مصر، ولم يتقاعد عن أن يحذر المجلوين من ترك الرب والانخداع بمعبودات البابليين، وإشعيا كان قبل الجلاء، لكنه تنبأ عليه وحذر من معاثره، وأكثر الحث على التشبث بعروة إيمانهم الوثقى.

وامتاز دانيال في بلاد السبي بحكمته كما في فصله دعوى سُوسَنَّة، وتعبيره حُلمي بختنصر ورؤياه بالتنصر ملك بابل، وتقدمه بدولة الفرس، وكشفه عن خديعة كهنة بال، وقتله التنين وإلقاء داريوس له في جب الأسد مكرهًا بمكيدة حاسديه، وإنقاذ الله له من ضرها، وممن امتازوا في بني السبي حننيا وميشائيل وعَزَرْيَا، الذين طرحهم بختنصر في أتون محمى بسبعة أضعاف؛ لعدم سجودهم للتمثال الذي صنعه من ذهب، ونصبه في بقعة دورا بإقليم بابل، فنجاهم الله من لهيب النار بملك أرسله لنجاتهم، ومن السبي أيضًا طوبيا البار من سِبْط نفتالي، وخبره وخبر ابنه مبسوطان في السفر المعروف باسمه.

وقد بقي بنو إسرائيل في هذا السبي سبعين سنة بدؤها سنة ٥٩٨ق.م، إذ أسرَ بختنصر يوخانيا ملك بني إسرائيل وأخذه إلى بابل، وأخذ معه عشرة آلاف من رؤساء أورشليم وكبرائها إلى سنة ٥٢٠، إذ تغلب ملوك الفرس على ملوك بابل، وقرضوا دولتهم وملك قورش الفارسي.

(٢١) عود بني إسرائيل من السبي، وما كان لهم إلى أن ملك إسكندر الكبير

جاء في سفر عزرا (فصل ١) أن قورش ملك الفرس كتب منشورًا في مملكته كلها قائلًا: «إن إله السموات أوصاني بأن أبني له بيتًا في أورشليم، فمن كان منكم من شعبه فإلهه يكون معه وليصعد إلى أورشليم ويبني بيت الرب.» ودنيال كان مقربًا إلى هذا الملك، وكان قد كتب قبل مولده أن الرب سيقيمه ملكًا، ويلهمه رد شعبه إلى أورشليم وبناء الهيكل، فكان قورش قرأ هذا وهمَّ بإتمامه وأمر أن ترد جميع الآنية الذهبية والفضية، التي كان بختنصر قد أخذها من هيكل أورشليم، فدفعت إلى رئيس العائدين من السبي، فعاد زَرُبَّابِل ويشوع بن يوصادق الكاهن، ومعهم اثنان وأربعون ألفًا وثلاثمائة وستون ما خلا العبيد والإماء، فأقاموا بأورشليم وما جاورها، وكان جمٌّ غفير من إخوانهم استمروا هناك فانضموا إلى العائدين، وكانت باكورة أعمالهم الاهتمام ببناء الهيكل في محله الأول، وطلب السامريون أن يشتركوا معهم في بنائه، فأبى زربابل مشاركتهم فطفقوا يقلقونهم في بنائه، ولما مات قورش شكوهم إلى ابنه كمبيس بأنهم يحضون أورشليم، ويريدون أن يعصوا ولم يدفعوا الجزية، فأمر بتوقيفهم عن البنا وعاد زربابل حاكم اليهود بأورشليم يستعطف دارا إلى الإذن بتكملة بناء الهيكل فأذن به، فرجع معه نحو خمسين ألفًا من سِبْط يهوذا وبنيامين سنة ٥٢٠، ثم استأنف زربابل البناء سنة ٥١٨، فكمل سنة ٥١٦ق.م، وعاد بعدئذٍ عزرا بن سرايا من سِبْط هارون يصحبه بعض الكهنة وبعض العامة، فكانت لعذرا الكلمة النافذة في أورشليم في إقامة قضاة وحكام بحسب أمر أَرْتَحْشَسْتَا ملك الفرس له، وكان يحافظ على سُنة موسى، ويأمر وينهى بموجبها، وبحسب أمر الملك، ومن أوامره حظره على بني إسرائيل الزواج بأجنبيات.

