الباب الثالث

١٥

وكان البيت الجديد يشتمل على أربع حجرات، تؤدي كلٌّ منها إلى الأخرى، فسموها لذلك عربات السكة الحديد، وكان المطبخ الضيق العالي يواجه الفناء الذي يشتمل على ممرٍ رُصف بالبلاط، يحيط مربعًا من الأرض الشكسة، التي تشبه الأسمنت والتي لا يمكن لنبات أن ينمو فيها.

ولكن كانت هناك تلك الشجرة تنمو في الفناء، وكانت غصونها ترتفع إلى الطابق الثاني فحسب، حين رأتها فرانسي أول مرة، وكانت تراها إذا نظرت إلى أسفل من نافذتها، وهذه الشجرة شبيهة بحشدٍ متزاحم من الناس، على اختلاف الأحجام، يقفون باسطين المظلات اتقاء المطر.

وفي مؤخرة الفناء قائمةٌ خشبيةٌ هزيلة لنشر الملابس، تتفرق منها صفوفٌ ستة من حبال الغسيل ذوات البكر مؤدية إلى ستٍّ من نوافذ المطابخ، وكان صبية الجيران يحصلون على مصروفهم بتسلقها، وإعادة الحبل إلى بكرته حين ينزلق منها.

وكان من المعتقد أن الصبية يتسلقون القائمة الخشبية في منتصف الليل، وينسلون إلى الحبل ويخرجونه عن بكرته، ليضمنوا السنتات العشرة في اليوم التالي.

والحبال العامرة بالملابس كانت تبدو جميلة في اليوم المشمس الذي تهب فيه الريح، فتمتلئ الملاءات البيضاء المربعة بالهواء كأنها شراعٌ في أحد القوارب التي توصف في القصص والروايات، على حين تأخذ الملابس الحمراء والخضراء والصفراء، تناضل مع المشابك الخشبية كأنها تنبض بالحياة.

وكانت القائمة الخشبية تستند إلى جدارٍ من الآجر، وهذا الجدار كان جانب مدرسة الحي الخالي من النوافذ، ووجدت فرانسي حين دققت النظر أنه لم يكن هناك قالبان من الآجر متشابهين تمام التشابه، وإنما رصت القوالب في اتساقٍ ترتاح له العين، تتخللها خطوطٌ رفيعة من فتات الملاط الأبيض، تتألق حين تسطع عليها أشعة الشمس، وكانت فرانسي حين تتكئ بخدها عليها تستشعر الدفء وتستروِح المسام التي تتخللها، وكانت هذه القوالب أول ما يستقبل المطر، فتنبعث منها رائحة الصلصال النديِّ التي تشبه رائحة الحياة ذاتها، وبوادر الثلج في الشتاء أرقُّ من أن تستقر على جوانب الطرق، فتتعلق بسطح الآجر الخشن، وتبدو كأنها نسيجٌ هفهاف من صنع الجنيَّات.

وثمة أربع أقدام من فناء المدرسة كانت تواجه فناء فرانسي، ويفصلها عنها سور من شبك الحديد، وحاولت فرانسي أن تنزل إلى الفناء في وقت فسحة المدرسة في المرات القليلة التي تذهب لتلعب فيها في الفناء (حين يخلو من الصبي الذي يسكن في الطابق الأرضي، والذي لا يسمح لأحدٍ بالدخول إليه حين يكون هو فيه) وراقبت حشد الأطفال وهم يلعبون في الفناء، وكان وقت الفسحة يقتضي أن يحشد مئات الأطفال، في ذلك الفناء الصغير المرصوف بالأحجار والمحوط من كل جانب، ثم يطلق سراحهم مرةً أخرى. وحدث ذات مرة أن ضاق الفناء بالألعاب، فثار الأطفال غاضبين، وأخذوا يصرخون صراخًا منتظمًا رتيبًا استمر خمس دقائق، ثم توقف فجأة، كأنما قُطع بسكينٍ حادة حين دق جرس انتهاء الفسحة، وانقضت بعد الجرس لحظة سكون كسكون القبور، تجمدت فيها الحركة ثم استحال الشغب إلى تدافع، وبدا الأطفال قلقين متهالكين على الدخول، كما كان شأنهم في الخروج، واستحال الصراخ العالي إلى ولولةٍ ذليلةٍ مكتومة، وهم يناضلون في سبيل العودة إلى أماكنهم.

وكانت فرانسي في فناء البيت ذات عصر، حين خرجت فتاة إلى فناء المدرسة، وخبطت مسَّاحتَي السبورة في اهتمامٍ لتنفض عنهما غبار الطباشير، وبدا لفرانسي التي كانت تراقب عن كثبٍ من خلال الشبيكة الحديدية، أن ذلك هو أروع عمل ابتدعه إنسان، وأخبرتها أمها أن ذلك كان عملًا تخصُّ به المدرسات تلميذاتهن «المدللات»، وأقسمت فرانسي التي فهمت أن كلمة «مدللات»، تعني الحيوانات المستأنسة التي تدللها كالقطط والكلاب والطيور، أنها حين تبلغ سن دخول المدرسة، ستموء وتنبح وتسقسق بأحسن ما تستطيع، حتى تدخل في زمرة المدللات وتنفض مسَّاحتي السبورة بين يديها.

وراقبت فرانسي ما يجري بعد ظهر ذلك اليوم بنظراتٍ ملؤها الإعجاب، وانصرفت الفتاة التي نفضت المسَّاحتين، بعد أن أحسَّت إعجاب فرانسي بها، وصفَقَت المساحتين من خلف ظهرها علامة على الانتهاء، وقالت لفرانسي: أتريدين النظر إليهما عن كثب؟

وأطرقت فرانسي برأسها في خجل، وقربت البنت مساحة منهما إلى الشبيكة، فأخرجت فرانسي إصبعها لتلمس الطبقات المتعددة الألوان، التي تمتزج بطبقةٍ من مسحوق الطباشير، وبينما هي توشك أن تلمس تلك المادة الرقيقة الجميلة، اختطفتها البنت بعيدًا وبصقت في وجه فرانسي مباشرة، فأغلقت فرانسي جفنَيها لتمنع عينيها، من أن تطفر منها دموع الألم والمرارة، ووقفت البنت الأخرى هناك تستطلع الأمر وتنتظر أن ترى الدموع، ولكنها اغتاظت، إذ لم ترَ شيئًا مما توقعت، فقالت: لماذا لا تبكين أيتها الحمقاء؟ أتريدين أن أبصق على وجهك مرةً أخرى.

واستدارت فرانسي وذهبت إلى «الكرار»، وجلست في الظلام وقتًا طويلًا، تنتظر حتى تهدأ موجات الألم التي عصفت بها.

وهذه الواقعة هي أولى الوقائع الكثيرة التي حدثت لفرانسي، والتي كانت تنزع عن قلبها غشاوة الأوهام، كلما نمت مقدرتها على تفهم الحياة، ولم تعد تحب مسَّاحات السبورة قط.

وكان المطبخ يقوم مقام حجرة الجلوس وحجرة الطعام وحجرة الطهي، وقد فتحت في جدارٍ منه نافذتان طويلتان، وحفرت فجوةٌ في جدارٍ آخر، لتشتمل على شبكةٍ حديدية يوضع فيها الفحم، وقد صنع التجويف الذي يعلو الموقد من آجر في لون المرجان وملاطٍ أبيضَ ناصعٍ كالزبد، وللموقد إطارٌ حجري ومدفأةٌ اردوازية استطاعت فرانسي أن ترسم عليها بالطباشير، وبجوار الموقد غلاية ماء تستمد حرارتها من النار الموقدة، وفرانسي في كثيرٍ من الأحيان حين يصيبها البرد في يومٍ قارس، تدخل المطبخ وتضع ذراعيها حول الغلاية، وتسند خدها البارد في امتنانٍ على جدارها الفضي الدافئ.

وبجوار الغلاية حوضان للغسيل صُنعا من حجرٍ رخو يعلوهما غطاء خشبي له مفصلات، ومن الممكن أن ينزع الحاجز الذي يفصل بينهما فيصبحا حوضًا واحدًا للحمام، ولم يكن ذلك ليجعل منهما حوض حمام جيدًا، وفي بعض الأحيان يقع على رأس فرانسي حين تجلس في الحوض، وكان قاع الحوض مليئًا بالزلط والحجارة، مما يجعل فرانسي بدلًا من أن تظفر بحمامٍ منعش، تخرج منه وقد تقرح جسمها كله من الجلوس على تلك الحجارة الخشنة المبللة، وهناك أربعة صنابير للماء، ومهما تذكرت الطفلة مدى صعوبة فتحها وإغلاقها، فقد كانت تقفز فجأة من الماء والصابون، فينال ظهرها ضربة قوية من نتوءاتها البارزة، وكانت فرانسي تحمل على ظهرها أثرًا دائمًا من وخز النتوءات يثير غضبها.

والمطبخ تتلوه حجرتان للنوم، تؤدي إحداهما إلى الأخرى، وبئر التهوية مبنية في حجرتي النوم على أبعاد تجعلها شبيهة بالنعش، ونوافذها ذات لونٍ رماديٍّ داكن لا سبيل إلى فتح إحداها إلا إذا استعملت إزميلًا ومطرقة، ولكنك تجازى حين تفعل ذلك بلفحةٍ من الهواء البارد الرطب، وكانت بئر التهوية تنتهي بفتحةٍ منحدرة السقف تطل على السماء، تحمي زجاجَها السميك المعتم شبكةٌ سميكة من الحديد، وكانت الجوانب مصنوعة من ألواحٍ مجعدة من الحديد، وكان من المنتظر أن يسمح هذا التركيب بدخول الهواء والضوء إلى حجرتَي النوم، ولكن الزجاج السميك والحواجز الحديدة والقذارة التي تراكمت على مر السنين، حجبت الضوء من أن يتسلل إلى الداخل، كما كانت فتحات الجوانب تغصُّ بالتراب والسناج ونسيج العنكبوت، ولم يكن الهواء يستطيع أن يدخل، ولكن المطر والثلج كانا يستطيعان أن ينفذا بشدةٍ وعناد، ولا سبيل إلى تحاشيهما، وكان قاع البئر الخشبي في الأيام العاصفة يعلوه البلل والدخان، فتنبعث منه رائحةٌ تشبه رائحة القبور.

وكانت بئر التهوية اختراعًا مرعبًا، يقوم مقام صندوق رنان بالرغم من إغلاق نوافذها بإحكام، فتستطيع أن تسمع شئون الناس جميعًا، وتجري الفئران حول القاع، وكان خطر الحريق يهدد المكان دائمًا، فإذا ما ألقى سائقُ قطيعٍ مخمورٌ غائب الذهن عود ثقاب في بئر التهوية، وحسب أنه يلقي به إلى الفناء أو الشارع، فإن النار لا بد أن تلتهم البيت في لحظة، وكانت النفايات القذرة تتجمع في القاع الذي لم يكن في مقدور أحدٍ أن يصل إليه (كانت النوافذ أصغر من أن تسمح بمرور جسم الإنسان)، فأصبح أشبه بالمخزن المخيف يلقي فيه الناس بالنفايات التي يريدون أن يتخلصوا منها، وكانت شفرات الموسى الصدئة والخرق الملوثة بالدم أكثر النفايات براءةً وطهرًا، وفكرت فرانسي وهي تنظر إلى بئر التهوية ذات مرة فيما قاله القسيس عن المطهر، ورأت بعين الخيال أنه يشبه بلا شك قاع بئر التهوية بصورةٍ مكبرة، وحين تدلف فرانسي إلى البهو تمر بحجرتَي النوم، مقشعرة البدن، مغمضة العينين.

والبهو أو الحجرة الأمامية خير الحجرات، تطل نافذتاها العاليتان الضيقتان على الشارع الصاخب المثير، والطابق الثالث على ارتفاعٍ يجعل أصوات الشارع تقل وتخفت، لتستحيل صوتًا تهدأ له النفس.

والحجرة مكانٌ له احترامه ووقاره، لها بابها الخاص المؤدي إلى الردهة، وذلك الباب يوفر على الزائرين مشقة الوصول إلى البهو عن طريق المطبخ مارين بحجرتَي النوم، والجدران مغطاة بورقٍ معتم له لونٌ بنيٌّ داكن، رُسمت عليه خطوطٌ ذهبية، وللنوافذ من الداخل مصراعان صنعا من الألواح الخشبية، التي تقترب من كلا الجانبين لتصنع فتحةً صغيرة.

وفرانسي تقضي ساعاتٍ كثيرة في سعادة تجذب تلك المصاريع ذات المفصلات، ثم تراقبها وهي تنطوي مرتدةً مرةً أخرى بلمسةٍ من يدها، وترى في ذلك عجيبة لا يملها النظر قط، تلك المصاريع التي تستطيع أن تغطي النافذة كلها وتحجب الضوء والهواء، ثم تستطيع بالرغم من ذلك أن تنطوي على نفسها في بيتها الصغير، وتبدو للعين واجهة زهت بإطارٍ ساذج.

وللبهو موقدٌ منخفض بني داخل مدفأة من الرخام الأسود، ونصف الموقد الأمامي هو الذي يظهر للعين فحسب، كان شبيهًا ببطيخةٍ هائلة الحجم شُطرت نصفين وبرز جانبها المستدير، وكان يشتمل على نوافذَ عديدة من غراء السمك، لها إطارٌ رفيع من الحديد المنقوش.

وفي عيد الميلاد، وهو الوقت الذي تستطيع فيه كاتي أن تتحمل نفقات إشعال النار في البهو فتتوهج النوافذ جميعًا، كانت فرانسي تشعر بسرورٍ عظيم وهي تجلس هناك تنعم بالدفء، وتراقب النوافذ حين يستحيل لونها الوردي الأحمر إلى كهرمانيٍّ أصفر عندما تذوي النار.

وعندما كانت كاتي تدخل وتضيء مصباح الغاز، فتنمحي الظلال ويشحب الضوء في نوافذ الموقد، كانت فرانسي تحسُّ كأنما اقترفت بهذه الفعلة إثمًا عظيمًا.

وكان البيانو أروع شيء في الحجرة الأمامية، كان معجزةً تصلي من أجلها طول حياتك، وهيهات أن تتحقق، ولكنه كان ماثلًا هناك في بهو بيت نولان، معجزةً مجسمة أتت بلا أمنية أو صلاة؛ ذلك أن السكان السابقين تركوا البيانو؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يتحملوا نفقات نقله.

ونقل البيانو في تلك الأيام مسألة من المسائل التي تقتضي العناء والتفكير، ولم يكن من المستطاع الهبوط بالبيانو على ذلك السلم الضيق المنحدر؛ إذ يقتضي الأمر حزمه وربطه بالحبال، ثم رفعه وإخراجه من النوافذ بمعونة بكرةٍ ضخمةٍ معلقة بالسقف، ويتم ذلك في كثيرٍ من الضجيج والتلويح بالأيدي ولبس الخوذ فوق رأس رئيس الحمالين، ويقتضي الأمر أيضًا أن يخلو الشارع من المارة حين ينقل بيانو، ويرد الشرطي جماهير الناس إلى الوراء ولا يسع الأطفال إلا الروغان من المدرسة، وهناك دائمًا تلك اللحظة المشهودة حين تهتز تلك الكتلة المحزومة وهي خارجة من النافذة، وتضطرب في الهواء لحظةً كأنما هي تترنح قبل أن تستوي، ثم تبدأ هبوطها البطيء المحفوف بالخطر، وينطلق الأطفال مهللين بأصواتٍ خشنة غليظة.

وكان ذلك العمل يتكلف خمسة عشر دولارًا، أي ثلاثة أضعاف ما يتكلفه نقل بقية الأثاث جميعًا؛ ولذلك سألت صاحبة البيانو كاتي عما إذا كان في إمكانها أن تتركه، على أن تعنى به كاتي، وفرحت كاتي وهي تعاهدها على ذلك، وطلبت المرأة في قلقٍ من كاتي ألا تتركه للبرودة والرطوبة، وأن تفتح أبواب غرف النوم في الشتاء حتى تتسرب بعض حرارة المطبخ إليه، وتمنع عنه الالتواء والانثناء، وسألتها كاتي: هل تستطيعين العزف عليه؟

وقالت السيدة في أسف: لا، لا أحد في الأسرة يستطيع أن يعزف، ليتني كنت أستطيع.

– لماذا اشتريتِه إذن؟

– كان في بيت بعض الأثرياء وعرضوه للبيع بثمنٍ بخس، وكنت أرغب كل الرغبة في اقتنائه، لا، لا أستطيع أن أعزف عليه، ولكنه كان جميلًا جدًّا يضفي على الغرفة بأكملها جمالًا وبهاءً.

ووعدت كاتي بأن تتعهده خير تعهد، حتى يتسنى للمرأة أن ترسل في طلبه، ولكن ذلك لم يحدث، ولم ترسل المرأة في طلبه قط، وامتلكت أسرة نولان ذلك البيانو الجميل.

وكان البيانو صغير الحجم صنع من خشبٍ مطلي باللون الأسود، ولكنه كان يتألق بالرغم من سواده، وكانت واجهته المغطاة بقشرةٍ رقيقة من الخشب النفيس، قد صنعت بحيث تصوِّر رسمًا جميلًا محلًّى بحريرٍ ورديٍّ داكن، تحت هذا الرسم المنقوش في الخشب، ولم يكن غطاؤه من النوع الذي يطوى إلى الخلف في تكسرٍ كالأجهزة الرأسية الأخرى، وإنما كان يدار إلى الخلف فحسب، ويستند على الخشب المرسوم كدرعٍ مطليةٍ جميلةٍ داكنة اللون، وكان هناك حامل للشمعة على كل جانب، فتستطيع أن تضع فيه شموعًا بيضاءَ خالصة، وتعزف في ضوء الشموع الذي يُسقِط ظلالًا حالمة على المفاتيح العاجية البيضاء في لون الزبد، وتستطيع أن ترى المفاتيح أيضًا منعكسة على الغطاء الداكن اللون.

وكان البيانو أول شيء رأته فرانسي حين دخلت أسرة نولان الحجرة الأمامية، في تجولها الأول وهي تفحص البيت الذي ستسكنه، وحاولت أن تحيطه بذراعيها ولكنه كان أكبر من أن تستطيع ذلك، فاكتفت بأن احتضنت المقعد ذا الوشي الوردي الباهت.

ونظرت إلى البيانو والفرحة ترقص في عينَيها، وكانت لاحظت بطاقةً بيضاء في نافذة الطابق الذي يقع أسفل طابقها، كتب عليها «دروس للبيانو» ولاحت لكاتي فكرة.

وجلس جوني على المقعد السحري الذي يدور أو يعلو أو يهبط، بما يناسب حجم من يجلس عليه، وأخذ يعزف، ولم يستطع العزف بلا شك أو قراءة العلامات الموسيقية، ولكنه عزف قليلًا من المقامات، واستطاع أن يغني أغنيةً ويعزف أنغامًا من حينٍ إلى حين، وكان لها في الحق وقع كأنما هو يغني متمشيًا مع اللحن، وعزف مقامًا صغيرًا، ونظر في عينَي طفلته الكبرى، وابتسم ابتسامةً ملتوية، وابتسمت فرانسي لابتسامته، وقلبها ينتظر مترقبًا في شوقٍ ولهفة، وعزف المقام الصغير ثانية والتزمه، ثم غنَّى على صوت صداه الرقيق بصوته الصافي الحار:

إن شواطئ ماكسويلتن تبدو جميلة،
حين يطالعها الندى في باكورة الصباح
(مقام – مقام)
وهناك وافتني آني لوري وبرَّت بوعدها
(مقام – مقام – مقام – مقام).

وأشاحت فرانسي بوجهها متحاشية أن يرى أبوها دموعها، وقد خشيت أن يسألها عن سبب بكائها فلا تستطيع لذلك جوابًا، كانت تحبه، وتحب البيانو، لكنها لم تجد سببًا يبرر الدموع التي سالت من عينَيها في سهولةٍ ويسر.

وتكلمت كاتي، وكانت في صوتها رنة من ذلك الحنان العذب المعهود، الذي افتقده جوني في السنة الأخيرة: هل هذه أغنيةٌ أيرلندية يا جوني؟

– إنها اسكتلندية.

– لم أسمعك تغنيها قبل ذلك.

– نعم، لا أظن أني غنيتها، وما هي إلا أغنيةٌ أعرفها، إنني لم أغنِّها أبدًا؛ لأنها ليست الأغنية التي يرغب الناس في سماعها وسط الضجيج حيث أعمل، فإنهم سرعان ما يسمعون أغنية «نادني في عصر يومٍ مطير»، فإذا أمعنوا في الشراب لا يسمعون إلا أغنية «أديلين الحلوة».

وسرعان ما استقر بهم المقام في البيت الجديد، وبدا الأثاث المألوف غريبًا، وجلست فرانسي على كرسي ودهشت أن ملمسه، كان كملمسه عندما كانوا في مسكنهم بشارع لوريمر، ولكن إحساسها كان قد تغير، فلماذا لم يتغير ملمس الكرسي؟

وبدت الحجرة الأمامية جميلة بعد أن نظمها أبوها وأمها، كان هناك بساطٌ أخضر لامع رسمت عليه ورودٌ قرنفلية اللون، وعُلِّقت على النوافذ ستائرٌ مزركشةٌ منشِّاة بلون الزبد، واحتلت وسطَ الحجرة مائدة لها سطحٌ رخامي وثلاث قطع من المخمل الرديء الأخضر تغطي كراسي البهو، ويقوم في الركن حاملٌ من الخيزران وُضعت عليه حافظة صور مغطاة بالمخمل الرديء، تشتمل على صورٍ للأخوات من أسرة روملي، وهن طفلات يرقدن على بطونهن فوق قطعةٍ من الفراء، والخالات الكبيرات ينظرن في صبرٍ ويقفن عند أكتاف أزواجهن الجالسين ذوي الشوارب الكبيرة، ووضعت كئوسٌ تذكاريةٌ صغيرة على بعض الرفوف الصغيرة، وكانت الكئوس وردية أو زرقاء محلاةً برسوم من الذهب المرصع، تمثل زهور «البنسيه» الزرقاء وورودًا حمراءَ أمريكيةً جميلة، وكانت هناك عبارات مثل «اذكرني» و«الصداقة الحق» منقوشة بالذهب، وكانت الكئوس الصغيرة والأطباق هدايا تذكارية تلقَّتها كاتي من صديقاتها القديمات، ولم تكن تسمح لفرانسي أبدًا أن تلعب بها.

وعلى الرف السفلي وضعت محارةٌ مجعدة بيضاء في لون العظام، تبدو من الداخل ناعمةً وردية اللون، وقد أحبها الطفلان كثيرًا وأطلقا عليها اسمًا محببًا هو «توتسي».

وكانت المحارة حين ترفعها فرانسي وتلصقها بأذنها تهمس منشدة صوت البحر الفسيح، وأحيانًا ينصت جوني إلى المحارة ليُسعد طفليه، ثم يمسكها ويبسط ذراعه طويلًا على نحوٍ تمثيلي، وينظر إليها وهو يذوب عاطفةً، ويغني:

على الشاطئ عثرت على محارة،
ورفعتها إلى أذني،
واستمعت في فرحٍ إليها وهي تغني
أغنية البحر الحلوة الصافية.

ثم رأت فرانسي من بعدُ البحرَ لأول مرة حين أخذها جوني في نزهةٍ إلى كنارسي، وكل ما لفت نظرها فيه أنه يصدر منه صوتٌ شبيه بالهدير الخافت الحلو، الذي ينبعث من المحارة توتسي.

١٦

إن حوانيت الحي جزءٌ هامٌّ من حياة الطفل في المدينة، وصِلَته بها تمده بالزاد الذي يحفظ للحياة استمرارها، ويتمثل فيها الجمال الذي تصبو إليه نفسه، وتتوافر فيها الأشياء البعيدة المنال، التي لا يملك إلا أن يحلم بها ويهفو إليها.

وفرانسي تحب محل الرهن أكثر من غيره أو تكاد، لا من أجل الكنوز الهائلة المنثورة في بذخٍ وراء نوافذه ذوات القضبان، ولا من أجل المغامرة التي تتوهمها وهي ترى النساء المتشحات يتسللن إلى المدخل الجانبي، ولكن من أجل الكرات الكبيرة الذهبية الثلاث، التي كانت معلقة في الفضاء فوق المحل، تتألق في ضوء الشمس أو تهتز في استرخاء حين تهب الريح، كأنها تفاحاتٌ ذهبيةٌ ثقيلة، وعلى أحد الجوانب مخبز يبيع فطائر شارلوت الجميلة، تزين قمَمَها المصنوعةَ من الزبد حلوى الكرز الأحمر، لمَيْسوري الحال الذين يستطيعون أن يشتروها.

وعلى الجانب الآخر محل جولندر للطلاء، يواجهه حاملٌ عُلق فيه «صحنٌ» مشدوخ عولج على نحوٍ مثير، وحُفرت في قاعه فتحةٌ تتدلَّى منها سلسلة تحمل حجرًا ثقيلًا، وهذا يثبت كيف كان أسمنت ميجر قويًّا متينًا، وكان بعض الناس يقولون إن «الصحن» صُنع من الحديد وطُلي بالطلاء، حتى يشبه الفخار الصيني المتصدع، ولكن فرانسي كانت تميل إلى الاعتقاد بأنه «صحن» أصابه صدع، ثم عاد سليمًا بفعل الأسمنت العجيب.

وأكثر المحالِّ مثارًا للاهتمام، مقامٌ في كوخٌ صغيرٌ موجود منذ كان الهنود يتسللون في ويليمسبرج، وقد بدا غريبًا بين البيوت المستأجرة بنوافذه ذات التقاسيم الزجاجية الصغيرة، ومناضده المصفَّحة وسقفه الشديد الانحدار، ولهذا المحل نافذةٌ عظيمة ذات مشربياتٍ صغيرة، يجلس إلى مائدةٍ وراءها رجلٌ وقور، يصنع سجائرَ طويلةً رقيقة لها لونٌ بنيٌّ داكن، ويبيع الأربع منها بخمسة سنتات، ويختار الورقة الخارجية بعنايةٍ من حفنةٍ من التبغ، ويملؤها بمهارةٍ بفتات التبغ ذي الألوان البُنية المختلفة، ثم يلفُّها على نحوٍ جميل جدًّا، فتصبح محكمةً دقيقة لها طرفان مربَّعان، وكان الصانع من الطراز القديم الذي يهزأ بالتقدم، فرفض أن يُدخل غاز الاستصباح ليضيء محله، وفي بعض الأحيان يشتغل في ضوء الشموع، حين يغزو الظلام النهار مبكرًا، ويظل أمامه كثير من السجائر ينتظر اللف.

ويضع خارج محله تمثالًا من الخشب يمثل رجلًا هنديًّا واقفًا على كتلةٍ من الخشب في وضعٍ ينمُّ عن التهديد، ممسكًا بفأس حرب في يد، وحفنة من التبغ في اليد الأخرى، لابسًا حذاءً مفتوحًا رومانيًّا، وقد ارتفعت أربطته إلى ركبتَيه، ومئزرًا قصيرًا من الريش، وقلنسوةً حربية طُليت كلها بالألوان الحمراء والزرقاء والصفراء المشرقة، وكان صانع السجائر يطلي التمثال بطبقةٍ جديدة من الطلاء أربع مرات في السنة، ويحمله إلى داخل المحل في أوقات المطر، وأطلق أطفال الحي على التمثال الهندي اسم «الخالة ميمي».

ومن المحالِّ المفضلة لدى فرانسي محل لا يبيع شيئًا إلا الشاي والتوابل «البهارات»، وكان مكانًا مثيرًا يشتمل على صناديقَ مطلية بالدهان اللامع، تنبعث منها روائحُ غريبة خيالية، وهناك اثنا عشر صندوقًا من البُنِّ قرمزية اللون عليها كلماتٌ مثيرة، كتبت على واجهاتها بالحبر الأسود: البرازيل، الأرجنتين، تركيا، جاوة، خليطٌ متنوع! والشاي يعبأ في صناديقَ أصغر حجمًا؛ صناديق جميلة لها أغطية تنسدل عليها، وكُتب عليها: أولونج، فرموزا، برتقالي، صيني أسود، لوز مزهر، ياسمين، شاي أيرلندي. وكانت «البهارات» في صناديقَ صغيرة خلف مائدة الصراف، صُفَّت أسماؤها في صفٍّ وراء الرفوف: قرفة، قرنفل، زنجبيل، توابل منوعة، جوزة الطيب، ذرور الكرى (بهار هندي)، فلفل، غلال، الساك، الصعتر، المردقوش، وكل أنواع الفلفل تطحن في طاحونةٍ صغيرة عند بيعها.

وهناك طاحونة بُنٍّ كبيرة تُدار باليد، والبقول موضوعة في حوضٍ نحاسيٍّ لامع، والعجلة الكبيرة تدار باليدين، والمسحوق الطيب الرائحة ينثال في صندوقٍ قرمزي اللون يشبه المغرفة من الخلف.

وأسرة نولان تطحن البن في البيت، وفرانسي تحب أن ترى أمها جالسة في مرحٍ في المطبخ، ممسكةً بركبتَيها طاحونة البن، وتطحن وهي تدير في غضبٍ معصمها الأيسر، وترفع بصرها لتتحدث مع أبيها بعينَين متلألئتَين، على حين امتلأت الحجرة بالرائحة الزكية التي تستريح لها النفس، تنبعث من البن المطحون الطازج.

وعند بائع الشاي ميزانٌ عجيب، له كفتان من النحاس البراق دأب على مسحهما وتلميعهما كل يوم، منذ أكثر من خمسة وعشرين عامًا، حتى أصبحتا رقيقتَين كأنهما من الذهب المصقول، وكانت فرانسي وهي تشتري رطلًا من البن أو أوقية من الفلفل، تراقب البائع وهو يضع قطعةً فضيةً مصقولة عليها قيمة وزنها في كفة، وينقل في رقةٍ إلى الكفة الأخرى الوزنة المعطرة، مستخدمًا في ذلك مغرفةً فضية، وكانت تكتم أنفاسها وهي تراقبه حين تُسقط المغرفة قليلًا من حبات تزيد على الوزن، أو ينساب منها في رقةٍ قدر يقل عن المطلوب، وتمر بها لحظةٌ من الطمأنينة الهانئة حين تتعادل الكفتان الذهبيتان وتثبتان في اتزانٍ كامل، ويخيل إليها أنه لا يمكن أن يحدث خطأ ما في العالم، حيث توزن الأشياء بهذا الميزان الدقيق.

وكان سر الأسرار لدى فرانسي هو محل الرجل الصيني ذا النافذة الواحدة، وكان هذا الرجل يحتفظ بجديلة الشعر حول رأسه، وقالت أمها إنه يفعل ذلك ليستطيع العودة إلى الصين متى أراد، وإذا ما قصَّها فلن يسمحوا له بالعودة، ومن عادته أنه يبدل قدمَيه في صمتٍ من الأمام وإلى الخلف في خُفَّيه الأسودَين من اللباد، ويستمع في صبرٍ إلى مطالب الزبائن بشأن قمصانهم، فلما جاءته فرانسي طوى يديه في الأكمام الواسعة لقميص معطفه المصنوع من قماش الننكين وأطرق ببصره إلى الأرض، وظنت أنه رجلٌ حكيم متأمل يستمع بكل قلبه، ولكنه لم يفهم شيئًا مما قالت؛ لأنه لم يكن يعرف من اللغة الإنجليزية إلا قدرًا قليلًا لا يعدو كلمتَين هما: تذكرة وقميص، وينطقهما نطقًا غير سليم.

ولما أحضرت فرانسي قميص أبيها المتسخ إليه أخفاه تحت مائدة الصراف، وأخذ قطعةً مربعة من نسيجٍ عجيب من الورق، وغمس فرشاةً صغيرة في إناء يشتمل على الحبر الشيني، ورسم على الورقة خطوطًا قليلة بالفرشاة، ثم أعطاها تلك الوثيقة السحرية، بدلًا من قميصٍ رثٍّ قذر، وبدت لها هذه المقايضة عجيبة.

وانبعثت من داخل المحل رائحةٌ نظيفة دافئة، ولكنها خفيفة تشبه رائحة الزهور العديمة الرائحة في حجرةٍ حارة، وكان الرجل يغسل القمصان في فجوةٍ غامضة، ولا بد أنه يفعل ذلك في منتصف الليل؛ لأنه يقف طول اليوم من السابعة صباحًا حتى العاشرة مساء في المحل، أمام منضدة الكي النظيفة، يدفع مكواةً سوداء ثقيلة إلى الأمام وإلى الخلف، وهذه المكواة تشتمل من الداخل بلا شك على جهازٍ صغير للبنزين يحفظها ساخنة، ولم تكن فرانسي تعلم ذلك وظنت أنه سر من أسرار بني جنسه، أنه يستطيع أن يكوي بمكواة لا يسخنها أبدًا على موقد، وكانت تؤمن بنظريةٍ غامضة، هي أن الحرارة تأتي من مادةٍ يستعملها بدلًا من النشا الذي يُنشِّي به القمصان والبنيقات.

وعندما أحضرت فرانسي التذكرة وقطعة السنتات العشرة ودفعتهما فوق مائدة الصراف، ناولها القميص بعد أن لفَّه وأعطاها بندقتَين بقية الحساب، وأحبت فرانسي البندقتَين؛ لأن لهما قشرةً صلبة يسهل كسرها، بداخلها ثمرٌ ليِّنٌ حلو المذاق، وبداخل الثمرة نواةٌ صلدة لم يستطع طفل من قبلُ قط أن يكسرها، ويقال إن تلك النواة تشتمل على نواةٍ أصغر منها حجمًا وهكذا دواليك، ويقال أيضًا إن النوى سرعان ما تمعن في الصغر حتى لا تستطيع أن تراها إلا بالمجهر، وهذه النوى الصغيرة تتدرج في الصغر حتى لا يمكنك أن تراها لا بالمجهر ولا بغيره، ولكنها تكمن في البندقة دائمًا، ولا يمكن أن تنتهي أبدًا، وهذا أول عهد فرانسي باللانهاية.

وخير الأوقات عند فرانسي حين يقوم الرجل بفك النقود، فيخرج إطارًا خشبيًّا صغيرًا ربط بقضبانٍ رقيقة عليها كراتٌ زرق وحمر وصفر وخضر، ويزحلق الكرات لتصعد القضبان النحاسية ويتأملها بسرعة، ثم يقرعها حتى يردها جميعًا إلى مكانها معلنًا «تسعة وثلاثين سنتًا.» كانت الكرات الصغيرة تنبئه بمقدار النقود التي يأخذها، والمقدار الذي يدفعه.

وكانت أمنية فرانسي أن تصبح صينية وتمتلك مثل تلك اللعبة الجميلة لتعدَّ عليها، يا للمتعة! وتأكل كل البندق الذي تريده، وتعرف سر المكواة التي تظل ساخنة دائمًا، بالرغم من أنها لم توضع على موقدٍ أبدًا، يا للروعة! وتطلي الرموز بطبقة طلاء خفيفة، وتدير معصمها تلك الدورة السريعة، وتصنع علامةً سوداءَ واضحةً رقيقة كجناح الفراشة! كان ذلك هو سر الشرق في بروكلين.

١٧

دروس للبيانو! يا لها من كلماتٍ سحرية! وما إن استقر المقام بأسرة نولان حتى زارت كاتي السيدة التي كتب على بابها «دروس للبيانو»، وفي هذا البيت فتاتان اسمهما الآنستان تنمور، إحداهما الآنسة ليزي لتعليم العزف على البيانو، والأخرى الآنسة ماجي لصقل الصوت وتمرينه، وتتقاضيان عن كل درس خمسة وعشرين سنتًا، واقترحت كاتي نوعًا من المساومة مؤداه أن تقضي ساعةً في تنظيف بيت الآنستين تنمور نظير درس تتلقَّاه كل أسبوع.

