الفصل السادس

في تاريخ سورية الديني في القرن الثالث

(١) في بطاركية أنطاكية وأساقفة أورشليم

قد استوفينا في تاريخ سورية ذكر كل من اتصل إليه علمنا من بطاركة أنطاكية وأورشليم، وأما في هذا الجزء فنقتصر على ذكر من اشتهر منهم، فممن اشتهروا من بطاركة أنطاكية في القرن الثالث بابيلا الشهير، فإنه مات مغللًا بالقيود، فقد منع والي أنطاكية عن الدخول إلى الكنيسة، فحنق لذلك وقتل كثيرين من المسيحيين، وألحق أسقفهم بهم سنة ٢٥١ وخلفه فابيوس، وروى أوسابيوس أن كرنيليوس الحبر الروماني أنفذ إليه رسالة في شأن من يجحدون الإيمان إبَّان الاضطهاد … وكان من هؤلاء البطاركة في هذا القرن بولس السيمساطي المبتدع ارتقى إلى البطريركية نحو سنة ٢٦٢، وكان همه مصروفًا إلى الغنى والانهماك بالملاذ، وكانت له حظوة كبرى عند زينب ملكة تدمر حتى عهدت إليه بجباية الخراج في ولاية أنطاكية، واتصل إلى ابتداع بدعة زعم فيها أن ابن الله لم يكن من الأزل، بل حل فيه كلمة الله وحكمته عندما ولد، فاجتمع كثيرون من أساقفة أنطاكية لإفحامه وبعد أن أكثروا في البحث معه، وبقي مكابرًا نبذوا ضلاله وأذاعوا أنه مخالف للإيمان، ثم عقد مجمع آخر بأنطاكية، وإذ لم يبرح مصرًّا على غيه حطوه عن مقامه، وخلعوه من البطريركية وأقاموا مكانه دمنوس، فاستعصى بولس في دار البطريركية معتمدًا على حماية زينب له فلجأ الأساقفة إلى الملك أورليان، فحكم أن تكون الدار لمن يحكم بها حبر رومة وأساقفة إيطاليا، فكان ذلك شهادة من ملك وثني لرياسة أحبار رومة.

وقد اشتهر من أساقفة أورشليم (لم يكن الكرسي الأورشليمي في القرون الأولى بطريركيًّا) إسكندر خليفة نرسيس، وروى عنه أوسابيوس (ك٦ من تاريخه ف٢٠) أنه جمع مكتبة بأورشليم أدخل إليها كثيرًا من كتب العلماء، وأنه هو أخذ عنها مادة غزيرة لتآليفه، وأنه كان يتردد إلى أوريجانس؛ ليستمع كلامه وأنه اقتيد إلى محكمة الوالي فجاهر بالإيمان بالمسيح فألقي بالسجن بقيصرية، حيث قضى حبًّا بالإيمان نحو سنة ٢٥٠ وخلفه مازابان، ثم خلف هيميناوس مازابان واشتهر بفضائله، وروى لاكويان أنه شهد المجمعين اللذين عقدا بأنطاكية كبتًا لبولس السيمساطي، ويظهر أنه استمر على كرسي أورشليم من سنة ٢٦٦ إلى سنة ٢٩٨م.

(٢) في المشاهير من أساقفة سورية في القرن الثالث

تيرانيوس أسقف صور عده أوسابيوس من جملة الشهداء الذين قاسوا أعذبة مبرحة في أيام ديوكلتيان وأخيرًا طرحوه بالبحر، ومن أساقفة صور أيضًا متوديوس وألف كتابًا في تفسير سفر التكوين ومقالة في الحرية، وله قصائد نحو عشرة آلاف بيت يرد بها مزاعم برفير الصوري، وبقي من تآليفه مقالة موسومة بعيد العذارى.

ومنهم أناطوليوس أسقف اللاذقية قال فيه أوسابيوس (ك٧ ف٣٢) كان له بلا مراء المحل الأول بين علماء عصرنا في الفلسفة والرياضيات والطبيعيات وغيرها، وقال: قد بقي لنا من تآليفه مقالة في الفصح، ويوم تعييده والمطابقة بين الحسابين القمري والشمسي وعشرة كتب في الحساب والهندسة، فضلًا عما له من الآثار في العلوم المقدسة، ولم يبق منها إلى أيامنا إلا مقالته في الفصح، وصار أسقفًا على اللاذقية سنة ٢٨٠.

