الفصل الأول

تتمة تاريخ سورية الدنيوي في القرن السابع

(١) في فتح العرب المسلمين سورية

في سنة ٦٣٣ أخذ العرب المسلمون يشنون الغارة على سورية، وكان الخليفة حينئذٍ أبا بكر الصديق، فبعث جيشًا أمَّر عليه أسامة، وأغار على ناحية البلقاء فسبى، وغنم فتهايج العرب برؤية هذه الغنائم لفتح سورية، وتألب جمٌّ غفير منهم، وأمَّر أبو بكر أبا عبيدة عليهم، وأمده بخالد بن الوليد وبعث عمرًا ابن العاص إلى فلسطين، ولما علم هرقل ملك الروم بذلك أتى إلى دمشق، وبعث سرجيوس والي قيصرية بخمسة آلاف جندي ليوقف العرب عن المسير، فسحقوا جنوده القلائل وأخذوه أسيرًا وحاصروا اليرموك، وكان عسكر المسلمين نحو أربعين ألفًا وجيش هناك هرقل نحو مائتي ألف، وبعد وقائع شهيرة استظهر المسلمون وتبدد عسكر الروم، وأتى الغزاة فحاصروا دمشق، فجمع هرقل كل الحامية التي كانت في مدن سورية، وأمَّر على هذا الجيش أخاه توادورس فبدد شمله الغزاة المسلمون، وشددوا الحصار على دمشق وقوادهم أبو عبيدة وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص، فخرج أهل دمشق وبذلوا الصلح لأبي عبيدة، وفتحوا له الباب فأمَّنهم، ولكن دخل خالد بن الوليد من جهةٍ أخرى عنوةً والتقيا في وسط المدينة، فخير أبو عبيدة أهل المدينة أن يبقوا فيها مسلمين، أو أن يؤدوا الجزية صاغرين أو يرتحلوا عنها في مدة ثلاثة أيام، فارتحل بعضهم وأقام بعضهم …

وكان فتح دمشق سنة ٦٣٥ في خلافة عمر بن الخطاب، ومضى أبو عبيدة بجيشه إلى حمص فاستسلم أهلها إليه وأدوه الجزية، وكذلك فعل أهل حماة وقنسرين وبعلبك، وكان الغزاة يعاملون الأهلين بالرفق واللين حتى خلع أهل بعض الأعمال ولاتهم، واستسلموا إلى الظافرين، ومضى جيش المسلمين إلى أورشليم سنة ٦٢٦ فحاصروها ودام الحصار نحوًا من أربعة أشهر، ولما لم يرَ الأهلون من منجدٍ عولوا على التسليم، وشرطوا أن يكون على يد الخليفة عمر بن الخطاب فأتى متواضعًا مستصغرًا، وكان بطريرك أورشليم حينئذٍ صفرونيوس اللبناني، فأحبه الخليفة وأبرم معه شرائط الصلح التي كانت مثالًا لكل صلح جرى بعده، ودخل الخليفة بعد التوقيع على شرائط الصلح إلى المدينة وطاف في الكنائس وبجانبه البطريرك صفرونيوس، وحان وقت الصلاة في كنيسة القبر المقدس، فخرج منها الخليفة وصلى خارجًا، فسأله البطريرك لِمَ لم يصلِ في الكنيسة؟ فأجابه: «لئلا يأتي المسلمون بعدي ويقولون: هنا صلى عمر ويأخذون كنيستكم.» واختار محل هيكل سليمان وبنى فيه جامعًا للمسلمين، وهو المعروف بالجامع الأقصى.