واعترضت الآنسة ليزي محتجة بأن وقتها أكبر قيمة من وقت كاتي، وحاولت كاتي إقناعها قائلة إن الوقت هو الوقت، وأخيرًا أقنعت الآنسة ليزي حتى توافق على أن الساعة هي الساعة، ورتَّبا الأمر بمقتضى ذلك.

وحلَّ اليوم الذي بدأ فيه الدرس الأول، وصدرت التعليمات لنيلي وفرانسي بأن يجلسا في الحجرة الأمامية أثناء الدرس، ويفتحا عيونهما وآذانهما، ووُضع كرسي للمعلمة، وجلس الطفلان متجاورَين على الجانب الآخر للبيانو، وأخذت كاتي في عصبيةٍ تضبط المقعد وتعيد ضبطه، وجلس الثلاثة ينتظرون.

ووصلت الآنسة تنمور في الساعة الخامسة تمامًا، مرتدية ملابس الخروج بالرغم من أنها جاءت من الطابق السفلي فحسب، وعلى وجهها خمارٌ من التل، وعلى رأسها قبعة تمثل صدر طائر أحمر وجناحه، وقد طعن صدره بدبوسين من دبابيس القبعات، وحملقت فرانسي في القبعة القاسية فأخذتها أمها إلى حجرة النوم، وهمست في أذنها بأن الطائر لم يكن طائرًا على الإطلاق، وإنما هو مجموعة من الريش ألصق بعضها إلى بعض وينبغي ألا تحملق فيه، وصدقت قول أمها، ولكن عينَيها ظلتا ترتدان إلى الدمية المعذبة.

وأحضرت الآنسة تنمور معها كل شيء ما عدا البيانو، كان معها ساعة منبهة من النيكل، وآلة وقت تشحن بالبطارية، ودقَّت الساعة الخامسة فأعدتها لتدق في الساعة السادسة، ووضعتها على البيانو، وأخذت تستغل جزءًا من وقت الساعة الثمين، فخلعت قفازها الرمادي اللؤلؤي المحكم على يديها، ونفخت في كل إصبع من أصابعه، وسوته وطوته ثم وضعته على البيانو، وفكَّت خمارها وألقت به إلى الخلف فوق قبعتها، وطرقعت أصابعها، واختلست نظرةً إلى الساعة فشعرت بالرضا حين وجدت أنها قد استنفدت ما وسعها من دقائق الساعة، وأدارت آلة الوقت واتخذت مقعدها، وبدأ الدرس.

وخلبت آلة الوقت لبَّ فرانسي حتى عزَّ عليها أن تنصت لما كانت تقوله الآنسة تنمور، وأن ترقب الطريقة التي تضع بها أصابع أمها على المفاتيح، وراحت تحلم أحلامًا تتمشى مع دقات الآلة الرتيبة التي تريح النفس.

أما نيلي فكانت عيناه المستديرتان الزرقاوان تدوران هنا وهناك، متتبعتين القضيب المتذبذب حتى تخدرت أعصابه، وراح في غيبوبة، وارتخت عضلات فمه وتدحرج رأسه الأشقر على كتفه، وأخذت فقاعة صغيرة تدخل وتخرج من فمه، وهو يتنفس أنفاسًا تختلط بلعابه، ولم تجرؤ كاتي على إيقاظه خشية أن تدرك الأنسة تنمور، أنها كانت تدرس لثلاثة نظير أجر واحد فحسب.

وأخذت آلة الوقت تواصل الدق سابحةً فيما يشبه الحلم، وأخذت الساعة تدق في تذمرٍ وضجر، والآنسة تنمور تعد: «واحد، اثنان، ثلاثة»، «واحد، اثنان، ثلاثة»، كأنها لا تثق بآلة الوقت.

وكانت أصابع كاتي المتورِّمة من العمل تناضل في عناء مع السلم الموسيقي الأول.

ومرَّ الوقت وغشي الظلام الحجرة، وفجأة انطلقت الساعة المنبهة تجلجل فتردد صداها في جنبات المسكن، وقفز قلب فرانسي، ووقع نيلي من فوق كرسيه وانتهى الدرس الأول، وتعثرت الكلمات على شفتَي كاتي، وهي تقول في امتنان: إنني أستطيع أن أمضي فيما علمتِنيه اليوم، حتى ولو لم آخذ درسًا آخر أبدًا، إنك لمدرِّسةٌ قديرة.

وقالت الآنسة تنمور، بالرغم من أنها سُرَّت من المديح: سوف لا أطلب منك أجرًا إضافيًّا عن الطفلين، وكل ما أريد هو أن تعلمي أنك لا تستغفلينني.

وصعد الدم إلى وجه كاتي، وأطرق الطفلان إلى الأرض وشعرا بالخزي، حين اكتشف وجودهما على هذا النحو، وقالت: سأسمح للطفلين بأن يبقيا معنا في الغرفة في أثناء الدرس.

وشكرتها كاتي، ووقفت الآنسة تنمور تنتظر، وأكدت لها كاتي الساعة التي ستذهب فيها لتنظيف بيتها، ولكنها ظلت واقفة تنتظر، وشعرت كاتي أنها تتوقع منها شيئًا فسألتها قائلة: ماذا تريدين؟

وتورَّد وجه الآنسة تنمور خجلًا، وقالت في كبرياء: إن السيدات حيث أعطي الدروس … حسنًا … إنهن يقدمن لي فنجانًا من الشاي بعد الدرس.

ووضعت يدها على قلبها وقالت في إبهام: تلك الدرجات من السلم!

وسألتها كاتي: هل لك في قدحٍ من القهوة توًّا؟ ليس عندنا شاي.

وجلست الآنسة تنمور في ارتياح، وهي تقول: بكل سرور.

واندفعت كاتي إلى المطبخ وسخنت القهوة التي كانت معدة على الموقد دائمًا، وبينما هي تسخنها وضعت قطعةً من السكر وملعقة على صينيةٍ صغيرةٍ مستديرة.

وفي هذه الأثناء كان نيلي قد استغرق في النوم على الأريكة، وجلست الآنسة تنمور وفرانسي تتبادلان النظرات المتفرِّسة، وأخيرًا سألت الآنسة تنمور: فيمَ تفكرين أيتها البنت الصغيرة؟

وقالت فرانسي: لا أفكر في شيء!

– إنني أراكِ في بعض الأحيان تجلسين عند منحنى الرصيف بالساعات، ما الذي يشغل تفكيرك في مثل هذه الأوقات؟

– لا شيء، إنما أروي لنفسي الحكايات!

وأشارت الآنسة تنمور إليها في صرامة: أيتها البنت الصغيرة! إنك ستصبحين كاتبة قصة حين يشتد عودك، وكان كلامها أشبه بالأمر منه بتقرير الحال.

ووافقت فرانسي متأدبة: نعم يا سيدتي.

وأقبلت كاتي تحمل الصينية وقالت: إن هذه القهوة قد لا تبلغ في حسن الصنع ما درجتِ عليه.

واعتذرت قائلة: ولكنها ما يتوافر لنا في البيت.

وقالت الآنسة تنمور في ظُرف: إنها طيبة جدًّا.

ثم حرصت على ألا تجرع القدح جرعةً واحدة.

وكانت الآنستان تنمور تعيشان على الشاي الذي تتناولانه عند تلميذاتهما، وكانت الدروس القليلة كل أسبوع وأجر كل درس منها ربع دولار فحسب، لا تجعل حياتهما حياةً ميسرة.

ولا يبقى لهما إلا القليل بعد دفع أجرة البيت، ومعظم السيدات يقدمن لهما الشاي الخفيف والقراقيش المعالجة بالصودا، أجل كانت السيدات يعرفن أصول اللياقة ويقدمن لهما فنجانًا من الشاي، ولكنهن لم يقصدن تقديم وجبة طعام ويدفعن ربع دولار أيضًا، وهكذا أصبحت الآنسة تنمور تنتظر في اشتياقٍ الساعة التي تعطيها لأسرة نولان، فهناك القهوة التي تبعث فيها النشاط، وفطيرة أو شطيرة البولونيا التي تقيم أودها.

وكانت كاتي بعد كل درس تلقن الطفلَين ما تعلمته، فتجعلهما يزاولان المران نصف ساعة كل يوم، وبمضي الوقت تعلَّم ثلاثتهم العزف على البيانو.

وتصور جوني، حين سمع أن ماجي تنمور تعطي دروسًا في الصوت، أنه يستطيع أن يبلغ مبلغ كاتي فيما دبرت، وعرض على الآنسة تنمور أن يصلح حبلًا في إفريزٍ مكسور بإحدى نوافذ بيتها، نظير درسَين في الصوت تتلقاهما فرانسي.

وأخذ جوني، الذي لم يرَ في حياته حبل إفريز قط، مطرقة وكماشة، وأخرج إطار النافذة كله من غلافه، ونظر إلى الحبل المقطوع، وكان ذلك هو كل ما يستطيع أن يفعله، وحاول ولكنه لم يفعل شيئًا، كان متحمسًا من أعماقه ولكنه لا يتقن الصنعة، حاول أن يعيد النافذة إلى مكانها ليمنع مطر الشتاء البارد من النفاذ إلى الحجرة، وبينما راح يفكر في الحبل المقطوع، إذا به يكسر لوحًا من الزجاج.

وفشلت المقايضة فشلًا ذريعًا، واضطرت الآنستان تنمور إلى أن تحضرا الزجَّاج ليصلح النافذة، كما اضطرت كاتي إلى أن تقوم بالغسل للآنستين مرتين دون أن تدفعا شيئًا، لتعوض لهما ما كان من فعل جوني، وألغيت الدروس التي كانت ستتلقاها فرانسي في الصوت إلى غير رجعة.

١٨

وانتظرت فرانسي أيام الدراسة في شوقٍ وشغف، وكان محتاجة إلى كل الأمور التي تصورت أنها تتصل بالمدرسة، إنها طفلةٌ وحيدة تشتاق إلى صحبة الأطفال الآخرين، وتريد أن تشرب من نافورات المياه التي في فناء المدرسة، وكانت حلوق النافورات مقلوبةً حتى ظنت أنها تدر ماء الصودا، وليس الماء العادي، وسمعت أمها وأباها يتكلمان عن حجرة المدرسة، وأرادت أن ترى الخريطة التي تُجذَب إلى أسفل كالستارة، بل كان أكثر ما تريده هو «أدوات المدرسة» التي تشتمل على دفتر، ولوح كتابة، وصندوق الأقلام ذي الغطاء المنزلق الذي يمتلئ بأقلام الرصاص الجديدة، ومَسَّاحة الرصاص، ومبراة صغيرة من القصدير خاصة بالأقلام الرصاص، صُنعت على شكل مدفع، «ونشافة» لقلم الحبر، ومسطرة صفراء من الخشب الناعم طولها ست بوصات.

والقانون يأمر بتطعيم الأطفال قبل دخول المدارس، وكم كان ذلك شيئًا مخيفًا! وحاولت هيئات الصحة أن تشرح للفقراء والأُميين أن التطعيم، لم يكن سوى حقن المصل غير الضار من ميكروب الجدري، لتكسب الجسمَ مناعةً ضد الميكروبات القاتلة، لكن الأهالي لم يصدقوا ذلك، وكل ما فهموه هو أن الجراثيم ستحقن في جسم الطفل السليم، ورفض بعض الأهالي الأجانب أن يسمحوا لأطفالهم بأن يطعَّموا، فلم يُسمح لهم بدخول المدرسة، ثم عاقبهم القانون لأنهم لم يرسلوا أطفالهم إلى المدرسة، وسألوا: «أليس هذا بلدًا حرًّا؟»، وراحوا يناقشون ذلك قائلين: أية حرية في ذلك إذا كان القانون يفرض عليك أن تعلم أطفالك، ثم هو يعرضهم للخطر بإدخالهم المدرسة؟

وحملت الأمهات الباكيات أطفالهن مولولات إلى مركز الصحة لتطعيمهم، وكان يبدو عليهن كأنما هن يحملن أطفالهن الأبرياء إلى المجزر، وصرخ الأطفال في جنونٍ حين وقعت أنظارهم لأول مرة على الإبرة، وألقت الأمهات المنتظرات في الحجرة الأمامية أوشحتهن على رءوسهن، وأخذن يصرخن بصوتٍ عالٍ كأنما يولولن على ميت.

وكانت فرانسي قد بلغت السابعة من عمرها، وبلغ نيلي السادسة، وكاتي أخرت فرانسي عن دخول المدرسة ليدخل الطفلان معًا، فيستطيع كلٌّ منهما أن يحمي الآخر من شر الأطفال الكبار، وتوقفت كاتي في يوم سبتٍ كئيب من شهر أغسطس في حجرة النوم، قبل أن تذهب إلى عملها لتكلم الطفلين، فأيقظتهما وأعطتهما التعليمات.

– والآن حين تنهضان، اغتسلا جيدًا، وحينما تبلغ الساعة الحادية عشرة اذهبا عند منعطف الشارع إلى مركز الصحة العام، واطلبا القائمين بالعمل هناك أن يطعِّماكما؛ لأنكما ستذهبان إلى المدرسة في سبتمبر.

وبدأت فرانسي ترتعد، أما نيلي فانفجر باكيًا.

واستعطفت فرانسي أمها: أماه، هلا أتيتِ معنا؟

وقالت كاتي، وهي تخفي تأنيب ضميرها بالتظاهر بالسخط: عليَّ أن أذهب إلى العمل، فمن ذا يقوم بعملي إن لم أقم به؟

وسكتت فرانسي ولم ترد، وأدركت كاتي أنها تتخلى عنهما، ولكن لم تكن لها حيلة في ذلك، أجل لم تكن لها حيلة في ذلك!

كان يجب عليها أن تذهب معهما حتى يستمدَّا من وجودها القوة والطمأنينة، ولكنها تعلم أنها لن تحتمل تلك المحنة، وكان لا بد من تطعيمهما، وإن وجودها معهما هناك أو في أي مكانٍ آخر لن يمنع وقوع الأمر، فلماذا لا يُستغنى عن واحد من ثلاثتهم، ثم قالت لنفسها إن الحياة قاسيةٌ مريرة ولا مفر من أن يعيشاها، فلتتركهما يرعيان نفسَيهما ليصلب عودهما وهما لا يزالان صغيرَين.

وقالت فرانسي في أمل: إن أبي سيذهب معنا إذن؟

– إن أباك في مركز الإدارة ينتظر عملًا، وسوف يغيب عن البيت طول اليوم، وقد بلغتما سنًّا تسمح لكما بالذهاب وحدكما، ثم إن التطعيم لن يؤلمكما.

وصرخ نيلي بصوتٍ أكثر حدة، وما كان بوسع أمه احتمال ذلك، فهي تحب الصبي حبًّا جمًّا، وقد حملها على الإحجام عن الذهاب معهما أنها كانت لا تحتمل أن ترى الصبي يتألم، حتى ولو بوخزة إبرة، وكادت تقرر الذهاب معهما، ولكنها أحجمت، إنها لو ذهبت فسوف تفقد نصف يوم من أيام العمل وتضطر إلى تعويضه صباح يوم الأحد، ثم إنها خليقة بأن يحل بها المرض من بعدُ! وهما خليقان أن يتصرفا بدونها على نحوٍ ما.

وأسرعت خارجة إلى عملها.

وحاولت فرانسي أن تهدئ روع نيلي المذعور، فقد أخبره بعض الصبية الكبار بأنهم سيقطعون ذراعه، حين يذهب إلى مركز الصحة، وأخذته فرانسي إلى الفناء لتزيل من عقله تلك الفكرة، وأخذا يصنعان أقراصًا من الطين، ونسيا كل النسيان أن يغتسلا كما قالت لهما أمهما.

واستهواهما عمل أقراص من الطين حتى نسيا ما كان من أمر الساعة الحادية عشرة أو كادا، وأصبحت أيديهما قذرةً كل القذارة من جراء اللعب في الطين.

وفتحت السيدة جاديس النافذة في الفترة ما بين الساعة العاشرة والحادية عشرة، وصاحت تقول إن أمهما طلبت منها أن تذكرهما حين تقترب الساعة من الحادية عشرة، وأنهى نيلي قرصه الأخير من الطين وبلَّله بدموعه، وأخذت فرانسي يده، وسار الطفلان يجران أقدامهما في خطواتٍ بطيئة، ملتفَّين حول منعطف الشارع، واتخذا مكانيهما على أريكة، وكانت تجلس إلى جوارهما أمٌّ يهودية تمسك بين ذراعَيها صبيًّا كبيرًا في السادسة من عمره، وأخذت تبكي وتقبله في جبينه بحبٍّ شديد من حينٍ إلى حين، وكانت الأمهات الأخريات يجلسن هناك وعلى وجوههن تجعيدات خطها العبوس والشقاء، ومن خلف الباب الزجاجي المغشَّى بالقطران حيث تجرى العملية المرعبة، كان يسمع نباحٌ متصل يتميز بصيحاتٍ حادة، ثم يخرج طفل شاحب اللون يلف ذراعه اليسرى بشريطٍ من الشاش الأبيض النقي، وتندفع أمه إليه تختطفه، ثم تسرع به خارج حجرة التعذيب، وهي تطلق سبابًا في لغةٍ أجنبية، وتهزُّ قبضتها إلى الباب المغشي بالقطران.

وظلت فرانسي ترتعد، ولم تكن قد رأت قط طبيبًا أو ممرضة في كل حياتها القصيرة، وجف لعابها هولًا وفزعًا حين رأت الملابس البيضاء، وشاهدت الآلات القاسية اللامعة التي وضعت على فوطةٍ فوق صينية، وشمت رائحة المحاليل المطهرة، وخاصة حين رأت جهاز التعقيم يتصاعد منه البخار، وقد رسم عليه صليبٌ أحمر في لون الدم.

ورفعت الممرضة كمها ومسحت جيدًا ذراعها اليسرى، ورأت فرانسي الطبيب يأتي ناحيتها في ملابسه البيضاء ومعه الإبرة الحادة القاسية، وأخذ حجمه يزيد ويزيد، حتى خُيِّل إليها أنه استحال إبرةً ضخمة، وأغمضت عينَيها تنتظر الموت، ولكن شيئًا لم يحدث، ولم تشعر بشيء، ففتحت عينَيها في بطءٍ وهي لا تكاد تجرؤ على الأمل بأن الأمر قد انتهى كله، ووجدت على مضضٍ أن الطبيب لا يزال هناك هو والإبرة الحادة وكل شيء، وكان الطبيب يحملق في ذراعها في امتعاض، ونظرت فرانسي أيضًا فرأت بقعةً صغيرة بيضاء على ذراعٍ قذرة بنية داكنة اللون، وسمعت الطبيب يقول للممرضة: قذارة، قذارة، قذارة، منذ الصباح إلى المساء، أنا أعلم أنهم فقراء، ولكنهم يستطيعون أن يغتسلوا، إن الماء ليس له ثمن، والصابون رخيص، هلا نظرت إلى تلك الذراع أيتها الممرضة؟

ونظرت الممرضة ثم قرقت كالدجاجة في رعب، ووقفت فرانسي هناك تحس لهيب الخزي يحرق وجهها، والطبيب رجلٌ من خريجي جامعة هارفارد، يمارس الطب الباطني في مستشفى الحي، وهو مُلزم بأن يشتغل ساعاتٍ قليلة كل أسبوع في إحدى العيادات المجانية الثلاث، وكان سيمارس مهنته ممارسةً أرقى من ذلك في بوسطون حين تنتهي فترة حصوله على شهادة الأمراض الباطنية، وكتب إلى خطيبته، وهي شخصيةٌ معروفة للمجتمع في بوسطون، يصف ممارسته للطب الباطني في بروكلين بنفس عبارات الحي قائلًا: إنها أشبه ما تكون بدخول المطهر.

وكانت الممرضة من ويليمسبرج، تستطيع أن تعرف ذلك من لهجتها، وكانت بنتًا لبعض المهاجرين البولنديين الفقراء، لكنها طموح، فاشتغلت بالنهار في محلٍّ للحلوى وذهبت إلى المدرسة بالليل، وأدت تمرينها في التمريض على نحوٍ ما، وكانت تأمل في الزواج ذات يوم من طبيب، ولا تريد أن يعلم أحد أنها جاءت من الأحياء الحقيرة.

ووقفت فرانسي مطرقة الرأس بعد غضبة الطبيب، كانت فتاة قذرة، ذلك ما كان يعنيه الطبيب الذي أصبح يتكلم في هدوء، سائلًا الممرضة كيف يستطيع هؤلاء الناس أن يواصلوا العيش، وإن العالم سوف يكون أفضل لو أنهم عقموا جميعًا بحيث لا يستطيعون أن ينجبوا بعدُ، أيعني بذلك أنه كان يريد لها أن تموت؟ أتراه يفعل شيئًا يؤدي إلى موتها؛ لأن يديها وذراعيها كانت قذرة من جراء أقراص الطين؟

ونظرت إلى الممرضة، وكانت كل النساء في نظر فرانسي أمهاتٍ كأمها، وخالتها سيسي وخالتها إيفي، وظنت أن الممرضة قد تقول شيئًا من هذا القبيل: ربما تكون أم هذه الفتاة من العاملات، ولم تجد وقتًا لغسلها جيدًا في هذا الصباح.

أو … أنت تعرف أيها الطبيب أن الأطفال يحبون اللعب في القذارة، ولكن ما قالته الممرضة حقًّا هو: أنت على حق، أليس هذا شيئًا مريعًا؟ إني أشفق عليك أيها الطبيب، ليس هناك عذر لهؤلاء الناس الذين يعيشون في القذارة.

إن الإنسان حين ينتزع نفسه من البيئة الفقيرة بالكفاح والجهد، يصبح واحدًا من اثنين: إما أن ينسى بيئته بعد أن ارتفع فوقها، وإما أن يرتفع فوقها ولا ينساها أبدًا، ويظل قلبه عامرًا بالحب والتجاوب مع هؤلاء الذين تخلَّفوا وراءه في الطريق الشاقِّ الوعر، واختارت الممرضة طريق النسيان، وبالرغم من ذلك تعلم وهي تقف هناك أنها بعد سنوات سوف يتملكها الأسى المتمثل في وجه تلك الطفلة التي تتضور جوعًا، وأنها سوف تتمنى في مرارةٍ لو أنها قالت لها كلمة تهدئ من روعها، وفعلت شيئًا لخلاص روحها الخالدة، كانت تعلم أنها صغيرة ولكن تنقصها الشجاعة لتصبح غير ما كانت عليه.

ولم تشعر فرانسي بشيءٍ قط حين وخزتها الإبرة، كانت موجات الألم بدأت تجتاح جسمها إثر كلمات الطبيب، وتطرد منه كل المشاعر الأخرى، وبينما الممرضة تربط ذراعها بقطعةٍ من الشاش بمهارة، والطبيب يضع الآلة في جهاز التعقيم، ويأخذ منها إبرةً جديدة، نطقت فرانسي قائلة: إن أخي سيأتي بعدي، وذراعه قذرة مثل ذراعي تمامًا، فلا تعجبا، ولا داعي لأن تخبراه بذلك، حسبكما أنكما أخبرتماني أنا.

وحملقا في تلك الطفلة الضئيلة التي نطقت على هذا النحو العجيب، وتمزق صوت فرانسي وهي تنتحب: لا داعي لأن تخبراه بذلك، ثم إن كلاكما لن يسيء إليه، فهو صبي لا يهمه كثيرًا أن يكون قذرًا.

واستدارت وتعثرت قدماها قليلًا، ثم خرجت من الحجرة، وسمعت — والباب يغلق — صوت الطبيب المندهش يقول: لم يكن يدور بخلدي قط أنها سوف تدرك ما قلت.

وسمعت الممرضة تقول وهي تتنهد: صدقت.

وكانت كاتي في البيت وقت الغداء حين عاد الطفلان، ونظرت إلى ذراعَيهما المربوطتين والأسى يفيض من عينَيها، وتكلمت فرانسي في انفعال: لماذا؟ لماذا يا أمي؟ لماذا هم يضطرون إلى … إلى … أن يقولوا أشياء ثم يغزوا إبرة في ذراعك؟

وقالت أمها في حزمٍ بعد أن انتهى كل شيء: إنه التطعيم، شيءٌ مفيد جدًّا، يجعلك تعرفين يدك اليسرى من اليمنى، يجب عليك أن تكتبي بيدك اليمنى حين تذهبين إلى المدرسة، وهذا الجرح سوف يكون هناك ليقول لك آه، آه، ليست هذه هي اليد، استعملي اليد الأخرى!

ورضيت فرانسي بهذا التفسير؛ لأنها لم تكن تستطيع قط أن تميز يدها اليسرى من اليمنى، وتأكل وترسم الصور بيدها اليسرى، وكانت كاتي تصحح لها ذلك دائمًا وتنقل قطعة الطباشير أو الإبرة من يدها اليسرى إلى اليمنى، وبدأت فرانسي بعد تفسير أمها للتطعيم تفكر في أنه ربما كان شيئًا رائعًا، بل ثمنًا زهيدًا تدفعه في سبيل حل مثل تلك المشكلة الكبرى، فتستطيع أن تميز يدها اليسرى من اليمنى، وبدأت فرانسي تستعمل يدها اليمنى بدلًا من اليسرى بعد التطعيم، ولم تعد تلقى في ذلك مشقةً أبدًا.

وخرت فرانسي صريعة الحمى في تلك الليلة، وشعرت برغبةٍ مؤلمة في أن تحكَّ موضع الحقن، وأخبرت أمها فانزعجت لذلك كثيرًا، وأصدرت إليها أوامر مشددة.

– يجب عليك ألا تحكِّيها مهما بلغ بك الأمر.

– لماذا لا أستطيع أن أحكها؟

– لأنك إن فعلت فإن ذراعك سوف تتورم ويسودُّ لونها وتسقط من جسدك، فلا تحكِّيها إذن!

ولم تقصد كاتي بذلك أن تفزع الطفلة، فقد استبدَّ بها الفزع هي نفسها، وكانت تعتقد أن تسمم الدم خليق بأن يحدث لو أن الذراع لُمست، وأرادت أن تفزع الطفلة حتى لا تحك ذراعها.

وركزت فرانسي انتباهها في الامتناع عن حكِّ الموضع الذي يؤلمها، وأحسَّت في اليوم التالي بوَخَزات الألم تسري في ذراعها، وبينما هي تستعد للنوم نظرت بحذرٍ تحت الرباط فأصابها الفزع، وهي ترى موضع دخول الإبرة متورمًا أخضر اللون، داكنًا متقيِّحًا يقطر منه سائلٌ أصفر اللون، فكيف وقع لها ذلك وهي لم تحكَّه، كانت تعلم أنها لم تفعل، ولكن صبرًا! ربما حكَّته الليلة السابقة أثناء نومها، نعم لا بد أنها فعلت ذلك، وخشيت أن تخبر أمها التي كانت خليقة بأن تقول: إنني أخبرتك وأخبرتك، وبالرغم من ذلك لم تستمعي إليَّ، فانظري ما حدث لك.

وكانت ليلة أحد، وأبوها يعمل خارج الدار، ولم تستطع أن تنام، ونهضت من سريرها، وذهبت إلى الحجرة الأمامية وجلست على النافذة، وأسندت رأسها على ذراعَيها وانتظرت أن تموت.

وسمعت في الثالثة صباحًا صوت التروللي الذي يسير في شارع جراهام، وهو يصرُّ متوقفًا في المحطة عند المنعطف، ومعنى هذا أن أحدًا ينزل منه، ومالت بجسمها خارج النافذة، نعم، لقد كان أباها، وسار يتهادى في الشارع بخطواته الخفيفة الراقصة يصفر لحن: «إن حبيبي هو الرجل الذي يعيش في القمر»، وبدا الشبح الذي يرتدي حلة السهرة وقبعة الدربي، ويضع تحت ذراعه لفةً أنيقة طويت داخلها فوطة النادل، نعم بدا ذلك الشبح لفرانسي كالحياة نفسها، سواء بسواء، ونادته حين وصل إلى الباب ورفع بصره إليها، وأمال قبعته في ظرف، ففتحت له باب المطبخ، وسألها: ماذا تفعلين حتى ذلك الوقت المتأخر أيتها المغنية الأولى؟ إنها ليست ليلة السبت كما تعلمين؟

وهمست: كنت أجلس في النافذة أنتظر حتى تسقط ذراعي!

وكتم ضحكته، وشرحت له أمر ذراعها، فأغلق الباب المؤدي إلى حجرة النوم وأضاء مصباح الغاز، ثم خلع الرباط عن ذراعها، وشعر بالغثيان حين رأى منظر الذراع المتورمة المتقيحة، ولكنه لم يشعرها بذلك قط، نعم، لم يشعرها بذلك قط.

– ما بكِ من شيءٍ يا طفلتي، لا شيء على الإطلاق، كان يجب أن تري ذراعي حين طعمت، كانت أكثر تورمًا واحمرارًا من ذراعك بكثير، بيضاء زرقاء، لا خضراء ولا صفراء، والآن انظري كيف عادت قويةً صلبة؟

وكان يكذب في ظرف؛ لأنه لم يكن قد طُعِّم قط.

وصبَّ جوني ماءً دافئًا في حوض، وأضاف إليه قليلًا من قطرات حامض الكربونيك، وغسل القرحة القبيحة مرة إثر مرة.

وتوجعت فرانسي حين أحست بوخزها، ولكن جوني قال إن الوخز معناه الشفاء، وغنَّى في همسٍ أغنية عاطفية وهو يغسل الجرح:

إنه لا يعنيه أبدًا أن يمضي في التجوال بعيدًا عن داره،
ولا يعنيه أبدًا أن يضرب في الأرض أو يطوف …

وتلفَّت حوله يبحث عن قطعةٍ نظيفة من القماش يستعملها رباطًا، ولم يجد شيئًا، فخلع معطفه وصدرية قميصه، وخلع قميصه الداخلي من فوق رأسه، وقطع منه قطعة قماش على نحوٍ تمثيلي.

واعترضت فرانسي: قميصك الداخلي الجديد …؟

– أوه! كان مليئًا بالخروق على أي حال!

وضمد ذراع ابنته، وكانت رائحة الدفء والسجائر المأثورة عن جوني تنبعث من قطعة القماش، لكن كان فيها شيء يهدئ من روع الطفلة، ويطمئنها إلى توافر أسباب الحماية والحب.

– والآن لقد أحكمت الرباط عليك أيتها المغنية الأولى، من الذي أوحى إليك بأن ذراعك ستسقط؟

– قالت أمي إنها ستسقط إذا حككتها، وإنني لم أقصد أن أحكها، ولكني أظن أنني فعلت وأنا نائمة.

وقبَّل خدها النحيل وقال: لا عليك من بأس، والآن اذهبي إلى فراشك.

وذهبت إلى فراشها ونامت في هدوءٍ بقية الليل، وتوقف الألم في الصباح وشفيت الذراع تمامًا في أيامٍ قلائل.

ودخن جوني سيجارًا آخر بعد أن ذهبت فرانسي إلى فراشها، ثم خلع ملابسه في بطءٍ ودس نفسه إلى جوار كاتي.

وكانت تشعر بوجوده وهي نائمة، كما أنها كانت في نوبةٍ عاطفية من نوباتها النادرة، فألقت ذراعها على صدره، ولكنه أزاحها في رفق، ورقد على طرف الفراش بعيدًا عنها، ونام متجهًا إلى الحائط، وطوى يديه تحت رأسه، ورقد يحملق الظلام بقية الليل.

١٩

وتوقعت فرانسي أن تجد في المدرسة أمورًا عظيمة، أما وقد علمها التطعيم في لحظةٍ أن تُميِّز بين يدها اليمنى ويدها اليسرى، فقد اعتقدت أن المدرسة سوف تكشف لها عن أمورٍ أعظم وأخطر، وظنت أنها سوف تعود من المدرسة في ذلك اليوم الأول، وقد عرفت القراءة والكتابة، ولكن كل ما عادت به إلى البيت هو أنف ينزف دمًا، بعد أن أصابه طفل أكبر منها سنًّا، وضربها على رأسها على الحافة الحجرية لحوض الماء، حين حاولت أن تشرب من حلوق النافورات، التي لم يكن ينبعث منها ماء الصودا على أي حال.

وخاب أمل فرانسي، لأن فتاةً أخرى كانت تشاركها في قمطرها (الذي صنع من أجل تلميذة واحدة فحسب)، وكانت تريد قمطرًا لها وحدها، وقبلت في كبرياء قلم الرصاص الذي أعطته لها العريفة في الصباح، وأرجعته في ترددٍ لعريفةٍ أخرى في الساعة الثالثة.

ولم يكد يمر عليها نصف يوم في المدرسة، حتى علمت أنها لن تكون أبدًا تلميذة من التلميذات اللائي تُدلِّلهن المدرسات، وهذه الميزة موقوفة على عددٍ قليل من البنات … البنات ذوات الشعر المجعد النظيف، و«المرايل» النظيفة الأنيقة، وأشرطة الشعر الحريرية الجديدة، وكان أولئك هن بنات التجار الموسرين في الحي، ولاحظت فرانسي كيف كانت الآنسة بريجز المدرسة يشرق وجهها حين تراهن، وتجلسهن في الأماكن المختارة في الصف الأول، وهؤلاء العزيزات لا يشاركهن أحدٌ في مقاعدهن، وكان صوت الآنسة بريجز يرق حين تكلم هؤلاء المحظوظات القليلات، ثم يصيح صوتها كالعواء حين تكلم الحشد الكبير من التلميذات اللائي لا يغتسلن.

واختلطت فرانسي بالأطفال الآخرين اللائي على شاكلتها، وتعلمت في ذلك اليوم الأول أكثر مما توقعت، تعلمت نظام الطبقات في الديمقراطية العظيمة، وحيَّرها موقف المدرِّسة وآلمها، وكان من الواضح أن المدرسة تكرهها هي ومثيلاتها، لا لسببٍ إلا للحالة التي هن عليها، وكانت المدرِّسة تعاملهن معاملة من لا حق له في الانتساب إليها، وأنها مجبرة على قبولهن، تفعل ذلك بأقل ما يسعها من اللطف، وكانت تنفس عليهن الفتات القليل من التعليم الذي تلقي به إليهن، وتعاملهن هي أيضًا معاملة طبيب مركز الصحة، كما لو كن لا يملكن حق الحياة والعيش.

وبدا كأن الأمر يقتضي أن يحتشد جميع الأطفال المنبوذين في صفٍّ واحد لمواجهة الأمور التي تقف في سبيلهم، ولكن الأمر كان على خلاف ذلك، فكل طفلٍ من هؤلاء الأطفال يكره الآخر، كما كانت المدرِّسة تكرههم جميعًا، وقد اعتادوا أن يقلدوا عواء المدرِّسة حين يتحدث بعضهم إلى بعض.

وكان هناك دائمًا طفل سيئ الحظ تختاره المدرِّسة من بين الأطفال، وتتخذ منه ضحية الفداء، وهذا الطفل المسكين هو الذي توبِّخه المدرِّسة وتعذبه وتنفس به عن شقاء عنوستها، وما إن يوصم الطفل بهذه الوصمة المريبة، حتى ينقلب بقية الأطفال عليه، ويضاعفوا من العذاب الذي يلقاه من المدرِّسة، بل يخصون بالملق والرياء على نحوٍ فريد أولئك الذين تقرِّبهم المدرِّسة منها، وربما يظنون أنهم بذلك يقتربون من النفوذ والسلطان.

