الفصل السادس

في تاريخ سورية الدنيوي في القرن التاسع عشر

في الأحداث التي كانت بسورية في القرن التاسع عشر

(١) في ما كان بسورية من سنة ١٨٠٠ إلى سنة ١٨٠٧

بعد اتفاق الأمير بشير وأولاد الأمير يوسف على أن يلوا بلاد جبيل والبترون من قبله وهو يلي باقي البلاد، اتفق الأمير عباس أسعد شهاب مع المشايخ النكدية على أن يولوه البلاد مكان الأمير بشير، والتمسوا له الولاية من الجزار، فأجابهم إلى ذلك، وأصحب الأمير عباس بعسكرٍ إلى صيدا، ثم نهض إلى ساحل بيروت، وأرسل فرسان الجزار إلى جبيل فأسرع الأمراء أولاد الأمير يوسف إلى دير القمر، وأتى الأمير عباس بعسكر الجزار، فلم يتمكن من الدخول إليها فانصرف إلى الباروك، ثم إلى البقاع ونهض الأمير بشير إلى حمانا، والتقى العسكران في خان مراد، وانتشبت الحرب فانهزم الأمير عباس وعسكر الجزار، وكان ذلك سنة ١٨٠١.

وفي سنة ١٨٠٢ اتفق العمادية مع الأمير سلمان سيد أحمد شهاب أن يولوه البلاد مع الأمير عباس، وحضر الأمير سلمان إلى الجزار، فوعده بالولاية وكتب إلى الأمير حسن علي أن يعاون العمادية على طرد الأمير بشير، وبلغ هذا ما نووا فقام إلى عين صوفر ومعه الشيخ بشير جنبلاط والكدية وجرجس باز فدان له أهل الجرد، واستسلم إليه الأمراء اللمعيون وأعيان المتن والتلاحقة، ففر العمادية إلى رأس بيروت، وكتب محازبو الأمير بشير إلى الجزار أنهم لا يقبلون واليًا عليهم إلا الأمير بشير، وعاد هو إلى دير القمر واهتم بعض أصحابه أن يسترضوا الجزار عنه، وكتبوا له أن يرسل من يعتمد عليه إلى الجزار، فأرسل الشيخ يوسف الدحداح ومعه عريضة أجابه الجزار عليها جوابًا لطيفًا، فأرسل الأمير التقادم وأرسل الجزار إليه خلعة الولاية على البلاد، مستثنيًا منها إقليم جزين وبرجا.

وفي سنة ١٨٠٤ توفي الجزار آفة هذه البلاد، وبعد موته أخرج الشيخ طاها الكردي إسماعيل باشا من السجن، ونادى باسمه بناء على أن الجزار بايعه بالولاية بعده، وكتب الشيخ طاها إلى الأمير بشير أن يرسل التقادم، فيرسل له الباشا خلع الولاية ويطلق له ولده الأمير قاسمًا والأمير سليم يوسف اللذين كانا مرهونين عند الجزار، فأرسل الأمير التقادم وأرسل إليه الباشا خلعة الولاية، ولم يرسل الأميرين المرهونين، ثم ورد فرمان من السلطان سليم الثالث إلى الأمير بشير فحواه أنه نصب إبراهيم باشا مكان الجزار، وأن يكون مطيعًا له متفقًا معه، ولما وصل الباشا إلى دمشق أرسل الأمير إليه جرجس باز بمائة فارس، فأمر إبراهيم باشا أن تلتقيه قواد العساكر والأعيان، وأكرمه الباشا وأجرى له النفقات وكان يستشيره في مهامه، وورد فرمان آخر إلى الأمير بأن يعاون إبراهيم باشا على طرد إسماعيل باشا، ولما أتى إبراهيم باشا من دمشق التقاه الأمير إلى جسر صيدا بنحو ستة آلاف مقاتل، واعتذر له عن مقابلته؛ لأنه بعد خروجه من سجن الجزار أقسم أن لا يقابل وزيرًا، فقبل الوزير عذره وأرسل إليه خلع الولاية، وعاد الأمير وبقي جرجس باز ورجاله مع إبراهيم باشا، فقُتل إسماعيل باشا وسمَّت الدولة سليمان باشا والي صيدا قبلًا مكانه.

وسنة ١٨٠٧ كان مقتل الشيخ جرجس باز في دير القمر، وقتل أخيه عبد الأحد في جبيل، فالشيخ جرجس كان وصيًّا على أولاد الأمير يوسف وأقامهم على ولاية بلاد جبيل، وكانوا لا يأتون أمرًا دون علمه وهو يفعل ما شاء دون إذنهم، وقام جرجس بدير القمر عند الأمير بشير، وأخوه عبد الأحد بجبيل وعظم قدرهما، ولم تكن لهما حرمة للأمير بشير، بل كانا يفعلان أمورًا تسوءه فيضمر لهما السوء، واتفق مع أخيه الأمير حسن على قتلهما، واتفق حينئذٍ أن الأمير بشير كان مغضبًا على المشايخ آل تلحوق وآل عبد الملك، فاستدعى الأمير حسن الشيخ علي تلحوق وكاشفه بالأمر، فوافقه عليه، وحضر مع البعض من المشايخ اليزبكية، وأظهروا أنهم متوجهون إلى الأمراء أولاد الأمير يوسف؛ ليلتمسوا منهم كتابًا للأمير بشير ليرضى عنهم، وسار الأمير حسن معهم إلى جبيل وهجم المشايخ اليزبكية على الشيخ عبد الأحد باز، فأطلق الرصاص على أحدهم فقتله، وأحاطت الجماعة به فألقى نفسه من شباك، فأدركه من كانوا أسفل فقتلوه، وتوجه الأمير حسن توًّا إلى القلعة، وقبض على أولاد الأمير يوسف. وفي ذلك النهار نفسه استدعى الأمير بشير جرجس باز، ولما دخل عليه خرج الأمير وأمر بعض أعوانه من الدروز، فدخلوا وخنقوه وركب الأمير قاصدًا جبيل، وأمر بتوجيه أولاد الأمير يوسف؛ ليقطنوا بدرعون وأن تسمل أعينهم، فنُفذ الأمر، وكان ذلك في ٥ أو ١٥ أيار سنة ١٨٠٧.

(٢) في ما كان بسورية في أيام السلطان مصطفى الرابع والسلطان محمود الثاني إلى سنة ١٨٢١

إن السلطان سليم الثالث خُلع بسبب ثورة الإنكشارية عليه؛ لأنه أراد إدخال النظام الجديد سنة ١٨٠٧، ونادى الثائرون بالسلطان مصطفى خان الرابع، ولما انتصر له مصطفى باشا البيرقدار وأراد إرجاعه إلى عرشه أمر السلطان مصطفى بقتله، وإلقاء جثته إلى الثائرين فازدادوا هياجًا ونادوا بخلع السلطان مصطفى وحجروا عليه، وكان آخر العهد به سنة ١٨٠٨ وأجلسوا على العرش السلطان محمود خان الثاني. ومما كان في هذه المدة بسورية وفاة الأمير حسن أخي الأمير بشير بغزير سنة ١٨٠٨. وفي سنة ١٨٠٩ أرسل سليمان باشا والي صيدا خلعة الولاية إلى الأمير بشير كالعادة بأن تتجدد هذه الخلع كل سنة في شهر مارت، وفي السنة المذكورة جدد الأمير بشير بناء جسر نهر الكلب. وفي سنة ١٨١٠ حمل بعض الوهابيين (هم أتباع رجل يسمى عبد الوهاب ابتدع بدعة حرم بها الالتجاء إلى نبي أو رسول، وانبث هذا الضلال في العربية) على حوران، وهددوا دمشق فاستنجد واليها سليمان باشا والي صيدا، وهذا استمد الأمير بشير فجمع خمسة عشر ألف مقاتل، وسار بهم إلى جهة طبريا حيث كان سليمان باشا، ثم ورد الخبر أن العرب رجعوا من حوران وورد حينئذٍ فرمان إلى سليمان باشا أن يتولى دمشق بدلًا من يوسف باشا الكنج، فاستشار الأمير بقبوله، وحقق له أنه يرد الفرمان إن لم يساعده فأجابه: لبيك. وكتب الأمير إلى بعض أصحابه ولاة حماة وأطرابلس وغيرهما، فلبوا دعوته وساروا جميعًا إلى دمشق فخرج عليهم يوسف باشا بعساكره، وانتشبت الحرب وكان النصر لعساكر سليمان باشا والأمير بشير، وانهزم يوسف باشا ودخل سليمان باشا المدينة يصحبه الأمير بشير ورجاله، وفوض الباشا إلى الأمير أن ينتخب العمال فأرسل مصطفى أغا بربر إلى أطرابلس، والأمير إسماعيل إلى حمص وحماة وحسين أغا سركجي إلى اللاذقية، والأمير جهجاه الحرفوش إلى بعلبك، وأنعم سليمان باشا على الأمير قاسم ابن الأمير بولاية بلاد جبيل، وعلى أخيه الأمير خليل بولاية البقاع.