وقسَّم عمر سورية إلى قسمين، فولى أبا عبيدة على كل البلاد التي بين حوران وحلب، وأمره بتكملة الفتح، وولى يزيد على فلسطين وشواطئ البحر … وأعد عمرًا ابن العاص لغزوة مصر بعد فتح سورية فاستحوذ جنوده على السامرة ونابلس واللد ويافا، وسائر مدن فلسطين، ثم جمع يزيد وأبو عبيدة جنودهم، ومضوا لحصار حلب فخرجت حاميتها فهزمهم العرب، فراسل الأهلون يزيد وأبا عبيدة واستسلموا إليهما، فقتل الوالي كثيرًا من الأهلين، وعزم أن يحارب المسلمين، فوفد حينئذٍ خالد بن الوليد فهاجم المدينة، وافتتحها وحصر الوالي والحامية في قلعة حلب، فاستمروا يدافعون أربعة أشهر، فأسلم الوالي وكثيرون من الجنود، ثم أخذوا قلعة عزاز وزحفوا إلى أنطاكية فخرج واليها للقائهم وتسعرت نار الحرب، فظهر جيش المسلمين عليه وقتلوا من جنوده كثيرين وتشتت الباقون واستحوذ المسلمون على المدينة، ولم يبقَ من مدن سورية الحصينة إلا قيصرية فلسطين، فسار إليه عمرو بن العاص بجيشٍ كثيف، وكان قسطنطين بن هرقل بأسطول في مرفئها وأحب أن يقابل أمير جيش المسلمين، فأجابه عمرو إلى ذلك وقال له: «لكم وسيلتان للنجاة: إما أن تسلموا وإما أن تخضعوا وتؤدوا الجزية.» فقالوا: «نحن في غنى عنهما.» فأجابهم: «الحرب إذًا فاصلة.» وحمي وطيسها، فذعر الروم وانسل قسطنطين إلى سفنه وأقلع بها إلى القسطنطينية.

وسار أبو عبيدة إلى اللاذقية ففتحها عنوة، وفتح جبلة وطرطوس، وسار يزيد بن أبي سفيان ففتح صيدا وبيروت وجبيل وعرقا فتحًا يسيرًا، وجلا كثيرًا من أهلها، على أن الروم غلبوا على بعض هذه السواحل في آخر خلافة عمر فقصدهم معاوية ففتحها ورمها وشحنها بالمقاتلة، وعلى هذا النحو استحوذ الخلفاء على أكثر مدن سورية من سنة ٦٣٣ إلى سنة ٦٣٨، وعلى قول بعضهم إلى سنة ٦٤٢، ولم نرَ في تواريخهم أنهم استحوذوا على لبنان أو حاربوا فيه … فالظاهر أن صعوبة مسالكه وقلة النفع من أرضه أو التجارة فيه أوقفتهم عن الاستحواذ عليه، وروى السمعاني في مكتبة الناموس أنهم ولوا عليه بعد الفتح واليًا مسيحيًّا.

(٢) في خلاصة ما كان بسورية في أيام الخلفاء الراشدين إلى خلافة معاوية

إن الخلفاء الرشدين هم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، ففي أيام أبي بكر الصديق الذي توفي سنة ٦٣٥، وعمر بن الخطاب كان فتح المدن المار ذكرها، وفي آخر خلافة عمر ولى على الشام معاوية بن أبي سفيان، فوجه معاويةُ سفيانَ بن مجيب الأزدي إلى طرابلس، وبنى مرجها على أميال منها حصنًا سماه حصن سفيان، فكتب أهل طرابلس إلى ملك الروم يسألونه أن يمدهم، أو يبعث إليهم بمراكب يهربون فيها إلى بلاد الروم، فوجه إليهم بمراكب كثيرة فهربوا بها، وكان مقتل عمر بن الخطاب سنة ٦٤٥ قتله رجل اسمه فيروز وكنيته أبو لؤلؤة.

وبُويع عثمان بن عفان في الخلافة بعد عمر بن الخطاب، فضم ولاية سورية كلها إلى معاوية والي دمشق، فافتتح معاوية قبرس سنة ٥٠ أو ما بعدها إلى سنة ٥٤، ثم فتح جزيرة أرواد وأخرب مدينتها … ومما كان في أيامه الاعتماد على نسخةٍ من القرآن كانت مودعة عند حفصة زوجة النبي، وحرق باقي المصاحف التي بأيدي الناس، وفي سنة ٦٥٦ تألب جماعة على عثمان وحصروه في داره فقتلوه وكان المصحف بيده.