واحتشد ثلاثة آلاف طفل في تلك المدرسة المستوحشة القبيحة التي لم تتهيأ لها الأسباب إلا لألفٍ واحدٍ فقط، وأخذت القصص الشائنة تدور بين الأطفال، ومن هذه القصص أن الآنسة فايفر وهي مدرسة شقراء باهتة الشقرة لها ضحكةٌ مجلجلة، كانت تهبط إلى الطابق الأرضي لتقضي بعض الوقت، تغازل مساعد الخادم في الأوقات التي تحل مكانها في ملاحظة المدرسة عريفةٌ أخرى، مدعيةً أن الأمر يقتضيها الخروج إلى الإدارة، ودارت قصةٌ أخرى على لسان الصبية الصغار الذين كانوا هم الضحايا، وتحكي القصة أن الرئيسة، وهي امرأة نصف بدينة قاسية، عضتها الأيام بنابها ترتدي ثيابًا محلاة بقطعٍ من النقود، تمضي بالصبية المشاكسين إلى مكتبها وتجعلهم يخلعون سراويلهم، حتى تستطيع أن تسلخ أعجازهم العارية بهراوةٍ من نخيل الروطان (وكانت تضرب البنات الصغيرات فوق ثيابهن).

وكان العقاب الجسدي ممنوعًا بلا شك في المدارس، ولكن كيف يتسرب الأمر إلى خارج المدرسة؟ ومن ذا الذي يبوح بالخبر؟ لا يفعل ذلك بطبيعة الحال الأطفال المضروبون، فقد كان هناك تقليدٌ في الحي يقضي بأن الطفل الذي يقول إنه ضُرب في المدرسة خليق بأن يُضرَب في البيت مرةً ثانية؛ لأنه لم يسلك مسلكًا حسنًا في المدرسة؛ ولذلك كان الطفل يتلقى عقابه صامتًا، تاركًا الأمور تجري مجراها.

وأقبح ما في تلك القصص أنها كانت كلها هي الحقيقة الشائنة.

كانت الوحشية هي الصفة الوحيدة التي تطلق على المدارس الابتدائية، في ذلك الحي بين سنتي ١٩٠٨-١٩٠٩م، ولم يكن علم النفس الخاص بالأطفال قد سُمع عنه في ويليمسبرج في تلك الأيام، وكانت مؤهلات التدريس يسيرة، وهي التخرج في المدرسة الثانوية ثم قضاء سنتين في مدرسة للتدريب على التعليم، وقلَّ من المعلمات من كان لهن فن ودراية بوظيفتهن، أما الأغلبية فكن يحترفن المهنة لأن التعليم من الوظائف القليلة المفتوحة أمامهن؛ ولأن أجرهن أفضل من العمل في المصنع؛ ولأنه يمنحهن إجازة صيف طويلة ويتيح لهن معاشًا حين يعتزلن، وكن يشتغلن بالتعليم لسببٍ واحد هو ما من رجلٍ رغب في زواجهن، وكان محرمًا على السيدات المتزوجات أن يشتغلن بالتعليم في تلك الأيام، وهكذا راحت معظم المعلمات يعانين اضطرابًا في الأعصاب نتيجة حرمانهن إرضاء عواطفهن المكبوتة، وكانت هؤلاء النساء العاقرات يُنفِّسن عن سَوْرة غضبهن بإيذاء أطفال النساء الأخريات، فيشبعن رغبتهن في ممارسة سلطانهن بطريقةٍ ملتوية.

وأقسى المعلمات قلبًا هن أولئك اللائي خرجن من بيوت تماثل بيوت الأطفال الفقراء، والظاهر أنهن كن في إحساسهن بالمرارة حيال هؤلاء الأطفال الصغار البائسين، يتمثلن على نحوٍ ما لقين من شقاءٍ أليم في نشأتهن الأولى.

ولم تكن كل المعلمات يسلكن هذا المسلك السيئ بلا شك، فقد كانت تفد أحيانًا إلى المدرسة معلمةٌ دمثة الخلق، تشارك الأطفال فيما يعانون وتحاول أن تساعدهم، ولكن مثل هذه المرأة لا تمكث طويلًا في اشتغالها بالتعليم، فسرعان ما تتزوج وتترك الوظيفة أو تطاردها زميلاتها من المعلمات، حتى يخرجنها من الوظيفة.

وكان ما يسمى تلطفًا «الخروج من الفصل» مشكلةً قاسية؛ ذلك أن الأطفال نُبِّه عليهم بأن يذهبوا إلى دورة المياه، قبل أن يغادروا البيت في الصباح ثم ينتظروا حتى ساعة الغداء، ومن المفروض أن يكون لديهم وقت لذلك في الفسحة، ولكن قليلًا من الأطفال كانوا يفيدون من ذلك الوقت، فقد كان تزاحم الأطفال عادةً يمنع الطفل من الاقتراب من دورة المياه، وإذا ما أسعده الحظ وذهب إلى هناك (حيث توجد عشرة مغاسل لكل خمسمائة طفل)، فإنه يجد أن الأماكن قد أخلاها من قبلُ التلاميذ العشرة الذين هم أكثر الأطفال شراسة في المدرسة، إذ يقفون في الممرات ويمنعون دخول القادمين جميعًا، ويصمُّون آذانهم عن الاستعطاف المدر للشفقة الصادر من جموع الأطفال المعذَّبين الذين يحتشدون أمامهم، وفرض قليل منهم رسمًا قدره بنس وكان لا يستطيع دفعه إلا القليل، ولم يكن الزعماء يرخون قبضتهم عن الأبواب الدوارة حتى يدق الجرس بانتهاء الفسحة، وما من أحدٍ استطاع أن يكتشف على وجه اليقين أية متعة، كانت تصيب هؤلاء من وراء هذه اللعبة الشبيهة برقصة الموت، ولم يكن يعاقبهم أحدٌ أبدًا لأن المدرسين والمدرسات لم يدخلوا قط دورة مياه الأطفال، ولم يتكلم واحد من الأطفال؛ لأن الطفل يعرف أنه مهما صغرت سنه يجب ألا يشكو، ويعلم أنه إذا وشى بأحدهم فسوف يُعذِّبه عذابًا يصل إلى حد الموت أو يكاد. وهكذا ظلت هذه اللعبة الشريرة تجري بلا انقطاع.

والطفل مسموحٌ له نظريًّا أن يخرج من الفصل إذا طلب الإذن بذلك، وهناك نظام للتسلُّل المحتشم، فإذا ما رفع الطفل إصبعًا واحدة كان معنى ذلك أنه يرغب في الخروج فترةً قصيرة، وإذا رفع إصبعين كان معنى ذلك أنه يرغب في الخروج فترةً أطول، ولكن المدرسات الضجرات القاسيات أكد بعضهن للبعض الآخر، أن ذلك ليس إلا حيلة يحتالها الطفل ليخرج من الفصل فترةً قصيرة، وكن يعلمن أن لدى الطفل متسعًا من الوقت في فترة الفسحة وفي فترة الغداء، وعلى هذا النحو قررن طريقة التصرف بينهن وبين أنفسهن.

ولاحظت فرانسي بالطبع أن الأطفال ذوي الحظوة والنظافة والأناقة، الذين يُلحَظون بعين العناية في الصف الأول، هم الذين يسمح لهم بالخروج في أي وقت، ولكن ذلك كان مختلفًا على نحوٍ ما.

أما بقية الأطفال فقد تعلم نصفهم أن يلائم بين قضاء حاجته وأفكار المعلمات عن مثل هذه الأمور، والنصف الآخر أصبحوا من المدمنين على بَلِّ سراويلهم.

والخالة سيسي هي التي عالجت موضوع الخروج من الفصل لفرانسي، ولم تكن قد رأت الطفلَين منذ أخبرها جوني وكاتي بألا تزور البيت مرةً أخرى، وشعرت سيسي بأنها تفتقدهما، وعلمت أنهما دخلا المدرسة فأرادت أن تعلم كيف تمضي بهما الحال فحسب.

وحلَّ شهر نوفمبر، وكان العمل كاسدًا، فخرجت سيسي من المصنع وأخذت تتهادى في شارع المدرسة في موعد خروج التلاميذ، وفكرت في أنه لو باح الطفلان بلقائها فسوف يبدو اللقاء كأنه مصادفة، ورأت نيلي أولًا في الحشد، وقد اختطف قلنسوته صبيٌّ أكبر منه وداسها ثم جرى بعيدًا، واتجه نيلي إلى صبيٍّ أصغر وفعل نفس الفعلة بقلنسوته، وأمسكت سيسي بذراع نيلي، ولكنه تملص منها، وهو يصرخ صرخة جافة وانطلق يجري في الشارع، وتحققت سيسي وهي تشعر بتوقُّدٍ حاد أن نيلي يشتد عوده.

ورأت فرانسي سيسي فأحاطتها بذراعيها في قلب الشارع، وقبَّلتها وأخذتها سيسي إلى محلٍّ صغير للحلوى، واشترت لها ببنس قطعة من الشوكولاتة المعالجة بالصودا، ثم أجلستها تحت ظلة، وجعلتها تحكي لها كل شيء عن المدرسة، وأرتها فرانسي كتابًا من كتب المطالعة ودفتر واجبات للبيت يشتمل على حروفٍ كبيرة، وتأثرت سيسي ونظرت طويلًا في وجه الطفلة النحيل، ولاحظت أنها كانت ترتعش، ورأت أنها لا ترتدي الملابس المناسبة لذلك اليوم البارد من شهر نوفمبر؛ إذ كانت تلبس رداءً من القطن وسترةً صغيرةً ممزقة وجوربًا قطنيًّا رفيعًا، وأحاطتها سيسي بذراعها وضمتها إلى صدرها الحاني الدافئ: يا طفلتي فرانسي! إنك ترتعدين كورقةٍ في مهب الريح!

ولم تكن فرانسي سمعت هذا التعبير قط، فأخذت تفكر في إمعان، ونظرت إلى الشجرة الصغيرة المنبثقة من الخرسانة على جانب المنزل، وكانت بعض الأوراق القليلة الجافة لا تزال متعلقة بها، وقد راحت واحدةٌ منها تخشخش في مهب الريح، وأخذت الطفلة تنتفض كورقة الشجر، واختزنت في مخيلتها تلك العبارة، ثم مضت ترتعد وترتعد … وسألتها سيسي: ماذا بك؟ إنك باردة كالثلج!

ولم تقل فرانسي شيئًا أول الأمر، ولكن سيسي أغرتها فدفنت وجهها الملتهب من الخزي في رقبة سيسي، وهمست لها ببعض الكلمات، وقالت سيسي: يا حبيبتي! ليس عجيبًا أن تشعري بالبرد، لماذا لم تطلبي أن …

– إن المدرِّسة لا تلتفت إلينا حين نرفع أيدينا!

– هدئي روعك ولا تنزعجي لذلك، فإن ما قلتِ خليق بأن يحدث لأي طفلة، بل هو قد حدث لملكة إنجلترا حين كانت طفلةً صغيرة.

– ولكن هل كانت الملكة تشعر بمثل هذا الخزي والتأثر حيال هذا الأمر؟

وبكت فرانسي بحرقةٍ في صمت، وطفرت من عينَيها دموع الخزي والخوف، وكانت تخشى الذهاب إلى البيت لئلا توبِّخها أمها توبيخًا مخزيًا.

– إن أمك لن تؤنِّبك، وإن مثل هذه الحادثة قد تقع لأي بنتٍ صغيرة، لا تقولي إنني قلت لك إن أمك بلَّلت سروالها حين كانت طفلة، وقد فعلت جدتك ذلك أيضًا، إن ذلك ليس شيئًا جديدًا في العالم، ولستِ أول طفلة يحدث لها ذلك!

– ولكني غدوت أكبر من أن أفعل ذلك، وإنما يفعله الأطفال الصغار، ولسوف تُهينني أمي أمام نيلي.

– أخبريها بصراحة قبل أن تكتشف ذلك بنفسها، وعديها بأنك لن تفعلي ذلك أبدًا، وسوف لا تهينك حينئذٍ!

– إنني لا أستطيع أن أعدها، فقد يحدث لي ذلك مرةً أخرى؛ لأن المدرسات لا يسمحن لنا بالخروج.

– من الآن فصاعدًا سوف تسمح لك مدرستك بالخروج من الفصل في أي وقت ترغبين، أنت تصدقين الخالة سيسي، أليس كذلك؟

– نعم، ولكن كيف يتسنى لكِ ذلك؟

– سوف أشعل شمعةً في الكنيسة من أجل ذلك.

وهدأت نفس فرانسي لذلك الوعد، وحين عادت إلى بيتها وجهت إليها كاتي شيئًا من التأنيب المعتاد، ولكن فرانسي كانت قد تسلَّحت لذلك في ضوء ما قالته لها سيسي عن قصة البلل الذي كان يدور بين نساء الأسرة.

وفي صبيحة اليوم التالي وقبل بدء الدراسة بعشر دقائق، كانت سيسي تقف في الفصل قبالة المعلمة، وبدأت قائلة: هناك طفلةٌ صغيرة اسمها فرانسي نولان في فصلك؟

وصححت الآنسة بريجز قائلة: فرانسيس نولان!

– هل هي فتاةٌ ذكية؟

– أ …ﺟ… ل.

– هل هي فتاةٌ مجتهدة؟

– أولى بها أن تكون كذلك.

وقربت سيسي وجهها من وجه الآنسة بريجز، وغضت من صوتها وزادته رقة على رقة، ولكن الآنسة بريجز ارتدت إلى الخلف لسببٍ ما.

– لقد سألتك فقط: هل هي فتاةٌ مجتهدة؟

وقالت المدرِّسة في سرعة: نعم إنها كذلك.

وكذبت سيسي قائلة: إنني أمها.

– مستحيل!

– بكل تأكيد.

– هل من شيءٍ تريدين أن تعرفيه عن عمل الطفلة أيتها السيدة نولان؟

وكذبت سيسي قائلة: هل خطر ببالك أبدًا أن فرانسي تعاني مرضًا في كليتَيها؟

– كليتَيها؟

– لقد قال الطبيب إنها إذا أرادت أن تذهب إلى دورة المياه، ومنعها أحدٌ من ذلك، فإنها عرضة لأن تسقط ميتة في الحال من أثر امتلاء الكليتَين.

– إنك تبالغين بلا شك؟

– هل تحبين لها أن تسقط ميتة في هذه الحجرة؟

– لا أحب لها ذلك بطبيعة الحال ولكن …

– وهل تحبين أن تركبي في عربة الشرطة إلى مركز التحقيق، وتقفي بين أيدي الطبيب والقاضي، وتقولين إنك منعتِها من الخروج من الحجرة؟

ولم تكن الآنسة بريجز تدري هل كانت سيسي تقول الحقيقة أم لا، فقد كان كلامها يبدو من تهاويل الخيال والأوهام، ولكن المرأة قالت هذه الأشياء المثيرة للعواطف بصوتٍ لم تسمع المدرسة من قبلُ قط صوتًا أهدأ منه ولا أعذب، وتصادف أن نظرت سيسي من النافذة في تلك اللحظة ورأت شرطيًّا بدينًا يتجول في الطريق، فأشارت إليه قائلة: هل ترين ذلك الشرطي؟

وأحنت الآنسة بريجز رأسها موافقة.

– إنه زوجي.

– والد فرانسي؟

– ومن يكون سواه؟

وفتحت سيسي النافذة وصرخت: يا … جوني! … يا جوني …

ونظر الشرطي إلى أعلى وقد تملَّكته الدهشة، فأرسلت له قبلة في الهواء، وظن في لمح البصر أنها مدرِّسة عانس دفعها الجوع العاطفي إلى الجنون، ثم أكد له غرور الرجل الفطري أنها كانت إحدى المدرِّسات الشابات، التي وقع بينها وبينه خصام منذ وقتٍ طويل، ثم جمعت أطراف شجاعتها أخيرًا لتبدأ معه قصة غرام، وتجاوب مع الموقف وردَّ عليها بقبلةٍ في الهواء بقبضة يده الضخمة، وأمال قبعته في ظرفٍ وسار يتهادى إلى مركز الشرطة، وهو يصفر مترنِّمًا بأغنية «في مرقص الشيطان»، وفكر بينه وبين نفسه: يا لي من شيطان بلا شك بين السيدات، أجل إني لَكذلك، ولديَّ ستة أطفال في البيت.

وجحظت عينا الآنسة بريجز من الدهشة، فقد كان الشرطي رجلًا وسيمًا قويًّا، ودخلت في تلك اللحظة إحدى البنات الصغيرات الشقراوات، وقدمت للمدرسة صندوقًا من الحلوى رُبط بأشرطة، وبقبقت الآنسة بريجز من السعادة، وقبَّلت خدَّ الطفلة المورد الناعم كالحرير، وكان لسيسي عقلٌ ذكيٌّ حاد كنصل السيف، فرأت في لمح البصر أين تتجه الرياح، ووجدت أن الرياح تأتي بما لا تشتهي الأطفال من أمثال فرانسي، فقالت: اسمعي، إني أظن أنكِ لا تعتقدين أننا نملك مالًا كثيرًا.

– لم أعتقد ذلك أبدًا بلا شك.

– إننا لسنا كهؤلاء الناس الذين يعنون بمظهر ملابسهم.

وأغرتها قائلة: إن ليلة عيد الميلاد مقبلة.

وقالت الآنسة بريجز: لعلي لم أرَ فرانسي في كل المرات التي رفعت فيها يدها.

– أين مقعد فرانسي الذي يجعلك لا ترينها جيدًا؟

وأشارت المدرسة إلى مقعدٍ مظلمٍ خلفي.

– لعلها إذا جلست على مقعدٍ أمامي فإنك تستطيعين أن تجعليها نصب عينَيك.

– إن ترتيب الجلوس على المقاعد قد تم ولا سبيل إلى تغييره.

وحذرتها سيسي بلطف: إن ليلة عيد الميلاد مقبلة.

– سأرى ما يمكنني فعله.

– تدبري إذن الأمر، واحرصي على أن تَرَيْهِ على وجهه الصحيح.

وسارت سيسي إلى الباب، ثم استدارت قائلة: وإنني أقول ذلك، لا لأن ليلة عيد الميلاد قادمة، ولكن لأن زوجي الشرطي سوف يأتي إلى هنا، ويذيقك نار الجحيم إن لم تعامليها معاملةً حسنة.

ولم تعد هناك مشاكل تعترض فرانسي بعد هذا اللقاء بين سيسي والمدرِّسة، وكانت الآنسة بريجز ترى يد فرانسي حين ترفعها مهما بلغ بها الوجل مبلغه! بل لقد سمحت لها أن تجلس في الصف الأول فترة من الوقت، ولكن حين أقبلت ليلة عيد الميلاد ولم تصلها هديةٌ نفيسة، نفت فرانسي مرةً أخرى إلى المقعد الخلفي المظلم من الفصل.

ولم تعلم فرانسي ولا كاتي قط بزيارة سيسي للمدرسة، ولكن فرانسي لم يصبها الخزي قط على النحو المعهود، صحيح أن الآنسة بريجز لم تكن تعاملها معاملةً رحيمة، إلا أنها على الأقل لا تعمد إلى مضايقتها، وكانت الآنسة بريجز بلا شك تعلم أن ما قالته المرأة شيء بعيد عن الواقع، ولكن ما الفائدة من مغامرةٍ لا تؤمَن عقباها، إنها لم تكن تحب الأطفال، ولكنها لم تكن شريرة، وما كانت لتحب أن ترى طفلةً تسقط ميتة أمام عينَيها.

وطلبت سيسي بعد أسابيعَ قليلة من إحدى البنات في محل عملها أن تكتب لها بطاقة ترسلها إلى كاتي بالبريد، وطلبت من أختها أن تنسى ما مضى وتسمح لها بأن تأتي إلى البيت، لترى الطفلَين على الأقل من حينٍ إلى حين، وتجاهلت كاتي البطاقة.

وأقبلت ماري روملي تتشفع لسيسي، وسألت كاتي: ما تلك الوحشة التي بينك وبين أختك؟

وأجابت كاتي: لا أستطيع أن أبوح بها.

وقالت ماري روملي: إن العفو نعمةٌ غالية، ولكنها لا تكلف شيئًا.

وقالت كاتي: إن لي شئوني الخاصة.

ووافقت أمها قائلة: فليكن.

وتنهدت من أعماقها ولم ترد.

ولم تسمح لسيسي بالحضور، ولكنها افتقدتها، وافتقدت سرعة بديهتها الجسور وطريقتها الصريحة في حل المشاكل، ولطف الخروج من المآزق، ولم تكن إيفي تذكر اسم سيسي أبدًا حين تأتي لزيارة كاتي، ولم تعد ماري روملي بعد تلك المحاولة الوحيدة لإصلاح الحال بينهما إلى ذكر اسم سيسي مرةً أخرى.

وكانت كاتي تتلقى أنباء أختها عن طريق مذيع الأخبار الرسمي المعتمد، وهو مندوب شركة التأمين، وأسرة روملي كلها تؤمن على حياتها في شركة تأمين واحدة، ونفس مندوب الشركة هو الذي يجمع الأقساط الزهيدة من الأخوات جميعًا كل أسبوع، ويحمل معه الأخبار والشائعات، كما كان بمثابة الرسول الطواف الذي يمر بأفراد الأسرة جميعًا. وفي يومٍ من الأيام حمل الرجل النبأ، بأن سيسي وضعت طفلًا آخر لم يستطع أن يؤمن عليه؛ لأنه لم يعشْ سوى ساعتين، وخجلت كاتي من نفسها أخيرًا لقسوتها على المسكينة سيسي، وقالت للمندوب: أخبر أختي حين تراها في المرة القادمة ألا تمد في حبل القطيعة بيننا.

ونقل الرجل رسالة الصفح، وجاءت سيسي إلى أسرة نولان مرةً أخرى.

٢٠

وبدأت كاتي تكافح الحشرات والمرض من أول يوم دخل فيه الطفلان المدرسة، وكانت المعركة عنيفةً قصيرة، ولكنها كُلِّلت بالنجاح.

وحُشد الأطفال حشدًا في المدرسة؛ مما أدى إلى أن ترعرعت الحشرات بينهم من غير ذنبٍ جَنَوْه، وأصبح القمل ينتقل من طفلٍ إلى طفل، وتعرَّض الأطفال إلى أكثر الإجراءات إذلالًا، دون أن يكون الخطأ خطأهم، وكانت ممرضة المدرسة تأتي مرةً في الأسبوع وتقف وظهرها تجاه النافذة، وتصطف البنات الصغيرات في صفوف، وحين يقبلن عليها يستدرن ويرفعن ضفائرهن وينحنين، وتسبر الممرضة أغوار شعورهن بعصًا رقيقةٍ طويلة، فإذا رأت في شعر إحداهن الصُّؤَابات أو القمل، فإنها تطلب من الطفلة أن تنتحي جانبًا، وتقف البنات المنبوذات في نهاية الفحص أمام الفصل، على حين تلقي الممرضة محاضرة عن مبلغ قذارة هؤلاء البنات، وكيف يجب على البنات الأخريات أن يتجنبنهن، ثم تطرد البنات المنبوذات ذلك اليوم من المدرسة، وتعطي لهن تعليمات بأن يشترين «المرهم الأزرق» من مخزن أدوية نايب، وأن تعمل أمهاتهن على تنظيف شعورهن به، وحين يعدن إلى المدرسة فإن زميلاتهن يعمدن إلى الإمعان في تعييرهن، وكل من يلحق بها هذا العار يتبعها إلى بيتها مجموعة من الأطفال صائحين: أيتها المقملة، أيتها المقملة! لقد قالت المدرِّسة إنك مقملة، أيتها المنبوذة! اذهبي إلى بيتك، اذهبي إلى بيتك، اذهبي إلى بيتك لأنك مقملة.

وقد تعطى الطفلة المصابة شهادةً بالخلو من القمل في الفحص التالي، وفي هذه الحالة تعير بدورها هؤلاء اللائي يتهمن بالإصابة بالقمل، ناسيةً ما أصابها من تعييرٍ وتقريع، إن الألم الذي مررن به لم ليكن ليعلِّمهن الرحمة والحنان، وهكذا كان يضيع عذابهن هباء.

ولم يكن في حياة كاتي المزدحمة متسع لمزيدٍ من المتاعب والهموم، ولم تكن خليقة بأن تتقبل مزيدًا من المتاعب والهموم، وفي أول يوم عادت فيه فرانسي من المدرسة إلى البيت، وأنبأت كاتي أنها جلست إلى جانب فتاة يسرح البقُّ في دروب شعرها، أسرعت كاتي وغسلت رأسي فرانسي بقطعةٍ من الصابون الخشن الصلب الأصفر، الذي تستعمله المرأة الغسالة، حتى شعرت فرانسي بوخز ألم البرودة والرطوبة في فروة رأسها، ثم وضعت فرشاة الشعر في الصباح التالي في وعاءٍ به زيت الكيروسين، وأخذت كاتي تمشط شعر فرانسي بقوةٍ وعنف، وضفرته ضفائر شدتها شدًّا حتى نفرت الأوردة على صدغَيها، وأمرتها بأن تبتعد عن أنابيب الغاز المشتعل، ثم بعثت بها إلى المدرسة.

وانتشرت رائحة فرانسي في الفصل كله، وابتعدت شريكتها في المقعد عنها بأقصى ما تستطيع، وأرسلت المدرسة مذكرةً إلى كاتي في البيت، تمنعها من أن تضع زيت الكيروسين على رأس فرانسي، وأشارت كاتي بأنها تعيش في بلدٍ حر وتجاهلت المذكرة، وكانت تغسل رأس فرانسي بالصابون الأصفر مرةً كل أسبوع، وتدهنه كل يوم بالكيروسين.

وكافحت كاتي الأمراض المعدية حين ظهر وباء التهاب الغدة النكفية في المدرسة، وصنعت كيسين من قماش الفانلة ووضعت في كل كيس رأسًا من الثوم، وحاكته، ثم ربطته بخيطٍ نظيف مشدود، وألبسته كلًّا من الطفلين حول رقبته تحت القميص.

وذهبت فرانسي إلى المدرسة تنبعث منها رائحة نتنة، هي مزيجٌ من رائحة الثوم وزيت الكيروسين، وتجنبها الجميع، وكانت تحيطها دائمًا في الفناء المزدحم دائرة خلت من التلميذات، وأخذ الناس في عربات التروللي المزدحمة يبتعدون عن هذين الطفلَين من أسرة نولان.

بيد أن ذلك أفاد الطفلَين، ترى هل كان ذلك يرجع إلى أن الثوم يحتوي على تعويذةٍ، أو تراه يرجع إلى أن الأبخرة القوية تقتل الجراثيم، أو يرجع إلى أن فرانسي نجت من العدوى لأن الأطفال الناقلين للمرض يبتعدون عنها، أو لأنها هي ونيلي يتمتع كلٌّ منهما ببنيةٍ قوية؟ لم يكن السبب معروفًا، ولكن الحقيقة أثبتت أن طفلَي كاتي لم يمرضا مرةً واحدة قط في كل سني الدراسة التي مرت بهما، فلم يصبهما البرد قط ولم يغزهما القمل.

وأصبحت فرانسي بلا شك فتاةً غريبة يتجنبها الجميع من أجل رائحتها الكريهة، ولكنها تعودت أن تكون وحيدة، وتعودت أن تمشي وحدها، وأن يُنظَر إليها على أنها فتاةٌ مختلفة عن الفتيات، بيد أنها لم تُعانِ من ذلك كثيرًا.

٢١

وأحبت فرانسي المدرسة، بالرغم مما كان يكتنفها من وضاعةٍ وقسوة وشقاء، وكان النظام الرتيب الذي درج عليه كثيرٌ من الأطفال، وهم يؤدون نفس الشيء يفيء عليها شعورًا بالأمن والاطمئنان، وشعرت أنها جزءٌ محدد من شيء، جزءٌ من جماعة اجتمعوا تحت لواءٍ واحد من أجل غرضٍ واحد، وكان أفراد أسرة نولان يؤمنون بالفردية، ويسلكون في الحياة مسلكًا خاصًّا بهم، ولم يكونوا ينتمون إلى طائفةٍ بعينها من المجتمع، وكان ذلك مفيدًا في تكوين الأشخاص الذين يؤمنون بالفردية، ولكنه في بعض الأحيان يصيب الطفل بالحيرة؛ ولهذا شعرت فرانسي بنوعٍ من الأمن والحماية في المدرسة، وبالرغم من أنها تسير على نظامٍ رتيب قبيحٍ قاس، إلا أنها كانت تنشد مأربًا وتحقق تقدمًا.

ولم تكن المدرسة كلها تتسم بالعبوس الذي لا فرج منه، فقد تمر بها لحظاتٌ مجيدةٌ مشرقة تستمر نصف ساعة كل أسبوع، حين يقبل السيد مورتون إلى فصل فرانسي ليدرس الموسيقى، وكان مدرسًا متخصصًا يمر بكل المدارس في تلك المنطقة، وإذا ظهر حلَّت معه فترة من الراحة والترويح، وكان يرتدي معطفًا له ذيلٌ طويل، وربطة عنق شاخصة إلى أعلى، وهو وافر النشاط والحركة، مرحٌ طروب، يفيض حيوية وحياة حتى لكأنه ملاكٌ هابط من وراء السحب، كما أنه ودود في ظرفٍ يمتزج بالحيوية، يفهم الأطفالَ ويحبهم فأحبوه إلى حد العبادة، وكانت المدرسات يتدلهن في حبه؛ لأنه يشيع في الحجرة روح المرح والانطلاق يوم زيارته، حيث ترتدي المدرِّسة خير ما عندها، ولا تمعن في الحقارة كشأنها، وفي بعض الأحيان تجعد شعرها وتتعطر، هذا هو ما كان يصنعه السيد مورتون بهؤلاء السيدات.

وكان يصل إلى المدرسة كالزوبعة، ويفتح الباب على مصراعَيه ويندفع داخلًا كالطائر ومن ورائه ذيل معطفه، ويقفز على المنصة وينظر حوله باسمًا، ويقول بصوتٍ طروب: حسنًا! حسنًا!

ويجلس الأطفال يضحكون من السعادة، وتبتسم المُدرِّسة ولا تكفُّ عن الابتسام.

وكان يرسم على السبورة العلامات الموسيقية، ويرسم لها سيقانًا صغيرة ليجعلها تبدو كأنها تجري خارج السلم الموسيقي، ويرسم علامةً مستوية تشبه البيضة، وكانت العلامة الحادة تبرز بروز الأنف الرفيع كالمنقار، ويظل ينطلق بالغناء طول الوقت، مسترسلًا كأنه العصفور، وتفيض سعادته في بعض الأحيان، حتى لا يستطيع أن يردها، فيقطع قفزةً من قفزات الرقص لينفِّس عن بعضها.

ودأب على أن يعلمهم الموسيقى الجيدة دون أن يجعلهم يعلمون أنها جيدة، ويطلق كلماتٍ خاصةً من عنده على روائع الموسيقى، ويعطيها أسماءً بسيطة مثل «هدهدة الطفل» و«مناجاة الليل» و«أغنية الشارع» و«أنشودة يوم مشمس»، وكانت أصواتهم الغريرة تتعالى بالصراخ مغنية مقطوعة «هاندل»، البطيئة الحركة التي لا يعرفونها إلا باسم الترتيلة.

وكان الصبية الصغار يصفرون جزءًا من لحن دفوراك «سيمفونية العالم الجديد»، وهم يلعبون البِلْي، وحين يُسألون عن اسم الأغنية يجيبون: «أوه إنها العودة إلى البيت.» ويلعبون لعبة «البوتسي» مترنمين بلحن «نشيد الجنود» من أوبرا فاوست ويسمونه «المجد».

ولم تكن الآنسة بيرنستون مدرسة الرسم التي تأتي أيضًا مرة في الأسبوع محبوبة كل الحب مثل السيد مورتون، ولكنهم يعجبون بها كما يعجبون به، آه! لقد كانت من عالمٍ آخر، عالم الملابس الجميلة ذات اللون الأخضر الهادئ والعقيق الرصين، وكان وجهها حلوًا رقيقًا، وهي مثل السيد مورتون تحب جمهور الأطفال المنبوذين القذرين أكثر من حبها للأطفال المحظوظين، ولم تكن المدرِّسات يحببنها، نعم كنَّ يعبسن في وجهها حيث تتكلم معهن، ثم يحدقن فيها حين تولي ظهرها، ويغرن من سحرها ولطفها وما فيها من جاذبيةٍ تثير إعجاب الرجال، وكانت جياشة العاطفة تفيض أنوثة، وكن يعلمن أنها لا تقضي الليالي وحدها كما أجبرن هن على ذلك.

وكان صوتها عذبًا صافيًا كالنغم، ويداها جميلتَين، ترسمان بسرعةٍ بقطعة الطباشير أو بقلمٍ من الفحم، وكان لإمساكها بالقلم سحرٌ وهي تدير رسغها، فينثني معصمها انثناءةً واحدة فترتسم تفاحة، ثم ينثني انثناءتَين فيتجلَّى طفلٌ جميل ممسكًا بتفاحة، وكانت لا تعطي درسًا في اليوم المطير، وتأخذ قطعة من الورق وقلمًا من الفحم، وترسم أكثر الأطفال فقرًا ومسغبة في الفصل، وحين تنتهي الصورة فإنك لم تكن ترى الفقر أو المسغبة، وإنما ترى عظمة البراءة والنضج المبكر لطفلٍ يشتد عوده سريعًا، حقًّا إن الآنسة بيرنستون إنسانةٌ عظيمة.

وكان هذان المعلمان الزائران ومضة تشرق ذهبًا وفضة في أيام المدرسة الكئيبة الممعنة في الكآبة والقتام؛ تلك الأيام التي تمتلئ بالساعات الموحشة، حيث يجلس التلاميذ أمام المدرِّسة متصلبين مشدودين، وأيديهم مكتوفة خلف ظهورهم، وتروح هي تقرأ رواية خبأتها في حجرها، لو أن المدرسات جميعًا من طراز الآنسة بيرنستون والسيد مورتون، لكانت فرانسي خليقة بأن تعرف حق المعرفة كيف يكون النعيم السماوي، ولكنْ رُب ضارة نافعة؛ إذ لا بد من الظلام والقتام حتى يمكن للشمس أن تجد جوًّا تشرق فيه بجلالها السني.

٢٢

يا لها من ساعةٍ ساحرة تلك التي يعرف الطفل فيها لأول مرة أنه يستطيع قراءة الكلمات المطبوعة، لقد ظلت فرانسي فترةً ليست بالقصيرة تتهجَّى الحروف، تلفظها، ثم تجمع الأصوات معًا لتصنع منها كلمة، ولكنها نظرت ذات يوم إلى صفحةٍ، ورأت أن كلمة «فأر» لها معنًى يتبادر للذهن لأول وهلة، ونظرت إلى الكلمة وتجمعت صورة فأرٍ رمادي في مخيلتها، ثم نظرت بعدُ، فلما رأت كلمة جواد سمعته يضرب الأرض، ورأت ضوء الشمس فوق فروته اللامعة، وواتتها كلمة «يجري» فجأة فأخذت تتنفس بصعوبة كأنما هي بشخصها تجري، وانقشع الحجاب الذي كان يفصل بين الصوت الواحد لكل حرف والمعنى الكامل للكلمة، وأصبحت الكلمة المطبوعة تعني شيئًا للنظرة الخاطفة، وقرأت صفحاتٍ قلائل في سرعة، واستبدَّت بها النشوة حتى كادت تمرض، وأرادت أن تصرخ بأعلى صوتها: لقد استطاعت أن تقرأ، لقد استطاعت أن تقرأ!

ومن يومها أصبح العالم ملكها بفضل القراءة، فإنها لن تكون وحيدة مرةً أخرى، ولن تفتقد الأصدقاء الحميمين، وأصبحت الكتب أصدقاءها، تختار واحدًا لكل حالةٍ تمرُّ بها، كانت تقرأ الشعر حين تنشد الصحبة الهادئة، وتقرأ قصص الحب حين دخلت طور المراهقة، وتقرأ سيرة من السير إذا أرادت أن تستشعر أنها قريبة لإنسان، وأقسمت في ذلك اليوم الذي استطاعت أن تقرأ فيه لأول مرة أن تقرأ كتابًا واحدًا لكل يوم طوال حياتها المقبلة.