وفي سنة ١٨١٢ شرع الأمير بشير في جر ماء نبع الصفا إلى بتدين. وفي سنة ١٨١٤ بنى بأمر سليمان باشا جسرًا على نهر الدامور، وأنفق عليه مائة ألف قرش دفعها له الوزير. وفي سنة ١٨١٩ توفي سليمان باشا، وأنعمت الدولة بمنصبه على عبد الله باشا، وكان نائبًا لسليمان باشا بعكا، وكتب إلى الأمير بشير يبشره فأجابه الأمير مهنئًا ومرسلًا التقادم، فوجه الوزير إليه خلع الولاية.

وفي سنة ١٨٢٠ طلب الوزير مبلغًا لم يتيسر للأمير دفعه للحال، ووجه المعلم بطرس كرامة يعتذر له، فحنق الوزير وأمر بتوجيه عسكر إلى حدود ولاية الأمير، وأمر متسلمي صيدا وبيروت أن يقبضا على من يجدانه من اللبنانيين، فقبض متسلم بيروت على مائة وثلاثين لبنانيًّا، ومتسلم صيدا على أربعين منهم، فأرسل الأمير يعتذر للباشا ويستعطفه، فأمر أن يتعهد الأمير بألفي كيس يدفعها بعد مضي شهرين فتعهد بذلك، وأمر الوزير بإطلاق اللبنانيين، وأرسل إلى الأمير خلع الولاية وأرسل الأمير جباة لجمع المال فهاج أهل المتن، وأبوا دفع المطلوب وكاتبوا أهل كسروان أن يحذوا حذوهم فأجابوهم إلى ذلك.

واجتمع الفريقان بأنطلياس وأقسموا أن لا يدفعوا إلا بحسب العادة، وأتاهم الشيخ فضل الخازن فجعلوه شيخًا للعامية المعروفة بعامية أنطلياس، وكتبوا إلى عبد الله باشا أن ظلم الأمير بشير إنما هو الذي أوجد الهياج في البلاد، فأجابهم أن لا يدفعوا إلا بحسب عادتهم، وأرسل الأمير يحذرهم وينذرهم، فلم يرعووا فكتب إلى الوزير: إني عجزت عن الولاية وتركت بلادي منتظرًا أن يصفو خاطركم عليَّ، فوجه الوزير بعض مشايخ الدروز وأصحبهم بسبعمائة مقاتل، وأرسل معهم خلعة الولاية إلى الأمير حسن علي والأمير سلمان سيد أحمد الشهابيين، فنهض الأمير بشير بأولاده وخدمه إلى حمانا، فأقسم له الأمراء اللمعيون أنهم لا يقبلون واليًا غيره، ثم نهض إلى قب إلياس ثم إلى وادي التيم، وسار الأمير سليمان بالعسكر إلى وادي التيم مصحوبًا بأمر من عبد الله باشا إلى أمراء حاصبيا وراشيا أن لا يقبلوا الأمير بشير، فنهض الأمير إلى حوران وضبط الأمير سلمان أملاك الأمير بشير وأصحابه، فكتب الأمير بشير إلى عبد الله باشا يستعطفه، فأجابه لو لم تترك الولاية لما وليت غيرك، فأسرع الآن إلى عكا، فأجابه الأمير أرجو أن تأذن لي بالإقامة ببلاد جبيل، وكنت أود أن أتشرف الآن برحابك، ولكن لم أتمكن من ترك أتباعي ولا من إحضارهم معي، فأذن له بالإقامة ببلاد جبيل، وطلبه أن يحضر إلى عكا بنفسه، وكان الأميران حسن وسلمان قد تعهدا لعبد الله باشا بدفع ألفين ومائتي كيس، ولما وصل الأمير بشير إلى شفا عمرو استأذن الوزير أن يحضر لديه، فأجابه أن حضوره إلى عكا وقتئذٍ يؤخر دفع ما تعهد به الأميران، وخيَّره بمكان إقامته فاختار جزين وحضر إليها فالتقاه الناس بالتجلة، وأرسل الأميران يجبيان المال الذي تعهدا به فطُرد الجباة من المتن وكسروان وبلاد جبيل، وتقاطر مشايخ البلاد وأعيانه إلى الأمير بشير، فطلب الأميران من مشايخ العقل أن يتوسطوا للصلح بينهم وبين الأمير بشير، فتم الاتفاق أن الأميرين يتنزلان عن الولاية، وأن الأمير بشير يأخذها، فعهد الوزير إليه بها مدة حياته، فتليت الأوامر بها بكل احتفاء.

عامية لحفد

إن الأميرين حسن وسلمان رفعا عريضة إلى عبد الله باشا يبديان خوفهما من الأمير، فأمر بشنق رسولهما، ثم سار الأمير بشير إلى بلاد جبيل، وطلب الأمير سلمان أن يكون بخدمته فأبى، فكتب الأمير حسن إلى الأمير سلمان، واستغواه أن يمالئا الجبيليين الثائرين على الأمير بشير فانقاد لرأيه، وقام الأمير إلى غرفين إحدى قرى جبيل، وكان أهل تلك الجهة مجتمعين بشامات فبقي الأمير سائرًا إلى لحفد، فاجتمع في حاقل أهل بلاد جبيل والبترون وبعض من كسروان، وأتى رجال جبة بشري إلى أهمج وجمهر المتاولة في رام مشمش، وأرسلوا يقولون للأمير: إنهم لا يدفعون إلا مالًا واحدًا وجزية واحدة، وكان الأميران حسن وسلمان يجسرانهم فأرسل يقول لهم: أرتضي بمال واحد وهم يجمعون المال ويوردونه له … وقبل عود الرسول ظهر نحو ألفي رجل من جهة ميفوق، وظهر أمامهم من الجنوب جماعة من المتاولة، وأخذوا يطلقون الرصاص والأمير لا يسمح بالقتال إلى أن أصيب أحد رجاله، فثار بعض العسكر واقتحموا أولئك الرجال، وتبعهم الفرسان وأطبقوا عليهم وأعملوا فيهم السلاح، وقتلوا منهم نحو ثمانين رجلًا فانهزموا شر هزيمة، وألقى بعضهم أنفسهم من شاهق إلى أسفل، وأُسر منهم كثيرون، فعفا الأمير عنهم وقُتل من عسكر الأمير تسعة رجال، وقام هو في اليوم التالي إلى عمشيت فتعرضوا له في غرفين، فأرسل إليهم عشرين فارسًا يناوشونهم القتال، وانكسروا أمامهم ليلحقوهم فلم يجسروا أن يلحقوهم، فسار الأمير إلى عمشيت ثم جبيل.

وكان الأمير قد دعا الشيخ بشير جنبلاط والشيخ علي العماد وغيرهما ليلحقوه، فنهضوا ومعهم نحو ألفي رجل، فجمع الأمير حسن بعض الرجال، وكتب الأمير سلمان إلى أهل المتن وكسروان أن يوافوه إلى نهر الكلب، فشتت المشايخ من جمعهم الأمراء في الساحل وسبقوهم إلى نهر الكلب، فهزموا من التقاهم من كسروان، وفر الأميران حسن وسلمان إلى العاقورة وتنورين وحدت الجبة، فلم يجدا من يقوم معهما فسارا إلى بعلبك، ثم إلى الزبداني، وأخذ الأهلون يتقاطرون إلى الأمير بشير سائلين عفوه، وقام إلى جبة بشري واستماحه مشايخها العفو فعفا عنهم، وعاقب بعض المذنبين وغرم أهل الجبة بمائتين وخمسين ألف قرش، وأهل كسروان بمائتي ألف قرش وأهل القاطع بمائة ألف قرش، وأرسل لعبد الله باشا ما كان قد تعهد به، وكان ذلك سنة ١٨٢١.