وقام بالخلافة بعد عثمان علي بن أبي طالب ابن عم النبي وصهره زوج ابنته فاطمة، ومما كان بسورية في أيامه أن اتفق عمرو بن العاص ومعاوية والي سورية على قتال علي بن أبي طالب، والتقى جيشهما بجيش علي في محل يسمى صفين في أطراف سوريا قريبًا من الفرات سنة ٦٥٨، وطالت المراسلات بين علي ومعاوية، فلم ينتظر الأمر بينهما فكانت بينهما وقعات كثيرة حتى قيل: إنها تسعون وقعة، وأن عدة القتلى من أهل سورية خمسة وأربعون ألفًا، ومن أهل العراق الذين كانوا مع علي خمسة وعشرون ألفًا، إلى أن رفع أصحاب معاوية المصاحف على الرماح وقالوا لأعدائهم: «هذا كتاب الله بيننا وبينكم.» فألح أصحاب علي عليه أن ينصِّبوا حَكمًا ما بين الفريقين يفصل الخلاف بما في كتاب الله، واختار علي أبا موسى الأشعري، واختار معاوية عمرًا ابن العاص، فاجتمع الحكمان وقررا أن يخلعا عليًّا ومعاوية معًا، وأن يكون الأمر شورى بين المسلمين، ثم أقبلا على الناس وقد اجتمعوا فكلف عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري أن يبدأ في الكلام، فقال: «اتفقنا أن نخلع عليًّا ومعاوية ونولي هذه الأمة من أحبوا.» ثم قام مكانه عمرو بن العاص فقال: «إن أبا موسى قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلعه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية.» فقال له أبو موسى: «ما لك لا وفقك الله غدرت وفجرت.» وفر إلى مكة حياءً من الناس، وانصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية، فسلموا عليه بالخلافة، ومن ذلك الوقت أخذ أمر علي بالضعف وأمر معاوية في القوة، وكانت بينهما حروب انتهت سنة ٦٦١ بمقتل علي بن أبي طالب بمؤامرة ثلاثة رجال من الخوارج.

ومن بعد مقتل علي بايع أصحابه ابنه الحسن بالخلافة، وقالوا: «إن أبا بكر لما رأى الرسول محتضرًا أرسل إليه عليًّا يقول: لمن الخلافة من بعدك يا رسول الله؟ فقال: للسائل»، فقال أصحاب علي: «إنما السائل من سأل فعلًا وهو علي»، وأثبتوا خلافته وأنكروا صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وأن الخليفة بعد موت علي هو ابنه الحسن ثم ابنه الحسين، وسُمي هؤلاء الشيعيين ويسمون الآن المتاولة؛ لأنهم توالوا عليًّا وأهل بيته، وكانت أخص منازلهم في العراق وفارس، وانفصلوا عن معاوية الذي بُويع بالخلافة بعد مقتل علي في سورية ومصر وإفريقيا وبلاد العرب وغيرها.

(٣) في ما كان بسورية في خلافة معاوية

معاوية هو ابن صخر بن حرب بن أمية استعمله عمر بن الخطاب على دمشق، ثم ولاه عثمان على سائر أعمال سورية ثم بويع بالخلافة بعد مقتل علي كما مر، وبه ابتدأت سلسلة خلفاء بني أمية في سورية وعددهم أربعة عشر خليفة ومدة خلافتهم نحو من تسعين سنة، وأهم الأحداث في أيام معاوية تسليم الحسن بن علي الأمر إليه، بعد أن بايعه أصحاب أبيه بالخلافة؛ لأنه رأى رجاله غير كفوٍ لمناوأة معاوية، وفي سنة ٦٦٩ أرسل جيشًا كثيفًا مع سفيان بن عوف فحاصر القسطنطينية، وعن ابن خلدون أن هذه الحملة كانت سنة ٦٧١، ثم نجده معاوية بعسكر أمَّر عليه ابنه يزيد فلم يظفروا بفتح القسطنطينية بل عادوا إلى سورية، وكان في أيامه سطو المردة على سواحل سورية من اليهودية إلى جهات أنطاكية، فصالح معاوية ملك الروم على شرط أن يمنع سطو هؤلاء المردة … وسوف نذكر أمر هؤلاء في الكلام على عبد الملك بن مروان، وتُوفي معاوية سنة ٦٧٥.