وأحبت الأعداد والمقادير، وابتكرت لعبةً يمثل كل عدد فيها فردًا في أسرة والجواب هو جماعة في أسرةٍ لها قصة، فالرقم صفر طفلٌ يُحمَل على الذراعَين ولا يسبب أية متاعب، وأينما ظهر فإنك تحمله فحسب، والرقم واحد طفلةٌ جميلة بدأت تتعلم المشي ومن السهل العناية بها، والرقم اثنان طفلٌ ذكر يستطيع أن يمشي ويتكلم قليلًا، وقد دخل حياة الأسرة (أي في المسائل الحسابية إلخ) لا يسبب إلا متاعب قليلة، والرقم ثلاثة طفلٌ أكبر في روضة أطفال تجب العناية به قليلًا، ثم الرقم أربعة فتاةٌ في سن فرانسي ومن السهل العناية بها مثل الرقم اثنين، والأم رقم خمسة حنونٌ رحيمة، وكانت تأتي في المسائل الحسابية الكبيرة، وتيسر كل شيء على النحو الذي يجب أن تكون عليه الأم، والأب رقم ستة أصلب من الآخرين ولكنه عادلٌ كل العدل، ولكن رقم سبعة متوسط، كان جدًّا مسنًّا سوداوي المزاج، ليس له حسابٌ قط، والجدة رقم ثمانية قاسية أيضًا، ولكنها أسهل فهمًا من رقم سبعة، وأصعب الجميع هو رقم تسعة، كان صديقًا، وما أعسر أن تجعله يتلاءم مع متطلبات الحياة العائلية.

وحين تضيف فرانسي مقدارًا فإنها تحدد قصةً قصيرة تتمشى مع النتيجة، فإذا ما كان الجواب ٩٢٤ فمعنى ذلك أن الصبي الصغير والفتاة يرعاهما راع، على حين خرجت بقية الأسرة إلى الخارج، وحين يرد رقم مثل ١٠٢٤، فإنه يعني أن كل الأطفال الصغار يلعبون معًا في الفناء، وكان الرقم ٦٢ يعني أن الأب أخذ الصبي الصغير في نزهةٍ على الأقدام، والرقم ٥٠ يعني أن الأم أخرجت الطفل في العربة الصغيرة ليشم الهواء النقي، والرقم ٧٨ يعني أن الجد والجدة يجلسان في البيت بجوار المدفأة في إحدى ليالي الشتاء.

وكل مجموعةٌ من الأرقام تمثل وضعًا جديدًا للأسرة، ولم تكن هناك قصتان متشابهتان أبدًا.

وطبقت فرانسي هذه اللعبة على الجبر؛ فكان الرمز س هو حبيبة الفتى التي دخلت حياة الأسرة وعقدتها، وكان غ هو صديق الفتى الذي يسبب القلق والانزعاج، وهكذا أصبح علم الحساب في نظر فرانسي شيئًا يفيض بالحياة والإنسانية، ويشغل ساعاتٍ كثيرةً وحيدةً من ساعات حياتها.

٢٣

ومضت أيام الدراسة يومًا إثر يوم، بعضها ينطوي على الحقارة والوحشية وانفطار القلب، والبعض الآخر يمضي مشرقًا جميلًا بفضل الآنسة بيرنستون والسيد مورتون، وهناك دائمًا السحر الذي يكتنف تعلم الأشياء.

وخرجت فرانسي في نزهةٍ على الأقدام في يوم سبت من شهر أكتوبر وصادفها حيٌّ غير مألوف، حيث لم يكن هناك بيوت للسكن أو حوانيتُ حقيرةٌ خشنة، وإنما هناك بيوتٌ قديمة ولا تزال قائمة حين كان واشنطن يُجري هو وجيوشه مناورات عبر لونج أيلاند، وكانت البيوت عتيقة آيلة للسقوط ولكنها محاطة بأسوارٍ من الأوتاد لها بوابات اشتاقت فرانسي أن تهزها، وهناك أزهارٌ مشرقة من أزهار الخريف في الفناء الأمامي، وأشجار الأسفندان على منعطف الطريق بأوراقها الصفر والحمر القانية، والحي يظهر عتيقًا هادئًا رصينًا في شمس يوم السبت، ويتسم بشيءٍ من الحنان، هادئ، عميق، لا يعترف بالزمن، يعلوه سلامٌ واهن عَدَت عليه الأيام، وشعرت فرانسي بالسعادة كأنها قد رنت مثل أليس في المرآة السحرية، نعم كانت في عالمٍ مسحور.

ومضت في سيرها حتى صادفت مدرسة صغيرةً عتيقة، يتألق الآجر القديم الذي شيدت به بلون العقيق في شمس الأصيل، ولم يكن يحيط بفناء المدرسة سور، وكانت ملاعبها من العشب لا من الأسمنت، ونظرت عبر المدرسة فوجدت ريفًا يكاد يكون مكشوفًا، بل مرجًا مزهرًا بنبات العود الذهبي، وزهرات النجيم البرية ينمو فيها البرسيم.

وخفق قلب فرانسي، إنها هي تلك المدرسة التي تريد أن تذهب إليها! ولكن كيف كان يمكن أن تلتحق بها؟ والقانون صارمٌ يفرض على التلميذ أن يلتحق بمدرسة في حيِّه، فإذا أرادت أن تلتحق بهذه المدرسة فإن الأمر يقتضي أن ينتقل أبواها إلى ذلك الحي، وفرانسي تعلم أن أمها لن تنتقل من مسكنها لمجرد أن فرانسي تريد أن تنتقل إلى مدرسةٍ أخرى، وسارت إلى البيت متباطئةً تفكر في هذا الأمر.

وجلست في تلك الليلة تنتظر أباها حين يعود من عمله، وجاء جوني إلى البيت وهو يصفر لحن أغنية «مولي مالون» صاعدًا السلم عدوًا، وبعد أن أكل الجميع السمك والكافيار، وكفتة الكبد التي حملها إلى البيت، ذهب كلٌّ من الأم ونيلي إلى فراشهما، وظلت فرانسي تجلس في صحبة أبيها وهو يدخن سيجاره الأخير، وهمست إذن بكل ما كان من أمر تلك المدرسة فنظر إليها وهزَّ رأسه وقال: سنرى ذلك في الغد.

– إنك تعني أننا نستطيع أن ننتقل إلى جوار المدرسة.

– لا، ولكن يجب أن تكون هناك طريقةٌ أخرى، سأذهب معكِ إلى ذلك المكان غدًا، ونرى ما يمكننا أن نفعل.

وفرحت فرانسي حتى إنها لم تستطع النوم بقية الليل، ونهضت من فراشها في الساعة السابعة، ولكن جوني ما زال يغطُّ في نومه، فانتظرت على أحرِّ من الجمر، وكلما رأته يتنهد في نومه جرت لترى هل استيقظ من نومه أم لا.

واستيقظ جوني قرب الظهيرة، وجلس أفراد أسرة نولان لتناول الغداء ولم تستطع فرانسي أن تأكل، وظلت تنظر إلى أبيها، ولكنه لم يُفصح لها بشيء، ترى هل نسي الأمر؟ هل نسيه؟ لا، إنه لم ينسَ لأنه قال في غير اكتراثٍ وكاتي تصب القهوة: أظن أنني فيما بعدُ سأصحب ابنتي الحبيبة في نزهةٍ قصيرة سيرًا على الأقدام.

وقفز قلب فرانسي في صدرها: إنه لم ينسَ، إنه لم ينس. وانتظرت إجابة أمها، ربما تعترض، أو تسأل عن السبب أو تقترح أن تذهب معهما أيضًا، ولكن كل ما قالته الأم هو: حسنًا.

وغسلت فرانسي «الأطباق»، ثم كان عليها أن تنزل إلى محل الحلوى لتشتري صحيفة يوم الأحد، ثم إلى محل السيجار لتشتري لأبيها سيجار الكورونا بخمسة سنتات، وكان لا بد لجوني أن يقرأ الصحيفة، أجل يقرأ كل عمود بما في ذلك باب المجتمع الذي لا يثير اهتمامه، وأسوأ من ذلك أن الأمر يقتضيه أن يعلق لأمها على كل موضوعٍ يقرؤه، وكان يضع الصحيفة جانبًا في كل مرة ويتجه إلى أمها، ويقول: إن الصحف تشتمل على أشياءَ مضحكة هذه الأيام، انظري إلى هذه القصة.

وفرانسي تكاد تبكي.

وحلَّت الساعة الرابعة، وانقضى وقتٌ طويل منذ دخن جوني السيجار، والصحيفة ملقاةٌ على الأرض وقد برزت صفحاتها الداخلية، وكاتي ملَّت سماع تحليل الأنباء فأخذت نيلي وذهبت لتزور ماري روملي.

وانطلق الأب وفرانسي يمسك كلٌّ منهما بيد الآخر، وقد لبس حلة السهرة الوحيدة التي يملكها وقبعة الدربي فبدا عظيمًا كل العظمة، وكان يومًا رائعًا من أيام شهر أكتوبر، اجتمعت شمسه الدافئة وريحه المنعشة لتنشرا عبير المحيط في كل ركن، وسارا مجتازَين بعض مجموعات من المساكن ثم انثنيا إلى عطفة، فأصبحا في ذلك الحي الآخر، ولم يكن في الإمكان أن تجد مثل هذا الفارق الواضح إلا في مكانٍ عظيم منبطح كبروكلين، وكان حيًّا يسكنه جيلٌ أمريكي خامس أو سادس، في حين أنك إذا استطعت أن تثبت في الحي الذي تعيش فيه أسرة نولان، أنك ولدت في أمريكا فإن ذلك يكون شيئًا فذًّا.

والحق أن فرانسي كانت التلميذة الوحيدة في فصلها التي ولدت لأبوين ولدا في أمريكا.

وكانت المُدرِّسة في أول الفصل الدراسي تنادي التلميذات، وتسأل كل طفل عن نسبه، ومثل هذه الإجابات تمثل ذلك خير تمثيل: إنني بولندية أمريكية، ولد أبي في وارسو.

– إنني أيرلندية أمريكية، ولد أبي وأمي في مقاطعة كورك.

وأجابت فرانسي في فخرٍ حين نودي اسم نولان: إنني أمريكية.

وقالت المدرِّسة السريعة الغضب والسخط: أعلم أنكِ أمريكية، ولكن ما هي قوميتك؟

وأصرَّت فرانسي ممعنةً في الفخر: أمريكية!

– أخبريني من يكون أبواكِ وإلا بعثت بكِ إلى المديرة!

– إن والديَّ أمريكيان، ولدا في بروكلين.

والتفت كل الأطفال لينظروا إلى الصبية الصغيرة التي لم يأتِ أبواها من الوطن القديم، وشعرت فرانسي بالفخر والسعادة حين قالت المدرِّسة: بروكلين؟ أظن أن ذلك يجعلكِ أمريكية صميمة.

وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: ما أروع بروكلين، فإن المرء إذا ولد فيها غدا أمريكيًّا بلا تفكيرٍ ولا حساب!

وحدثها أبوها عن ذلك الحي العجيب، وكيف أن الأسر التي تعيش فيه دخلت في عداد الأمريكيين منذ أكثر من مائة عام، وكيف كان أكثرهم من خلاصة الأسكتلنديين والإنجليز وأهل ويلز، وكان الرجال يعملون في صنع الصواوين وأعمال النجارة الدقيقة، ويشتغلون بالمعادن: الذهب، والفضة، والنحاس.

ووعد جوني فرانسي بأن يأخذها يومًا إلى القسم الإسباني من بروكلين، حيث يعمل الرجال في صنع السجائر، ويكسب كلٌّ منهم قليلًا من البنسات في اليوم، ليؤجروا بها رجلًا يقرأ لهم وهم يعملون، وكان الرجل يقرأ الأدب الرفيع.

وسارا في الشارع الهادئ الذي يحمل اسم يوم الأحد، ورأت فرانسي ورقةً تسقط من شجرةٍ فقفزت إلى الأمام لتمسكها، وكان لونها أحمر قرمزيًّا صافيًا، لها حواشٍ ذهبية، وحملقت في الورقة متسائلة: أيقدر لها أن ترى شيئًا بمثل هذا الجمال مرةً أخرى؟ وأقبلت امرأةٌ من المنعطف، تصبغ شفتَيها بأحمر ثقيل وتلبس لفيعة حول عنقها من الريش، وابتسمت لجوني وقالت: هل أنت وحيد أيها السيد؟

ونظر إليها جوني لحظةً قبل أن يجيب في رفق: لا يا أختاه.

واستفهمت في حدة: أواثقق أنت؟

وأجابها في هدوء: واثق.

وذهبت لحالها، وقفزت فرانسي إلى الخلف وأمسكت يد أبيها، وسألت في شغف: تُرى أكانت هذه المرأة سيئة السلوك يا أبي؟

– لا.

– ولكن مظهرها يدل على ذلك؟

– إن الناس السيئين قليلون جدًّا، إنما هناك كثيرٌ من الناس سيئو الحظ.

– ولكنها كانت تصبغ جسمها جميعًا و…

– إنها امرأة مرت بها أيامٌ أفضل من أيامها هذه.

وأعجبته الجملة فرددها: نعم، إنها امرأة مرت بها أيامٌ أفضل من أيامها هذه.

وانتابته نوبةٌ من التفكير العميق، وظلت فرانسي تقفز إلى الأمام وتجمع أوراق الشجر.

ووصلا إلى المدرسة، وأشارت فرانسي إلى المدرسة في فخرٍ تلفت نظر أبيها، وكانت شمس الأصيل تدفئ آجرها الملوَّن بألوانٍ خفيفة، وبدت نوافذها ذات التقسيمات الصغيرة ترقص طربًا في ضوء الشمس، ونظر إليها جوني فترةً طويلة، ثم قال: نعم، هذه هي المدرسة، هذه هي.

وهنالك حق عليه أن يترنم بها في أغنيةٍ كما كان شأنه، كلما جاشت عواطفه أو استثيرت نفسه، وأمسك قبعته الدربي البالية، ووضعها على قلبه، ووقف معتدلًا شاخص البصر إلى المدرسة، وراح يغني:

أيام المدرسة يا أيام المدرسة،
أيتها الأيام القديمة العزيزة المشرقة؛
أيام النظام والقراءة والكتابة والحساب …

وربما بدا جوني أبله في نظر أحد المارة الغرباء، وهو يقف مرتديًا حلة السهرة الخضراء وقميصه النظيف، ممسكًا بيد طفلةٍ نحيلة في ثيابٍ رثة، ويغني أغنيته التافهة دون أن يشعر بوجودٍ في الشارع، ولكن المشهد بدا لفرانسي سليمًا جميلًا.

واخترقا الشارع وتجولا في المرج الذي يسميه عامة الناس «الأراضي»، والتقطت فرانسي باقةً من أزهار القضبان الذهبية والنجيمات البرية لتحملها معها إلى البيت، وأوضح جوني أن المكان كان في يومٍ من الأيام أرضًا يدفن فيها الهنود موتاهم، وكيف أنه أتى إلى هناك في كثيرٍ من الأحيان وهو صبي ليبحث عن رءوس السهام، واقترحت فرانسي أن يبحثا عن بعضها، ومضيا يبحثان نصف ساعة دون أن يعثرا على شيء، وتذكر جوني أنه لم يعثر على شيءٍ منها أيضًا وهو صبي، ووجدت فرانسي في ذلك فكاهةً فضحكت، واعترف أبوها بأنها ربما لم تكن مقبرة للهنود على الإطلاق، وربما اختلق أحد الناس تلك القصة، وكان جوني أكثر من صادقٍ فيما يقول؛ لأنه هو الذي اختلق القصة كلها.

وجاء وقت العودة إلى البيت سريعًا، وترقرقت الدموع في عينَي فرانسي؛ لأن أباها لم يذكر شيئًا بشأن إدخالها المدرسة الجديدة، ورأى أبوها الدموع فخطرت له فكرة في الحال: سأقول لكِ ما نفعله يا طفلتي، إننا سنتجول هنا ونختار بيتًا جميلًا ونأخذ رقمه، ثم أكتب خطابًا إلى المديرة وأقول لها: إننا سننتقل إليه، وسأبدي رغبتي في نقلك إلى تلك المدرسة.

ووجدا بيتًا أبيض اللون من طابقٍ واحد له سطحٌ منحدر وأزهار الأقحوان، التي ازدهرت بعد أوانها نامية في الفناء، ونقل العنوان بعناية.

– هل تعلمين أن ما سنعمله خطأ؟

– هل الأمر كذلك يا أبي؟

– ولكنه خطأٌ يقود إلى خيرٍ أعظم.

– مثل الكذبة البيضاء.

– مثل الكذبة التي تنقذ شخصًا؛ ولهذا يجب أن تعوضي الخطأ بأن تضاعفي ما تقدمينه من خير، يجب ألا تغيبي أو تتأخري أو تسيئي السلوك، يجب ألا تفعلي شيئًا يجعلهم يرسلون خطابًا إلى البيت بالبريد.

– سأكون دائمًا طيبة يا أبي إذا استطعت أن أذهب إلى تلك المدرسة.

– نعم، وسأريك الآن طريقًا يقودك إلى المدرسة ويخترق متنزهًا صغيرًا، إني أعرف جيدًا أين يكون، أجل إني أعرف جيدًا أين يكون.

وأشار إلى المتنزه وكيف تستطيع أن تخترقه من وسطه لتذهب إلى المدرسة.

– إن ذلك خليقٌ بأن يجعلكِ سعيدة؛ إذ يمكنك أن تري تغير المواسم في ذهابك وإيابك، فماذا تقولين؟

وتذكرت فرانسي شيئًا قرأته لها أمها مرةً، فأجابت: إن نفسي تمتلئ بالسعادة.

وكانت تعني ما تقول.

وقالت كاتي حين سمعت الفكرة: افعل ما تشاء، ولكن لا شأن لي بذلك، فإذا ما جاء الشرطي واعتقلك لإعطائك عنوانًا مزيفًا، فسوف أقول بأمانةٍ: لا شأن لي بذلك، إن المدارس تتشابه من حيث السوء والجودة، وأنا لا أدري لماذا تريد البنت أن تغير المدرسة، مع أن الواجب المنزلي موجود في أي مدرسة تذهب إليها.

وقال جوني: لقد اتفقنا إذن، خذي يا فرانسي هذا البنس واجري إلى محل الحلوى، واشتري ورقةً وغلافًا.

وجرت فرانسي هابطةً ثم عادت مسرعة، وكتب جوني مذكرةً قال فيها: إن فرانسي ستذهب لتسكن مع بعض الأقارب في العنوان … وتريد أن تنتقل من المدرسة، وأضاف أن نيلي سيظل بالبيت، ولا يحتاج إلى النقل، ووقَّع باسمه ووضع تحته خطًّا في قوةٍ واعتداد.

وناولت فرانسي المذكرة للناظرة في الصباح التالي وهي ترتعد، وقرأتها السيدة وزامت، ثم نفذت النقل، وناولت فرانسي بطاقتها وطلبت منها أن تمضي لشأنها، وخصوصًا أن المدرسة مزدحمة جدًّا على أي حال.

وقدمت فرانسي نفسها وأوراقها لمدير المدرسة الجديدة، وصافحها المدير وتمنى لها السعادة في مدرسته، وأخذتها العريفة إلى الفصل، وقطعت المدرِّسة الدرس وقدمتها إلى الفصل، وتطلعت فرانسي إلى صفوف البنات الصغيرات، وكن جميعًا يلبسن ملابس رثة ولكن معظمهن نظيفات، وأعطى لها مقعدًا خاصًّا بها وحدها، وانخرطت فرانسي سعيدة في النظام المألوف للمدرسة الجديدة.

ولم تكن المدرسة ولا الأطفال هنا بمثل ما كانت عليه الحال في المدرسة القديمة من وحشية، صحيح أن بعض الأطفال يتسمون بالحقارة والضعة، ولكنها سمة الطفولة الطبيعية وليست تآمرًا ولا خبثًا، وكانت المدرِّسات قليلات الصبر وقاسيات في كثيرٍ من الأحيان، ولكن قسوتهن لم تبلغ مبلغ الوحشية، ولم يكن هناك أيضًا أي عقابٍ جسماني، وكان الآباء والأمهات أمريكيين راسخين في أمريكيتهم، وقد بلغوا في وعيهم الحقوق التي كفلها لهم دستورهم، مبلغًا لا يسمح لهم بتقبل الظلم مستكينين، ولم يكن من الممكن أن يستغلوا أو يستذلوا شأن المهاجرين والجيل الثاني من الأمريكيين.

ووجدت فرانسي أن الشعور الجديد في تلك المدرسة يرجع غالبًا إلى ملاحظها، وكان رجلًا ذا شعرٍ أبيض ضاربًا إلى الحمرة، يناديه المدير نفسه بالسيد جينسون، وله أطفالٌ كثيرون وأحفاد يحبُّهم جميعًا ويعزُّهم، وكان أبًا لجميع الأطفال، يصمم على أن يهبطوا إلى حجرة الفرن لتجف ملابسهم، حين يأتون إلى المدرسة مبتلين في الأيام المطيرة، ويحملهم على خلع جواربهم المبللة على حبلٍ لتجف، ويضع الأحذية البالية الصغيرة في صفٍّ أمام الفرن.

وحجرة الفرن مكان طيب ترتاح له النفس، طليت جدرانها بالجير الأبيض، وطلي الفرن الكبير باللون الأحمر، فأصبح يبعث في النفس الراحة والاطمئنان، والنوافذ عالية، وقد أحبت فرانسي أن تجلس هناك وتستمتع بالدفء، وتراقب ألسنة اللهب البرتقالية والزرقاء، وهي تتراقص فوق قطع الفحم الصغيرة (وكان السيد جينسون يترك باب الفرن مفتوحًا، حين يجلس الأطفال لتجف ملابسهم)، وفرانسي في الأيام المطيرة تخرج مبكرة وتمشي إلى المدرسة ببطء، حتى تبتل ملابسها وتستمتع بميزة تجفيفها في حجرة الفرن.

ولم يكن مسموحًا للسيد جينسون أن يبقي الأطفال خارج الفصل فتجف ملابسهم، ولكنه محبوب من الجميع، ويحترمه كل شخص احترامًا كبيرًا، فلم يحتجَّ أحدٌ على ما يفعله، وسمعت فرانسي قصصًا تدور في المدرسة حول السيد جينسون، سمعت أنه كان في الجامعة ويعرف أكثر مما يعرف المدير، وقالوا: إنه تزوج، وحين أنجب الأطفال قرر أنه إذا اشتغل ملاحظًا للمدرسة، فإنه سوف يكسب مالًا أكثر من اشتغاله مدرسًا، ولكنه على أي حال محبوب ومحترم، ورأته فرانسي مرةً في مكتب المدير مرتديًا ثوب العمل النظيف المخطط، ويجلس واضعًا ساقًا فوق ساق ويتكلم في السياسة، وسمعت فرانسي أن المدير يهبط كثيرًا إلى حجرة فرن السيد جينسون، ليجلس ويتحدث بضع دقائق، وهو يدخن غليونًا مليئًا بالطباق.

وكان الطالب الذي يسيء سلوكه لا يرسل إلى مكتب المدير ليؤنَّب، بل يرسل إلى حجرة السيد جينسون ليتحدث معه، ولم يكن السيد جينسون يوبخ الطفل السيئ السلوك أبدًا، وإنما يحدثه عن ابنه الأصغر الذي كان راميًا في فريق بروكلين، ويتكلم عن الديمقراطية والمواطنة الصالحة، وعن العالم الصالح حيث يبذل كل فرد فيه غاية جهده من أجل سعادة الآخرين، وكان الطالب المسيء يخرج بعد حديث السيد جينسون، وقد عُدَّ في زمرة الأطفال الذين لا يثيرون أية متاعب بعد ذلك.

ومن عادة الأطفال عند التخرج أن يطلبوا من المدير أن يوقع لهم في أول صفحةٍ من دفتر توقيعاتهم من قبيل الاحترام لمركزه، ولكنهم يقدرون كلمة السيد جينسون أكثر، ويطلبون منه أن يوقع في الصفحة الثانية دائمًا، والمدير يوقع بسرعة بخطٍّ كبيرٍ خشن، ولكن السيد جينسون لم يكن يفعل ذلك، بل يحتفل بالتوقيع احتفالًا، فيأخذ الدفتر إلى مكتبه الكبير المستدير، ويوقد المصباح فوقه، ثم يجلس ويلمع نظارته في عناية، ويختار قلمًا ويغمسه في الحبر، ثم ينظر إليه ويمسحه ويغمسه مرةً أخرى، ثم يوقع اسمه بخطٍّ جميل كالنقش على المعدن ويجففه بعناية، وتوقيعه دائمًا أجمل ما في الدفتر، وإذا أوتيت الشجاعة على أن تطلب منه توقيع ابنه أيضًا، فإنه يأخذ الدفتر إلى بيته ويطلب من ابنه الذي كان من فريق الدودجارز ليوقِّع أيضًا، وهذا شيءٌ رائع بالنسبة للصبيان، أما البنات فلم يكن الأمر يهمهن.

وخطُّ السيد جينسون رائع كل الروعة، حتى إنه كان يكتب شهادات الدبلوم إذا طُلب منه ذلك.

وكان السيد مورتون والآنسة بيرنستون يأتيان إلى تلك المدرسة أيضًا، وحين يقومان بالتدريس يحضر السيد جينسون، ويحشر نفسه في كثيرٍ من الأحيان في أحد المقاعد الخلفية، ويستمتع بالدرس أيضًا، وفي اليوم البارد يدعو السيد مورتون أو الآنسة بيرنستون إلى حجرته لتناول قدح من القهوة قبل ذهابهما إلى المدرسة التالية، ولديه وعاء يوضع على الغاز وأدوات لصنع القهوة وضعها فوق مائدةٍ صغيرة، ودأب على تقديم قهوةٍ ثقيلةٍ سوداءَ ساخنة في أقداحٍ سميكة، وكان المدرسان الزائران يحمدان له هذه الروح الطيبة.

أما فرانسي فإنها سعيدة في هذه المدرسة، حريصة على أن تكون فتاةً طيبة وتتطلع كل يوم إذ تمر بالبيت الذي ادَّعت أنها تسكن فيه في امتنان، وتمضي في الأيام التي تهب فيها الرياح وتطير الأوراق أمام البيت، تلتقط القمامات وتضعها في صندوق النفايات القائم أمام البيت، وفي الصباح بعد أن يُفرِغ جامع القمامة الحقيبة المصنوعة من القنب ويلقي الحقيبة بإهمالٍ في الممر، بدلًا من الفناء، فإن فرانسي تلتقطها وتعلقها على دريئة بالسور، وكل سكان البيت يعتبرونها طفلةً هادئة تعاني من عقدةٍ غريبة، تحملها على الإسراف في طلب النظافة.

وفرانسي تحب تلك المدرسة، وتمر كل يوم بثمانٍ وأربعين عمارة وهي في طريقها إليها، وقد أحبت المشي أيضًا، وتطلَّب منها هذا الأمر أن تخرج في الصباح مبكرةً قبل نيلي، وتعود إلى البيت بعده بكثير، ولم يكن يهمها في ذلك سوى أنها تعاني قليلًا من المشقة وقت الغداء، وكان عليها أن تمر باثنتي عشرة عمارة لتعود إلى البيت، ومثلها لترجع ثانيةً إلى المدرسة، كل ذلك في الساعة الواحدة، وكان يتبقى وقتٌ قليل للأكل، ولم تكن أمها توافق على أن تحمل فرانسي غداءها معها، وتحتج قائلةً: إن الصلة بينها وبين بيتها وأسرتها سوف تنفصم قريبًا، كما أن عودها يشتد سريعًا، أما وهي لا تزال طفلةً فإن الأمر يقتضي أن تتصرف تصرف الأطفال، فتعود إلى البيت وتأكل على نحو ما يأكل الأطفال: لعل الخطأ هو في ذهابها إلى مدرسةٍ بعيدة كل هذا البعد، فما قولك؟

وجادلها الأب قائلًا: ولكنها يا كاتي مدرسةٌ جيدة.

– إذن فلنتحملها بخيرها وشرها.

واستقر الرأي بالنسبة لموضوع الغداء، وكان لدى فرانسي فسحةٌ من الوقت تبلغ خمس دقائق أو نحوها لتتناول غداءها، وهو وقتٌ يكاد يكفي لعودتها إلى البيت لتأخذ شطيرة تأكلها، وهي في طريق عودتها إلى المدرسة، ولم تكن تعد نفسها قط مرهقة، كانت سعيدة بالمدرسة الجديدة سعادةً جعلتها حريصة على أن تدفع على نحوٍ ما ثمن هذه السعادة.

كان من الخير أنها سعت إلى دخول تلك المدرسة، فقد عرفت عوالم أخرى غير العالم الذي ولدت فيه، وأن هذه العوالم ليست صعبة المنال.

٢٤

وكانت فرانسي تعد السنين التي تمر بعدد الإجازات لا بعدد الأيام أو الشهور، والعام بالنسبة لها يبدأ في اليوم الرابع من شهر يوليو؛ لأنه يوم الإجازة الأول بعد أن تغلق المدرسة أبوابها، فتبدأ قبل ذلك اليوم بأسبوع في جمع الصواريخ، وتنفق كل بنس يمكنها الحصول عليه من أجل لفائف الصواريخ الضخمة، وتكدسها في صندوقٍ تحت السرير، وكانت تخرج الصندوق عشر مرات في اليوم على الأقل، وتعيد تنظيم الصواريخ، وتنظر طويلًا إلى النسيج الأحمر الباهت، والساق البيضاء الملفوفة وتتعجب لصنعها، وتشم قطعة الفتيل السميكة التي تأخذها بلا مقابل في كل مرة تشتري فيها الصواريخ.

وهذا الفتيل إذا أشعل يظل يحترق ساعات، ويستخدم لإشعال الصواريخ، وترددت فرانسي في إشعال هذه الصواريخ حين أقبل اليوم العظيم، وكانت تؤثر الحصول عليها على استعمالها، وفي سنةٍ ما اشتدت الحال بالطفلين أكثر من المألوف، ولم يستطيعا الحصول على البنسات، فراح نيلي وفرانسي يكدسان حقائب الورق، وملآها في ذلك اليوم بالماء، وطويا قممها وأغلقاها وأسقطاها من فوق السطح إلى الشارع، فكانت تقرقع قرقعةً لها وقعٌ جميل في آذانهما، تكاد تشبه قرقعة الصواريخ.

وكان المارة في الشارع يتضايقون وينظرون إلى أعلى غاضبين، حين يخطئهم كيسٌ منها ويكاد يصيبهم على أم رأسهم، ولكنهم لم يكونوا يفعلون شيئًا مسلِّمين بأن الأطفال الفقراء تعودوا هذا الاحتفال.

وكانت الإجازة الثالثة هي إجازة عيد جميع القديسين،١ وسوَّد نيلي وجهه بالسناج، ولبس قلنسوته معكوسة، وارتدى معطفه بالمقلوب، وملأ جوربًا أسود طويلًا من جوارب أمه بالرماد، وطاف بالشوارع مع عصبته يهز الراية السوداء التي صنعها في البيت، ويصيح بصوتٍ خشن من حينٍ إلى حين.

وطافت فرانسي بالشوارع في صحبة البنات الصغيرات الأخريات تحمل قطعةً من الطباشير الأبيض، وراحت ترسم بسرعة صليبًا كبيرًا على ظهر كل من يقابلها مرتديًا معطفًا، وكان الأطفال يؤدون تلك الطقوس دون أن يدركوا لها معنًى، إذ ذكروا الرمز ونسوا السبب، وربما كان ذلك تقليدًا بقي من رواسب القرون الوسطى، حين كانت المنازل وربما الأشخاص أيضًا، يُعلَّمون بعلامةٍ ليعرف الناس مواطن الطاعون، وربما كان سفاحو ذلك الزمن يُعلِّمون الأشخاص الأبرياء كنوعٍ من الفكاهة القاسية، ثم بقيت هذه العادة خلال القرون، ثم مسخت وأصبحت بدعةً لا معنى لها، تُمارَس في أمسية عيد جميع القديسين.

وبدا يوم الانتخاب لفرانسي أعظم الإنجازات جميعًا، وكان يومًا يخص أهل الحي جميعًا أكثر من أي يومٍ آخر، وفكرت فرانسي في أن الناس قد يُدْلُون بأصواتهم في جهاتٍ أخرى من البلد أيضًا، ولكن الأمر لم يكن من الممكن أن يسير على النحو الذي يسير عليه في بروكلين.

وأشار جوني لفرانسي إلى محل يبيع المحار في شارع سكولز، أنشئ في بيت ظل قائمًا منذ أكثر من مائة سنة، حين عمد الزعيم الكبير تاماني إلى الاختباء هناك مع رجاله الشجعان، ومحاراته المشوية شائعة في أنحاء الولاية جميعًا، ولكن كان هناك شيءٌ آخر جعل ذلك المكان مشهورًا، فهو مكان الاجتماع السري لكبار ساسة دار البلدية، وزعماء الهنود الحمر يجتمعون هناك في وليمةٍ سرية بحجرة طعام خاصة، ويقررون وهم يأكلون المحارات الغضة الناعمة مَن الذي سيُنتخب ومن الذي سيُقصى.

وكانت فرانسي تمر بالمحل كثيرًا، وتنظر إليه وهي مبهورة، ولم يكن له اسم على الباب، وقد خلت نوافذه إلا من وعاءٍ يشتمل على السرخس، ونصف ستارة من القماش البني اللون، تنزلق من خلفها على قضبانٍ نحاسية، ورأت فرانسي مرةً الباب وهو ينفتح ويدخل منه شخص، وألقت نظرةً سريعة على حجرةٍ منخفضةٍ مضاءة بضوءٍ خافت، ينبعث من مصابيح تغطيها ستائر حمراء، ويغشى جوَّها دخان السيجارة.

وانخرطت فرانسي مع أطفال الحي الآخرين في بعض مراسم الانتخاب، دون أن تدري لذلك معنًى أو سببًا، ووقفت في ليلة الانتخاب في الصف ويداها على كتفي الطفل الذي أمامها، وراح الناس يرقصون متمايلين في الطرقات ويغنون:

تاماني، تاماني؛
الزعيم الكبير يجلس في فسطاطه،
يحيي رجاله الشجعان الظافرين.
تاماني، تاماني.

وأخذت فرانسي تستمع باهتمامٍ إلى المناقشات التي تدور بين أمها وأبيها حول فضائل هذا الحزب ونقائصه، والأب من الديمقراطيين المتحمسين، ولكن الأم لم يكن يعنيها الأمر؛ فقد كانت تنتقد هذا الحزب وتقول لجوني إنه يضيع صوته هباءً.

وقال جوني صارخًا: لا تقولي ذلك يا كاتي، إن الحزب في مجموعه يصنع الخير الكثير للناس.

وقالت كاتي متوجسة: لا أكاد أتصور ذلك.

– إن كل ما يريدون هو صوت رب الأسرة، وانظري ماذا يؤدون له نظير ذلك.

– اذكر لي شيئًا واحدًا.

– حسنًا! إذا أنت أردت نصيحة في أمرٍ قانوني، فإنك لا تحتاجين إلى محامٍ، وإنما تسألين رجل الحزب.

– أعمى يقود عميانًا.

– ألا تصدقين ذلك، إنهم قد يصمون آذانهم في أمورٍ كثيرة، ولكنهم يعرفون قوانين البلدية بمداخلها ومخارجها.

– فلتقاضِ البلدية لأمرٍ من الأمور، وانظر إلى أي مدًى يساعدك تاماني.

وقال جوني بادئًا من زاويةٍ أخرى: خذي في اعتبارك الخدمات المدنية، إنهم يعلمون متى تكون امتحانات رجال الشرطة ورجال الحريق وسعاة البريد، وإنهم دائمًا يرشدون الناخب إذا كان يهمه الأمر.