(٣) في ما كان بين درويش باشا وعبد الله باشا والأمير بشير

في سنة ١٨٢٢ بينما كان عبد الله باشا واليًا على صيدا أرسل الباب العالي درويش باشا واليًا على دمشق، وحضر حسن أغا متسلم البقاع إلى قرية عميق، وطرده أهلها فنهب مواشيهم ومواشي أهل الجبل وزحلة، فأمر الأمير اللبنانيين أن يرحلوا إلى الجبل وزحلة، وأمر درويش باشا بالقبض على اللبنانيين الذين بدمشق، وأرسل واليًا إلى البقاع وأصحبه بمائتي فارس، وكتب الأمير إلى عبد الله باشا، فأجابه أن يرسل عسكرًا يطرد والي البقاع فأرسل ابنه الأمير خليلًا، ففر الوالي إلى دمشق ونهب رجال الأمير خليل بعض قرى البقاع، وساق بعض رجالها وسُجنوا ببتدين، وكاشف درويش باشا الأمير بالاتفاق معه، فقبل الأمير ذلك بإذن عبد الله باشا فأطلق الأمير من كانوا في سجنه، وأطلق درويش باشا من كانوا بسجنه من اللبنانيين، ولدى المخابرة بشروط الاتفاق أبى عبد الله باشا التسليم بها، وأمر الأمير أن يرسل عسكرًا يطرد الأمير منصور والي راشيا، وأرسل خمسمائة فارس تنجد عسكر الأمير وأرسل والي دمشق عسكرًا إلى راشيا، فانتشبت الحرب بين الفريقين وكان النصر لجماعة عبد الله باشا، وجهز درويش باشا حملة أخرى كان بها الأمير سيد أحمد، فنهض الأمير بشير بنفسه وأرسل درويش باشا السر عسكر بأربعمائة فارس، ودارت رحى الحرب، فكان النصر للأمير بشير وأرسل السر عسكر يطلب منه الصلح، فأجابه إليه بشرط أن يسلمه الأميرين حسنًا وسلمان، ففر الأميران ليلًا إلى دمشق وتبعهما السر عسكر، وأرسل عبد الله باشا إلى الأمير سيفًا مرصعًا بالجواهر، وخلعة فاخرة، وعاد بعد ذلك إلى بتدين.

وأمر عبد الله باشا الأمير أن يحارب ثانية درويش باشا، فسار إلى عكا ليقنعه بالعدول عن الحرب خشية أن يسخط السلطان، فلم يصغ لكلامه وأمره أن يتوجه إلى جسر بنات يعقوب، حيث كان عسكره فسار الأمير بعسكره وعسكر عبد الله باشا حتى انتهى إلى المزة، فجمع درويش باشا عسكره وأضاف إليه الأميرين حسنًا وسلمان أحمد وأخاه الأمير فارسًا وبعض اليزبكية، واضطرمت نار الحرب فكانت وقعة هائلة تذكر في هذه البلاد إلى الآن، وكانت الدائرة على عسكر دمشق وقتل منهم نحو مائتين وعشرين رجلًا، وأُسر نحو خمسمائة رجل منهم الشيخ حسن تلحوق، وغرق منهم كثيرون في نهر بردى، ومن بقي منهم محاصرًا في المزة قُتل بعضهم، واستسلم بعضهم إلى الأمير بشير، وفر الأمراء حسن وسلمان وفارس إلى صيدنايا، وخاف درويش باشا فأقفل أبواب المدينة، وتحصن بالقلعة، وأطلق الأمير بشير من أُسر من اللبنانيين، وكتب إليه عبد الله باشا يثني عليه أطيب الثناء.

وعزل الباب العالي عبد الله باشا عن إيالة صيدا ونصب مكانه درويش باشا، وأمر مصطفى باشا والي حلب أن ينفذ الأمر، والتقاه الأمراء حسن وسلمان وفارس المذكورون إلى حمص، وكتب إلى الأمير بشير يخبره بتولية درويش باشا على صيدا، وأمره أن يطلق عساكره ويعود إلى بلاده، فأذعن الأمير وعاد إلى بتدين، ولكن كتب درويش باشا إلى اللبنانيين أن الدولة أنعمت عليه بمنصب صيدا، وأنه قد استدعى الأمير بشير لخدمته فأبى؛ ولذلك عزله عن ولايته واتفق الأمير مع الشيخ بشير جنبلاط على تولية الأمير عباس أسعد، وتحالفا على ذلك، وتعهد الشيخ بشير لدرويش باشا بدفع ألف ألف قرش، ورهن له عليها ابنه الشيخ نعمان، فولى درويش باشا الأمير عباس أسعد، وكتب الشيخ بشير إلى الأمير بشير يشير عليه أن يقوم من البلاد، وإلا فيقبض عليه درويش باشا، فسافر الأمير بشير إلى مصر ومعه ابناه الأميران خليل وأمين، وسارت عساكر مصطفى باشا ودرويش باشا إلى عكا وحاصرت عبد الله باشا فيها، ونال الأمير بشير من محمد علي باشا عزيز مصر صنوف التوقير والإجلال، وأسر إليه بما ينويه من الخروج على سورية، وعرض الأمير له ما كان لعبد الله باشا، وسأله أن يساعده لدى الدولة فأجاب سؤله وأرسل موفدًا إلى الأستانة، وكانت الدولة قد نصبت مصطفى باشا على إيالة صيدا وردت درويش باشا إلى إيالة دمشق، وكتب مصطفى باشا إلى الأمير بشير يدعوه أن يعود إلى بلاده، فأبى فحنق الوزير وكتب إلى الأمير عباس أن ينبه على اللبنانيين أن لا يكاتب أحد منهم الأمير بشير فشهر هذه الأوامر، وبعد أيام أعطى فرمانًا بالعفو عن عبد الله باشا، وأن يقوم من عكا بماله ورجاله ويذهب إلى مصر فلم يرض العزيز ذلك، وألح ببقاء عبد الله باشا بعكا وكرر الإلحاح بأن يبقى فيها واليًا، فأجيب إلى ذلك وصدر الفرمان به، وأنعم العزيز على الأمير وابنيه بحلل فاخرة وخيل جياد، وأكرمه بمائة وخمسين ألف قرش وعاد إلى عكا، فاستقبله عبد الله باشا بإطلاق المدافع والتقاه بأكابر ولايته وأعيان المدينة، وكتب عبد الله باشا والأمير يبشران اللبنانيين بما كان، وكتب الأمير بشير إلى الأمير عباس أن يبقى مباشرًا الولاية، وعند مسيره إلى لبنان التقاه أصحاب المناصب والأعيان، وصحبوه بموكبٍ عظيم إلى بتدين.

(٤) في ما كان بين الأمير والشيخ بشير جنبلاط، ويعرف بحركة المختارة

يظهر أن الشيخ بشير جنبلاط كان قد اتفق مع الأمير عباس شهاب والي لبنان على أمورٍ تخالف رضى الأمير بشير في مدة غيابه في مصر؛ ولذلك كان الشيخ بشير واجسًا بعد عود الأمير إلى الولاية، وقام إلى جباع بالشوف، وأرسل يستعطف خاطر الأمير فأجابه طالبًا منه ألف ألف قرش؛ لأن الدولة كانت تطلب من عبد الله باشا نفقة الجنود التي أرسلتها إلى سورية، وطلب من الأمير بشير مبلغًا، منها فدفع الشيخ بشير قسمًا من المطلوب، واعتذر عن دفع الباقي واستمر واجسًا، وطلب من والي دمشق أن يأذن له بالإقامة في وادي التيم، وسار إليها وانضم إليه هناك بعض من الأمراء اللمعيين، وبعض أهل الشوف والمتن، فكتب الأمير بشير إلى والي دمشق أن له على الأمير عباس (الذي كان انضم إلى الشيخ بشير) مائتي ألف قرش من الأموال الأميرية في أيام ولايته، ولما طولب بها قال: إنها مطلوبة من الشيخ بشير جنبلاط.