(٤) في ما كان بسورية في أيام يزيد بن معاوية وابنه معاوية الثاني

بُويع يزيد بالخلافة لما مات أبوه، وتردد الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير في الإقرار بالخلافة له، وكاتب أهل الكوفة الحسين بن علي بالمسير إليهم ليبايعوه، فأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل نيابة عنه فبايع الحسين نحو ثلاثين ألفًا، وحاصروا عبيد الله الوالي بالكوفة في قصره فانتصر عليهم هذا الوالي وقبض على مسلم المذكور وقتله، وسار الحسين إلى الكوفة ولم يكن معه إلا اثنان وثلاثون فارسًا وأربعون رجلًا، فقتله عبيد الله وأما عبد الله بن الزبير فاستمر في مكة ممتنعًا عن الدخول في طاعة يزيد، فجهز يزيد جيشًا أمَّر عليه مسلمًا ابن عقبه فقاتل أهل المدينة، وسار إلى مكة فداهمته المنية، فأقام على الجيش مقامه الحصين بن نمير وبقي محاصرًا ابن الزبير حتى بلغهم نعي يزيد بن معاوية، فارتحل الحصين راجعًا إلى الشام، وكانت وفاة يزيد سنة ٦٨٤.

وبعد وفاته بُويع ابنه معاوية الثاني بالخلافة، ولكن لم تكن مدة خلافته إلا ثلاثة أشهر، وبايع أهل مكة عبد الله بن الزبير، وكان مروان بن الحكم من بني أمية بالمدينة وتوجه إلى الشام، فبايعه الناس بالخلافة، وتابع أهل البصرى والعراق والحجاز واليمن ابن الزبير، وتابعه سرًّا الضحاك بن قيس والنعمان بن بشير الأنصاري في حمص، فصارت الناس بسورية فرقتين اليمنية مع مروان والقيسية مع الضحاك بن قيس، والتقى الفريقان بمرج راهط في غوطة دمشق واقتتلوا قتالًا شديدًا، وكانت الكرة على الضحاك والقيسية، وقتل الضحاك وانهزم محازبوه وأصحابه، فدانت أعمال سورية كلها لمروان، ثم مضى إلى مصر وبايعه أهلها، وبعث ابن الزبير أخاه مصعبًا في جيش، فأرسل إليه مروان عمرًا ابن سعيد فمنعه عن الدخول إلى سورية، فانهزم بجيشه واستقر مروان بدمشق، واستتب له الأمر في سورية ومصر، وبقي ابن الزبير في العراق والحجاز واليمين، وكان ذلك سنة ٦٨٥، ولكن لم تكن خلافة مروان إلا تسعة أشهر، وتوفي سنة ٦٨٥ نفسها.

(٥) في ما كان بسورية في أيام عبد الملك بن مروان

بُويع عبد الملك بالخلافة سنة ٦٨٥ بعد موت أبيه، وهو أول من ضرب الدنانير والدراهم في سكة الإسلام، وكتب عليها آي القرآن وضرب بمدينة كذا والتاريخ، ومن أهم الأحداث في أيامه عزمه أن يستريح من ابن الزبير الخليفة في مكة، وأن يستبد بالخلافة على الأمة كلها، فتجهز سنة ٦٩١ وسار إلى العراق، وكان فيها مصعب بن الزبير أخو الخليفة في مكة فاقتتل الجمعان، وتخلى أهل العراق عن مصعب الذي قاتل حتى قُتل هو وولده واستوثق ملك العراقين لعبد الملك، ثم جهز سنة ٦٩٢ جيشًا أمَّر عليه الحجاج بن يوسف الثقفي لقتال عبد الله بن الزبير في مكة، فكانت وقعات بين الفريقين حتى حصر الحجاج بن الزبير بمكة، ودام الحصار سبعة أشهر حتى قُتل ابن الزبير سنة ٦٩٣، وبعد مقتله بويع لعبد الملك بالحجاز واليمن، واجتمع الناس على طاعته.