– إن زوج السيدة لافي نجح في امتحان سعاة البريد منذ ثلاث سنوات، ولا يزال يعمل سائق عربة.

– آه، ذلك لأنه جمهوري، ولو كان ديمقراطيًّا لكانوا خليقين بأن يأخذوا اسمه ويضعوه في أول القائمة، لقد سمعت عن مُدرِّسةٍ أرادت أن تنتقل إلى مَدرسةٍ أخرى، وأعانها تاماني على تحقيق رغبتها.

– كيف؟ اللهم إلا إذا كانت جميلة.

– ليس هذا هو السبب، وقد كان ذلك منه حركةً بارعة، فالمدرسات يعلمن ناخبي المستقبل، وهذه المدرِّسة مثلًا سوف تمتدح دائمًا تاماني لتلاميذها متى استطاعت إلى ذلك سبيلًا! وسوف يشبُّ كل صبي ليعطي صوته، هل فهمتِ؟

– لماذا؟

– لأن في ذلك ميزة.

وتهكمت كاتي قائلةً: ميزة! ها ها!

– وبعدُ، لنفرض أن لديك كلبًا من الكلاب القميئة، ثم مات، ماذا تفعلين؟

– وماذا أفعل بكلبٍ من هذا النوع أولًا؟

– ألا تستطيعين أن تتخيلي أن لديك كلبًا ميتًا من أجل المناقشة فحسب؟

– حسنًا! إن كلبي مات فماذا بعدُ؟

– إنك تذهبين إلى الإدارة العامة، ولسوف يحمله الصبية عنك، افرضي أن فرانسي أرادت أن تحصل على رخصةٍ للعمل، ولكنها كانت أصغر من السن القانونية.

– إنهم يحصلون لها عليها فيما أظن.

– بكل تأكيد.

– هل تظن أنه من الصواب أن يحصلوا على هذه الأوراق التي تبيح لأطفال صغار الاشتغال في المصانع؟

– حسنًا! افرضي أن لكِ صبيًّا سيئ الخلق يهرب من المدرسة، وهو خليق أن يصبح متسكعًا يتلكأ حول أركان الشوارع، ولكن القانون لا يصرح له بالعمل، أليس من الأفضل أن يحصل على أوراق عمل غير مشروعة؟

ووافقت كاتي قائلة: في هذه الحالة أجيب بنعم.

– انظري إلى كل الوظائف التي يعطونها للناخبين.

– أنت تعرف كيف يحصلون عليها، أليس كذلك؟ إنهم يفحصون مصنعًا من المصانع، ويتجاهلون أنهم ينتهكون قوانين المصنع، ويرد المدير شرهم بطبيعة الحال بأن ينبئهم بالوقت الذي تخلو فيه عنده وظائف تقتضي شغلها، فيكون لتاماني الفضل في تدبير وظائف للناخبين.

– وهناك حالةٌ أخرى، هناك رجلٌ له أقارب في الوطن القديم، ولكنه لا يستطيع أن يحضرهم إلى هنا نظرًا لتعقيدات الإجراءات، أما تاماني فيستطيع أن يتغلب على ذلك.

– بكل تأكيد، إنهم يحضرون الأجانب إلى هنا ويعملون على أن يبدءوا في استخراج الشهادات التي تثبت مواطنهم، ثم يخبروهم بأنه يجب عليهم أن يعطوا أصواتهم للحزب الديمقراطي أو يعودوا من حيث أتوا.

– إن تاماني يحب الفقراء مهما قلتِ فيه، افرضي أن هناك رجلًا مريضًا لا يستطيع أن يدفع إيجار بيته، هل تظنين أن الحزب يترك صاحب البيت يطرده؟ لا يا سيدتي، لن يحدث ذلك إذا كان ديمقراطيًّا.

وقالت كاتي: إني لأحسب أن المُلَّاك جميعًا إذن من الجمهوريين؟

– لا، إن النظام يتمشى مع المالكين، افرضي أن هناك مالكًا قدم شكوى من مستأجر لطمه على أنفه، بدلًا من أن يعطيه قيمة الإيجار، فماذا يحدث؟ إن الحزب يطرد المستأجر من أجل المالك.

– إن ما يعطيه تاماني للناس يكلفهم ضعف ثمنه، انتظر حتى نعطي نحن النساء أصواتنا.

وقطعت حديثَها ضحكةُ جوني، فقالت: إنك لا تعتقد أننا سوف نفعل ذلك؟ إن هذا اليوم سيأتي، سجِّل كلماتي، وسوف نضع هؤلاء الساسة المنحرفين في المكان الذي ينتمون إليه؛ خلف قضبان السجون.

– إذا قدر وأقبل ذلك اليوم الذي تعطي النساء فيه أصواتهن، فإنك سوف تذهبين ويدك في يدي إلى صناديق الانتخاب، وتدلين بصوتك على نحو ما أفعل.

وأحاطها بذراعه وعانقها بسرعة.

وابتسمت كاتي له، ولم تستطع فرانسي أن تلاحظ أن أمها كانت تبتسم ابتسامةً جانبية، على نحو ما تفعل السيدة في الصورة المعلقة في بهو الاستماع بالمدرسة، السيدة التي يسمونها «موناليزا» (الجيوكوندا).

وكان حزب تاماني يدين الكثير من سلطانه إلى أنه كان يجمع الأطفال وهم صغار ويعلمهم مبادئ الحزب، إن أغبى زعيم من زعماء الحزب في أي حي، وإن كان يفوته أن يدرك أن الوقت يمر مهما يحدث من أمورٍ أخرى، وأن تلميذ اليوم سوف يكون ناخب الغد؛ ولذلك كانوا يستميلون الصبية والبنات إلى جانبهم، ولم تكن المرأة تستطيع أن تدلي بصوتها في تلك الأيام، ولكن الساسة كانوا يعلمون أن نساء بروكلين يؤثرن تأثيرًا كبيرًا في رجالهن، وإنك إذا ربيت البنت الصغيرة على مبادئ الحزب، فإنها حين تتزوج تعمل على أن يعطي زوجها صوته للحزب الديمقراطي، وكانت جمعية ماتي ماهوني تغري الأطفال، بأن تهيئ لهم ولأهلهم سياحاتٍ كل صيف، وكانت كاتي، بالرغم من أنها لم تُكِنَّ للجمعية إلا السخرية، فإنها لا تجد سببًا يمنعها من استغلال هذه الميزة لقضاء وقتٍ طيب، وفرحت فرانسي حين علمت أنهم مسافرون، كما يفرح طفلٌ في العاشرة من عمره لم يركب في حياته سفينةً قط.

ورفض جوني أن يذهب، ولم يستطع أن يفهم لماذا أرادت كاتي الذهاب.

وكان تعليلها الغريب لذلك يكمن في قولها: أنا ذاهبةٌ لأنني أحب الحياة.

وقال: إذا كانت هذه هي الحياة، فلن آخذها، ولو كان ثمنها كوبونات.

ولكنه ذهب على أي حال، وتصور أن الرحلة بالسفينة قد تثقف عقله، وأراد أن يكون مستعدًّا لتعليم أطفاله، وكان اليوم قائظ الحرارة مرهقًا، واكتظ ظهر السفينة بالأطفال الذين أخذتهم نشوة الفرح، فراحوا يتسابقون صعودًا وهبوطًا محاولين أن يغطسوا في نهر الهدسون، وأخذت فرانسي تحملق وتحملق في المياه المتحركة، حتى أصابها أول صداع في حياتها، وأخبر جوني طفلَيه كيف أبحر هندريك هدسون مصعدًا في ذلك النهر نفسه منذ زمنٍ بعيد، وتحيرت فرانسي: ترى هل أصاب السيد هدسون الدوار والغثيان كما حدث لها، وجلست الأم على ظهر السفينة، وقد بدت رائعة الجمال في قبعتها المصنوعة من القش ذات اللون الأخضر في لون العشب، وردائها السويسري ذي النقط الصفراء الذي استعارته من الخالة إيفي، والناس من حولها يضحكون، فقد كانت الأم شائقة الحديث، يحب الناس الاستماع إليها.

ودخلت السفينة بعد الظهر مباشرة في أخدود تغشاه الغابات بالولاية الشمالية، وأُنزل الديمقراطيون إلى البر وساروا في طريقهم، وجرى الأطفال حول الوادي يصرفون تذاكرهم، وكان كل طفل في الأسبوع الماضي، قد أُعطي شريطًا يشتمل على عشر تذاكر مُعَنْوَنة كالآتي: المقانق (السجق) - ماء الصودا - الأرجوحة الدوارة، وما إلى ذلك.

وتسلم كلٌّ من فرانسي ونيلي شريطًا، ولكن نفرًا من الصبية الدهاة كانوا قد أغروا فرانسي، بأن تقامر بتذاكرها في لعبة البلي، وأخبروها كيف أنها ربما تفوز بخمسين شريطًا، فتستمتع بيومٍ عظيم في الرحلة، وكانت فرانسي لا تجيد لعبة البلي، وسرعان ما فقدت تذاكرها، ولكن نيلي كان محظوظًا فحصل على ثلاثة أشرطة، وطلبت فرانسي من أمها أن تأخذ واحدةً من تذاكر نيلي، وانتهزت أمها الفرصة وأعطتها درسًا في لعب الورق.

– كان لديكِ تذاكركِ، ولكني ظننتِ أنك تستطيعين أن تكوني ذكيةً وتحصلي على شيءٍ لستِ أهلًا له، إن الناس حين يقامرون يفكرون في الفوز فحسب، ولا يفكرون في الخسارة أبدًا، تذكري هذا القول: لا بد من أن تصيب الخسارة أحدًا، وربما يكون هذا الأحد أنتِ أو الزميل الآخر، سواء بسواء، لو أنك تعلمتِ هذا الدرس بخسارة شريط من التذاكر، فإنك تكونين قد دفعتِ ثمنًا قليلًا نظير التعليم والعبرة.

وكانت الأم على صواب، وعلمت فرانسي أنها على صواب، ولكن ذلك لم يسعدها على الإطلاق، فقد أرادت أن تركب الأرجوحة الدوارة، كما يفعل الأطفال الصغار الآخرون، وأرادت شرابًا من الصودا، ووقفت فرانسي حزينةً بجوار السجق تراقب الأطفال الآخرين، وهم يأكلون ويشربون، في حين وقف رجل ليكلمها، وثوبه مثل زي رجال الشرطة، ولكنه موشَّى بالذهب، أكثر مما عهدته في زي رجال الشرطة الآخرين، وسألها قائلًا: أليس معكِ تذاكر أيتها البنت الصغيرة؟

وكذبت فرانسي قائلة: إنني نسيتها.

وجذب من جيبه ثلاثة أشرطة، وقال: صدقت: أنا نفسي لم أكن ماهرًا في لعبة البلي حين كنت صبيًّا، وكنا نعمل على تعويض بعض خسائرنا كل سنة، ولكن البنات نادرًا ما كنَّ يخسرن؛ لأنهن يتعلقن بما يملكن حتى ولو كان قليلًا.

وأخذت فرانسي التذاكر منه وشكرته، وراحت تتراجع مبتعدةً عنه حين سألها: هل هذه هي أمك التي تجلس هناك، وتلبس القبعة الخضراء؟

وقالت: نعم.

ثم تريثت قليلًا، ولم يقل شيئًا، وأخيرًا سألته قائلة: لماذا؟

– هل ترتلين صلواتك كل ليلة «للزهرة الصغيرة»، وتطلبين منها أن تشبِّي وتصبحي في نصف جمال أمك؟ افعلي ذلك لتوِّكِ.

– هذا هو أبي الذي يجلس بجوار أمي.

وانتظرت فرانسي آملة أن تسمعه يقول إن أباها كان وسيمًا أيضًا، ولكنه حملق في جوني ولم يقل شيئًا، وانطلقت فرانسي تجري.

وقد نبهت كاتي على فرانسي أن تعود إليها كل نصف ساعة أثناء اليوم، وكان جوني قد ذهب إلى برميل الجعة الصغير الذي يشربون منه بلا مقابل، حين عادت فرانسي في المرة التالية، وعمدت أمها إلى إثارتها قائلة: أنت تشبهين خالتك سيسي، تتكلمين دائمًا مع الرجال الذين يرتدون الزي الرسمي.

– لقد أعطاني تذاكر إضافية.

وكانت كلمات كاتي التالية تبدو كلماتٍ عارضةً غير مقصودة.

– إنني رأيته، ماذا كان يسألك؟

– كان يسال عنكِ يا أمي.

ولم تخبرها فرانسي بما قاله بشأن جمالها.

– نعم، حسبت أنه كان يسأل عن ذلك.

وحملقت كاتي في يديها، كانتا خشنتَين حمراوَين مشققتَين، من أثر سوائل التنظيف، فأخرجت من كيسها قفازًا قطنيًّا سبق لها أن رممته، وارتدته بالرغم من أن اليوم كان حارًّا، وتنهدت قائلة: إنني أجهد نفسي في العمل كثيرًا حتى أنسى أحيانًا أنني امرأة.

وفزعت فرانسي، كان ذلك أقرب ما يكون إلى شكوى لم تسمعها ابنة من أمها، وتعجبت لماذا خجلت أمها من منظر يديها فجأة، وسمعت أمها تقول للمرأة المجاورة لها، بينما هي تقفز مبتعدة: مَن ذلك الرجل الذي يقف هناك، ويلبس ذلك الزي الرسمي، وينظر إلى هذه الناحية؟

– لعله الشاويش مايكل ماكشين، من المضحك ألا تعرفيه، مع أنه من الحي الذي تعيشين فيه.

واستمر يوم المرح على هذا النحو، وكان هناك برميلٌ صغير من الجعة عند نهاية كل منضدةٍ طويلة، سُمح لكل الديمقراطيين الصالحين أن يشربوا منه بلا مقابل، واستولى المرح على فرانسي فراحت تجري وتلعب وتصرخ وتتعارك، شأنها شأن الأطفال الآخرين، وكانت الجعة تفيض كبالوعات بروكلين بعد عاصفةٍ مطيرة، وعزفت فرقةٌ نحاسية في غلظةٍ أغنية «راقصو كيري» و«حينما تبتسم العيون الأيرلندية» و«إنه أنا يا هاريجان»، وعزفت مقطوعة «نهر شانون» والأغنية الشائعة بين عامة نيويورك «الطرق الجانبية في نيويورك».

وكان قائد الفرقة يعلن عن كل أغنيةٍ مختارة قائلًا: إن فرقة ماتي ماهوني ستعزف الآن …

وكانت كل أغنية تنتهي بصيحةٍ يطلقها أفراد الفرقة معًا «النصر لماتي ماهوني»، وكان المستمعون مع كل كوب يشربون من الجعة يقولون: التحيات لماتي ماهوني.

وكانت كل حادثة تقع ترسم بما يأتي:

«سباق الجري لفرقة ماتي ماهوني» و«سباق الفول السوداني لفرقة ماتي ماهوني» وما إلى ذلك من أسماء، واقتنعت فرانسي قبل أن يدبر اليوم بأن ماتي ماهوني كان في الحق رجلًا عظيمًا جدًّا.

وخطرت لفرانسي في وقتٍ متأخر من العصر فكرة مؤداها، أنها يجب أن تبحث عن السيد ماهوني وتشكره بنفسها، على ما أتاح لهم من وقتٍ ممتع، وظلت تبحث وتبحث، وتسأل وتسأل، ثم حدث شيءٌ غريب؛ لم يكن هناك شخصٌ واحد يعرف ماتي ماهوني، بل لم يكن أحدٌ قد رآه، إنه لم يكن موجودًا في الرحلة بلا شك، بيد أن وجوده كان يُحَسُّ في كل مكان، ولكنه كان رجلًا لا يرى بالعين، وقال لها أحد الرجال: من المحتمل ألا يكون هناك شخصٌ يدعى ماتي ماهوني، وإنما كان ذلك هو الاسم الذي يطلقونه على أي رجل يرأس الحزب. وقال لها: إنني أعطي صوتي لهذا الحزب منذ أربعين سنة، وكان المرشح للمنصب دائمًا هو الرجل نفسه ماتي ماهوني أو رجلٌ آخر غيره، ولكنه يحمل الاسم نفسه، إنني لا أعرف من هو يا بُنيتي، وكل ما أعرفه أنني أعطي صوتي للحزب الديمقراطي.

وكانت رحلة العودة هبوطًا في نهر الهدسون في تلك الليلة المقمرة رحلة مشهودة، لولا تلك المعارك الكثيرة التي نشبت بين الرجال، وشعر معظم الأطفال بالإعياء وضربة الشمس والقلق، واستغرق نيلي في النوم على حجر أمه، وجلست فرانسي على ظهر السفينة تنصت إلى أمها وأبيها وهما يتحدثان، وسألت كاتي: هل اتفق لكِ أن عرفتِ الشاويش ماكشين؟

– إني أعلم من هو؟ إنهم يسمونه الشرطي الأمين، وإن الجمعية تهتم به اهتمامًا كبيرًا، وسوف لا أُدهش لو أنه عُين عضوًا في الجمعية.

ومال إلى الأمام رجلٌ يجلس بجانبهما ولمس ذراع جوني قائلًا: إن ماك خليقٌ بأن يتبوأ هذه المكانة.

– وماذا تعرف عن حياته؟

وقال جوني: إن حياته تشبه قصة من قصص الكاتب ألجير،٢ لقد جاء من إيرلندا منذ خمس وعشرين سنة، لا يمتلك شيئًا سوى صندوق سفر صغير يستطيع أن يحمله على ظهره، واشتغل سجانًا، وأخذ يدرس بالليل، ثم التحق بالجيش، وواصل دراسته واجتاز الامتحانات حتى أصبح في النهاية شاويشًا.

– إني لأحسب أنه تزوج امرأةً متعلمة ساعدته في الحياة؟

– لا، لم يفعل ذلك في الواقع، فإنه حين قدم إلى هنا أخذته أسرةٌ أيرلندية، وتولَّت أمره حتى استطاع أن يقف على قدمَيه، وتزوجت ابنة الأسرة صعلوكًا هرب بعد شهر العسل، واشترك في عراكٍ أدى إلى قتله، وكانت الابنة حاملًا، ولم يكن من الممكن إقناع الجيران بأنها قد تزوجت قط، وكانت الأسرة خليقة بأن تحل بها الفضيحة والعار، ولكن ماكشين تزوج الابنة ومنح اسمه للطفل ردًّا للجميل الذي أسدته إليه الأسرة، ولم يكن زواج حب بمعنى الكلمة، ولكنه كان طيبًا جدًّا معها كما سمعتُ.

– وهل أنجب منها أطفالًا؟

– سمعت أنه أنجب أربعة عشر طفلًا.

– أربعة عشر!

– ولكنه ربى أربعة فحسب، يخيل إليَّ أنهم ماتوا قبل أن يشتد عودهم، وقد ولدوا جميعًا مرضى بالسل بعد أن ورثوه عن أمهم، التي أعدتها به إحدى البنات.

وقال جوني وهو يفكر: لقد نال من المتاعب أكثر من نصيبه، وإنه لرجلٌ طيب.

– أظن أنها لا تزال على قيد الحياة.

– ولكنها مريضة جدًّا، وهم يقولون إنها لن تعيش طويلًا.

– إن هؤلاء المرضى يتشبثون بالحياة طويلًا.

وفزع جوني من الملاحظة التي أبدتها زوجته، وصاح قائلًا: كاتي!

– أنا لا أبالي! أنا لا ألومها لأنها تزوجت صعلوكًا وأنجبت منه طفلًا، إن ذلك حقها، ولكني ألومها لأنها لم تتعاطَ الدواء اللازم في الوقت المناسب، لماذا تلقي بمتاعبها على كتفَي رجل طيب؟

– ما هكذا يكون الحديث!

– إنني آمل أن تموت، وأن تموت سريعًا!

– اصمتي يا كاتي!

– نعم إنني آمل ذلك حتى يستطيع أن يتزوج مرةً أخرى، امرأةً مرحةً سليمة تنجب له أطفالًا يعيشون، إن ذلك هو حق كل رجلٍ طيب.

ولم يقل جوني شيئًا، وشعرت فرانسي بخوفٍ مبهم ينمو في قلبها حين كانت تُنصت إلى حديث أمها، ونهضت وذهبت إلى أبيها وأخذت يده في يديها وضغطت عليها بقوة، وبدت عينا جوني في ضوء القمر شاخصتَين في دهشة، وجذب الطفلة إليه وأمسكها في قوة، وكان كل ما بدر منه هو: انظري كيف يسير القمر على الماء!

وبدأت الجمعية بعد الرحلة مباشرة تستعد ليوم الانتخاب، ووزع أفرادها على أطفال الحي أزرارًا لامعة بيضاء رُسم عليها وجه ماتي، وحصلت فرانسي على بعضٍ منها وأخذت تحملق طويلًا في ذلك الوجه، وأصبح ماتي في نظرها شخصًا غامضًا كل الغموض، حتى لقد حل في مخيلتها محل شيء من قبيل الروح القدس الذي لم يره أحدٌ قط، وإن كان الناس يحسون بوجوده، وكانت الصورة تمثل وجه رجلٍ أشقرَ له شعرٌ فضي وشارب يشبه مقود الدراجة، كأنه وجه أي رجلٍ سياسي من محترفي السياسة، وودت فرانسي لو استطاعت أن تراه بلحمه ودمه مرةً واحدة فحسب.

وأثارت تلك الأزرار الأطفال كثيرًا، واستخدموها في أغراضٍ تجارية وفي الألعاب وكعملةٍ محلية، وباع نيلي قلنسوة لصبي نظير عشرة أزرار، واستبدل جيمبي بائع الحلوى بخمسة عشر زرارًا من فرانسي قطعة من الحلوى تساوي بنسًا (وكان قد اتفق مع الجمعية على أن يأخذ نقودًا نظير الأزرار)، وتجولت فرانسي تبحث عن ماتي، ووجدته في كل ماكن، وجدت الصبية يلعبون لعبة الرمية بوجهه، ووجدته قد انبسط على عربات النقل ممثلًا حليةً مصغرة، وكان ماثلًا أيضًا بين الفضلات التي في جيب نيلي، واختلست النظر إلى مصرف الماء فوجدته طافيًا على السطح شاخص الوجه، ووجدته في الأرض الجرداء في أسفل النافذة الحديدية، ورأت فرانسي بنكي بيركنز بجوارها في الكنيسة يسقط زرارَين في «الصحن» بدلًا من البنسَين اللذين أخذهما من أمه، ورأته يدخل بعد انتهاء القداس محل الحلوى، ويشتري أربع سجائر من حلوى كابورال نظير سنتَين، وكانت فرانسي ترى وجه ماتي في كل مكان، لكنها لم ترَ ماتي أبدًا.

وتجولت فرانسي في الأسبوع السابق للانتخاب مع نيلي، والصبية يجمعون «الوقود» الخشب اللازم للألعاب النارية الكبرى، التي سوف تُشعل في ليلة الانتخاب، وساعدت على تخزين الوقود في الكرار.

واستيقظت مبكرة يوم الانتخاب، ورأت الرجل الذي أقبل، وطرق الباب، ثم قال حين رد عليه جوني: نولان؟

وأجاب جوني: نعم هو بعينه.

– اذهب إلى صناديق الانتخاب في الساعة الحادية عشرة.

وبعد أن راجع اسم جوني في قائمته ناول جوني سيجارًا، وقال: مع تحيات ماتي ماهوني.

ثم غادرهم وذهب إلى الديمقراطي الذي يليه، وسألت فرانسي أباها: أما كنت ستذهب دون أن يخبروك بذلك؟

– أجل، ولكنهم يفسحون لكل منا الوقت حتى ترجح كفتهم في التصويت، وإنك لتعلمين أن كل شخص لا يأتي في جماعة، ولذا فالتنبُّه الفردي أضمن.

وسألت فرانسي في تصميم: لماذا؟

وتهرَّب جوني قائلًا: هذا هكذا …

وتكلمت الأم قائلة: سأخبرك بالسبب، إنهم يريدون أن يكونوا على بينةٍ ممن ينتخب، وكيف ينتخب، وإنهم ليعرفون الوقت الذي يمثل فيه الرجل أمام صناديق الانتخاب، وكان الله في عونه إذا لم يتبين لهم أنه قد انتخب ماتي!

وقال جوني وهو يشعل سيجار ماتي: إن النساء لا يعرفن شيئًا في السياسة.

وساعدت فرانسي نيلي في جر الخشب خارج البيت ليلة الانتخاب، وأسهما به في أكبر ألعابٍ نارية في الحي، ووقفت فرانسي في الصف مع الأطفال الآخرين، ورقصوا حول النار مثلما يرقص الهنود وغنوا أغنية تاماني، فلما خبت النار وأصبحت جمرًا، سطا الصبية على عربات اليد التي يمكلها التجار اليهود، وسرقوا البطاطس وشَوَوْها على النار الخابية، ولم يتوافر من البطاطس قدر يكفي جميع الأطفال، ولم تنل فرانسي شيئًا منها.

ووقفت فرانسي في الشارع ترقب أشباح العائدين تتمثل على ملاءة سرير، بسطت من نافذةٍ إلى نافذةٍ أخرى في بيت عند المنعطف، وكان هناك فانوسٌ سحري في وسط الشارع يعكس الأشباح على الملاءة.

وأخذت فرانسي تصيح مع الأطفال الآخرين مع كل فوجٍ من العائدين: ها هي ذي جماعةٌ أخرى قد عادت.

وبدأت صورة ماتي تظهر في أعلى الشاشة من حينٍ إلى حين والجمهور يحييها بصوتٍ خشن، وانتُخب في هذا العام رئيسٌ للجمهورية من الحزب الديمقراطي، وأعيد انتخاب الحاكم الديمقراطي للولاية، ولكن كل ما علمته فرانسي هو أن ماتي ماهوني انتصر مرةً أخرى.

ونسي الساسة بعد الانتخاب وعودهم، ونعموا براحةٍ ظفروا بها حتى حلول السنة الجديدة، التي يستأنفون بحلولها العمل من أجل الانتخاب التالي، واليوم الثاني من شهر يناير هو يوم اجتماع النساء في مقر الحزب الديمقراطي، وكانت النساء في ذلك اليوم دون سواه يُستقبلن في هذا الحي الذي لا مكان فيه للنساء، ويقدم لهن شراب الكرز والكعك الصغير. وظلت النساء يتوافدن على المكان طوال اليوم، ورجال حاشية ماتي يستقبلوهن في ظرف، لكن ماتي نفسه لم يكن يظهر أبدًا، وكانت النساء حين يغادرن المكان يتركن بطاقاتهن الصغيرة المزينة، وقد كتبت عليها أسماؤهن، في وعاءٍ من الزجاج وضع على منضدة البهو.

ولم تكن سخرية كاتي من الساسة تحول دون ذهابها إلى ذلك الاجتماع كل سنة، فكانت ترتدي رداءها الرمادي النظيف المكوي المزين بالأشرطة، ومالت على عينيها اليمنى قبعتها المصنوعة من المخمل الأخضر، بل إنها كانت تعطي الكاتب الذي أقام محلًّا مؤقتًا خارج مقر الحزب، عشرة سنتات ليصنع لها بطاقة، وكتب الرجل عليها حرم السيد جوني نولان، ونقش الحرف الأول من كل كلمة بحروف التاج، وكان ذلك المبلغ خليقًا بأن يدخر في الحصالة، ولكن كاتي رأت أنه ليس عليها من حرج، في أن تكون مسرفة مرةً واحدة في السنة.

وكان أفراد الأسرة ينتظرون عودتها إلى البيت، ليستمعوا إلى كل شيء عن الزيارة، وسأل جوني: كيف كانت الزيارة هذا العام؟

وقالت كاتي بطريقتها المباشرة الصادقة: كانت كشأنها دائمًا، نفس الحشد المعهود، وجمهرة من النساء يرتدين ملابس جديدة أراهن أنهن اشترينها خصيصًا لهذه المناسبة، ولبست الساقطات بلا شك أحسن الملابس، وكان عددهن كالمعتاد ضعف عدد النساء المهذبات.

٢٥

كان جوني ممن يميلون كل الميل مع الهوى والظن، لقد تخيل أن الحياة بالغت في النيل منه، وحكمت عليه بالبوار، فبدأ يدمن الشراب لينسى، وأصبحت فرانسي تفهمه حين يسرف في الشراب أكثر مما اعتاد؛ إذ يسير إلى البيت في خطًى أكثر استقامة، ويسير في حذر، ويميل في مشيته بعض الشيء، وجوني يبدو رجلًا هادئًا حين يكون ثملًا، أجل كان لا يصخب، ولا يغني، ولا تجيش مشاعره، وإنما يجنح إلى التفكير، والناس الذين لا يعرفونه يظنون أنه ثمل حين يكون صاحيًا؛ لأنه في تلك الحالة يفيض نشوةً وطربًا بالغناء، والغرباء يرونه — حين يكون ثملًا — رجلًا هادئًا مفكرًا، يهتم بشئونه الخاصة، ولا يحفل بأمر أحد.

وكانت فرانسي تخشى الأوقات التي يكون فيها ثملًا، لا من أجل المبادئ والأخلاق، ولكن لأن أباها لا يبدو حينئذٍ الرجل الذي تعرفه، فهو لا يتكلم معها أو مع أي شخصٍ آخر، وينظر إليها نظرات الرجل الغريب، ويشيح برأسه بعيدًا عن أمها حين تكلمه.

وحين يفيق من سكره تسيطر عليه فكرة أن يكون أبًا لأطفاله أفضل مما كان، فيحس أنه يجب أن يعلمهم أشياء معينة ويمتنع عن الشراب فترة، وتتملكه فكرة الجد في العمل وتخصيص وقت فراغه جميعًا لفرانسي ونيلي، وكانت فكرته عن التعليم هي فكرة أم كاتي ماري روملي، فأراد أن يعلم طفليه كل ما يعلمه حتى يعرفا، وهما في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، ما كان يعرفه هو في الثلاثين. وتصور أنهما يستطيعان أن يمضيا في طريق المعرفة من بعدُ بالتقاط ما يحصلانه منها بنفسيهما، وقدر أنهما حين يبلغان سن الثلاثين سوف يكونان على حظٍّ من الفطنة ضعف ما بلغه هو في تلك السن، وشعر أنهما في حاجةٍ إلى دروس في علم الجغرافيا والتربية الوطنية وعلم الاجتماع التي غابت عن ذهنه، فأخذهما إلى شارع بوشويك.

وشارع بوشويك أرقى شارع في بروكلين القديمة وأرفعها شأنًا، إنه شارعٌ واسع، تظلله الأشجار وتصطف على جانبَيه منازلُ جميلة، بُنيت على نحوٍ يثير الإعجاب بكتل الجرانيت الكبيرة، ومنحدراتٍ طويلة من الحجر، ويسكن فيه الساسة الكبار والأسر التي تكتنز الأموال، والمهاجرون الأثرياء الذين ارتقوا إلى الطبقة العليا بدلًا من أن يظلوا يعملون في إدارة السفن، وكانوا قد حملوا أموالهم وتماثيلهم ولوحاتهم الزيتية الكئيبة، وجاءوا إلى أمريكا وأقاموا في بروكلين.

وكانت السيارات قد ظهرت واستعملها الناس، ولكن معظم هذه الأسر لا تزال تتعلق بجيادها الرشيقة وعرباتها الفخمة، وكان الأب يشير إلى كل ذلك العتاد المتنوع ويصفه لفرانسي، وأخذت فرانسي تراقبها في خشيةٍ ورهبة وهي تمضي في سيرها.

وبعض هذه العربات صغيرةٌ أنيقةٌ مطلية بالدهان اللامع، مبطنة بقماش «الساتان» الأبيض، ولها مظلاتٌ ذات حوافَّ كبيرة تستعملها النساء الأنيقات الرقيقات، وبعض العربات البديعة على هيئة سلال مضفورة، على كل جانبٍ منها أريكة جلس عليها الأطفال السعداء المحظوظون، يجرهم مهرٌ من النوع الشتلندي، وحملقت فرانسي في المربيات اللائي بدأ على وجوههن القدرة والحزم، وهن يرافقن هؤلاء الأطفال وكأنهن ينتمين إلى عالمٍ آخر، يلبسن الحرامل والقبعات المنشاة ويجلسن على مقعدٍ جانبي ويقدن المهر الصغير.

ورأت فرانسي عربتَين سوداوَين من ذوات المقعدَين، يجرهما جوادٌ مفردٌ سريع الخطو يقوده شاب «غندور»، يرتدي قفازًا من الجلد قلبت أطرافه إلى الخلف ليبدو كقفازٍ مقلاب.

ورأت عربات الأسر الرصينة تجرها أزواج من الجياد، يبدو أنها يعتمد بعضها على البعض، ولم تستهوِ هذه العربات فرانسي كثيرًا؛ لأن كل متعهد لنقل الموتى في ويليمسبرج لديه مجموعة منها.

وأحبَّت فرانسي العربات الأنيقة أكثر ما أحبت، فقد كانت تبدو رائعة بعجلتَيها الوحيدتَين فحسب، وذلك الباب المضحك الذي يغلق من تلقاء نفسه حين يتكئ الراكب بظهره على المقعد! (وظنَّت فرانسي لسذاجتها أن الأبواب صنعت لتحمي الركاب من روث الجياد المتناثر في الجو)، وقالت فرانسي بينها وبين نفسها لو أنها كانت رجلًا لاشتغلت بقيادة عربة من تلك العربات، ألا ما أروع أن تجلس في ذلك المقعد المرتفع، وتحت يدها غمد وضع فيه سوطٌ متحفز! وما أروع أن تلبس مثل هذا المعطف العظيم ذا الأزرار الكثيرة، والبنيقة المخملية، والقبعة العالية المنضغطة المزيَّنة بشريطٍ حولها! وما أروع أن تطوي فوق ركبتَيها مثل هذا الغطاء الفاخر المنظر! وراحت فرانسي تقلد صيحة السائق بصوتٍ خافت: عربة يا سيدي؟ عربة؟

وقال جوني وقد شرد في حلمه بالديمقراطية: إن أي شخص يستطيع أن يركب عربةً من هذه العربات الأنيقة إذا توافر لديه المال، وهكذا ترين أي بلدٍ حرٍّ نعيش فيه هنا!

وسألت فرانسي: أي حرية فيه ما دام الأمر يقتضيك الدفع؟

– إنه حرٌّ على هذا النحو، إذا كان لديك النقود فإنه يُسمح لكِ بالركوب فيها بصرف النظر عمن تكونين، أما في أوطاننا القديمة فقد كان لا يُسمح لبعض الناس أن يركبوها، وإن توافر لهم المال.

وقالت فرانسي في إصرار: ألم يكن هذا البلد خليقًا بأن يكون أكثر حرية لو استطعنا أن نركب العربات بلا مقابل؟

– لا!

– لماذا؟

واختتم جوني في انتصار: لأن ذلك معناه شيوعية، ونحن لا نريدها هنا.

– لماذا؟

وجسَّم جوني الرأي قائلًا: لأننا نسير على الديمقراطية، وهي خير نظام يمكن أن يكون.

وكانت هناك شائعات تقول إن محافظ مدينة نيويورك المقبل سوف يأتي من شارع بوشويك في بروكلين، وأثارت الفكرة جوني وقال لفرانسي: انظري إلى أعلى وإلى أسفل هذا البناء يا فرانسي، وأشيري لي أين يسكن محافظ المستقبل.

ونظرت فرانسي ثم أطرقت برأسها، وقالت: أنا لا أعرف يا أبي!

وأعلن جوني كأنه ينفخ في النفير: إنه هناك! إن ذلك المنزل القائم هناك سوف يكون له في يومٍ ما عمودان عليهما مصباحان في أسفل الظلة.

وقال بلهجةٍ خطابية: وأنى كان تجوالك في هذه المدينة الكبيرة، فعندما تلقين منزلًا له مصباحان على عمودين، فاعلمي أن محافظ أكبر مدينة في العالم يسكن هناك.