وفي سنة ١٨٢٣ سار الأمير عباس إلى عكا ملتمسًا من عبد الله باشا أن يرضى عنه، وعن النازحين جميعًا، وأن يرفع المطالبة له بالمائتي ألف قرش، فكتب عبد الله باشا إلى الأمير بشير يُعلمه بذلك، وأرسل إلى الشيخ بشير يطلب منه هذا المبلغ، فأرسل له صكًّا متعهدًا بدفعه بعد عوده إلى بيته، وأمر الأمير بشير من نزحوا إلى وادي التيم أن يعودوا إلى أوطانهم، فعادوا واستأذن الشيخ الأمير أن يحضر لديه إلى بتدين فأذنه؛ ولخوفه أصحب معه نحو ألفي رجل تركهم على مقربةٍ من بتدين … ودخل على الأمير رجلًا ذليلًا، فطيب الأمير قلبه وما برح مؤاخذًا له بكثرة الرجال الذين أحضرهم إلى قرب بتدين، وعاد الشيخ بشير إلى إيالة دمشق، فورد أمر من عزيز مصر إلى والي دمشق أن يطرد الشيخ بشيرًا من إيالته، فخاف وتوجه إلى حوران فضبط الأمير بشير أملاكه كلها، وطالبه والي دمشق بالمال الذي وعد به فاعتذر عن دفعه، وانضم في هذه المدة إلى الشيخ بشير الشيخ أسعد النكدي وجماعته، والشيخ علي العماد وجماعته، وكاتب الأمراء سلمان سيد أحمد وأخاه فارسًا، وحسن أسعد الشهابيين؛ ليتفقوا معهم على خلع الأمير بشير فأجابوهم إلى ما طلبوا، ووعدوا الأمير عباس أسعد بالولاية فضوى إليهم وتابعهم آخرون من الأمراء الشهابيين واللمعيين، واجتمع هؤلاء جميعًا في المختارة سنة ١٨٢٥، وكاتبوا الشيخ بشير ليسرع إليهم فمر بالبترون وكسروان، واستنهض المشايخ الخوازنة فصحبه بعضهم ثم سار إلى برمانا، وحمانا يستدعي وجوه المتن للانضمام إليه، وأرسل الأمير بشير ينصح المجتمعين بالمختارة، فلم يقبلوا نصيحته، وكتب إلى عبد الله باشا فأرسل عسكرًا لنجدته، ولما علم المجتمعون ذلك أرسلوا فريقًا منهم ليقطع الطريق على عسكر عبد الله باشا.

وفي ٥ ك٢ سنة ١٨٢٥ أطلوا على بتدين، وجعلوا يطلقون الرصاص، فأرسل الأمير ابنه الأمير خليلًا فلم ينثنوا عن الحرب فهبت إليهم حينئذٍ رجال الأمير، وأصيب الشيخ علي العماد برصاص، فرجع وانكسر أصحابه إلى السمقانية وتبعهم عسكر الأمير إلى هناك، واشتد القتال إلى المغرب، وقُتل من عسكر الأمير رجلان ومن عسكر خصومه تسعة رجال، ووصل الشيخ بشير إلى المختارة في صباح اليوم التالي، وطلب الصلح من الأمير فلم يُتفق عليه بينهما، وقام عبد الله باشا بعسكره إلى صيدا لنجدة الأمير، ونهض الأمير بشير إلى السمقانية بعسكره، وأرسل شرذمة إلى مطل المختارة فالتقاهم عسكر الشيخ بشير، واستمرت الحرب بين الفريقين إلى المغيب، فقُتل من عسكر الأمير سبعة رجال ومن عسكر الشيخ بشير خمسة عشر رجلًا، وأُسر منهم جماعة فأمر الأمير بإطلاقهم، والتقوا في اليوم التالي في الجديدة فقُتل من عسكر الشيخ أربعون رجلًا، ومن عسكر الأمير عشرة رجال، وانفض رجال الشوف الذين مع الشيخ بشير إلى أماكنهم والأمراء اللمعيون برجالهم إلى المتن، وبعض الأمراء الأرسلانيين إلى الشويفات، ولما رأى الباقون ذلك فروا ليلًا إلى جزيرة قاصدين حوران، فأرسل الأمير ابنه الأمير خليلًا يتعقبهم بمؤازرة العساكر في ولايتي صيدا ودمشق، واختبئوا جميعًا بحوران، وأخذ قائد عسكر والي دمشق يخادعهم ليسلموا إليه، فاطمأنوا ورجعوا إلى دمشق فقطع واليها رأس علي العماد، وسجن الباقين في القلعة ثم أرسلهم إلى عبد الله باشا في عكا، فأمر بشنق الشيخ بشير والشيخ علي العماد … وأما الأمراء سليمان سيد أحمد وأخوه فارس وعباس أسعد الشهابيون، فقبض الأمير عليهم وأمر بسمل أعينهم، وقطع رءوس ألسنتهم ورجوعهم إلى منازلهم.

(٥) حضور مراكب الأروام إلى بيروت وحصار قلعة سانور

في سنة ١٨٢٦ لما كانت حرب الاستقلال في المورة حضر ليلًا إلى بيروت ثلاثة عشر مركبًا للأروام، وخرج منها عسكر إلى البر ونصبوا سلالمَ على أسوار المدينة، ودخلوها وهجم عليهم المسلمون فأخرجوهم من المدينة، واستؤنف القتال في خارج الأسوار فقُتل من الأروام سبعة رجال ومن المسلمين خمسة، فكتب متسلم بيروت إلى عبد الله باشا يخبره بما كان، وعلم الأمير بشير بذلك فأرسل ابنه الأمير خليلًا ببعض الرجال إلى حرش بيروت، ثم قام بنفسه إلى هناك، وكتب إلى عماله بلبنان أن يلتقوه بالرجال، فلما رأى الأروام كثرة العساكر أقلعوا إلى بلادهم.

وفي سنة ١٨٢٩ انتقض النابلسيون على عبد الله باشا، فأرسل عسكرًا لكبتهم فتحصنوا بقلعة سانور، فكتب إلى الأمير بشير أن يسير برجاله لفتح القلعة المذكورة. وفي سنة ١٨٣٠ سار الأمير إلى عكا، فرحب به الوزير ثم نهض الأمير بالعسكر إلى الناصرة وجنين، وأقبل على قلعة سانور حيث كان عسكر الوزير، وأخذ يدبر العساكر في حصار هذه القلعة الحصينة. وخرج النابلسيون ذات ليلة من القلعة وكبسوا الأرناؤط من عساكر الوزير، واستظهروا عليهم فأرسل الأمير جماعة من عسكره، فهزموا النابلسيين إلى العراق ودنوا من جدارها، وكانت النساء من القلعة تغمس اللحف بالزيت، وتشعلها وترميها لينظر النابلسيون عسكر الأمير، ويطلقوا الرصاص عليهم، ودام القتال إلى الصباح ثم استؤنف في ثلاثة أيام، وجعل النابلسيون الخارجون عن الحصار ومعهم ثلاثمائة فارس من العرب يمنعون العساكر من استقاء الماء، فوثب عليهم جماعة من عسكر الأمير، فهزموهم إلى قرية عجة واعتصموا بها فحاصرهم فيها رجال الأمير، ثم ظهروا عليهم وهزموهم وأعملوا في أقفيتهم السلاح، وقبضوا على من استمروا محاصرين فيها، فقتلوا منهم تسعين رجلًا وأسروا أربعة عشر، فأرسل الأمير الأسرى ورءوس القتلى إلى عبد الله باشا، فكتب إليه يثني على شجاعته وهمته، ثم أخذ عسكر الأمير والوزير ينهب ويحرق قرى بلاد نابلس حتى وقعت رهبة الأمير في قلوب جميعهم، وبدءوا يستسلمون إليه فئة فئة، وكان عبد الله باشا قد قبض على بعض مشايخ نابلس، فأخذ يهددهم بالأمير بشير وصولته، فأذعنوا لأمره وتعهدوا له بدفع مبلغ وافر من المال، ورهنوا أولادهم عنده فطيب قلبهم، وأرسلهم إلى الأمير بشير فسلموه القلعة، وأمر عبد الله باشا بدكها حتى أُسسها وتعطيل آبارها ومغاورها، ورجع الأمير بعسكره وعسكر الوزير إلى عكا. ولما كان الطاعون فاشيًّا فيها فلم يسمح الوزير بدخولهم إليها، فسار إلى بلاده والتقاه الأمراء والأعيان إلى صيدا، وصفت له الأيام وطاب العيش.