وكان منهم زينوبيوس أسقف صيدا نال إكليل الشهادة في أيام ديوكلتيان، وسلوانس أسقف حمص، ونال إكليل الشهادة في أيام مكسيمينيان مطروحًا للوحوش، وسلوانس أسقف غزة وقد عذبه والي فلسطين أعذبة مبرحة طويلة، وأيبوليطرس أسقف بصرى بحوران، وله تآليف كثيرة منها كتاب في الفصح وضع فيه ضوابط ليوم عيده، وكتاب في الأيام الستة التي خلق الله العالم فيها، وكتاب في رد مزاعم مركيون، وكتاب في تفسير نشيد الأنشاد، وبعض فصول في نبوة حزقيال، وكتاب في تفنيد جميع البدع إلى أيامه وغيرها، ونال إكليل الشهادة سنة ٢٣٥، وكان من أساقفة بصرى أيضًا بريل وألف كتبًا تشهد بحذقه، وطول باعه لكنه ابتدع تعليمًا حديثًا مخالفًا للإيمان الكاثوليكي، وهو أن المسيح ابتدأ يكون إلهًا بعد ولادته من العذراء؛ لأن الأب كان حالًّا فيه حلوله في الأنبيا، فقصده أوريجانس وبيَّن له متلطفًا فساد تعليمه، وفند مذهبه بالحجج القاطعة، فارعوى عن غيه معترفًا بالإيمان القويم، وعُقد مجمع لذلك ببصرى سنة ٢٤٧ أو سنة ٢٤٩.

(٣) في المشاهير بسورية غير الأساقفة

أشهرهم أوريجانس ولد بالإسكندرية، لكنه توطن بسورية وتوفي بصور وانكب على العلم مذ صبوته، وكان أستاذه إكليمنضوس الإسكندري، وخلف أستاذه في تدبير شئون مدرسة الإسكندرية، وكان هائمًا بحب الدين ونيل إكليل الشهادة حتى اتصلت أمه يومًا ما إلى انتزاع ثيابه عنه؛ كيلا يمضي فيشترك مع أبيه في العذاب من أجل الإيمان، وكان شديد الحرص على عفته حتى خصى نفسه؛ لئلا يرشقه حساده بنبال طعنهم مفسرًا بالمعنى الحقيقي قول المخلص: «خصيان خصوا نفوسهم.» وهو بالمعنى المجازي، ولم ير نفسه في مأمنٍ من غيظ الوثنيين في الإسكندرية، فهاجر إلى فلسطين فقبله إسكندر أسقف أورشليم مرحبًا به وقدره أسقف قيصرية حق قدره، فرقاه إلى درجة الكهنوت، فاعترض على ترقيته ديمتريوس بطريرك الإسكندرية محتجًّا بخصاء نفسه، وقد ذكر في رسائله وخطبه أنه عانى أعذبة أليمة مبرحة في اضطهاد داكيوس، وروى إبيفان (في بدعة ٦٤) أنه نجا من العذاب بتقديمه بخورًا للأصنام، وأنكر بعض المحققين صحة هذا الخبر، وقالوا: إن هذه الحكاية مدخلة على كلام إبيفان، وقد اختلف الآباء والعلماء في صحة ليان أوريجانس، فحكم بعضهم عليه بضلال وبرأ ساحته منه غيرهم، والذي عليه المعول أن بعض كتبه تضمنت أغلاطًا مخالفة للإيمان أخصها أن النفوس خلقت قبل الأجساد، وأن الشياطين والهالكين سوف ينتفعون من آلام المخلص ثانية لأجلهم، وأن عذاب الهالكين وسعادة الطوباويين ليسا بخالدين، فهذه الأغلاط قد حرمها الأحبار الأعظمون والمجامع، وأما شخصه فلم يحرم ولم تحكم الكنيسة حكمًا باتًّا أهالك هو أم خالص؟ لأنه كان يخضع ما يكتبه لحكم الكنيسة.