وسألت فرانسي: وما حاجته إلى مثل هذين المصباحَين؟

واختتم جوني كلامه في غموضٍ وتحمسٍ شديد لوطنه: لأن هذه هي أمريكا، وأنت تعلمين أن الحكم في بلدٍ تقوم فيه مثل هذه الأشياء، هو حكم الشعب بالشعب للشعب، ولن يغيب مثل هذا الحكم عن وجه الأرض هنا كما يحدث في البلاد القديمة.

وبدأ يغني بصوتٍ خافت، وسرعان ما جاشت مشاعره وبدأ يرفع صوته بالغناء، وانضمت إليه فرانسي، وغنى جوني قائلًا:

أيها الخفاق في مسرى الهواء،
إنك لعَلَمٌ عظيمٌ عريق،
تحلق عاليًا في السماء،
ولسوف تخفق في سلامٍ أبد الآبدين.٣

وحملق الناس في جوني بدافع الفضول، وألقت إليه سيدة كريمة ببنس.

وكان لشارع بوشويك ذكرى أخرى عند فرانسي ترتبط برائحة الورد، فقد كان الورد ماثلًا في كل مكان من شارع بوشويك، والشوارع قد أخليت من المرور، ورجال الشرطة يدفعون الجماهير إلى الأرصفة، وعبير الورد ينتشر دائمًا، ثم أقبل الخيالة، وهم رجال الشرطة الذين يمتطون الجياد، وسيارةٌ كبيرة مكشوفة جلس فيها رجلٌ وسيمٌ بشوش، يحيط برقبته إكليل من الزهور، وكان بعض الناس يبكون فرحًا وهم ينظرون إليه، وتعلقت فرانسي بيد أبيها وسمعت الناس من حولها يتكلمون: تصور! كان صبيًّا من بروكلين أيضًا.

– كان؟ إنه لا يزال يعيش أيها الأحمق في بروكلين.

– صحيح؟

– صحيح، وهو يسكن هنا في شارع بوشويك.

وصاحت امرأة: انظروا إليه! انظروا إليه! لقد قام بهذا العمل العظيم ولا يزال رجلًا عاديًّا مثل زوجي، وكل ما في الأمر أنه يفوقه وسامة.

وقال رجل: لا بد أنه كان يرتعد بردًا وهو في هذا المكان الشاهق!

وقال صبيٌّ سفيه: إني لأعجب كيف أنه لم يتجمد من البرد!

وربت رجلٌ ممتقع الوجه كالموتى على كتف جوني، وسأله: هل تعتقد حقًّا يا ماك أن هناك قطبًا في الشمال يبرز من قمة العالم؟

وأجاب جوني: بكل تأكيد، ألم يصعد هو إلى هناك، واستدار وعلق العلم الأمريكي فوقه؟

ثم صاح صبيٌّ صغير في تلك اللحظة: ها هو ذا مقبل!

– مرحى! مرحى! مرحى!

واهتاجت مشاعر فرانسي لأصوات الإعجاب التي هزت الجمهور، حين مرت بهم السيارة حيث كانوا واقفين، وصرخت في صوتٍ عالٍ وقد طغت عليها النشوة والحماسة: النصر للدكتور كوك! النصر لبروكلين!

٢٦

إن معظم الأطفال الذين نشئوا في بروكلين قبل الحرب العالمية الأولى يذكرون عيد الشكر بحنانٍ عجيب، فهو اليوم الذي يتجول فيه الأطفال «لابسو الملابس الرثة» أو «قارعو الأبواب»، مرتدين حللًا على قمتها قناع يساوي بنسًا، واختارت فرانسي قناعها بعنايةٍ كبيرة، واشترت قناع رجلٍ صيني له حبلٌ هش وشارب كشارب الموظف العام في الإمبراطورية الصينية قديمًا، واشترى نيلي رأسًا أبيض كالطباشير يشبه رءوس الموتى، وقد كشر عن أسنانٍ سوداء، وأقبل الأب في آخر لحظةٍ ومعه بوقان من القصدير يساوي كلٌّ منهما بنسًا، وأعطى لفرانسي البوق الأحمر، وأخذ نيلي البوق الأخضر.

وما أشد ما لاقت فرانسي من عناءٍ وهي تدخل نيلي في حلته! فقد لبس رداءً مهملًا من ملابس أمه، بعد أن قُصَّ إلى الركبة من الأمام؛ لكي يتسنى له السير في يسر، وانساب ظهر الرداء غير المقصوص القذر يجرجر من ورائه، وحشا نيلي الرداء من الأمام بأوراق الصحف ليبرز صدره، وارتدى فوق الحلة سترةً مهلهلة حتى لا يتجمد من البرد، ولبس مع هذه الحلة قناع الموت ووضع فوق رأسه قبعة من قبعات الدربي التي أهملها أبوه، ولكنها كانت كبيرة جدًّا فلم تمسك برأسه، وإنما غاص فيها واستقرت على أذنيه.

وارتدت فرانسي صدرية من صدريات أمها الصفراء وقميصًا أزرق زاهيًا ومنطقةً حمراء، ولبست قناع الرجل الصيني وثبتته على رأسها بذيلٍ أحمر طوته تحت ذقنها، وألبستها أمها قبعتها الصوفية الخاصة، على غطاء رأسها؛ لأنه كان يومًا باردًا، ووضعت فرانسي جوزتين للإغراء في سلة عيد الفصح السابق، وانطلق الطفلان إلى الخارج.

وبدت الشوارع مزدحمة بالأطفال ذوي الأقنعة والحلل، يطلقون صفيرًا يصم الآذان بأبواقهم المصنوعة من القصدير التي اشتروها ببنس، وكان بعض الأطفال أشد فقرًا من أن يشتروا قناعًا يساوي بنسًا، فسوَّدوا وجوههم بالفلين المحروق، وكان الأطفال الآخرون الميسورو الآباء قد ارتدوا حللًا، اشتروها من المحال مثل الحلل الهندية الهشة، وحلل رعاة البقر، وأثوابٌ من القماش الرقيق صنعت في هولندا مما تلبسه العذارى، واكتفى بعض الأطفال المستخفين بأن لفوا أنفسهم بملاءةٍ قذرة وسموها حلة.

واندفعت فرانسي في حشدٍ حاشد من الأطفال، وراحت تتجول معهم، وأغلق بعض أصحاب المحال أبوابهم في وجوه الأطفال، ولكن معظمهم كانوا يبيعونهم بعض الأشياء، وكان بائع الحلوى قد جمع كل قطع الحلوى المكسرة منذ أسابيع، وراح يعبئها في أكياسٍ صغيرة ليتصدق بها على كل من جاء يستجدي، واضطر إلى أن يفعل ذلك لأنه يعيش على البنسات التي يدفعها الأطفال الصغار ولم يرغب في أن يقاطعوه، وأغرت المخابز الأطفال بأن خبزت لهم صنفًا من الكعك اللين ووزعته عليهم، وكان الأطفال هم الذين يستبضعون في الحي، وكانوا خليقين بأن يتعاونوا مع المحال التي تعاملهم معاملةً طيبة فحسب، وقد فطن الخبازون لذلك، واستمال الفاكهي الأطفال بالموز التالف والتفاح الذي عطب نصفه، ولم تلجأ بعض المحال التي لا تكسب شيئًا من الأطفال إلى طردهم منها أو إلى إعطائهم شيئًا، اللهم إلا درسًا في بيان مساوئ الاستجداء، وأخذ الأطفال يجازون هؤلاء الناس بطرقٍ شديد متكرر على أبوابهم الأمامية، ومن هنا جاء التعبير «قارعو الأبواب».

وما إن حلت الظهيرة حتى انتهى كل شيء، وكانت فرانسي قد تعبت من حلتها غير المريحة، وتجعد قناعها (وهو مصنوعٌ من الشاش الرخيص بعد أن نُشِّي بالنشا الثقيل، ثم جفف على نموذجٍ ليأخذ شكله)، وكان أحد الصبية قد أخذ بوقها المصنوع من القصدير، وكسره نصفَين على ركبتَيه، وقابلت نيلي قادمًا بأنفٍ يسيل دمًا، بعد أن دخل معركةً مع صبيٍّ آخر أراد أن يأخذ سلته، ولم يقل نيلي مَن الذي فاز ولكنه كان يحمل سلة الصبي بجوار سلته، وعادا إلى البيت ليتناولا غداء عيد شكر طيب، يشتمل على وعاء شواء وفطائر صُنعت في البيت، وأمضيا العصر يستمعان إلى أبيهما، وهو يسترجع ذكريات تجواله في يوم عيد الشكر حين كان صبيًّا.

وكذبت فرانسي في يومٍ من أيام عيد الشكر أول كذبة محكمة لها، واكتشفت كذبتها، وصممت على أن تكون كاتبة.

كانت التمرينات تبدأ في فصل فرانسي في اليوم السابق لعيد الشكر، وترتل كل فتاة من أربع فتيات أنشودة من أناشيد عيد الشكر، وتمسك في يدها رمزًا لهذا اليوم، وأمسكت واحدةً من البنات بسنبلةٍ من القمح الجاف، وأمسكت أخرى برجل ديكٍ رومي، قُصد بها أن تمثل الديك كله، وأمسكت بنتٌ ثالثة بسلةٍ من التفاح، وأمسكت الرابعة فطيرةً من قرع العسل، ثمنها خمسة سنتات في حجم الطبق الصغير.

وألقيت رجل الديك الرومي والسنبلة بعد التمرينات في سلة المهملات، ووضعت المدرِّسة التفاح جانبًا لتحمله إلى البيت، وسألت ما إذا كانت إحدى البنات تريد فطيرة القرع، وسال لعاب ثلاثين طفلة، وشعرت ثلاثون يد برغبةٍ في أن ترتفع في الهواء ولكن يدًا واحدة لم تتحرك، وبعضهن كن فقيرات، وكثيرات منهن جائعات، ولكنهن جميعًا يأبين في كبرياء وشمم أن يقبلن طعام إحسان، وأمرت المدرِّسة حين لم ترفع واحدة يدها بإلقاء الفطيرة بعيدًا.

ولم تستطع فرانسي أن تحتمل ذلك، تلك الفطيرة الجميلة تلقى وهي لم تذق في حياتها فطيرة القرع! وكان ذلك الطعام في نظرها هو طعام الناس الذين يركبون العربات المغطاة، طعام المحاربين الهنود، وكانت الرغبة في تذوقها تستبد بها، فاخترعت في لحظة كذبة وارتفعت يدها إلى أعلى.

وقالت المدرِّسة: إنني مسرورة لأن فتاة أرادتها.

وكذبت فرانسي في فخر: لا أريدها لنفسي، ولكني أعرف أسرةً فقيرة جدًّا أحب أن أعطيها لها.

وقالت المدرِّسة: حسنًا! هذه هي روح عيد الشكر الحقة!

وأكلت فرانسي الفطيرة وهي عائدة إلى بيتها ذلك العصر، ولم تستطب طعمها، ولم تدرِ أكان ذلك منبعثًا من تأنيب ضميرها أم من نكهة الفطيرة الغريبة، وقد وجدت طعمها كطعم الصابون، ورأتها المدرسة يوم الإثنين التالي في البهو أمام الفصل، فسألتها كيف استمتعت الأسرة الفقيرة بالفطيرة.

وقالت فرانسي لها: لقد استمتعوا بها كل المتعة!

ثم أفاضت في القصة حين رأت الاهتمام يبدو على المدرِّسة: إن لهذه الأسرة بنتين صغيرتين لهما شعرٌ مجعدٌ ذهبي وعيونٌ زرقاءُ واسعة.

واستزادتها المدرِّسة: وبعد؟

– وبعد … وبعد … لقد كانتا توأمَين.

– يا لها من قصةٍ مثيرة للاهتمام!

واستثار ذلك خيال فرانسي، فقالت: كانت إحداهما اسمها باميلا، والأخرى اسمها كاميلا (وهذان الاسمان من الأسماء التي اختارتها فرانسي مرة لدُماها الموهومة).

وقالت المدرِّسة في إيحاء: وكانتا فقيرتين جدًّا جدًّا.

– أوه! فقيرتَين جدًّا! لقد بقيتا ثلاثة أيام دون طعام، وكانتا خليقتَين بأن تموتا كما قال الطبيب لو لم أحضر لهما تلك الفطيرة.

وعلقت المدرِّسة في رقة: كانت الفطيرة أصغر من أن تنقذ نفسين من براثن الموت!

وعرفت فرانسي حينئذٍ أنها بالغت أكثر مما ينبغي، وكرهت ذلك الذي جاش في نفسها أيًّا كان شأنه، وجعلها تخترع مثل هذه الأكاذيب الصارخة، وانحنت المدرِّسة ووضعت ذراعيها حول فرانسي، ورأت فرانسي الدموع في عينيها، فانهارت فرانسي، واستيقظ الندم في قلبها وانساب انسياب الفيضان الطاغي، واعترفت قائلةً: إن ذلك كله كذبةٌ كبيرة، لقد أكلت الفطيرة أنا نفسي.

– أنا أعرف أنكِ فعلتِ ذلك.

ورجتها فرانسي، وقد تذكرت عنوان البيت الذي لا تسكنه قائلة: أرجوكِ ألا ترسلي رسالة إلى البيت، سوف أبقى بعد انتهاء الدراسة كل يوم لمدة …

– إنني لن أعاقبكِ على ما أوتيت من خيال.

وشرحت المدرِّسة في رقةٍ الفرق بين الكذبة والقصة، وقالت إن الكذبة شيء تروينه لأنك وضيعة أو جبانة، أما القصة فشيءٌ تنسجينه من حدثٍ كان من المحتمل وقوعه، ولكنك لا تروينها كما وقعت، وإنما تروينها كما ينبغي أن تكون في رأيك.

وانزاح عن صدر فرانسي همٌّ ثقيل لحديث المدرِّسة، وأصبحت فرانسي بعد ذلك تميل إلى المغالاة في الأشياء، فلم تكن تحكي الحوادث في صدق، ولكنها كانت تضفي عليها ألوانًا وظلالًا، وتُدخِل فيها عناصر الإثارة والإطناب، وكانت كاتي تضيق بهذا الاتجاه، ودأبت على تحذير فرانسي وحضِّها على أن تقول الصدق الصُّراح، وأن تقلع عن إسباغ ثوب القصة على الأشياء، ولكن فرانسي لم تكن تستطيع أن تقول الواقع الصريح دون تنميق، بل كانت تحس أنها مدفوعة إلى أن تضفي عليه شيئًا من لدنها.

وكاتي تمتلك هذه النزعة نفسها، في تلوين أية حادثة، وجوني نفسه يعيش في عالمٍ تكتنفه الأحلام والأوهام، ومع ذلك حاولا أن يخمدا هذه النزعة في نفس طفلتهما، وربما كان هناك سببٌ وجيه يدعوهما إلى ذلك، أو لعلهما كانا يعلمان أن موهبة الخيال عندهما أضفت على فقر حياتهما وقسوتها لونًا ورديًّا جميلًا ساعدهما على تحملها، ولعل كاتي قد ظنت أنهما لو لم يرزقا تلك الموهبة لكان تفكيرهما خليقًا بأن يكون أكثر وضوحًا، ولرأيا الأشياء على حقيقتها، وكانا خليقَين حين يريانها على هذا النحو بأن يشعرا بالكراهية لها، ويلتمسا سبيلًا إلى تحسين أحوالهما.

وكانت فرانسي تتذكر دائمًا ما قالته لها تلك المدرِّسة الرحيمة: إنك تعلمين يا فرانسي أن كثيرًا من الناس خليقون بأن يظنوا أن تلك القصص التي تؤلفينها طول الوقت أكاذيبُ خطيرة؛ لأنها لا تصور لهم الحقيقة كما يراها الناس، وفي المستقبل حين يعرض لك حدثٌ من الأحداث فعليك أن تقولي كيف وقع بالضبط، ولكنكِ حين تكتبين لنفسكِ فاكتبي ما تعتقدين أنه كان يجب أن يكون، قولي الحق، واكتبي القصة، وحينئذٍ لا يختلط عليك الأمر.

وهذه أحسن نصيحة تلقَّتها فرانسي، فالحقيقة والخيال كانا يمتزجان في عقلها امتزاجًا شديدًا، شأن كل طفلٍ وحيد، حتى إنها لم تكن تفرق بين هذه وتلك، ولكن المدرسة ميزت بينهما تمييزًا واضحًا، ومنذ ذلك اليوم وفرانسي تكتب قصصًا قصيرة عما كانت تراه وتحسه وتمارسه، وأصبحت بمرور الوقت تستطيع أن تقول الحقيقة دون أن تضفي عليها إلا القليل من الخيال، الذي تُلوِّن به الحقائق تلوينًا طبيعيًّا خفيفًا.

وكانت فرانسي قد بلغت العاشرة من عمرها حين وجدت لأول مرة متنفسًا في الكتابة، وكل ما كتبته في تلك الفترة تافه، ولكن محاولتها في كتابة القصص كانت ذات أهمية؛ إذ هدتها دائمًا إلى الصراط الذي يفصل بين الحقيقة والخيال.

وكان من المحتمل أن تشب فرانسي على الكذب الخطير، لو لم تجد ذلك المتنفس في الكتابة.

٢٧

وكان عيد الميلاد فاتنًا رائعًا في بروكلين، تلوح بشائره في الجو قبل أن يحل بوقتٍ طويل، وأولى البشائر تتمثل في تنقل السيد مورتون بين المدارس، يعلِّم أناشيد عيد الميلاد، ولكن أول بشرى حقيقية هي ما تبدو عليه نوافذ العرض في المحالِّ.

ولا مناص لك من أن ترتدَّ طفلًا لتعلم مبلغ ما تتحلى به نوافذ العرض بالمحال من روعة، وهي حافلة بالدمى والزلاقات وغير ذلك من اللعب، وأحست فرانسي إقبالها على تلك الروعة، وكانت فرحتها، حين يُسمَح لها بأن تنظر إلى اللعب من خلال النافذة الزجاجية، تكاد تداني فرحتها لو أنها امتلكت هذه اللعب حقًّا.

وما أعظم نشوتها حين دارت حول منعطف الشارع، ورأت محلًّا آخر قد امتلأ بلعب عيد الميلاد، وما أجمل النافذة وهي تتلألأ مشرقةً بندف القطن، وقد نُثرت عليها النجوم كالبساط المزوق، وكان في النافذة دُمًى لها شعور كالكتان، ودُمًى أخرى فضلتها فرانسي وكانت شعورها في لون القهوة الممزوجة بالكريمة، ووجوهها ملونة تلوينًا متقنًا غاية الإتقان، وتلبس ملابس لم ترها فرانسي في حياتها قط، وهذه الدمى صُنعت واقفة في صناديقَ واهية من الورق المقوَّى، وقد اعتمدت على قطعةٍ من الشريط تمر حول عنقها وكاحلَيها، كما تمر خلال ثقوب في ظهر الصندوق، وعيونها الزرقاء العميقة تحيطها رموشٌ كثيفة، تحملق مصوبةً نظراتها إلى قلب فتاةٍ صغيرة مباشرة، والأيدي الرقيقة الشاحبة تمتد مبسوطة في ضراعة: أرجوكِ، هل تتفضلين وتكونين أمي؟

ولم تكن فرانسي قد امتلكت قط دمية، إلا تلك التي كانت طولها بوصتَين وثمنها خمسة سنتات.

وما بالك بالزلاقات، يا لها من حلمٍ سماوي راود الأطفال فتحقق، وكان الطفل منهم يحلم بزلاقةٍ جديدة طليت عليها زهرةٌ زرقاء شديدة الزرقة لها أوراقٌ خضراء زاهية، والمزالق التي طليت باللون الأسود كخشب الأبنوس، وقضيب القيادة الناعم المصنوع من الخشب الصلب، وطلاء الورنيش اللامع يكسو كل قطعة، وما أروع الأسماء التي نقشت عليها: كم الزهرة، مانوليا، ملك الثلج، السمكة الطائرة! وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: لو قُدر لي أن أحصل على إحدى هذه الزلاقات، لما سألت الله شيئًا آخر في حياتي.

وهناك زلاقاتٌ ذوات عجل صنعت من النيكل اللامع، ولها أشرطة من الجلد البني المتين وعجلاتٌ فضيةٌ متوثبةٌ شدت للانزلاق، لا تحتاج إلى نفخةٍ لتبدأ دورتها، وقد وضعت الواحدة فوق الأخرى، ونُثرت عليها ندف ناصعة البياض من الثلج الصناعي، على مهدٍ من القطن يشبه السحاب.

وهناك أشياءُ أخرى عجيبة لم تستطع فرانسي أن تستوعبها جميعًا، ودار رأسها وزاغت عيناها من أثر كل ما رأت، أو نسجت من قصص حول اللعب المعروضة في نوافذ المحالِ.

وبدأت أشجار الشربين تظهر بالحي في الأسبوع الذي يسبق عيد الميلاد، وقد حزمت فروعها لترد ما انتشر من بهائها، ولعل ذلك لتيسير شحنها، وكان البائعون يؤجرون مكانًا على منعطف الطريق أمام المحال ويمدون حبلًا من عمود ليسندوا عليه الأشجار، وهم يسيرون طول اليوم رائحين غادين في ذلك الطريق ذي الجانب الواحد الحافل بالأشجار المسندة العطرة، ينفخون في أصابعهم المتصلبة الخالية من القفازات، وينظرون إلى هؤلاء الناس يقفون وقد راودهم أملٌ ضعيف فيهم، وطلب قليل من الناس أن تفرد لهم شجرة من تلك الأشجار ليوم عيد الميلاد، ووقف آخرون يقدرون الثمن ويفحصون الأشجار ويخمنون، ولكن أغلبهم أقبلوا ليلمسوا الأغصان وليقطفوا قبضة من إبر الشربين، إيمانًا منهم بالخرافات ثم يجمعوها في أيديهم ويفركوها ليخرجوا عبيرها، وهبَّ الهواء باردًا ساكنًا تفوح منه رائحة الصنوبر ورائحة اليوسفي، اللتان تنبعثان في المحال وقت عيد الميلاد فحسب، فيصبح الشارع الوضيع رائعًا حقًّا إلى حين.

وفي هذا الحي تشيع عادةٌ قاسية بالنسبة للأشجار التي لم تُبَعْ بعد، حين يقترب منتصف ليلة عيد الميلاد، وهناك قول بأنك إذا انتظرت حتى ذلك الوقت فإنك خليق بألا تشتري شجرة، وإنها سوف تلقى عليك إلقاء، وكان هذا القول صحيحًا ينفذ حرفيًّا.

وقد تعود الأطفال أن يتجمعوا في مكان الأشجار التي لم تُبَعْ في منتصف ليلة عيد الميلاد المجيد، والرجل يلقي كل شجرة بدورها بادئًا بأكبر شجرة، ويتطوع الأطفال بالوقوف في مواجهة الشجر الملقى، فإذا ثبت الطفل ولم يسقط تحت ثقل الشجرة تصبح من نصيبه، وإذا ما سقط فإنه يخسر فرصة الفوز بالشجرة، وكان أكثر الصبية صلابةً هم الذين يختارون ليتحملوا عبء ثقل الأشجار الكبيرة التي تلقى، ويقف الآخرون في تحفزٍ وفطنة حتى يلقى بشجرةٍ يستطيعون أن يثبتوا لها، والأطفال الصغار ينتظرون الأشجار الضئيلة التي يبلغ طولها قدمًا، ويصرخون في فرحٍ وسرور حين يظفرون بواحدة.

وفي ليلة عيد الميلاد حين كانت فرانسي في العاشرة من عمرها ونيلي في التاسعة، وافقت أمهما على أن تسمح لهما بالخروج وممارسة تجربتهما الأولى في الحصول على شجرة، وكانت فرانسي قد تخيرت شجرتها في باكورة ذلك اليوم، ووقفت بالقرب منها طول فترة العصر والمساء تصلي داعية ألا يشتريها أحد، وفرحت حين وجدت أنها لا تزال باقية حتى منتصف الليل، وهي أكبر شجرة في الحي وثمنها مرتفع جدًّا، فلم يستطع أن يشتريها أحد، وارتفاعها عشر أقدام، وقد جمعت أغصانها جمعًا بحبلٍ أبيضَ جديد، جعلها تنتهي برأسٍ حادٍّ عند القمة.

وأخذ الرجل هذه الشجرة أولًا، وقبل أن تتكلم فرانسي خطا إلى الأمام فتًى مشاكس من الحي، في الثامنة عشرة من عمره اسمه بنكي بيركينز، وطلب من الرجل أن يلقي الشجرة عليه، وكره الرجل ما بدا من شدة وثوقه بنفسه، ونظر حوله يسأل: هل من أحدٍ يريد أن يجرب حظه بالظفر بها؟

وخطت فرانسي إلى الأمام قائلة: أنا يا سيدي.

وانفجر بائع الشجر يضحك في سخرية، وابتسم الصبية في تكلف، وقهقه قليلٌ من البالغين الذين تجمعوا ليروا الأضحوكة.

واعترض بائع الشجر قائلًا: أوه، إنك صغيرةٌ جدًّا.

– أنا وأخي، إننا لسنا صغيرين إذا اجتمعنا.

وجذبت نيلي إلى الأمام، ونظر الرجل إليهما فرأى بنتًا نحيلة في العاشرة من عمرها، خداها غائران من الهزال والجوع، ولكن ذقنها مستدير كذقون الأطفال، ونظر إلى الصبي الصغير بشعره الأشقر، وعينيه الزرقاوَين المستديرتَين؛ نيلي نولان الذي تبدو عليه البراءة والثقة معًا.

وصرخ بنكي قائلًا: ليس من العدل أن يجتمع اثنان على ذلك.

ونصحه الرجل الذي بيده ناصية السلطان كله في تلك الساعة: أغلق فمك القذر، لقد أوتي هذان الطفلان العزيمة، تراجعوا جميعًا، إن هذين الطفلين سيأتيان بالعجب مع هذه الشجرة!

وانفرج الأطفال عن ممرٍّ متعرج، ووقفت فرانسي ونيلي في طرفٍ منه، ووقف الرجل ومعه الشجرة الكبيرة في الطرف الآخر، وبدا هذا الممر قمعًا بشريًّا، طرفه الصغير فرانسي وأخوها، وثنى الرجل ذراعيه الكبيرتين ليلقي الشجرة الكبيرة، ولاحظ كيف يبدو الطفلان صغيرَين في نهاية الممر القصير، واستغرق الرجل في التفكير لحظة.

وحزَّ الألم في قلبه، وقال بينه وبين نفسه: رباه! لم لا أعطيهما الشجرة وأقول لهما: عيد ميلاد سعيد، وأتركهما لحال سبيلهما؟ ما قيمة الشجرة بالنسبة إليَّ؟ إنني لن أستطيع أن أبيعها في هذه السنة، ولن تبقى إلى السنة القادمة.

وراقبه الطفلان في جدٍّ ورصانة وقد وقف لحظةً مستسلمًا لأفكاره واستدرك معللًا: ولكن إذا ما فعلت ذلك فإن الآخرين سوف يتوقعون مني أن أسلمهم الأشجار، فإذا حلت السنة القادمة فلن يشتري مني أحد أي شجرة على الإطلاق، وهم خليقون بأن ينتظروا جميعًا حتى أسلمهم الأشجار على طبقٍ من فضة، إنني لست رجلًا موسرًا حتى أعطي هذه الشجرة بلا مقابل، لا لست موسرًا إلى هذا الحد، أجل لم أبلغ من اليسر ما يحملني على أن أفعل شيئًا من هذا القبيل، يجب أن أفكر في نفسي وفي أطفالي.

ثم انتهى إلى قرارٍ قائلًا لنفسه: بئس هذا الأمر! إن هذين الطفلَين يجب أن يمارسا الحياة في هذا العالم، يجب أن يتمرسا بها، يجب أن يتعلما العطاء ويتحملا ما تأتي به الأيام، وإني لأقسم بربي إن الناس لا يعطون، بل يأخذون، ويأخذون دائمًا في هذا العالم الملعون.

وانفطر قلبه صائحًا وهو يلقي الشجرة بكل قوته: يا له من عالمٍ ملعونٍ فاسدٍ قذر!

ورأت فرانسي الشجرة تندفع من بين يديه، ومرت لحظة من تلك اللحظات التي يغيب فيها شعور الإنسان بالزمان والمكان، وتوقف العالم كله ساكنًا لا يتحرك، حينما انطلق شيءٌ قاتم بشع في الفضاء، واندفعت الشجرة نحو فرانسي ماحية من ذاكرتها كل إحساس بالحياة التي عاشتها، ولم ترَ شيئًا، أجل لم ترَ شيئًا إلا ظلامًا مُطبقًا وكتلة تكبر وهي تنطلق نحوها، وترنحت فرانسي حين ارتطمت بها الشجرة، وخر نيلي على ركبتيه، ولكنها جذبته بعنفٍ بالغ قبل أن يسقط على الأرض، وسُمع صوتٌ خفيفٌ شديد حين استقرت الشجرة.

وأحست فرانسي أن كل شيء غدا قاتمًا أخضر يكتنفه الشوك، ثم شعرت بألمٍ حاد في جانب رأسها، حيث ارتطمت بها ساق الشجرة، وأحست بنيلي وهو يرتعد.

وحين جر بعض الصبية الكبار الشجرة بعيدًا، وجدوا فرانسي وأخاها واقفَين، ويد كل منهما في يد الآخر، وكان الدم ينبعث من خدوشٍ في وجه نيلي، فبدا أقرب إلى الطفولة مما كان بعينَيه الزرقاوَين الحائرتَين وبشرته الشقراء، التي بدت للعين أكثر جلاء بالقياس إلى الدم الأحمر الصافي، ولكنهما كانا يبتسمان! ولم لا؟ ألم يفوزا بأكبر شجرة في الحي؟ وصاح بعض الصبية مهللين «مرحى! مرحى!» وصفق قليلٌ من البالغين، ومدحهما بائع الشجرة صائحًا: والآن ابتعدا عن الشر، واذهبا من هنا بشجرتكما أيها القذران!

وكانت فرانسي قد سمعت ألفاظ الوعيد والسباب منذ وعت الكلام، ولم يكن للبذاءة وفحش القول مدلولهما المألوف بين هؤلاء الناس، وإنما كانت تعبيراتٍ انفعالية ينطق بها الأميون الذين لا يعرفون إلا كلماتٍ قليلة ويستخدمونها كأنها لهجةٌ من اللهجات، كانت العبارات تدل على معانٍ كثيرة تتوقف على طريقة التعبير عنها ونغمة الحديث بها؛ ولهذا فإن فرانسي ابتسمت ابتسامةً عريضة للرجل الطيب حين سمعته يرميهما بالقذرَين، فقد أدركت أنه يعني حقًّا: مع السلامة، رعاكما الله.

ولم يكن جر الشجرة بالأمر اليسير، فقد اقتضاهما ذلك أن يشداها شبرًا شبرًا إلى البيت، واعترض طريقهما صبي، وجرى بجوارهما وهو يصرخ: الركوب مجانًا! الجميع يركبون!

وراح يقفز على الشجرة ويجعلهما يجرانه معها، ولكنه ملَّ اللعبة آخر الأمر وتركهما وانصرف.

وكان من الخير لهما على نحوٍ ما أن ينفقا هذا الوقت الطويل في جر الشجرة إلى البيت، فقد ساعدهما ذلك على أن يتذوقا لذة النصر، وأشرق وجه فرانسي حين سمعت امرأة تقول: لم أرَ قط شجرةً كبيرة كهذه!

ونادى من خلفهما رجلٌ قائلًا: أيها الطفلان! لا بد أنكما سرقتما خزانة مال لتشتريا مثل هذه الشجرة الكبيرة!

واستوقفهما الشرطي عند منعطف بيتهما، وفحص الشجرة، وعرض عليهما في وقارٍ أن يشتريها بعشرة سنتات، أو خمسة عشر سنتًا إذا ذهبا بها إلى بيته، وأوشكت فرانسي أن ينشق جنباها من الفخر بالرغم من أنها تعلم أنه يمزح، وقالت إنها لن تبيعها على الإطلاق حتى لو دفع لها دولارًا، وهز رأسه وقال: إنها بلهاء لأنها لم تستغل الفرصة، ورفع السعر إلى ربع دولار، ولكن فرانسي ظلت تبتسم وتهز رأسها بالنفي.

وبدا الأمر يشبه مشهدًا من مشاهد قصة عيد الميلاد، حيث كان المكان منعطف شارع، والوقت هو ليلة عيد الميلاد القارسة البرد، وشخصيات المسرحية: شرطي طيب وأخوها وهي نفسها.

وفرانسي تعرف الحوار جميعًا، والشرطي يؤدي دوره أداءً سليمًا، وفرانسي تلتقط إجاباتها في سعادة، والإرشادات المسرحية هي البسمات تنطلق بين العبارات الملقاة.

واضطر الطفلان أن يناديا أباهما ليساعدهما في جر الشجرة فوق درجات السلم الضيقة، وهبط أبوهما السلم عدوًا، وشعرت فرانسي بالراحة إذ رأته يجري، هابطًا مستقيم الخطى لا يضطرب؛ مما أثبت لها أنه لا يزال صاحيًا وليس ثملًا.

وكانت دهشة الأب لحجم الشجرة نوعًا من التملق والمديح، وتظاهر بأنه يصدق أنها ليست لهما، وكانت فرانسي قد اصطنعت المزاح كثيرًا حين حاولت أن تقنعه بذلك، بالرغم من أنها تعلم طول الوقت أن الأمر كله لا يعدو التظاهر بغير الواقع. وجرَّ الأب الشجرة من الأمام ودفعتها فرانسي ونيلي من الخلف، ثم بدءوا يدفعون الشجرة الكبيرة دفعًا مصعدين فوق درجات السلم الصغيرة، واهتاجت مشاعر جوني حتى انطلق يغني غير عابئ بأن الليل قد أوغل بعض الشيء، وغنى أغنية «الليلة المباركة»، وكانت الجدران الضيقة تحمل صوته العذب الصافي لحظةً ثم تردد صداه، وقد تضاعفت عذوبته وصفاؤه، وفتحت الأبواب في صريرٍ، وتجمعت الأسر على العتبات مسرورين مندهشين لهذا الشيء، الذي لم يتوقعوه والذي زاد من اللحظات السعيدة في حياتهم.

ورأت فرانسي الآنستين تنمور واقفتَين معًا على باب شقتهما، وقد عقصتا شعرهما الرمادي بدبابيس الشعر، وظهر قميصا النوم المحليان بالثنيات المنشاة من تحت معطفَيهما الفضفاضَين، وانضم صوتاهما الحاد الرفيع إلى صوت جوني، وكذلك وقفت فلوسي جاديس وأمها وأخوها هني، الذي أوشك السل أن يقضي عليه على باب شقتهم، وكان هني يبكي، وتوقف جوني عن الاسترسال في الغناء حين رآه، وقد ظن أن الأغنية أثارت في نفسه الحزن حتى ملك عليه قلبه.