واستمر عزرا على ذلك إلى أن وفد إلى أورشليم نَحَمْيَا حاكمًا من لدن أرتحشستا، وكان نحميا هذا من سِبْط يهوذا، وقد ولد في بابل وكان يحن إلى أورشليم موطن آبائه، وكان ساقيًا لأرتحشستا الذي تزوج بأَسْتِير، ولما بلغه سوء حال أورشليم، وأن أسوارها لم تزل مهدمة شكا الأمر إلى الملك، فأرسله حاكمًا إلى أورشليم سنة ٤٤٥، وولاه على قومه، وعنى بإقامة أسوار أورشليم فأتمها بوقتٍ وجيز رغم العراقيل التي كان يوجدها له والي السامرة وغيره، ودشن هذه الأسوار باحتفال، وكان ممن استمروا في بابل مَردْكَاي عم أستير من سِبْط بنيامين التي تزوج بها أَحْشُورُش أحد ملوك الفرس … والأظهر أنه أرتحشستا المعروف بذي اليد الطولى، وقد سمته الترجمة السبعينية أرتحشستا، وخبر أستير مبسوط في السفر المعروف بها، ولم تُنبأنا الأسفار المُنزلة بشيءٍ من أخبار اليهود في المدة التي من موت نحميا إلى ولاية إسكندر الكبير على اليهودية، وهذه المدة هي زهاء مائة سنة، والمعلوم أنهم كانوا خاضعين لملوك الفرس يدبر شئونهم عظماء كهنتهم، ويظهر أنه كان عندهم بعد موت نحميا ندوة شيوخ مؤلفة من سبعين شيخًا، كما كان في أيام موسى، ومنهم قضاة يجلسون في أورشليم يومي الاثنين والخميس للقضاء للشعب.

(٢٢) في أنبياء العبرانيين

وكان الأنبياء في العبرانيين كثيرين، فمنهم: آدم إذ أوحى الله إليه أن يكون مخلِّصٌ من نسل المرأة التي تسحق رأس الحية، ونوح إذ أوحى الله إليه أن المخلص يأتي من نسل سام، وإبراهيم إذ أوحى إليه أن بنسله تتبارك جميع قبائل الأرض، ويعقوب إذ تنبأ أن المسيح يأتي من نسل يهوذا ابنه، وموسى إذ تنبأ أن الرب يقيم لبني إسرائيل نبيًّا مثله من إخوتهم، وداود إذ إن زبوره مفعمة من النبوات على المسيح، وقد عدهم إكليمنضوس الإسكندري خمسة وثلاثين نبيًّا بعد موسى وخمسة قبله، وجعلهم أبيفانيوس ثلاثة وسبعين نبيًّا في العهدين القديم والجديد، والأنبياء الذين كتبت نبواتهم في الأسفار ستة عشر منهم: أربعةٌ كبارٌ وهم إشعيا وإرميا وحزقيال ودانيال، واثنا عشر صغارٌ ستأتي أسماؤهم … وسُمي الكبار كبارًا مراعاة لطول أسفار نبواتهم والصغار صغارًا لوجازة نبواتهم، وهذا جدول يتبين منه زمان كل من الأنبياء وأسماء الملوك الذين تنبئوا في أيامهم:

أسماء الأنبياء سني نبواتهم تقريبًا الملوك الذين كانوا في أيامهم
عوبديا ٨٨٩ إلى ٨٨٤ يورام
يوئيل ٨٧٨ إلى ٨٣٨ يواش
يونان ٨٢٥ إلى ٧٨٤ ياربعام الثاني
عموس ٨٠٩ إلى ٧٨٤ ياربعام الثاني وعوزيا
هوشع ٧٩٠ إلى ٧٢٥ ياربعام وعوزيا إلخ
ميخا ٧٥٨ إلى ٧١٠ يواثام وإحاز وحَزَقِيَّا
إشعيا ٧٥٩ إلى ٦٩٩ عوزيا ويواثام وحَزَقِيَّا ومنسى
نحوم ٦٦٥ إلى ٦٦٩ منسى
صفتيا ٦٢٨ إلى ٦٢٣ يُوشِيَّا
حبقوق ٦٠٩ إلى ٦٠٦ يوياكيم
إرميا ٦٢٥ إلى ٥٨٨ يُوشِيَّا ويوياكيم إلخ
كاتبه باروك ٥٨٣ إلى ٥٨٨ صِدْقِيَّا
حزقيال ٥٩٥ إلى ٥٧٣ يوخانيا والجلا
دانيال ٦٠٤ إلى ٥٣٤ بختنصر ودارا وقورش
حجاي ٥٢٠ إلى ٥٣٤ دارا بن هستاب
زكريا ٥٢٠ إلى ٥٣٤ دارا بن هستاب
ملاخيا ٤٣٣ إلى ٤٢٣ أرتحشستا ذو اليد الطولى

انتهى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