وأما ما كتبه نادرة عصره هذا فكثيرٌ نذكر بعضه، فقد نشر الأسفار المقدسة أولًا من أربع ترجمات السبعينية، وترجمات إكويلا وسيماخوس وتيودوسيون، وأذاع نسخة أخرى زاد فيها على الأولى ترجمة وجدت ببلاد اليونان، وأخرى بمحلٍّ آخر، ثم زاد على النسخة الثانية ترجمة وجدت بأريحا، وأضاف في أولها النص العبراني، وفسر أكثر الأسفار المقدسة، وله كتاب في المبادئ وكتابان في القيامة وعشرة كتب في موضوعات مختلفة سماها اللفيف، وثمانية كتب في رد مزاعم شلسيوس الفيلسوف، ورسائل لا تعد وأعمال مجمع بصرى وجداله مع بريل المار ذكره وغيرها، وتعزى إليه كتب أخرى لم يتفق المؤرخون على صحة نسبتها إليه، وقد توفي سنة ٢٥٥ وعمره سبعون سنة.

ومنهم بمفيل الشهيد ولد ببيروت، وانكب على العلوم فيها وصار واليًا عليها ثم ترك كل ذلك وتفرغ لدرس الأسفار المقدسة، ثم مضى إلى الإسكندرية ويقال: إنه خلف أوريجانس في تدبير مدرستها، ثم سار إلى قيصرية فلسطين وأنشأ فيها مدرسة، وصرح أوسابيوس بأنه كان حينئذٍ كاهنًا، وكان خطيبًا مصقعًا وفيلسوفًا حقًّا بسيرته وعلومه وأعماله، وأفرد أوسابيوس ثلاثة كتب برمتها للكلام في علومه وفضائله واستشهاده، وأنشأ بقيصرية أيضًا مكتبة اشتملت على ثلاثين ألف كتاب، وقد قبض عليه والي فلسطين مع اثني عشر رجلًا، وسجنهم مدة طويلة وأجرى عليهم أعذبة متنوعة، ورآهم مبتهجين بما يقاسون فأشخصهم إليه، وقال لهم: «أما تطيعون أمر الملك بعد هذا العقاب؟» فأجابوا: «الموت أولى بنا.» فأمر بقتلهم وعلقوا بمفيل على خشبة، وأضرموا النار عليه فبش وهش واستغاث بيسوع، وأسلم روحه القدوسة سنة ٣٠٩، وله من التآليف كتاب في تفسير أعمال الرسل، وكتاب في المدافعة عن أوريجانس ألفه بالاشتراك مع أوسابيوس.

ومنهم دوروتاوس وكان كاهنًا بأنطاكية علامة أتقن اللغة العبرانية ومهر بها، وكان من أشراف أنطاكية وأقامه الملك قهرمانًا على أملاكه بصور، فقضى هناك شهيدًا وسماه بعضهم صوريًّا … هذا رأي بارونيوس في حواشيه على السنكسار الروماني وتعقبه بعضهم.

ومنهم مالكيون وكان كاهنًا بارعًا وخطيبًا مصقعًا بأنطاكية، واشتهر بجداله مع بولس السيمساطي وإفحامه بضلاله، ويعيِّد له الروم في ٢٨ من تشرين الأول.

ويحصى من عداد هؤلاء المشاهير كثيرون من الشهداء السوريين نالوا أكاليل الشهادة في مدن سورية منهم في طرابلس لونفيان ومتروبيوس وبولس، وغيرهم في أيام ديوكلتيان، وفي أباميا القديسان إسكندر وغايوس في أيام أنطونينوس، ثم مكسيموس في أيام ديوكلتيان، وفي دمشق سابينوس ويوليانوس مع غيرهم على عهد داكيوس، وفي بيروت القديسة مرشيانا في عهد ديوكلتيان … وخلف لنا أوسابيوس القيصري كتابًا في شهداء فلسطين يشتمل على ثلاثة عشر فصلًا، وكل فصل على ذكر عدة شهداء، نقتصر على هذا طلبًا للإيجاز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