(٦) خروج محمد علي باشا على سورية

إن محمد علي باشا بعد أن استحوذ على مصر كانت أبصاره طامحة إلى الاستيلاء على سورية أيضًا، وانتهز فرصة اتحاد فرنسا وروسيا وإنكلترا على استقلال اليونان، فأرسل سنة ١٨٣١ عساكره برًّا وبحرًا إلى سورية، وأمر عليها ابنه إبراهيم باشا، فسار إبراهيم باشا وسليمان بك الفرنساوي بمنزلة قائمقام له في الأسطول المصري إلى حيفا، وكان الجيش المصري قد سبقه في طريق العريش وفتح غزة ويافا وبيت المقدس ونابلس، وجعل حيفا مركزًا لأركان حربه ومستودعًا للذخائر والعدد الحربية. ثم سار في ٢٦ تشرين الثاني سنة ١٨٣١ إلى عكا، فحاصرها برًّا وبحرًا وكتب إلى الأمير بشير، فالتقاه إلى عكا فقبله مرحبًا وكتب عزيز مصر إلى ابنه إبراهيم باشا بأن يفوض إلى الأمير شئون صيدا، وأن يعتمد على رأيه في نصب أصحاب الإقطاعات، ولما بلغ الباب العالي ما كان اعتده عصيانًا وانتقاضًا من محمد علي، وأمر عثمان باشا والي حلب أن يقوم بالعساكر لكبت إبراهيم باشا، فجمع نحو عشرين ألف جندي وسار قاصدًا عكا، فترك إبراهيم باشا فريقًا من جيشه على عكا وهب لملاقاة عثمان باشا، وأوعز إلى الأمير خليل ابن الأمير بشير أن يتوجه بألف رجل من اللبنانيين إلى أطرابلس للمحافظة عليها، ووجه الأمير قاسمًا ابن الأمير بشير أيضًا بألفي لبناني إلى زحلة للمحافظة على ذخائر العسكر المصري، وأقبل عثمان باشا على أطرابلس فخرج إليه الأمير خليل، وبدد شمل جماعته وعاونه في ذلك مصطفى أغا بربر حاكم أطرابلس حينئذٍ، ثم وفد إبراهيم باشا ففر عثمان باشا ليلًا إلى جهات حماة، ونهض إبراهيم باشا في أثره إلى حمص، فكانت هناك وقعة هائلة انتصر بها إبراهيم باشا وبدد بها شمل عسكر عثمان باشا.

وعاد إبراهيم باشا وشدد الحصار على عكا، ودخلها عنوة في ٢٧ أيار سنة ١٨٣٢ وأسر واليها عبد الله باشا، وأرسله إلى مصر، وسار إبراهيم باشا إلى دمشق ولاقاه الأمير بشير، فجمع علي باشا والي دمشق عسكرًا، وخرج لقتاله فانهزم والي دمشق إلى حمص، ودخلت العساكر المصرية إلى المدينة، وكان الباب العالي قد جهز في هذه المدة جيشًا لا يقل عن ستين ألفًا وأمر عليه حسين باشا، فبلغ إلى نواحي حمص فنهض إبراهيم باشا ومعه الأمير بشير … والتقى الجيشان عند بحيرة حمص، وتسعرت نار الوغى فكان النصر لإبراهيم باشا الذي بات تلك الليلة في حمص، وترك الأمير بشيرًا فيها وجدَّ في لحاق العساكر العثمانية إلى حلب، فدخلها في ١٧ تموز سنة ١٨٣٢ بعد موقعةٍ هائلة، وانهزم حسين باشا وتحصن في بوغاز كيليكيا المشهور، فلحقه إبراهيم باشا إلى هناك، واشتد القتال بين الجيشين وشتت إبراهيم باشا الجيش العثماني في ٢٩ تموز من السنة المذكورة.

وجهز الباب العالي جيشًا آخر بإمرة رشيد باشا، وأرسله إلى الأناضول إذ كان إبراهيم باشا استحوذ على كل ما كان في هذه البلاد إلى مدينة قونية، والتقى الجيشان على مقربةٍ من هذه المدينة فظهر الجيش المصري على العثماني، حتى أخذ إبراهيم باشا رشيد باشا أسيرًا في ١٢ ك١ سنة ١٨٣٢، وسارت العساكر المصرية حتى ضواحي مدينة بورصة، وعظم القلق في الأستانة، وخيف من مهاجمة إبراهيم باشا لها.

(٧) في إكراه الدول محمد باشا على جلاء عساكره عن سورية والأناضول

بعد انتصار جيش إبراهيم باشا على العساكر العثمانية في قونية قلقت دول أوروبا، وخشيت أن يستحوذ على الأستانة، وكانت روسيا أكثر قلقًا لمطامعها المعلومة، وعرضت على الدولة أن تساعدها على مقاومة الجيش المصري، فقبلت الدولة ذلك وأحلت روسيا على شواطئ الأناضول خمسة عشر ألف جندي لحماية الأستانة، فقلقت فرنسا وإنكلترا من تداخل روسيا وألحتا على الباب العالي أن يسرع بالاتفاق مع محمد علي باشا، وبعد مخابرات اتفق الباب العالي والدولتان على أن المصريين يتخلون عن الأناضول، ويُعطى محمد علي باشا الولاية على مصر مدة حياته، ويحق له أن ينصب ولاة في ولايات سورية الأربع أي: عكا وطرابلس ودمشق وحلب، وصدرت في ذلك إرادة سنية مؤرخة في ٥ أيار سنة ١٨٣٣، على أن السلطان لم يقبل هذه التسوية إلا ليكون له وقت للاستعداد للحرب، واسترداد ما أُخذ من مملكته ولم يقبلها محمد علي باشا؛ لأنها تخالف مقاصده، وجرت مخابرات أخرى بين الدول لم يتفق فيها على حل للمسألة. وأوعز الباب العالي إلى حافظ باشا أن يسير بالعساكر نحو ولاية سورية، والتقى الجيشان المصري في ٢٤ حزيران سنة ١٨٣٩ في جهات نصيبين، واشتعلت نار الحرب وظهر الجيش المصري آخذًا ١٦٦ مدفعًا وعشرين ألف بندقية من العسكر العثماني عدا الذخائر والأثقال، وكان ذلك اليوم مشهودًا مشهورًا وتوفي حينئذٍ السلطان محمود الثاني، وزاد في هذا الارتباك تسليم أحمد باشا أمير الأسطول العثماني مراكبه الحربية إلى محمد علي باشا خيانة، ولما علم بذلك سفراء الدول في الأستانة خافوا من أن إبراهيم باشا يزحف بعساكره عليها، فترسل روسيا جيشها لمحاربته عملًا بالاتفاق السابق ذكره مع الدولة العلية، فأرسلوا إلى الباب العالي لائحة في ٢٨ تموز سنة ١٨٣٩ وقع عليها سفراء إفرنسة وإنكلترا وروسيا والنمسا وبروسيا … طلبوا بها أن لا يقرر الباب العالي شيئًا في المسألة المصرية إلا بإطلاعهم، فقبل الباب العالي هذه اللائحة، واجتمع السفراء عند الصدر الأعظم يتداولون فيما يلزم أن يعطاه محمد علي، فارتأى سفيرا إنكلترا والنمسا لزوم رد سورية إلى ولاية الدولة العلية، وخالفهما سفيرا فرنسا وروسيا وطلبا أن يعطى محمد علي مصر وولايات سورية الأربع المذكورة، وانحاز سفير بروسيا إلى رأي إنكلترا والنمسا فتقرر بالأكثرية، وطلب وزير النمسا عقد مؤتمر دولي في فيانا أو لندرة لتقرير المسألة المصرية، فأنكرت فرنسا ذلك وتوقفت المخابرة مدة، وكانت فرنسا تود أن يعطى محمد علي وذريته مصر وسورية، وولايتي أدنة وترسيس مدة حياته، وأما إنكلترا فلم تكن تريد أن يعطى إلا ولاية مصر، ثم قبلت رغبة في إرضاء فرنسا أن يعطى مع مصر نصف سورية الجنوبي بشرط أن لا تكون عكا من هذا النصف، وطال الخلاف بين الدول.