وكانت فلوسي ترتدي حلَّتها وتنتظر رفيقها ليأخذها إلى حفل رقص تنكري يبدأ بعد منتصف الليل مباشرة، ووقفت في الحلة التي ترتديها الراقصات في المراقص العامة، وقد ارتدت جوربًا حريريًّا أسود لامعًا، وخُفَّين لهما كعبٌ مستدير، وربطت رباط ساق أحمر تحت ركبتها، ووقفت تهزُّ قناعًا أسود في يدها، وابتسمت في عينَي جوني ووضعت يدها على حقوها، واتكأت على كتف الباب في إغراء — أو هكذا خُيل إليها — وقال جوني ليحمل هني على الابتسام دون أي شيءٍ آخر: فلوسي، ليس لدينا ملاك نضعه على قمة شجرة عيد الميلاد هذه، ألا تتفضلين بأن تكوني هذا الملاك؟

وكانت فلوسي متحفزة كل التحفز لأن ترد عليه ردًّا نابيًا، بأن تقول إن الريح سوف تعري سروالها إذا وقفت في مكانٍ يرتفع كل هذا الارتفاع، ولكنها غيرت رأيها، وكان هناك شيءٌ يحيط بالشجرة الكبيرة الشامخة التي هان شأنها بعد أن جروها؛ شيءٌ يحيط بالطفلين السعيدَين؛ شيءٌ ينبع من تلك الأريحية النادرة التي أبداها الجيران، وكيف بدت الأنوار الهادئة في القاعات؛ مما جعل فلوسي تخجل مما همت أن ترد به على طلب جوني، وكل ما قالته: واي، ألستَ أولى بذلك يا جوني نولان؟

ووقفت كاتي وحدها على أعلى درجة من السلم، وقد شبكت يديها على صدرها، وأنصتت إلى الغناء وهي تنظر إلى أسفل، وترقب صعودهم البطيء على السلم، وكانت تفكر في عمق، وقالت بينها وبين نفسها وهي تفكر: إنهما يظنان أن هذا شيءٌ رائع، أجل يظنان أنه شيءٌ رائع إذ حصلا على الشجرة بلا مقابل، وراح أبوهما يلاعبهما ويغني، وقد علا البشر وجوه الجيران، إنهما يظنان أن الحظ حالفهما كل المحالفة؛ لأن العمر امتد بهما حتى أدركا عيد الميلاد مرةً أخرى، إنهما لا يستطيعان أن يدركا أننا نعيش في شارع قذر، وبيت قذر، وبين أناس نصيبهم من التهذيب هزيلٌ نحيل، إن جوني والطفلين لا يستطيعون أن يدركوا أنه مما يدعو إلى الأسى، أن نجد جيراننا يستخلصون السعادة من هذه الحمأة وتلك القذارة، إن طفليَّ يجب أن يُنتزعا من هذه البيئة، يجب أن تُتاح لهما حياةٌ أفضل من حياتي أو حياة جوني أو حياة كل هؤلاء الناس المحيطين بنا، ولكن كيف يتأتى لهما ذلك؟ إن قراءة صفحة من تلك الكتب كل يوم وادخار البنسات في الحصالة أمرٌ لا يكفي، أتراه يأتي بالمال؟ وهل المال خليقٌ بأن يوفر لهما حياةً أفضل؟ أجل إنه خليقٌ بأن ييسر لهما الحياة، ولكن لا، إن المال لا يكفي لتحقيق ذلك، إن ماكجريتي يمتلك المشرب القائم عند منعطف الشارع وعنده من المال الكثير، وزوجته تلبس أقراطًا من الجواهر، ولكن أطفالها لم يبلغوا في خلقهم أو ذكائهم ما بلغه طفلاي، إنهم في سلوكهم مع الآخرين وضيعون شرهون؛ لأن لديهم أشياء يفخرون بها على الأطفال المساكين، لقد رأيت ابنة ماكجريتي تأكل من صندوق من الحلوى على قارعة الطريق، وحولها عددٌ من الأطفال الجياع يتطلعون إليها، أجل رأيت هؤلاء الأطفال ينظرون إليها وقلوبهم تبكي، ولما أكلت من الحلوى ما يكفيها ألقت بالباقي في مصرف الماء، بدلًا من أن تعطيه لهم. آه! إن المال وحده لا يكفي! إن ابنة ماكجريتي تلبس كل يوم قرصًا مختلفًا للشَّعر، يكلفها الواحد خمسين سنتًا، وهذا المبلغ خليقٌ بأن يطعمنا نحن الأربعة يومًا كاملًا، ولكن شعرها ناحلٌ أحمر باهت، وإن في قلنسوة ابني نيلي ثقبًا كبيرًا، ولقد رثَّت حتى فقدت شكلها، ولكن الطفل له شعرٌ كثيف لونه ذهبيٌّ داكنٌ متموج، وإن ابنتي فرانسي لا تلبس قرص شعر، ولكن شعرها طويلٌ لامع، هل يمكن للمال أن يشتري أشياء كهذه؟ لا، وهذا يدل على أنه لا بد أن يكون هناك ما هو أعظم من المال. إن الآنسة جاكسون تُدرِّس في الملجأ وليس لديها مال، إنها تؤدي هذا العمل صدقة، وتعيش في حجرةٍ صغيرة هناك في الطابق الأعلى، ولا تملك من الثياب إلا واحدًا، لكنها تحفظه نظيفًا مكويًّا، وإن عينَيها تنظران في استقامةٍ إلى عينَيك حين تتكلم معها، فإذا أنصتَّ إليها كنت كمن ألف المرض ثم ارتدت إليه العافية لسماع صوتها، إن الآنسة جاكسون تعرف أمورًا وتفهم أشياء، فهي تستطيع أن تعيش في وسط حيٍّ قذر، وتكون أنيقةً نظيفة كأنها ممثلة في مسرح، وإنك لتستطيع أن تنظر إليها، لكنها أرفع من أن تلمسها، ذلك هو الفارق بينها وبين السيدة ماكجريتي التي تملك مالًا كثيرًا لكنها بدينة كل البدانة، تسلك سلوكًا شائنًا مع سائقي عربات النقل الذين يوزعون الجعة لزوجها، إذن ما هو هذا الفارق بينها وبين الآنسة جاكسون التي لا تملك مالًا؟

وجاء الرد على هذا السؤال لكاتي، وقد بلغ من بساطته أنه أصابها بومضةٍ من الدهشة سرت في رأسها كوخزة الألم؛ التعليم! أجل إنه هو، فالتعليم هو الذي صنع الفارق! إن التعليم خليقٌ بأن ينتشلهم من القذارة والوحل، فما البرهان؟ إن الآنسة جاكسون كانت متعلمة، أما السيدة ماكجريتي فلم تكن. آه! إن ذلك هو ما كانت أمها ماري روملي تقوله لها كل تلك السنين، لكن لم توفق إلى الكلمة الواحدة الصريحة: التعليم.

وخطرت لها تلك الأفكار عن التعليم وهي تراقب الطفلَين، يناضلان في الصعود بالشجرة على السلم، وتستمع إلى صوتَيهما اللذين لا يزالان يتسمان بالطفولة.

وفكرت: إن فرانسي ذكية يجب أن تذهب إلى المدرسة الثانوية، وقد تصل إلى ما بعد ذلك، إنها تميل إلى التعليم، وسوف تكون امرأةً ذات شأن في يومٍ ما، ولكنها سوف تبتعد عني حين تتعلم، بل إنها تُعرض عني من الآن، إنها لا تحبني كما يحبني الصبي، وإني لأشعر بها وهي تنأى عني، إنها لا تفهمني، وكل ما تفهمه هو أنني لا أفهمها، ومن المحتمل أن تخجل مني … من طريقة كلامي حين تحصل على التعليم، ولكنها ستكون ذات خلقٍ قوي فلا تظهر شعورها وتحاول أن تعيرني، بل تأتي إليَّ لتراني وتحاول أن تساعدني كي أعيش حياةً أفضل، وسوف أكون وضيعةً معها لأنني سأشعر أنها أرقى مني، ولسوف تدرك من كنه الأشياء الشيء الكثير حين يشتد عودها، وتعرف الكثير مما يضفي على حياتها السعادة، ولسوف تكتشف أنني لا أحبها كما أحب الصبي، ولا حيلة لي في ذلك ولكنها لن تفهم، بل إني لأظن أحيانًا أنها تعرف هذا الأمر الآن، إنها ستبتعد عني كلما كبرت، وسوف تكافح سريعًا من أجل أن تمضي بعيدًا عني، وكانت أولى خطواتها نحو البعد عني هو انتقالها إلى تلك المدرسة البعيدة، ولكن نيلي لن يتركني أبدًا؛ ولهذا فإنني أحبه أكثر، إنه سيتعلق بي وسيفهمني، وإني لا أريد له أن يصبح طبيبًا، بل يجب أن يصبح طبيبًا، وقد يعزف على الكمان أيضًا، فإن حب الموسيقى يجري في دمه، وقد ورث ذلك عن أبيه؛ ولهذا تقدم في العزف على البيانو أكثر مني أو من فرانسي، أجل، إن حب الموسيقى يجري في دم أبيه، ولكنه لم يجنِ من ذلك خيرًا، بل لقد حطمته الموسيقى.

فلو أنه كان لا يستطيع الغناء لما سعى إلى صحبته هؤلاء الرجال الذين يدعونه إلى شرب الخمر، وما جدوى إجادته الغناء ما دام ذلك لا يفيده أو يفيدنا في شيء؟ وسوف يكون الأمر مختلفًا بالنسبة للصبي، إنه سوف يتعلم ويجب عليَّ أن ألتمس الطرق التي تحقق ذلك، وسوف لا يعيش جوني بيننا طويلًا، يا إلهي! لقد أحببته كل الحب زمنًا، بل أشعر أحيانًا بأنني لا أزال أحبه، ولكنه تافه … تافه، وليغفر الله لي؛ لأنني اكتشفت ذلك.

وهكذا تصورت كاتي كل شيء في الدقائق التي أنفقوها في صعود السلم، وكان الناس وهم يتطلعون إليها، إلى وجهها الناعم الجميل الذي يفيض حيوية، لا تخطر ببالهم تلك النتائج الأليمة التي استقرت في عقلها.

ونصبوا الشجرة في الحجرة الأمامية بعد أن فرشوا ملاءة؛ لتحمي السجادة ذات الزهور القرنفلية، من أن تسقط عليها أشواك الصنوبر، ووقفت الشجرة في دلوٍ كبير من القصدير، وقد أُسندت بكسرٍ من الآجر لتظل واقفة، وانتشرت فروعها حتى ملأت الحجرة كلها حين قطع الحبل عنها، وتدلَّت أغصانها على البيانو، وبدت بعض الكراسي كأنها تقف وسط الفروع، ولم يكن لديهم مال ليشتروا زينات للشجرة، أو أنوارًا، ولكن الشجرة الكبيرة كانت كافية وهي تقف هناك، وكانت الحجرة باردة، والسنة التي تمر بهم سنةً معسرة، فلم يستطيعوا شراء مزيدٍ من الفحم يشعلون به موقد الحجرة الأمامية، وشاع في الغرفة جو من البرودة والنظافة والرائحة العطرة، وأخذت فرانسي في كل يومٍ من أيام الأسبوع الذي وقفت فيه الشجرة في الحجرة، ترتدي سترتها وقبعتها الخاصة وتذهب لتجلس تحت الشجرة، وتستمتع برائحتها، وما اكتست به من خضرةٍ داكنة.

آه! ما أمتع ذلك الغموض الذي يحيط بشجرةٍ عظيمة حُبست داخل دلو ولو من القصدير في حجرةٍ أمامية بمسكنٍ من المساكن!

وبدأ عيد الميلاد في غايةٍ من البهاء بالرغم مما هم عليه من عسرٍ في تلك السنة، ولم يشعر الطفلان بأي نقصٍ في الهدايا؛ لأن أمهما أعطت كلًّا منهما زوجًا من السراويل الصوفية الطويلة، من الطراز ذي الأزرار الذي يفتح من أعلى، وقميصًا صوفيًّا له أكمامٌ طويلةٌ خشنة، وأعطتهما الخالة إيفي هديةً مشتركة، وهي صندوق من لعبة الدومينو، وشرح لهما أبوهما طريقة لعبها، ولكن نيلي لم يحب اللعبة، فلعب الأب وفرانسي معًا وتظاهر هو بالامتعاض حين خسر اللعبة.

وأحضرت الجدة ماري روملي شيئًا جميلًا جدًّا صنعته بنفسها، جلبت لكل منهما، حرملة صنعتها بأن قطعت قطعتَين صغيرتَين بيضيتَين من الصوف الأحمر الزاهي، وطرزت على إحداهما صليبًا «بشلة» زرقاء واهية، وطرزت على الأخرى قلبًا ذهبيًّا توج بتيجانٍ بُنية اللون، ويخترق القلب خنجر أسود تتساقط من طرفه قطرتان من الدم الأحمر الداكن، وكان الصليب والقلب صغيرَين جدًّا، صُنعا بغرزٍ لا ترى إلا بالمجهر، ثم حاكت القطعتين البيضيتين معًا ووصلتهما بخيطٍ من خيوط المشدات، وأخذت ماري روملي الحرملتَين لتباركهما عند القس قبل أن تحضرهما إلى الطفلين، وقالت وهي تزحلق الحرملة فوق رأس فرانسي: عيد ميلاد مقدس.

ثم أضافت: صحبتك الملائكة دائمًا!

وأعطت الخالة سيسي لفرانسي ربطةً صغيرة، فتحتها فوجدت فيها صندوقًا صغيرًا من صناديق أعواد الثقاب، وكان صندوقًا رقيقًا جدًّا يغطيه ورقٌ مجعد، نُقش على قمته غصنٌ مصغر من زهر الوسطار الأرجواني، وفتحت فرانسي الصندوق فوجدت به عشرة أقراص لُفَّ كل قرص منها في نسيجٍ قرنفلي اللون، واتضح أن الأقراص ما هي إلا بنساتٌ ذهبيةٌ زاهية، وبينت سيسي أنها اشترت من قبلُ مقدارًا من مسحوق طلاء ذهبي اللون، وخلطته بقليلٍ من زيت الموز، ثم ذهَّبت به كل بنس، وأحبت فرانسي هدية سيسي أكثر من أي هديةٍ أخرى، وكانت تفتح الصندوق في بطءٍ عشرات المرات في الساعة التي تسلمته فيها، وتشعر بلذةٍ كبيرة حين تمسك الصندوق وتنظر إليه، وتراقب الورق الأزرق الكوبالتي فتظهر رقيقة الخشب الرفيعة النظيفة التي في داخله، وكانت البنسات الذهبية الملفوفة في قماشٍ كأنه من نسيج الأحلام بدعة لا تذهب جدتها، واتفقت آراء الجميع على أن البنسات أجمل من أن تُنفق، لكن فرانسي فقدت اثنين منها أثناء اليوم في مكانٍ ما، واقترحت أمها وضع البنسات في الحصالة المصنوعة من الصفيح حتى تكون في مأمن، وقالت: إن فرانسي تستطيع أن تستردها حين تفتح الحصالة، وكانت فرانسي على يقينٍ من أن أمها محقة في قولها إن البنسات تكون في مأمنٍ إذا وضعت في الحصالة، على أن إسقاط هذه البنسات الذهبية في ظلام الحصالة كان أمرًا يحزُّ في النفس.

وقدَّم الأب لفرانسي هديةً خاصة، كانت بطاقة بريد رسمت عليها صورة كنيسة، بسط على سطحها مسحوق غراء السمك، ولها بريقٌ يفوق بريق الثلج الحقيقي، وكانت ألواح نوافذ الكنيسة مصنوعة من الورق البرتقالي اللامع على صورة مربعاتٍ صغيرة، والسحر الذي تنطوي عليه هذه البطاقة، هو أن فرانسي حين ترفعها إلى أعلى ينطلق من خلال ألواح الورق ضوء، يلقي ظلالًا ذهبية على الثلج المتلألئ، كانت شيئًا جميلًا، وقالت لها أمها ما دام لم يكتب عليها شيء، فإنها تستطيع أن تدَّخرها للسنة المقبلة وترسلها بالبريد لمن تريد.

وقالت فرانسي: آه! لا.

ووضعت ذراعَيها حول البطاقة وضمَّتها إلى صدرها، وضحكت أمها قائلة: يجب يا فرانسي أن تتعلمي كيف تستمتعين بالفكاهة، وإلا فسوف تقسو عليك الحياة كثيرًا.

وقال الأب: إن عيد الميلاد يومٌ لا يتسع للدروس.

وانفجرت كاتي قائلة: ولكنه يوم يتسع لشرب الخمر، أليس كذلك؟

وقال جوني مستعطفًا: إن كل ما شربته هو كأسان فحسب يا كاتي، لقد دعيت بمناسبة عيد الميلاد.

وذهبت فرانسي إلى حجرة النوم وأغلقت الباب، ولم يكن في استطاعتها أن تحتمل سماع أمها وهي تؤنِّب أباها.

ووزعت فرانسي الهدايا التي اشترتها لهم قبل العشاء مباشرة، وأعطت أمها حاملًا لدبابيس القبعات، صنعته من أنبوبة اختبار تساوي بنسًا اشترتها من محل كنيب للأدوية، وغطَّتها بشريطٍ من الساتان الأزرق ثُني من الجوانب، وحاكت على قمتها شريطًا من أشرطة الأطفال، وكان يستخدم في حمل دبابيس القبعة، ويعلق على جانب صوان الملابس.

وأهدت أباها جيب ساعة صغيرًا، صنعته على ملف دقت على قمته أربعة مسامير، وأخذت رباطين من أربطة الأحذية ولفتهما حول المسامير، وأصبح الجيب يتكون تدريجًا من أسفل الملف إلى أعلاه وهي تلفُّه، ولم يكن لدى جوني ساعة، لكنه أخذ أنبوبة غسيل حديدية ووصل الجيب بها ولبسها في جيب ردائه طول اليوم، متظاهرًا بأنها ساعة، وأهدت فرانسي نيلي هديةً جميلة جدًّا، وهي رامية ثمنها خمسة سنتات تشبه حجر عين الهر الكبير أكثر مما تشبه البلية، ونيلي عنده صندوق مليء ببليٍ صغير مرقَّطٍ بني اللون وأزرق صنع من الصلصال، ثمن العشرين منه بنس، ولكن لم يكن لديه راميةٌ جديدة؛ لهذا لم يستطع أن يدخل في أي لعبةٍ هامة، وراقبته فرانسي وهو يثني سبابته ويضع البلية الصغيرة فيها مسندًا إياها بإبهامه، وبدا منظرها جميلًا طبيعيًّا على ذلك النحو، وشعرت بالسعادة لأنها اشترتها له بدلًا من البندقية ذات الطلقات، التي فكرت أول الأمر في شرائها له بخمسة سنتات.

ووضع نيلي البلية في جيبه، وأعلن أن لديه هدايا أيضًا، وجرى إلى حجرة النوم، وزحف تحت سريره، ثم خرج ومعه حقيبةٌ لزجة، ودفعها إلى أمه قائلًا: وزِّعي عليهم أنت.

ووقف في ركنٍ، وفتحت الأم الحقيبة فوجدت فيها قطعًا من حلوى سكر القصب المخطط، قطعة لكلٍّ منهم، واستبدت الفرحة بالأم، وقالت إنها أجمل هدية تلقَّتها في حياتها، وقبَّلت نيلي ثلاث مرات، وحاولت فرانسي بكل صعوبة ألا تظهر غيرتها؛ لأن أمها صنعت ضجة حول هدية نيلي أكبر مما قابلت به هديتها.

وكذبت فرانسي كذبةً كبيرة أخرى في ذلك الأسبوع نفسه، كانت الخالة إيفي قد اشترت تذكرتَين لحضور حفل، تقيمه بعض الهيئات البروتستانتية لصالح الفقراء من جميع المذاهب، والحفل خليقٌ بأن يشتمل على شجرة عيد الميلاد المزينة على المسرح، ومسرحية من مسرحيات عيد الميلاد، وإنشاد الأناشيد وتوزيع هدية على كل طفل، ولم تستطع كاتي أن تتخيل وجود أطفال كاثوليك في حفل من حفلات البروتستانت، ولكن إيفي حثت على التسامح وسلمت الأم أخيرًا، وذهبت فرانسي ونيلي إلى الحفل.

وأقيم الحفل في بهوٍ كبير للاستماع، وجلس الصبية على جانبٍ والبنات على الجانب الآخر، وبدا الحفل جميلًا، إلا أن المسرحية كانت دينيةً مملة، وبعد انتهاء المسرحية هبطت سيدات الكنيسة من الهيكل، وأعطين كل طفل هدية، وأخذت كل البنات رقع الشطرنج، وأخذ كل الصبية لعبة من لعب الورق ذات الصفوف الخمسة، وظهر سيدة على المسرح بعد فاصلٍ غنائي وأعلنت عن مفاجأةٍ خاصة.

وكانت المفاجأة بنتًا صغيرةً جميلة ترتدي ملابس غاية في الأناقة والجمال، كأنما هبطت من السماء تحمل بين يديها دميةً جميلة، وطول هذه الدمية قدم، لها شعرٌ حقيقيٌّ أصفر وعينان زرقاوان تفتحان وتغمضان ولهما رموشٌ حقيقية، وصحبت السيدة الطفلة إلى الأمام، وقالت: هذه البنت الصغيرة اسمها ماري.

وابتسمت ماري الصغيرة وانحنت، وابتسمت لها البنات الصغيرات المتفرجات، وصفَّر بصوتٍ عالٍ بعضُ الصبية الذين كانوا يقتربون من سن المراهقة.

– لقد اشترت والدة ماري هذه الدمية وصنعت لها ملابس تشبه ملابس ماري الصغيرة تمامًا.

وخطت ماري الصغيرة إلى الأمام ورفعت الدمية عالية في الفضاء، ثم جعلت السيدة تمسكها، في حين بسطت هي إزارها وحيَّت الحاضرين، ورأت فرانسي أن القول كان حقًّا؛ إذ إن الدمية كانت تلبس فستانًا أزرق حريريًّا، ذُيِّل بالأشرطة، وقرص شعر قرنفلي اللون، وخُفَّين مفتوحَين أسودَين من الجلد، وجوربًا حريريًّا أبيض مثنيًّا مرتين، تمامًا كما كانت تلبس ماري الجميلة، وقالت السيدة: وبعدُ، فإن هذه الدمية تدعى ماري، تيمنًا باسم الطفلة الصغيرة الحنون التي تهديها.

وابتسمت البنت الصغيرة مرةً أخرى في رقة.

– وإن ماري تريد أن تمنح الدمية لفتاةٍ صغيرةٍ فقيرة من المتفرجات اسمها ماري.

وسرت همهمةٌ بين البنات المتفرجات الصغيرات تشبه صفير الريح، وهي تهب فوق سنابل القمح النامية.

– أتوجد بنتٌ صغيرةٌ فقيرة بين المتفرجات اسمها ماري؟

وساد المكانَ سكونٌ عظيم، وكان هناك مائة ماري على الأقل بين المتفرجات، ولكن صفة «فقيرة» هي التي جعلتهن جميعًا يلزمن الصمت لا يُحِرن جوابًا، وما من بنتٍ اسمها ماري خليقة بأن تقف، مهما اشتدت بها الرغبة في الحصول على الدمية، فتكون بذلك رمزًا لكل البنات الفقيرات الصغيرات المتفرجات، وبدأن يتهامسن قائلات إنهن لسن فقيرات وإن لديهن في بيوتهن دُمًى أفضل من تلك، وملابس أجمل، وكل ما في الأمر أنهن لم يرغبن في ارتدائها فحسب، وجلست فرانسي كأنها فقدت الحس وقد هفت نفسها إلى الدمية، وقالت السيدة: ماذا دهاكن؟ أما من بنت تدعى ماري؟

وانتظرت وأعلنت مرةً أخرى … فلم تتلقَّ جوابًا … وتكلمت في أسف: إنه من المؤلم ألا يكون بينكن طفلةٌ تدعى ماري، ولا مناص من أن تعود ماري الصغيرة بدميتها إلى البيت مرةً أخرى.

وابتسمت البنت الصغيرة، وانحنت واستدارت لتغادر المسرح ومعها الدمية.

ولم تستطع فرانسي أن تصبر على ذلك، نعم، لم تستطع … وكان موقفها هو الموقف الذي اتخذته حين أوشكت المدرِّسة أن تلقي فطيرة القرع في سلة المهملات، ووقفت ورفعت يدها عالية في الفضاء، ورأتها السيدة فأوقفت البنت الصغيرة قبل أن تغادر المسرح.

– آه! لقد عثرنا حقًّا على طفلةٍ تدعى ماري؛ طفلة تملكها الخجل الشديد، ولكنها تدعى ماري على كل حال، هيا يا ماري اصعدي فوق المسرح.

وسارت فرانسي، وهي تشعر بحمى من الحرج، في الممر الطويل، وصعدت إلى المسرح، وتعثرت على درجات السلم، فابتسمت البنات جميعًا في سخرية، وقهقه الصبيان، وسألتها السيدة: ما اسمك؟

وهمست فرانسي: ماري فرانسيس نولان.

– ارفعي صوتك وانظري إلى المتفرجين.

وواجهت فرانسي المتفرجين في شقاء، وقالت بصوتٍ عالٍ: ماري فرانسيس نولان.

وبدت لها الوجوه جميعًا كأنها بالونات منفوخة شدت إلى خيوطٍ سميكة، وظنت أنها لو استمرت في النظر إليها فسوف تطير الوجوه حتى تلتصق بالسقف.

وسارت البنت الجميلة إلى الأمام ووضعت الدمية بين ذراعي فرانسي اللتين اتخذتا قوسًا طبيعية حولها، وكأنما كانت ذراعاها انتظرتا وكبرتا لتتحملا تلك الدمية فحسب، ومدت ماري الجميلة يدها لفرانسي لتصافحها، ولاحظت فرانسي، بالرغم من الحرج والاضطراب، اليد البيضاء الرقيقة وقد ظهرت عليها خطوط الأوردة الزرقاء الباهتة والأظافر البيضاوية التي كانت تلمع كأصداف البحر الرقيقة القرنفلية اللون.

وتكلمت السيدة، في حين سارت فرانسي تتعثر عائدةً إلى مقعدها قائلة: لقد رأيتم جميعًا مثالًا لروح عيد الميلاد الحق، إن ماري الصغيرة بنتٌ صغيرةٌ غنيةٌ جدًّا، تتلقى في عيد الميلاد دُمًى كثيرةً جميلة، ولكنها ليست أنانية، وقد أرادت أن تسعد ماري أخرى صغيرةً فقيرة لم يسعدها الحظ مثلها؛ ولذلك منحت هذه الدمية تلك البنت الصغيرة الفقيرة التي اسمها ماري.

وتندَّت عينا فرانسي بدموعٍ ساخنة، وقالت بينها وبين نفسها في مرارة: ما بالهم لا يستطيعون أن يمنحوا الدمية فحسب، دون أن يذكروا أنني فقيرة وهي غنية؟ ما بالهم لا يستطيعون أن يمنحوها دون أن يثيروا حول ذلك كل هذا المنِّ والأذى؟

ولم يكن ذلك هو كل العار الذي لحق بفرانسي، فقد مالت البنات ناحيتها وهي تسير في الممر، وهمسوا في سخريةٍ: شحاذة! شحاذة! شحاذة!

وكانت كلمة شحاذة تدوي في أذنَيها طول الطريق وهي تسير في الممر، وكانت تلك البنات يشعرن أنهن أغنى من فرانسي، إنهن فقيرات مثلها، ولكن عندهن شيء ينقصها؛ الكبرياء. وعرفت فرانسي بذلك، لكنها لم تشعر بالندم لأنها كذبت وحصلت على الدمية بانتحال اسمٍ مزيف، فقد دفعت كبرياءها ثمنًا للكذبة والدمية معًا.

وتذكرت المُدرِّسة التي أوصتها بأن تكتب أكاذيبها بدلًا من أن تقولها، وربما كان من الواجب عليها ألا تكذب في سبيل الدمية، وإنما تكتب عنها قصة، ولكن لا! لا! إن حصولها على الدمية أفضل من أية قصة تكتبها عنها، وأمالت فرانسي وجهها إلى جوار وجه الدمية حين وقفوا ختام الحفل، ينشدون جماعة نشيد «العلم المرصع بالنجوم».

وشمت فرانسي الرائحة الرقيقة الرطيبة التي تنبعث من الخزف الصيني المطلي، ورائحة شعر الدمية الرائعة التي لا تنسى، وشعرت بالنعيم لملمس الشاش الجديد الذي صنعت منه ملابس الدمية، ولمست رموش الدمية الحقيقية خدها، فانتفضت من البهجة والفرح وكان الأطفال يغنون:

على أرض الأحرار،
وفي وطن الشجعان.

وأمسكت فرانسي يد الدمية الصغيرة في قوة، وخفق شريان في إبهامها، وظنت أن يد الدمية اختلجت، فاعتقدت أنها دميةٌ حقيقية أو كادت تكون كذلك.

وقالت لأمها إن الدمية أُعطيتْ لها كجائزة، ولم تجرؤ على أن تقول الحقيقة؛ فقد كانت أمها تكره أي شيء يعطى من قبيل الصدقة، وهي خليقة بأن تلقي بالدمية بعيدًا إذا عرفت سر الأمر، ولم يبُحْ نيلي بسرها، وأصبحت الدمية ملكًا لفرانسي، لكنها كانت تشعر بكذبةٍ أخرى تثقل ضميرها، وكتبت في ذلك العصر قصة عن بنتٍ صغيرة، كانت تصبو إلى دمية حتى إنها كانت على استعداد لأن تبذل روحها الخالدة للمطهر، بدلًا من أن تبذلها في سبيل الخلود إذا استطاعت أن تحصل على الدمية، وكانت قصة جديدة، ولكن حين قرأتها فرانسي قالت بينها وبين نفسها: إن هذا هو عين الحق بالنسبة للبنت التي في القصة، ولكنه لا يخفف عني قط.

وفكرت في الاعتراف الذي ستبوح به يوم السبت المقبل، وصممت على أنه مهما يكن العقاب الذي يوقعه الأب فسوف تضاعفه ثلاث مرات … لكن ذلك لم يخفف عنها.

وهنالك تذكرت أمرًا! ربما تستطيع أن تصنع من الكذبة حقيقة! وكانت تعلم أن الأطفال الكاثوليك حين يثبتون في دينهم ينتظر منهم أن يستعيروا اسم قديس ويضعوه بين اسمهم ولقبهم، يا له من حلٍّ بسيط! إنها سوف تتخذ لنفسها اسم ماري حين تثبت في دينها.

وسألت فرانسي أمها في تلك الليلة بعد أن قرأت صفحة من الإنجيل وصفحة من شكسبير: أماه! هل لي أن أتخذ اسم ماري وأضعه بين اسمي ولقبي حين أثبت في ديني؟

– لا.

وغاص قلب فرانسي وقالت: لماذا؟

– لأنكِ حين نُصِّرتِ سميتِ فرانسي تيمنًا بابنة آندي.

– أعلم ذلك.

– ولكنك سميت ماري أيضًا تيمنًا بأمي، إن اسمك الحقيقي هو ماري فرانسس نولان.

وأخذت فرانسي الدمية معها في السرير، ونامت دون حراك حتى لا تقلقها، وكانت تستيقظ في الليل من حينٍ إلى حين وتهمس «ماري»، وتلمس إصبعها في رقةٍ خفَّ الدمية الصغير جدًّا، وارتعدت حين شعرت بملمس الجلد الناعم الليِّن الرقيق.

وقدر أن تكون هذه الدمية هي أول وآخر دمية تحصل عليها فرانسي.

٢٨

كان المستقبل في نظر كاتي قريبًا، وقد ألفت أن تقول: سوف يحل بك عيد الميلاد قبل أن تدري به.

أو تقول عند بدء الإجازة: إن الدراسة ستبدأ قبل أن تدري بها.

وفي الربيع حين نبذت فرانسي سروالها الطويل، وقذفت به في فرح، حملتها أمها على أن تلتقطه مرةً ثانية قائلة: سوف تحتاجين إليه ثانيةً أقرب مما تشعرين، وإن الشتاء سيحل قبل أن تدري به.

عمَّ تتكلم الأم؟ إن الربيع قد بدا وشيكًا، وسوف لا يقبل الشتاء مرةً أخرى أبدًا.

إن الطفل الصغير لا تكون لديه فكرةٌ عن المستقبل، ويبدو له الأسبوع المقبل بعيدًا في الزمن، ممتدًا امتداد مستقبله، وتبدو له السنة بين عيدي الميلاد دهرًا طويلًا ليس له مدًى، وهكذا كان شأن الزمن مع فرانسي حتى بلغت الحادية عشرة من عمرها.

لكن الأمور تغيرت ما بين عيد ميلادها الحادي عشر والثاني عشر؛ إذ أصبح المستقبل يقبل أسرع مما كان، وبدت الأيام أقل طولًا، والأسابيع تشتمل على عددٍ أقل من الأيام، ومات هني جاديس، ولموته صلة بذلك، فقد كانت تسمع دائمًا أن هني سيموت، سمعت ذلك كثيرًا جدًّا، حتى اعتقدت أخيرًا أنه خليقٌ بأن يموت، ولكن موته سيحدث بعد وقتٍ طويل ممتد في الطول. وبعدُ، فقد انقضى الوقت الطويل، وأصبح ذلك الذي كان في ضمير المستقبل، شيئًا حاضرًا، ثم هو خليقٌ بأن يصبح ماضيًا، وتحيرت فرانسي، ترى أيقتضي الأمر أن يموت أحدٌ حتى يتضح ذلك في ذهن الطفل؟ ولكن لا، إن جدها روملي مات على ما تذكر، وهي في التاسعة من عمرها بعد أسبوعٍ من أول قربانٍ مقدس تناولته، وكان عيد الميلاد لا يزال يبدو بعيدًا كل البعد حينذاك.

والآن بدت الأمور تتغير تغيرًا سريعًا جدًّا في نظر فرانسي، حتى اختلط عليها الأمر، وشبَّ نيلي الذي كان يصغرها بعامٍ فجأة وفاقت قامته قامتها، وانتقلت مودي دونوفان من مسكنها، ولما عادت بعد ثلاثة أشهر في زيارةٍ لهم، وجدت فرانسي أنها تغيرت، فقد نمت مودي وأصبحت أقرب إلى المرأة في تلك الشهور الثلاثة.

واكتشفت فرانسي التي كانت تعلم أن أمها دائمًا على صواب، أن أمها تخطئ من حينٍ إلى حين، وتبينت أن بعض ما تحبه كل الحب في أبيها يعد في نظر الآخرين مضحكًا غاية الإضحاك، ولم تعد كفتا الميزان في محل الشاي تبرقان بريقهما المعهود، ووجدت الصناديق متأكلة، حقيرة المنظر.

وتوقفت عن مراقبة السيد توموني، وهو عائدٌ إلى بيته في ليالي السبت بعد قضاء رحلاته القصيرة في نيويورك، وخطر ببالها فجأة أن من البلاهة أن يعيش هذه العيشة، فيمضي إلى نيويورك ويعود إلى بيته مشتاقًا إلى مكان إقامته في نيويورك، إن لديه ما يكفيه من المال، فما باله لا ينتقل إلى نيويورك ويعيش فيها ما دام يحبها إلى هذا الحد؟

كان كل شيء يتغير، واستبد الفزع بفرنسي، فقد أخذ عالمها يتوارى ويغيب، ترى ما الذي يحل محله؟ ولكن ما الذي تغير فيه؟ لقد دأبت على قراءة صفحة من الإنجيل وصفحة من شكسبير كل ليلة شأنها دائمًا، وجرت على أن تعزف على البيانو كل يوم ساعة، وتضع البنسات في الحصالة المصنوعة من القصدير، لقد كان حانوت النفايات لا يزال قائمًا هناك، والحوانيت جميعًا هي هي، وما من شيءٍ يتغير، وإنما هي التي كانت تتغير.

وحدثت أباها بذلك، فجعلها تخرج لسانها، وجس معصمها ثم هز رأسه في حزنٍ، وقال: إنك تمرين بدورٍ خطير، خطير جدًّا.

– وما هو؟

– إنه النمو؟

لقد أفسد النمو أمورًا كثيرة، أفسد اللعبة الجميلة التي كانوا يلعبونها إذا خلا البيت من الطعام، وكانت كاتي والطفلان حين ينفد المال ويقل الطعام يتظاهرون بأنهم رواد يستكشفون القطب الشمالي، ثم هبت عليهم عاصفةٌ ثلجية حبستهم في كهف، ولم يكن عندهم من الزاد إلا أقل القليل، واقتضاهم الأمر أن يدَّخروه أطول مدةٍ ممكنة حتى يأتيهم المدد، وقسمت الأم ما كان في الصوان من طعام، وسمته حصص التموين، وكانت تقول حين يظل الطفلان جائعَين بعد أن يصيبا وجبتهما: تشجعوا يا رجالي، إن النجدة في الطريق إلينا.