وروى توافان المؤرِّخ الرومي ما تابعه عليه شدرانس وزنرلس، وإنسطاس المكتبي وبولس الشماس وغيرهم، وهو أنه كان في أيام معاوية شعب يسمونه المردة تمردوا على العرب، وتوافرت غزواتهم حول لبنان حتى ضبطوا كل ما كان من الجليل إلى أنطاكية، فاضطر معاوية أن يرسل وفدًا إلى قسطنطين اللحياني ملك الروم يطلب الصلح على شريطة أن ملك الروم يمنع المردة عن غزواتهم، ويدفع العرب له كل سنة مبلغًا من المال وعددًا من الخيل الجياد، فأبرم الصلح إلى ثلاثين سنة، وذكر المؤرخون المذكورون أن المردة المذكورين استمروا على سطوهم، وغزواتهم إلى أيام الخليفة عبد الملك ويوستنيانس الثاني ابن قسطنطين المذكور، فأرسل عبد الملك رسلًا إلى يوستنيانس في تجديد الصلح، فاتفقا على كبت المردة، ويدفع العرب إلى الروم في مقابلة ذلك مبالغ من المال وخيلًا جيادًا وعبيدًا، وأرسل يوستنيانس قائدًا من قواده، فأبعد اثني عشر ألفًا من هؤلاء المردة، وأقامهم في بمفيليا فهذا ما رواه المؤرخون المذكورون.

وقرائن الحال والتقليد العام في طائفتنا الذي أثبته علماؤنا، ولا سيما العلامتان البطريرك الدويهي ويوسف سمعان السمعاني أن ليس هؤلاء المردة إلا الموارنة، الذين كانوا منبثين في تلك الأيام في جبل لبنان، وبعض فلسطين وفي سهول حمص وحماة إلى جبل اللكام وأنطاكية، ووافق علمانا على ذلك كثير من مشاهير المؤلفين الغربيين كبارونيوس ونطاليس إسكندر وغيرهم، بل أيد ذلك ابن العبري العالم الشهير اليعقوبي المخالف للموارنة، وذكره بعض مؤرخي العرب أنفسهم، منهم البلاذري الذي ذكر الصلحين اللذين عقدا بين معاوية وقسطنطين وبين عبد الملك ويوستنيانس … على أنه سمى هؤلاء المردة جراجمة نسبة إلى جرجومة في جبل اللكام لاشتراك الجراجمة أي: أهل جبل اللكام مع الموارنة في هذه الغزوات؛ لأنهم كانوا على مذهب الموارنة، بل إن القديس يوحنا مارون أول بطريرك على الموارنة كان من سروم في جبل اللكام، وكان له ابن أخت يسمى الأمير إبراهيم، وفي تقليداتنا الموثوق بها أنه جمع جيشًا من جبل اللكام، وسار به للمدافعة عن خاله الذي كان مطران البترون، ثم صير بطريركًا على الطائفة سنة ٦٨٥، وعليه فالظاهر بلا تكلف أن الموارنة الذين كانوا في جبل لبنان، ومن كان منهم في جبل اللكام وفي سهول حمص وحماة هم الذين كانوا يبدون الغزوات المذكورة بالاتفاق، حتى ألجئوا الخليفتين معاوية وعبد الملك بن مروان أن يرسلا رسلًا إلى ملك الروم يطلبون الصلح، والاتفاق معه على كبت هؤلاء المردة؛ لأنهم كانوا يعتبرونهم أنصارًا لملك الروم؛ ولا سيما لأن الخلفاء لم يكونوا استحوذوا على لبنان كما مر، وكانوا يعتبرون سكانه ومناصريهم بمنزلة جنود أو مناصرين لملك الروم.