وفي سنة ١٨٤٠ عُقد المؤتمر المطلوب في لندرا، فطلبت فرنسا إبقاء سورية كلها تحت ولاية محمد علي وعارضتها إنكلترا، وأصرت أن لا يعطى إلا نصف سورية الجنوبي مدة حياته، ويعود بعد موته إلى الدولة العلية وجارتها روسيا والنمسا وبروسيا، فلم يحصل وفاق بين الدول، ولما تولى تيار الشهير وزارة فرنسا حاول أن ينهي المسألة مع الباب العالي ومحمد علي على أنه يلزم الباب العالي أن يتخلى له عن ولاية مصر وسورية، وإن لم يذعن الباب العالي، لذلك ساعدت فرنسا محمد علي عليه، وأرسل يشجع محمد علي على القتال، وأما بلمارستون وزير إنكلترا، فحنق من استبداد فرنسا في هذه المسألة واتفق مع روسيا والنمسا وبروسيا على إرجاع محمد علي إلى حدود مصر، وإجباره بالقوة على ذلك، فوقَّع مندوبو هذه الدول مع مندوب الدولة على معاهدة في ذلك مؤرخة في ٢٥ حزيران سنة ١٨٤٠.

وشرع عمال إنكلترا يهيجون اللبنانيين من موارنة ودروز ومتاولة على خلع الطاعة للحكومة المصرية، وانبث بين العامة روح العصيان وانتبه إبراهيم باشا إلى ذلك فأمر الأمير بشيرًا أن يجمع السلاح من النصارى والدروز، فهاج الأهلون وجاهروا بالعصيان، وأكثروا من المخرقات والتعدي على الحكومة في محلاتٍ كثيرة، وصدر أمر إنكلترا للأميرال نابير أن يسير بأسطوله إلى موانئ سورية، ويأسر أو يحرق الأسطول العثماني الذي كان قد سلم إلى مصر، وباقي مراكب مصر تجارية كانت أو حربية، فأخذ نابير ما وجده من المراكب المصرية، ووصل إلى بيروت في ١٤ آب سنة ١٨٤٠، وأعلن للعساكر المصرية لزوم جلائها عن بيروت وعكا، ونشر على أهل سورية ما قررته الدول الأربع، وحرضهم على الخضوع للدولة العلية والعصيان على الحكومة المصرية.

وفي ١٠ أيلول من السنة المذكورة وصلت مراكب النمسا والدولة العلية إلى بيروت تقل نحو عشرة آلاف جندي عثماني وإنكليز أنزلتهم في شمالي بيروت، وابتدأت مراكبهم تطلق المدافع على المدينة، فهدمت وأحرقت دورًا كثيرة، وفر سليمان باشا بعسكره إلى الحازمية، وكذلك فعلوا في أكثر ثغور سورية، وسارت بعض مراكب إلى جونية فأحلت هناك عسكرًا، وفر عمال الحكومة المصرية إلى الجبل، وكتب قائد العسكر من جونية إلى اللبنانيين يستدعيهم لطرد العساكر المصرية، ويوزع السلاح عليهم، وهكذا تشجع اللبنانيون وبمعاونة الجنود العثمانية حاربوا العساكر المصرية في مواضع كثيرة، وكتب محمد علي إلى ابنه إبراهيم باشا أن ينسحب بعساكره من سورية، ويعود إلى مصر ففعل، وأما الأمير بشير حاكم الجبل فنزل إلى صيدا ثم سار لمواجهة عزت باشا السر عسكر في بيروت، فخيره أن يختار محلًّا لإقامته ما عدا فرنسا وسورية ومصر، فاختار جزيرة مالطة ثم سار منها إلى الأستانة حيث توفي سنة ١٨٥٠، وأما محمد علي باشا، فأصدر عليه السلطان فرمانًا مؤرخًا في ٢١ ذي القعدة سنة ١٢٥٦ يوافق ١٢ شباط سنة ١٨٤١، يتضمن منحه ولاية مصر على طريقة التوارث لذريته مع تعيين مبلغ تدفعه حكومة مصر إلى الدولة العلية.

(٨) في ما كان بسورية في أيام السلطان عبد المجيد خان

توفي السلطان محمود خان سنة ١٨٣٩ بعد انكسار جيشه في نصيبين، وخلفه ابنه السلطان عبد المجيد خان في تلك السنة، وبعد جلاء العسكر المصري عن سورية نصب السر عسكر العثماني الأمير بشير قاسم الشهابي واليًا على جبل لبنان في مكان الأمير بشير المعروف بالكبير، ونصب السلطان ولاة في سورية عوض الولاة المصريين، أما الأمير بشير قاسم والي لبنان فلم تمض مدة وجيزة إلا ووقعت النفرة بينه وبين بعض أعيان الدروز، فاحتشدوا وحاصروه في دير القمر، فكانت من جراء ذلك بين النصارى والدروز الحروب الأهلية المعروفة عند العامة بالحركة الأولى سنة ١٨٤١، وكانت حينئذٍ عدة وقعات بين الفريقين في ساحل بيروت والغرب والشحار ودير القمر وزحلة والمتن، وكانت خاتمة هذه الحروب أن الأمير بشير قاسم خرج من دير القمر على يد سليم بك والسيد فتيحة، إذ أرسلهما وزير الإيالة إلى دير القمر، فأهانه الدروز في خروجه وسلبوه سلاحه وسلاح جماعته، ووصل إلى بيروت وكان حينئذٍ أن الباب العالي أرسل مصطفى باشا نوري لإصلاح شئون لبنان، فسير الأمير المذكور إلى الأستانة ودعا أعيان النصارى والدروز، وخلع عليهم وكاشفهم بإقامة والٍ عليهم من رجال الدولة، فأبى النصارى طالبين البقاء على ولاية الأمراء الشهابيين، ورفعوا بذلك عرائض إلى الأستانة، أما الدروز فأذعنوا لمشورته، وارتضوا بولاية أحد رجال الدولة.

وفي سنة ١٨٤٢ أقام مصطفى باشا المذكور واليًا على لبنان يسمى عمر باشا النمسوي العثماني، وأرسله بعسكرٍ إلى بتدين ومعه الأمير أحمد وأخوه الأمير أمين أرسلان، وأخذ عمر باشا مدبرين له الشيخ منصور الدحداح والشيخ خطار العماد، وولى الشيخ فرنسيس أبا نادر الخازن على كسروان، والشيخ ضاهر منصور الدحداح على الفتوح، وثلاثة مشايخ من الحمادية على بلاد جبيل والبترون والكورة العليا، فنفر المشايخ الخوازنة لضم الحاكم ولاياتهم الثلاث إلى واحد منهم، واستاء أهل بلاد جبيل والبترون والكورة بنصب متاولة على بلادهم بعد أن نسخت ولاياتهم عليها منذ سنوات متطاولة … وأراد عمر باشا أن يسترضي النصارى، فأدخل في خدمته جنودًا منهم وجعل أبا سمرا البكاسيني ويوسف أغا الشنتيري من بكفيا قائدين لهم، ودعا ذات يوم إلى بتدين الأمير أحمد أرسلان، والمشايخ: نعمان جنبلاط، ونصيف نكد، وحسين تلحوق، ويوسف عبد الملك، فقبض عليهم وأرسلهم إلى بيروت، وأمر مصطفى باشا بتوقيفهم فيها، وألحق بهم الشيخ خطار العماد فاستاء الدروز من ذلك، وطفقوا يتزلفون إلى النصارى طالبين الاتفاق معهم على عمر باشا.

وفي أثناء ذلك صدر أمر الدولة العلية بالإجابة إلى اللبنانيين أن ينتخبوا لهم واليًا منهم، وأرسل من يكتب أسماء المنتخبين، فكتب أعيان النصارى يسترحمون رد الأمير بشير عمر إلى ولاية لبنان، واستدعى الدروز النصارى لطرد عمر باشا من الولاية، فلم يجيبوهم وزينوا للأمير أسعد قعدان شهاب أن ينهض معهم على عمر باشا، فينتخبوه واليًا فمالأهم على ذلك، وكاشفوا النصارى ثانية للاتفاق، فأجابوهم إليه بشرط أن يدونوا صكًّا يصرحون فيه أنهم يرضون برجوع الولاية إلى الأمراء الشهابيين، فدونوه وشرطوا به أن يكون أحد الأمراء اللمعيين معاونًا للوالي الشهابي، وأن يكون له أربعة مدبرين: مدبران درزيان، ومدبران مسيحيان، واجتمع الأمراء اللمعيون وبعض وجوه المتن وكسروان بأنطلياس، ودعا الدروز شبلي العريان من حوران واجتمعوا في المختارة، وحصلت بعض مناوشات بينهم وبين عسكر عمر باشا فبددهم العسكر.

وفي هذه الأثناء أحيلت ولاية صيدا إلى أسعد باشا، فأرسل إلى المجمعين بأنطلياس رسولًا يحذرهم من الخروج عن خاطر الدولة، فحضر وحذرهم وتوجه إلى بطريرك الموارنة يستشيره بمن يصلح للولاية من الأمراء اللمعيين، فأشار أن الأمير حيدر إسماعيل هو الأصلح، وعاد فأخبر أسعد باشا، ثم توجه إليه وجوه المجتمعين بأنطلياس يطلبون واليًا وطنيًّا عليهم، فنصب الأمير حيدر المذكور.

وكان في هذه الأثناء أنه وُشي إلى السر عسكر أن المشايخ الدحادحة ساعون بما يكدر الدولة، فأرسل بعض جنوده إلى المشايخ أبناء حمزة حبيش يأمرهم أن يقبضوا على رسول الدحادحة، فقبضوا عليه ونزل بعض مشايخ الدحادحة إلى غزير، فالتقاهم أولاد حمزة واقتتلوا معهم فقُتل ثلاثة من أولاد حمزة، فحنق السر عسكر وأرسل منيب باشا بعسكر، فانهزم أهل عرامون والمشايخ الدحادحة، ونزل العسكر في بيوتهم وأثقل على الأهلين، ولما علم السر عسكر أن المشايخ الدحادحة في جبة بشري كتب إلى والي أطرابلس أن يرسل عسكرًا إلى جبة بشري للقبض عليهم، فالتقى رجال أهدن العسكر في عقبة حيرونا، وانتصروا عليه فأرسل منيب باشا عسكرًا إلى جبة بشري، فتوسط بطريرك الموارنة بين العسكر ومشايخ الجبة، فانصرف الأمر بين الفريقين وعاد العسكر العثماني إلى أطرابلس.

على أن أسعد باشا والي صيدا قسم الولاية في لبنان، فجعل الأمير حيدر إسماعيل على النصارى بلبنان، وسماه قائمقام النصارى، وولى على بلاد جبيل وتوابعها واليًا مسلمًا، ونصب الأمير أحمد عباس الأرسلاني على الدروز، وسماه قائمقامهم، واختلف القائمقامان الماروني والدرزي على المختلطين في أعمال لبنان من نصارى ودروز، وكتب أسعد باشا إلى الباب العالي، فصدر الأمر بقسمة البلاد فجعل الوزير سكة دمشق فاصلًا بين القائمقاميتين، فما كان منها إلى الشمال تولاه قائمقام النصارى، وما كان منها إلى الجنوب وليه قائمقام الدروز. وفي سنة ١٨٤٤ أمر الباب العالي برجوع ولاية بلاد جبيل، وما تبعه إلى قائمقامية النصارى.

وفي سنة ١٨٤٥ كانت الحرب الأهلية بين النصارى والدروز في لبنان، وتعرف العامة هذه الحرب بالحركة الثانية، وكانت فيها عدة مواقع في ساحل بيروت والمتن والغرب والشحار والجرد والشوف، ولولا توسط رجال الحكومة لأضر النصارى بالدروز أضرارًا كثيرة، وكانت نهاية هذه الحرب في أن وجيهي باشا (الذي خلف أسعد باشا في إيالة صيدا) جمع في بيروت بعض وجوه النصارى والدروز، وأجرى بينهم الصلح واستكتبهم صكوكًا مانعة من تجديد الفتنة بينهم، ثم وفد إلى بيروت شكيب أفندي مرسلًا من الأستانة لتدبير شئون لبنان، وقدم نميق باشا السر عسكر من دمشق بألف جندي إلى بتدين، وسار إلى هناك شكيب أفندي والأمير حيدر إسماعيل قائمقام النصارى والأمير أحمد أرسلان قائمقام الدروز، ولما وصلوا إلى بتدين أخذ سلاحهم وسلاح من كان قد حضر معهم وسلاح أهل دير القمر، وفرق العساكر المنظمة في أعمال البلاد لهذه الغاية، فأثقلوا على الأهلين وأهانوا بعض الكهنة في كسروان، وسار نميق باشا بعسكره إلى العاقورة، وأخذ سلاح أهلها ثم نهض إلى تنورين فالتقاه أهل جبة بشري قاصدين صده، فناوشهم فانهزموا إلى الحدث ولحقهم إلى هناك، فهربوا إلى بشري وتوسط بطريرك الموارنة أمرهم بأن يقدموا سلاحهم إلى الحدث، ولا يدخل العسكر قراهم فرضي نميق باشا، ولما قدموا سلاحهم سار بعسكره إلى أطرابلس ثم إلى بيروت.

ثم عزل شكيب أفندي الأمير أحمد أرسلان عن قائمقامية الدروز، وولى مكانه أخاه الأمير أمينًا، وأما الأمير حيدر إسماعيل، فأدركته الوفاة سنة ١٨٥٤ في قرية صربا بكسروان مفلوجًا، وبلا عقب فعين واثق باشا ابن أخيه الأمير بشير عساف قائمقامًا للنصارى، وكتب إلى الأستانة يلتمس تولية الأمير بشير أحمد فأجيب إلى طلبه.

وفي سنة ١٨٥٩ كانت ثورة الكسروانيين على مشايخهم آل خازن، وطردوهم من كسروان، وفي السنة المذكورة كانت وقعة بيت مري بين النصارى والدروز، فعقبتها سنة ١٨٦٠ الملاحم التي كانت في دير القمر وحاصبيا ودمشق، والمواقع التي كانت بين الفريقين في باقي أعمال البلاد الجنوبية، على أن ما جرى على النصارى لم تتحمله رأفة السلطان الغازي عبد المجيد خان، واشمأزت منه دول أوروبا وشعوبها، فأرسل جلالة السلطان فؤاد باشا بصفة مفوض بالاستقلال؛ ليجزي كل من اشترك في المنكرات بما جنت يداه، ويؤمن رعايا الدولة ويعيد السكينة والراحة إلى البلاد، وأرسلت حكومة فرنسا ستة آلاف جندي إفرنسي باسم دول أوروبا، وأمرت على عساكرها الجنرال بوفور دي هرطبول والجنرال دي كرو، وأرسلت دول فرنسا وإنكلترا وروسيا والنمسا وبروسيا مفوضين للمداولة بإصلاح ذات البين، وفرض ما يلزم من النظام لمنع تجديد الفتن الأهلية فأقاموا بيروت، وبعد أن أجرى فؤاد باشا جزاء من ثبت اشتراكهم في هذه الفظائع بقتل ونفي كثيرين، وتأمين البلاد، أخذ يتداول مع مفوضي الدول بوضع نظام يكفل راحة البلاد، وعدم تجديد الفتن فيه فوضعوا أولًا نظامًا في ٢٠ آذار سنة ١٨٦١ مؤلفًا من ٤٧ مادة، ثم عولوا على نظام آخر في أول أيار من السنة المذكورة مؤلفًا من ست عشرة مادة … ومن فحواه أن يكون في الجبل حاكم واحد مسيحي من الأكثرية، ورفعوا النظامين إلى الباب العالي؛ ليتفق مع سفراء الدول على أحدهما، وحصلت المذكرات بذلك وتقرر نظام البلاد الحالي.