قد خالف بعض العلماء في أيامنا، وقبلها أيضًا ما أثبته علماؤنا وتقليداتنا، وأوردوا لمرعاهم تخمينات غير ثابتة ولم يتفقوا فيها، فجعل بعضهم هؤلاء المردة من الفرس أو جنودًا لملك الروم إلى غير ذلك من تخميناتهم، التي لم يتفقوا على شيءٍ منها ولا أيدوها ببرهان راهن، وقد رددتُ دعواهم هذه بأربع مقالات نُشرت ثنتان منها في مجلة المشرق والثنتان الأخريان في غيرها، مبينًا ببيناتٍ ساطعة، وأدلة دامغة على أن هؤلاء المردة لا يمكن أن يكونوا إلَّا الموارنة الذين ولا نكير أنهم كانوا منبثين في تلك الأيام بلبنان وحمص وحماة، وجبل اللكام إلى أنطاكية، ومن هذه الأدلة أنه لو كان المردة جنودًا لأحد ملوك الروم لردوهم بعد جلائهم لهم من لبنان إلى أهلهم أو إلى معسكراتهم، ولا حاجة أن يقيموهم في عملٍ مخصوص وهو بمفيليا من آسيا الصغرى، ويفرضوا لهم نظامًا مخصوصًا وينصبون لهم ولاة وقضاة مخصوصين، كما روى السمعاني في المجلد الرابع من مكتبة الناموس (صفحة ٦٢٠) اعتمادًا على ما كتبه قسطنطين السابع بن لاون الحكيم، الذي كان في القرن العاشر في كتابه الموسوم بتدبير الملك (فصل ٥٠ صفحة ١٣٧)، ومن الأدلة التي أوردتها أن كل من خالفوا رأي الموارنة هذا ما أمكنهم ولن يمكنهم إثبات وجود شعب أتى أو كان في لبنان، وما ذكر من مواطن المردة غير الموارنة.

وتوفي عبد الملك سنة ٧٠٦ أو سنة ٧٠٧.

(٦) في بعض المشاهير في القرن السابع

قلما عرفنا من المشاهير في هذا القرن، فممن عرفناهم منهم جرير الشاعر المشهور، وكان ابن عم الخليفة عبد الملك بن مروان كما يظهر من قوله:

هذا ابن عمي في دمشق خليفة
لو شئتُ ساقكم إليَّ قطينا

وكان بينه وبين الفرزدق مهاجاة، وهو أشعر من الفرزدق عند أكثر أهل العلم، وأجمعت العلماء على أنه ليس في شعراء هذا العصر مثل ثلاثة جرير والفرزدق والأخطل، فالأولان مسلمان والأخطل مسيحي.

أما الفرزدق فهو همام بن غالب، ويتصل نسبه بمرة التميمة وكان كثير التعظيم لقبر أبيه، فما استجار به أحد إلا نهض معه، وساعده على بلوغ غرضه، وكانت زوجته النَّوار المشهورة وله معها أخبار ونوادر يطول شرحها، وقد طلَّقها فندم على ذلك وله فيها شعره المشهور:

نَدمتُ ندامة الكُسعيِّ لمَّا
غدت مني مطلقةً نَوارُ
وكانت جنتي فخرجت منها
كآدم حين أخرجه الضرارُ

وتوفي جرير والفرزدق في الربع الأول من القرن الثامن.

وأما الأخطل فاسمه غياث بن غوث، وهو مسيحي كما يتبين من قوله:

ولست بصائمٍ رمضان طوعًا
ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بقائمٍ أبدًا أنادي
كمثل الغير حيَّ على الفلاح
ولكني سأشربها شمولًا
وأسجد عند منبلج الصباح

وله قصائد كثيرة في مدح الخلفاء الأمويين، وقد طبع الأب أنطون صالحاني اليسوعي ديوانه في بيروت سنة ١٨٩١.

وكان في هذا القرن كثير من الشعراء النصارى منهم: زهير بن أبي سلمى المزني والنابغة الزبياني وعنترة العبسي، وقد جمع الأب لويس شيخو اليسوعي تراجمهم وغيرهم من شعراء النصارى في كتاب عنونه شعراء النصرانية، وكان منهم الأسود بن جعفر وسلامة بن الجندل، وقوس بن حجل وعلقمة الفحل وذو الإصبع العدواني إلى غيرهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