(٩) في ما كان بسورية في أيام السلطانين عبد العزيز ومراد وسلطاننا الغازي عبد الحميد خان الثاني أطال الله أيام سلطنته

توفي السلطان عبد المجيد خان في ٢٥ حزيران سنة ١٨٦١، وبويع بالخلافة بعده أخوه السلطان عبد العزيز خان في اليوم الثاني لوفاته، فتوفي سنة ١٨٧٦، وخلفه أخوه السلطان مراد خان الخامس في أواخر أيار سنة ١٨٧٦، لكنه بعد استوائه على سرير الملك ظهرت عليه أمارات اختلال الشعور، وأقر الوزراء لزوم المبايعة لأخيه السلطان عبد الحميد خان سلطان هذا الزمان أيد الله عرشه، ومتع رعاياه بعدله وحلمه وحسن نواياه، وكان استواؤه على منصة الملك في ٣٠ آب سنة ١٨٧٦. وأما ما كان في سورية في هذه المدة أي: من سنة ١٨٦١ إلى الآن فقليل الأهمية. وتبدل على متصرفية لبنان إلى الآن ستة ولاة أو متصرفين: أولهم داود باشا الأرمني سماه السلطان سنة ١٨٦١ برضى سفراء الدول الموقعة على نظام لبنان، ولم تخل أيام ولايته من القلق، وكان فؤاد باشا قد سمى يوسف بك كرم لقائمقامية النصارى، وانتهت مأموريته هذه بوصول داود باشا إلى لبنان، وأراد المتصرف أن يستخدمه في إحدى القائمقاميات لما كان له من نفوذ الكلمة ومحبة الشعب له، فأبى قبول أية وظيفة كانت، ولما ضويق ليقبل منصبًا سمي قائمقامًا لقضاء جزين لكنه استقال من هذا المنصب في اليوم الثالث، وسار إلى داره بأهدن فوجس داود باشا من هذا الاعتزال وشكا الأمر إلى فؤاد باشا، فكتب إلى كرم أن يحضر إليه طلق العنان (كما في أصل الرسالة)، فأسرع بالحضور دون إبطاء إلى بيروت، ولما قابل فؤاد باشا أمره أن يبقى حيث كان وقتئذٍ في القشلة العسكرية، فبقي مكرمًا وبعد أيام صحبه فؤاد باشا معه إلى الأستانة.

وأقام كرم بك بالأستانة مكرمًا مطلقًا له أن يتوجه حيث شاء إلا إلى سورية. وفي سنة ١٨٦٤ جُددت ولاية داود باشا، ولما علم كرم بك بذلك عاد إلى زغرتا في ١٢ت٢ سنة ١٨٦٤، فاهتزت البلاد له، ورأى داود باشا أنه يتعذر عليه إدارة البلاد وهو فيها وأن لا قوة له لكبته، فأمنه وسافر إلى الأستانة سنة ١٨٦٥؛ ليستأذن بحربه ويستعد له، وبعد عوده من الأستانة قبض في أواخر السنة المذكورة على بعض أنسباء كرم وأصحابه ليهيجه، وعلم يوسف بك ما وراء الأكمة، فأتى بجمهورٍ من شمالي لبنان أكثره من أهل التعقل والسلامة لا من أهل الحرب، آملًا أن يحمل الباشا على مصالحته، فبلغوا في ٦ك٢ سنة ١٨٦٦ إلى دير مار ضوميط البوار وبينا كان البك يسمع القداس أطل بعض فرسان الدراكون على رجال البك، وناوشوهم للقتال، فاضطرمت نار الحرب وتقدم البك برجاله إلى المعاملتين، فزادت نار الحرب تسعرًا وقُتل من الطرفين عدة قتلى، وعاد البك برجاله إلى زغرتا.

فأرسل داود باشا العساكر في أثره، ورفع البك إلى عمال الدولة في سورية وقناصل الدول فيها الحجة على أنه لا يريد قتال عساكر الدولة، ويستعيذ من العصيان على السلطنة، لكن إذا دهمته العساكر فيضطر أن يدافع عن نفسه وأصحابه. وكانت وقعات بين كرم والعساكر انتصر بها كرم في بنشعي، وبسبعل ثم اختفى وكانت العساكر تطلبه، ولم تنل منه مأربًا. أخيرًا سئمت نفسه الاختفاء، وظهر واجتمع عليه نحو ثلاثمائة رجل وقام بهم في وسط البلاد من جبة بشري إلى بلاد البترون وجبيل وكسروان حتى بلغ إلى قاطع بيت شباب، وعسكر الحكومة يتبعه عن بعد، ولم يتحرش لقتاله إلا في الوادي الفاصل بين كسروان والقاطع، ولما رأى داود باشا اتساع الخرق لجأ إلى قنصل فرنسا لإيجاد مخرج من هذه الحال السيئة، وبينما كان يوسف بك في القاطع أرسل إليه قنصل فرنسا كتابًا يعرض عليه به أن يكون تحت حماية فرنسا، وهي تسفره من لبنان بكل أمن إلى فرنسا وأرسل إليه بعض أعيان ملته؛ ليقنعوه بالإجابة إلى طلبه، فعاد البك حينئذٍ برجاله إلى بكركي كرسي بطريركية الموارنة، والتقاه القنصل إلى هناك فارتضى البك حماية فرنسا وأن يسافر تحت رايتها، وبارح بكركي قاصدًا بيروت للسفر منها إلى فرنسا، فاجتمعت في بكركي الألوف المؤلفة ورافقته في سفره إلى بيروت وغصت الطريق بالملاقين له، وكان لدخوله بيروت احتفال لم يكن له مثيل قبله، وسافر إلى مرسيليا في شباط سنة ١٨٦٧، ثم إلى جزائر الغرب حيث عين له نابوليون الثالث نفقة لمصروفه عشرين ألف فرنك في السنة.

وأما داود باشا فاستمر على متصرفية لبنان إلى أن عزله الباب العالي برضى سفراء الدول سنة ١٨٦٨، وسمى خلفًا له المرحوم فرنكو باشا كوسا، ودبر هذه المتصرفية إلى أن مات مأسوفًا عليه سنة ١٨٧٣، ودفن في الحازمية، وخلفه رستم باشا وأقام عشر سنوات إلى سنة ١٨٣٣ حين سمى الباب العالي بدلًا منه واصا باشا، ودبر الجبل إلى أن توفي في ٢٩ حزيران سنة ١٨٩٢، ودفن في الحازمية أيضًا، وخلفه سنة ١٨٩٢ نعوم باشا ابن أخت فرنكو باشا ودبر جبل لبنان إلى سنة ١٩٠٢ حين انقضت مدة ولايته، فسمى الباب العالي خلفًا له برأي سفراء الدول مظفر باشا، وهو المتصرف الحالي، وفقه الله إلى ما به عمل الخير ورضى المتبوع الأعظم، ونجاح لبنان.

وفي سنة ١٨٨٥ فُصلت ولاية بيروت عن ولاية سورية، وجُعلت ولاية مستقلة، وكان أول من وليها المغفور له علي باشا أقام على الولاية نحو سنة، وتوفي وسمي موضعه حسين فوزي باشا، ثم راؤف باشا، ثم عزيز باشا، ثم إسماعيل بك، ثم خالد بك، ثم نصوحي بك، ثم ناظم باشا، ثم رشيد بك أفندي، ثم خليل باشا والينا الحالي.

ونحمد الله على أن السوريين لزموا السكينة والهدوء، والانقياد لأمر سلطاننا الأعظم في كل هذه المدة الأخيرة، ولم يصنعوا شيئًا يسخط المتبوع الأعظم عليهم إلا بعض المنازعات التي كانت في حوران بين الدروز والعرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