وكانت إذا واتاها بعض المال واشترت قدرًا من البقالة، فإنها تشتري فيما تشتريه كعكةً صغيرة كنوعٍ من الاحتفال، وترشق بها علمًا يساوي بنسًا، وتقول: لقد تحقق لنا ما نريد يا رجال، وبلغنا القطب الشمالي.

وسألت فرانسي أمها يومًا بعد أن واتتهم نجدةٌ من هذا القبيل: إن المستكشفين حين يجوعون ويقاسون على ذلك النحو، يفعلون ذلك لسببٍ ينتهي إلى غايةٍ عظمى؛ ذلك أنهم يستكشفون القطب الشمالي، ولكن أية غاية كبرى نخرج بها حين نجوع على هذا النحو!

وبدأ الإعياء على كاتي فجأة، وقالت شيئًا لم تفهمه فرانسي في ذلك الوقت، قالت: إنك لتلمسين العبرة في ذلك.

وأفسد النمو المسرحي في نظر فرانسي، ليس المسرح بالمعنى الدقيق للعبارة، بل المسرحيات؛ فقد وجدت فرانسي أنها أخذت تشعر بالسخط من طريقة وقوع الأحداث في وقتها.

وكانت فرانسي تحب المسرح حبًّا جمًّا، ورغبت ذات مرة في أن تكون عازفةً على أرغن اليد، ثم أرادت أن تكون مُدرِّسة، فلما تناولت أول قربانٍ مقدس لها أرادت أن تكون راهبة، وحين بلغت الحادية عشرة رغبت في أن تكون ممثلة.

وأطفال ويليمسبرج إذا غاب عنهم كل شيء، فإن المسرح لا يغيب عنهم، كان في حيهم في تلك الأيام عددٌ كبير من الفرق الجيدة، مثل: فرقة بلاني وفرقة كورس بايتون ومنتدى فيليب، وكان منتدى فيليب قائمًا عند المنعطف بالضبط، وفرانسي تذهب إلى هناك عصر كل يوم من أيام السبت، حين تستطيع أن تنتزع من أمها قطعةً من فئة العشرة سنتات (إلا حين يغلق المسرح أبوابه في فصل الصيف) وكانت تجلس في أعلى المسرح وتنتظر في الصف دائمًا ساعة، قبل أن يبدأ العرض لتحصل على مقعدٍ في أول صف.

وقد شغفت ببطل الفرقة هارولد كلارنس، فكانت تنتظره عند باب المسرح بعد حفلة يوم السبت النهارية، وتتبعه إلى بيته الوضيع المصنوع من الحجر البُنِّي، حيث يعيش حياةً عادية في حجرةٍ حقيرة الأثاث، وكان يمشي في الشارع بخطًى متصلبة مثل الممثلين القدامى، ووجهه يبدو متوردًا كوجوه الأطفال، وكأنما لا يزال يحمل أثر دهان الشباب، وكان يمشي في خطًى متصلبة خليَّ البال، لا ينظر إلى اليمين أو إلى اليسار، ويدخن سيجارًا وجيه المنظر يلقيه قبل أن يدخل البيت؛ لأن صاحبة البيت لا تسمح للرجل العظيم بأن يدخن في حجراتها، وتقف فرانسي على منعطف الشارع تتأمل بعين الخيال والأحلام عقب السيجار المهمل، وتنزع عنه حلقة الورق وتلبسها في إصبعها أسبوعًا، متظاهرةً بأن تلك الحلقة ما هي إلا خاتم خطبتها له.

ومثَّل هارولد وفرقته في يومٍ من أيام السبت مسرحية «حبيبة راعي الكنيسة»، وفيها وقع راعي كنيسة القرية الوسيم في غرام جيري مورهاوس بطلة الفرقة، واضطرت البطلة — لسببٍ ما — أن تبحث عن عملٍ في محل بقالة، وكانت هناك امرأةٌ شريرة تحب راعي الكنيسة الشاب الوسيم أيضًا، وخرجت لتنال من البطلة، ودخلت المحل تتبختر مزهوة بفرائها غير المألوفة للقرية وجواهرها العجيبة، وطلبت في كبرياءٍ وعظمة رطلًا من البن، ومرت لحظةٌ رهيبة حين لفظت الكلمات الخطيرة «اطحنيه!»، وزمجر المتفرجون، وكانت الفكرة أن البطلة الرقيقة الجميلة ليست من القوة، بحيث تستطيع أن تدير العجلة الكبيرة، وأن عملها أيضًا يقتضي أن تكون قادرة على طحن البن، وناضلت بقدر ما تستطيع، لكنها لم تقوَ على أن تدير العجلة دورةً واحدة، وأخذت تستعطف المرأة الشريرة، مبينة أنها في أشد الحاجة للاحتفاظ بوظيفتها، لكن الشريرة رددت: «اطحنيه!» فلما بدا موقفها ميئوسًا منه دخل هارولد الوسيم المحل بوجهه المتورد يرتدي مسوحه، ولما تبين الموقف ألقى قبعته الكهنوتية الواسعة على المسرح في حركةٍ تمثيليةٍ طبيعية، وتقدم بخطواته المتصلبة إلى الآلة وطحن البن. وهكذا أنقذ البطلة، وعم المتفرجين سكونٌ رهيب حين انتشرت على المسرح رائحة البن الطازج المطحون، ثم ساد المكانَ هرجٌ ومرج … بنٌّ حقيقي! الواقعية تتمثل على المسرح! وكان كل شخص قد رأى بنًّا مطحونًا آلاف المرات، ولكن حدوث ذلك فوق خشبة المسرح يُعدُّ قلبًا للأوضاع المألوفة، وصرَّت الشريرة على أسنانها، وقالت: لقد هُزمتُ مرةً أخرى!

وعانق هارولد جيري ووجهها شاخصٌ إلى النظارة، وأُسدل الستار، ولم تشارك فرانسي أثناء الاستراحة الأطفال الآخرين في إزجاء وقت الفراغ في البصق على أغنياء القوم الجالسين في المقاعد الأمامية، التي يبلغ ثمن المقعد منها ثلاثين سنتًا، بل أخذت تفكر في الموقف الذي أُسدل عليه الستار، إنه لتوفيقٌ عظيم أن يدخل البطل في الوقت المفضل يطحن البن، ولكن ماذا كان يحدث لو أنه لم يأتِ؟ كانت البطلة خليقةٌ بأن تُطرد من عملها، حسنًا جدًّا، وماذا بعد؟ إنها سوف تخرج باحثةٌ عن عملٍ آخر حين يشتد بها الجوع، وسوف تمسح البلاط كما تفعل أمها، أو تَبتزُّ الأموال من مغازلة الرجال، شأنها شأن فلوسي جاديس، إن عملها في محل البقالة أمرٌ ضروري؛ لأن المسرحية قالت هذا فحسب.

ولم ترضَ فرانسي عن المسرحية التي شاهدتها في السبت التالي أيضًا، فليكن؛ فقد عاد الحبيب الذي غاب طويلًا إلى البيت في أنسب وقت ليدفع الرهن، ولكن ماذا كان يحدث لو عجز عن أن يدفعه؟ إن صاحب البيت خليقٌ بأن يمهلهم ثلاثين يومًا لإخلاء الشقة، ذلك هو ما يحدث في بروكلين على الأقل، وقد يهتدون إلى حلٍّ في ذلك الشهر، ولكن إذا لم يحدث ذلك واقتضاهم الأمر أن يخرجوا من البيت فعليهم أن يتدبروا الأمر ما وسعهم، فتذهب البطلة الجميلة وتحصل على عملٍ في المصنع، ويذهب أخوها المرهف الحس ليتجول في الشوارع ويبيع الصحف، وتقوم أمها بتنظيف البيت أثناء النهار، ولكنهم سيعيشون على أية حال. وقالت فرانسي عابسة بينها وبين نفسها: أجل سيعيشون أيتها الحمقاء، فالموت لا يأتي إلا بعد جهادٍ طويل.

ولم تستطع فرانسي أن تفهم لماذا لم تتزوج البطلة الرجل الشرير، إن هذا خليقٌ بأن يحل مشكلة الإيجار، ثم إن الرجل الذي أحبها بلا شك كل ذلك الحب، حتى ارتضى لنفسه أن يعاني صنوف العناء جميعًا لأنها لم تقبل أن تتزوجه؛ خليقٌ بألا تتجاهله؛ لأنه على الأقل كان حاضرًا بين يديها، حين غاب البطل وراء شيء لا يستطيع تحقيقه.

وألَّفت هي الفصل الثالث لتلك المسرحية، وأخذت تفرض الفروض متسائلة: ما الذي كان يحدث لو أن الأمر كيت وكيت، وكتبت هذه الفروض في حوارٍ فأنِسَتْ في كتابته سهولةً عجيبة؛ لأن الأمر يقتضيك في كتابة قصة أن تعلل لمَ كان الناس هكذا؟ ولكنك حين تكتب الحوار فالأمر لا يقتضيك أن تفعل ذلك؛ لأن ما يقوله هؤلاء الناس يفسر لمَ كانوا هكذا! ولم تجد فرانسي مشقة في الاسترسال في الحوار، وغيرت رأيها مرةً أخرى بشأن المهنة التي تنتوي أن تمارسها، واستقر رأيها على ألا تكون ممثلة بحال، بل ستكون كاتبة من كتاب المسرح.

٢٩

وسيطر على جوني في صيف تلك السنة نفسها وهم بأن طفلَيه يشبان، وهما يجهلان المحيط العظيم الذي يغسل شواطئ بروكلين، وأحسَّ جوني أن الواجب يقتضيه أن يركبوا البحر في سفينة، وقرر أن يأخذ الطفلَين في زورقٍ للتجديف عند كانارسي، ثم ينفقوا وقتًا في صيد السمك من أغوار البحر. ولم يكن جوني قد مضى قط لصيد السمك أو ركب زورقًا من زوارق التجديف، لكن اختمرت في رأسه تلك الفكرة.

وتملكت الفكرة جوني تملك السحر، وتداعت الفكرة عنده بمنطق لا صاحب له سواه، وانتهت بأن يصطحب معه في هذه الرحلة تيلي الصغيرة، وكانت تيلي الصغيرة طفلة في الرابعة من عمرها، ابنة لبعض الجيران الذين لم يلقهم جوني على الإطلاق، والحق أنه لم يكن قد رأى تيلي الصغيرة قط، ولكن راودته الفكرة بأن الواجب يقتضيه أن يفعل شيئًا من أجلها مراعاة لما عانته من أخيها جاسي، وارتبط ذلك كله بنزوة الذهاب إلى كانارسي.

وكان جاسي، وهو في السادسة من عمره، أسطورةً قاتمة في الحي، كان طفلًا قوي المراس، متشيطنًا، نمت شفته السفلى أكثر من المألوف، وقد ولد ككل الأطفال، وأرضعته أمه من ثديَيها الكبيرَين، وإلى هنا انقطع الشبه بينه وبين أي طفلٍ آخر، حيًّا كان أو ميتًا، فقد حاولت أمه أن تفطمه حين بلغ الشهر التاسع من عمره، لكن جاسي لم يحتمل ذلك، أما وقد حُرم الثدي فقد رفض «البزازة» والطعام والماء، ونام في مهده وأخذ يصيح، واستأنفت أمه رضاعته خشية أن يتضور جوعًا، ورضع راضيًا، رافضًا كل الأطعمة الأخرى، وعاش على لبن أمه حتى بلغ الثانية من عمره تقريبًا، ثم انقطع لبن أمه لحملها، وتبرم جاسي وصبر على ذلك تسعة أشهر أخرى، ورفض لبن البقر في أي شكلٍ يقدَّم له، وألف شرب القهوة الصرف.

ووُلدت تيلي الصغيرة، وفاض لبن الأم غزيرًا مرةً أخرى، وانتابت جاسي تشنجاتٌ هيستيرية حين رأى الطفلة ترضع لأول مرة، ورقد على الأرض يصرخ ويخبط رأسه، ورفض الأكل أربعة أيام وأبى الذهاب إلى دورة المياه، وشحب لونه؛ فارتاعت أمه وظنت أنه لا ضرر من أن ترضعه من ثديها مرةً أخرى، وكان هذا خطأها الكبير؛ إذ غدا جاسي كمدمن المخدرات الذي حصل على المخدر بعد طول حرمان، فأبى أن يعود إلى الحرمان، ومن يومها استنفد لبن أمه جميعًا، واضطرت تيلي الصغيرة — الطفلة العليلة — أن ترضع من البزازة.

وكان جاسي قد بلغ الثالثة من عمره حينذاك، وبدا أكبر من سنه، ويلبس كالأطفال الآخرين سروالًا حتى الركبتين وحذاءً ثقيلًا مدعمًا بقطعتين من النحاس في كل فردة، وبمجرد أن يرى أمه تفك أزرار ردائها يجري إليها، ويقف وهو يرضع من ثديها، وقد وضع مرفقه على ركبة أمه ولف قدمًا على قدم في سرور، وعيناه تتجولان في الحجرة، ووقوفه للرضاعة ليس عملًا فذًّا؛ لأن ثديي أمه ضخمان يكادان حين تطلقهما يستقران على حجرها، ومنظر جاسي في الحق بشع وهو يرضع على هذا النحو، كان يشبه رجلًا يضع قدمه على حافة بار، ويدخن سيجارًا غليظًا باهت اللون.

واكتشف الجيران أمر جاسي وتهامسوا في شأن حالته المرضية، وتضايق أبو جاسي حتى إنه لم يكن ينام مع زوجته، وقال إنها تربي مسخًا بشعًا، وأخذت المرأة المسكينة تفكر وتفكر التماسًا لطريقة تفطم بها جاسي، وقررت أنه أضحى أكبر من أن يرضع، فقد اقترب من السنة الرابعة، وخشيت أن أسنانه الثانية قد لا تظهر على نحوٍ مستقيم.

وأخذت في يومٍ من الأيام علبة طلاء الموقد الأسود والفرشاة، وأغلقت على نفسها باب حجرة النوم، حيث طلت في غزارةٍ ثديها الأيسر بطلاء الموقد الأسود، ورسمت في منطقة الحلمة بقلم شفتَيها الأحمر فمًا قبيحًا، واسعًا له أسنانٌ مخيفة، وأقفلت رداءها بالأزرار وذهبت إلى المطبخ، وجلست في مقعدها الهزاز بجوار النافذة، وألقى جاسي حين رآها كعوب النرد التي يلعب بها تحت حوض الغسيل، وهرع إليها ليرضع، ووضع قدمًا على الأخرى، وارتكز بمرفقه على ركبتها وانتظر.

وقالت له أمه مغررة به: أتريد أن ترضع يا جاسي؟

– نعم.

– حسنًا، انعم بالرضاعة يا جاسي!

وفتحت رداءها فجأة ورفعت ثديها البشع المنظر في وجهه، وشل جاسي من الخوف لحظة، ثم جرى مهرولًا يصرخ واختبأ تحت السرير، وبقي هناك أربعًا وعشرين ساعة، وخرج أخيرًا وهو يرتعد، وعاد ثانيةً إلى شرب القهوة الصرف، وأصبح ينتفض كلما اتجهت عيناه نحو صدر أمه، وهكذا فُطم جاسي.

وأذاعت الأم خبر نجاحها في كل أنحاء الحي، وبذلك سنَّت بدعةً جديدة في الفطام عرفت ﺑ «تخويف الطفل بجاسي».

وسمع جوني القصة، وأقصى جاسي من مخيلته في سخريةٍ وتهكم، ولكنه كان يهتم بالصغيرة تيلي، وفكر في أنها حرمت شيئًا عظيمًا قد يعوق نموها، وتوهم أن نزهةً في قارب على شاطئ كانارسي، قد تزيل من نفسها بعض الضر الذي أصابها به أخوها الشاذ، وبعث بفرانسي لتسأل هل يمكن لتيلي الصغيرة أن تصحبهم في رحلتهم، ووافقت الأم المتعبة في سعادة.

وانطلق جوني والأطفال الثلاثة يوم السبت إلى كارناسي، وكانت فرانسي في الحادية عشرة من عمرها ونيلي في العاشرة وتيلي الصغيرة قد جاوزت الثالثة، وارتدى جوني حلة السهرة الرسمية وقبعته الدربي وبنيقةً نظيفة وصدرية، وارتدى نيلي وفرانسي ملابس كل يوم، أما تيلي الصغيرة فقد ألبستها أمها احتفاء بهذا اليوم رداءً رخيصًا، ولكنه جميلٌ مزركش بالمخرمات، وقد زين بشريطٍ لونه ورديٌّ داكن.

وجلسوا في المقاعد الأمامية في عربة التروللي، وتصادق جوني مع السائق، وأخذا يتكلمان في السياسة، وهبطوا من العربة عند المحطة الأخيرة، وكانت هي كانارسي، وشقوا طريقهم إلى رصيف مرفأٍ صغير حيث وجدوا كوخًا صغيرًا، ورأوا قاربَين من قوارب التجديف المشيدة من كتل الخشب، يهتزان صاعدَين هابطين على الحبال المتآكلة التي تربطهما برصيف المرفأ.

وكُتب على لافتةٍ فوق الكوخ:

«أدوات صيد السمك وقوارب للإيجار».

وكُتب على لافتةٍ من تحتها أكبر حجمًا:

«هنا يباع السمك الطازج».

وتفاوض جوني مع الرجل وتصادق معه كعادته، ودعاه الرجل إلى الكوخ ليشرب كأسًا من الخمر، زاعمًا أنه لا يشربها إلا في المساء.

وخرج جوني ومعه سنارة لصيد السمك وعلبةٌ صدئة من القصدير ملئت بدودٍ يكمن في الطين، وفك الرجل الودود حبل أحسن قوارب التجديف حالًا، ووضعه في يد جوني، وتمنى له حظًّا سعيدًا، وعاد إلى كوخه.

ووضع جوني أدوات الصيد في قاع القارب، وساعد الأطفال على النزول إلى القارب، ثم ربض على رصيف المرفأ والحبل في يده، وأخذ يشرح ما يتصل بالقوارب قائلًا، وهو لم يركب قاربًا قط إلا مرةً واحدة في رحلةٍ للنزهة: إن هناك دائمًا طريقتَين للنزول إلى القارب، إحداهما صحيحة والأخرى خاطئة، والطريقة الصحيحة هي أن تدفع القارب دفعة، ثم تقفز إليه قبل أن ينساب في البحر هكذا …

ورفع قامته ودفع القارب بعيدًا عنه وقفز … فسقط في الماء، وحملق الأطفال المذعورون فيه، لقد كان أبوهم يقف أمامهم على الرصيف منذ لحظة، وهو الآن تحت أقدامهم في الماء، وغمرته المياه حتى رقبته، إلا أن شاربه الصغير المدهون وقبعته الدربي ظلا خارج الماء، وبقيت قبعته مستقيمة على جبهته، وحملق جوني في الأطفال لحظة، وقد دهش مثلهم ثم قال: فليحذر أيٌّ منكم أيها الأطفال الملاعين أن يعمد إلى الضحك.

وتسلق إلى القارب وأوشك أن يقلبه، ولم يجرؤ الأطفال على الضحك بصوتٍ عالٍ، لكن فرانسي كتمت الضحك بشدةٍ في أعماقها، حتى إن ضلوعها آلمتها، وخشي نيلي أن ينظر إلى أخته وعرف أنه سوف ينفجر ضاحكًا إذا التقت عيناه بعينَيها، ولم تقل الصغيرة تيلي شيئًا، وأصبحت بنيقة جوني وقبعته خليطًا مبتلًا كالورق المنقوع، فخلعهما وألقى بهما على سطح القارب، وجدف نحو البحر مترنحًا ولكنه التزم الصمت في وقار، ولما وصل إلى بقعةٍ ظن أنها المكان المناسب، أعلن أنه سيلقى المرساة، وشعر الأطفال بخيبة أمل حين اكتشفوا أن تلك العبارة الشاعرية، لم تكن تعني سوى إلقاء قطعة من الحديد ربطت على حبل القارب.

وراقب الأطفال الأب مذعورين وهو يسلك في اشمئزاز دودةً مختلطة بالطين في الشص، وبدأ صيد السمك، وكان قوامه إطعام الشص ورميه في حركةٍ مثيرة، ثم الصبر عليه لحظة وجذبه خاليًا من الدودة والسمك، ثم استئناف العمل كله مرةً أخرى.

وغدت الشمس زاهية شديدة الحرارة، وجفت حلة جوني الرسمية لتصبح شيئًا متصلبًا متغضِّنًا ضاربًا إلى الخضرة، وبدأ الأطفال يصابون بضربة شمس مفاجئة، وأعلن الأب بعد فترةٍ طويلة، خُيِّل للأطفال أنها ساعات، أنه قد حان وقت الأكل، فشعروا بارتياحٍ شديد وسعادةٍ كبيرة، ولف جوني سنارة الصيد ووضعها بعيدًا، وجذب المرساة وجدف متجهًا نحو رصيف المرفأ، وبدا القارب كأنه يلف في دائرة؛ مما جعل رصيف المرفأ يغدو أكثر بعدًا، ووصلوا أخيرًا إلى الشاطئ، وقد بعدوا عن المرفأ بضع مئات من الياردات، وربط جوني القارب وطلب من الأطفال أن ينتظروا فيه ومضى إلى الشاطئ، وقال: إنه سيقدم لهم غداءً طيبًا.

وعاد بعد لحظةٍ يمشي مترنحًا يحمل «سجقًّا» ساخنًا وفطيرة التوت وكعكة الشليك، وجلسوا يأكلون في القارب المترنح الذي ربط إلى رصيف المرفأ المتآكل، ينظرون إلى المياه الخضراء الطينية التي تنبعث منها رائحة السمك الفاسد، وكان جوني قد شرب قليلًا من كئوس الخمر على الشاطئ، جعلته يأسف على أنه صرخ في وجه الأطفال، وقال لهم: إنه يمكنهم أن يضحكوا ما شاءوا على وقوعه في الماء، ولكنهم لم يستطيعوا أن يحملوا أنفسهم على الضحك بوجهٍ ما، فقد مضى أوان ذلك، وظنت فرانسي أن أباها يبتهج كل الابتهاج، وقال: هذه هي الحياة بعيدًا عن الزحام الهائج الصاخب. آه! ليس هناك أجمل من ركوب البحر في مركب.

وختم كلامه بغموضٍ قائلًا: إننا نخرج بأنفسنا من كل ذلك.

وجدف جوني إلى البحر مرةً أخرى بعد أن فرغوا من غدائهم العجيب، وتساقط العرق غزيرًا من تحت قبعته الدربي، وذاب الدهان الذي على أطراف شاربه، فأحال شاربه النظيف المسوى إلى شعرٍ أشعث فوق شفته العليا، ولكنه شعر بالسعادة وأخذ يغني في إشراقٍ وهو يجدف: إننا نبحر … ونبحر … على مشارف البحر الطامي.

وأخذ يجدف ويجدف ملتزمًا دائرة، ولم ينطلق أبدًا إلى البحر، وأخيرًا تقرحت يداه حتى ملَّ التجديف، وأعلن بطريقةٍ تمثيلية أنه سوف يجدف نحو الشاطئ، وأخذ يجدف ويجدف، ثم استطاع أخيرًا أن يضيق الدوائر شيئًا فشيئًا، حتى اقتربت هذه الدوائر من الرصيف، ولم يلحظ قط أن أجسام الأطفال الثلاثة قد غدت في لون البازلاء الخضراء، في المواضع التي لم تستحل إلى حمرة الجزر بفعل أشعة الشمس، ولو لاحظ هذا لأدرك أن السجق وفطيرة التوت وكعكة الشليك والديدان التي تتلوى في الشص، لم تفد الأطفال فائدةً كبيرة.

فلما بلغ المرفأ قفز إلى الرصيف وفعل الأطفال مثله، وبلغوا جميعًا الرصيف ما عدا تيلي الصغيرة فقد سقطت في الماء، وألقى جوني نفسه منبطحًا على الرصيف وأمسك بها وانتشلها من الماء، ووقفت تيلي الصغيرة هناك، وقد ابتلَّ رداؤها ذو المخرمات ولكنها لم تقل شيئًا، وخلع جوني سترة حلته الرسمية، وركع على ركبتَيه ولفَّ الطفلة بها، بالرغم من أنه كان يومًا قائظ الحرارة، وتدلت أكمام السترة تجرجر على الرمل، ثم حملها جوني بين ذراعَيه وسار في خطواتٍ بطيئة صاعدًا هابطًا المرفأ، وهو يربت ظهرها مواسيًا ويغني لها أغنية من أغاني الأطفال، ولم تفهم تيلي الصغيرة شيئًا مما حدث طوال اليوم، لم تفهم لماذا وضعت في قارب، ولماذا سقطت في الماء، أو لماذا يُحدِث الرجل مثل هذه الضجة حولها، ولم تقل شيئًا.

ووضعها جوني على الأرض حين شعر أنها هدأت، وذهب إلى الكوخ حيث يجد خمرًا يحتسيها، واشترى من الرجل ثلاث سمكات من سمك موسى نظير ربع دولار، وخرج بالسمك المبلل وقد لفه في صحيفة، وقال لطفليه: إنه وعد أمهما بأن يعود إلى البيت بالسمك الطازج الذي يصطاده، وقال الأب: إن أهم شيء أن أعود إلى البيت بسمكٍ من كانارسي، يستوي في ذلك أن أكون أنا الذي اصطدته أم غيري، والعبرة هي أننا خرجنا لصيد السمك وعدنا إلى البيت بسمك.

وأدرك طفلاه أنه يريد من أمهما أن تعتقد أنه هو الذي صاد السمك، ولم يكن الأب يطلب منهما أن يكذبا، وإنما أرادا ألا يكونا حريصَين على قول الحقيقة بحذافيرها، وفهم الطفلان ما يريده أبوهما.

وركبوا إحدى عربات التروللي التي تشتمل على مقعدَين يواجه كلٌّ منهما الآخر، واصطفوا صفًّا عجيبًا، يجلس في أوله جوني بسرواله الأخضر المغضَّن، الذي تصلَّب بفعل ماء البحر الملح، وظهر قميصه الداخلي مليئًا بالثقوب الكبيرة، وعلى رأسه قبعته الدربي، وعلى شفته العليا شاربٌ أشعث، وتليه الصغيرة تيلي وقد غطست في معطفه، والمياه الملحة تقطر من تحته، لتصنع على الأرض بركةً صغيرة من الماء الملح، ثم تليهما فرانسي ونيلي بوجهيهما المحمرَّين بلون الآجر، وقد جلسا ثابتين كل الثبات محاولَين ألا يسقطا إعياءً.

وركب الناس العربة وجلسوا قبالتهم وهم يحملقون فيهم متعجبين، وقد جلس جوني معتدل القامة والسمك في حجره، محاولًا ألا يفكر في الثقوب التي تملأ قميصه الداخلي الظاهر للعيون، ونظر من فوق رءوس الركاب متظاهرًا بأنه يقرأ إعلانًا عن أقراصٍ مسهلة.

وتزايد عدد الركاب وازدحمت العربة، لكن واحدًا لم يجلس إلى جوارهم، وأخيرًا شقت سمكة طريقها خارج اللفافة المبتلَّة، ووقعت على الأرض حيث رقدت في التراب وقد غشاها الغبار، وكان ذلك أكثر مما تحتمله الصغيرة تيلي، فنظرت في عينَي السمكة البراقتَين ولم تقل شيئًا، ولكنها تقيأت في سكونٍ كل ما في جوفها فوق سترة جوني الرسمية، ونفض نيلي وفرانسي ما في جوفهما أيضًا، وكأنهما ينتظران تلك الإشارة، وجلس جوني هناك وفي حجره سمكتان عاريتان وسمكة ثالثة ترقد عند قدميه، وظل يحملق في الإعلان، ولم يكن يعرف ما يفعله غير ذلك.

وأخذ جوني تيلي إلى بيتها بعد أن انتهت الرحلة المريعة، وهو يشعر أنه مطالبٌ ببيان ما حدث، لكن أمها لم تعطه أبدًا فرصة للإيضاح، وأخذت تصرخ حين رأت طفلتها المبتلة الملوثة، وخطفت المعطف من فوقها وقذفت به في وجه جوني، وسمَّته المفسد الأكبر، وحاول جوني مرارًا أن يوضح لها الأمر، لكنها لم تستمع له، ولم تقل تيلي الصغيرة شيئًا، وأخيرًا قال جوني كلمةً عارضة: سيدتي، أعتقد أن ابنتك الصغيرة قد فقدت النطق.

واستولت على الأم نوبةٌ عصبيةٌ حادة، وصرخت في وجه جوني: أنت الذي فعلت ذلك، أنت الذي فعلت ذلك.

– ألا تستطيعين أن تحمليها على أن تقول شيئًا؟

وأمسكت الأم بالطفلة وأخذت تهزها وتهزها، وصرخت: تكلمي! قولي شيئًا!

وفتحت تيلي الصغيرة أخيرًا فمها، وابتسمت في سعادةٍ وقالت: شكرًا!

وأعطت كاتي زوجها جوني درسًا قاسيًا، وقالت إنه لا يصلح لأن يكون أبًا لأطفال. وكان الطفلان تتناوبهما القشعريرة ونوبات من الحرارة، بفعل ضربة الشمس الشديدة التي نزلت بهما، وكادت كاتي تبكي حين رأت التلف البالغ الذي أصاب حلة جوني الوحيدة، وإنها خليقة بأن تنفق دولارًا لإزالة الأوساخ التي علقت بها وتنظيفها بالبخار وكيها، وأدركت أنها لن تعود إلى حالتها الأولى قط، أما السمك فقد اتضح أنه بلغ من الفساد مبلغًا كبيرًا، وأن الأمر يقتضي أن يلقى به في صندوق القمامة.

وذهب الطفلان إلى فراشهما، وقد تملكتهما نوبات من القشعريرة والحمى والغثيان، ودفنا رأسَيهما تحت الأغطية يضحكان في صمتٍ ويهزان سريرهما، حين يذكران منظر أبيهما وهو يقف في الماء.

وجلس جوني إلى نافذة المطبخ حتى أوغل الليل، محاولًا أن يتبين كيف صارت الأمور جميعًا على ذلك النحو الخاطئ، لقد غنَّى أغنياتٍ كثيرة عن السفن وركوب البحر والسفينة تتمايل يمنةً ويسرة، وتحيَّر لمَ لمْ تكن الرحلة على نحو ما يقال في الأغنية، فيعود الأطفال مسرورين وقد تغلغل في قلوبهم حب البحر، ويعود هو وقد امتلأ وِفاضُه بالسمك، لماذا؟ أوه … لماذا لم تكن الرحلة على نحو ما تُردِّد الأغنية، لماذا تقرحت يداه وتلفت حلته وأصيب الأطفال بضربة الشمس، وتعفن السمك وحدث الغثيان؟ لماذا لم تفهم أم تيلي الصغيرة نيته وتتغاضى عن النتيجة؟ لم يستطع أن يتبين هذا، أجل لم يستطع أن يتبيَّنه، فقد خدعته أغاني البحر.

٣٠

وكتبت فرانسي في مفكرتها في ذلك الصيف، الذي بلغت فيه الثالثة عشرة من عمرها.

«اليوم، إنني امرأة.»

ونظرت إلى الجملة وحكَّت بغير وعي لدغة بعوضة أصابت ساقها العارية، ونظرت إلى ساقها الطويلة الرقيقة التي لم تستقر على شكلٍ بعدُ، وحذفت الجملة وبدأت من جديد.

«قريبًا سأصبح امرأة.» ونظرت إلى صدرها الذي كان مستويًا كأرض الحمام، ونزعت الصفحة من المفكرة، وبدأت صفحةً جديدة.

وكتبت وهي تضغط بشدةٍ على قلمها: «إن التعصب هو سبب اشتعال الحرب، وتقتيل الآمنين من المواطنين، وإقامة المصالب والمشانق والقصاص بلا محاكمةٍ قانونية، وحمل الناس على أن يقسوا على الأطفال الصغار، وبعضُهم على بعض، إنه المسئول عن معظم الفساد والحقد والفزع وتحطيم قلب العالم وتعذيب روحه.»

وقرأت الكلمات بصوتٍ عالٍ، فرنَّت رنين كلمات انبعثت أصداؤها من صندوقٍ من القصدير، وأغلقت المفكرة ووضعتها جانبًا.

وكان يوم السبت في ذلك الصيف خليقًا بأن يسجل في يومياتها كأسعد أيام حياتها؛ فقد رأت اسمها لأول مرة مطبوعًا، وكانت المدرسة قد أصدرت مجلة في نهاية العام، حيث نشرت فيها أحسن قصة كُتبت في حصة الإنشاء من كل صف، ووقع الاختيار على موضوع فرانسي المسمى «موسم الشتاء» كأحسن أعمال الصف السابع، وكان ثمن المجلة عشرة سنتات، واضطرت فرانسي إلى الانتظار حتى يوم السبت لتشتريها، وأغلقت المدرسة أبوباها لحلول إجازة الصيف في اليوم السابق ليوم السبت، وقلقت فرانسي خشية ألا تحصل على المجلة، ولكن السيد جونسون قال لها إنه سوف يعمل بالمدرسة يوم السبت، وإنه سوف يعطيها نسخةً من المجلة إذا أحضرت معها السنتات العشرة.

ووقفت فرانسي في وقتٍ مبكر من العصر أمام بيتها ممسكة بالمجلة، وقد فتحتها عند الصفحة التي كتبت فيها قصتها، وكانت تأمل في أن يمر بها عابر سبيل يمكنها أن تريها له.

وأطلعت أمها على القصة وقت الغداء، ولكن اضطرت أن تعود إلى العمل، ولم يكن لديها وقت لقراءتها، وذكرت فرانسي خمس مرات على الأقل أثناء الغداء أن لها قصةً نشرت، وقالت أمها أخيرًا: نعم، نعم، إني أعلم هذا، وقد تنبأتُ لك به كله، ولسوف تنشر لك قصصٌ كثيرة، وتعتادين ذلك، ولكن لا تشغلي بالك بها، فإن أمامك أطباقًا تقتضي الغسل.

وكان الأب في مركز الاتحاد العام، ولن يقدر له أن يرى القصة حتى يوم الأحد، ولكن فرانسي تعلم أنه سيُسرُّ بها، ووقفت في الشارع وقد وضعت تحت إبطها مبعث مجدها، ولم تستطع أن تتخلى عن المجلة ولو للحظةٍ واحدة، وأخذت تلقي نظرةً من حينٍ إلى حين على اسمها المكتوب بالحروف المطبوعة، وتشعر بسعادةٍ لا تفتر أبدًا.

ورأت فتاةً تدعى جوانا تخرج من بيتها على بعدٍ قليل من مسكنها، وكانت جوانا قد أخذت طفلها في عربته ليشمَّ الهواء الطلق، وشهقت بعض الزوجات اللائي وقفن للثرثرة على جانب الطريق أثناء تسوقهن رائحاتٍ غادياتٍ: أترين؟! إن جوانا لم تتزوج بعدُ … إنها فتاةٌ جميلة قاست من المتاعب في حياتها … إن ابنها ليس شرعيًّا … «ابن سفاح». كانت هذه هي العبارة التي يستعملنها في الحي، وشعرت هؤلاء النسوة الشريفات أن جوانا ليس من حقها أن تتصرف كأمٍّ لها كبرياؤها، وتخرج طفلها في ضوء النهار، وشعرن أنه كان يجب عليها أن تخفيه في مكانٍ مظلم.

وأحست فرانسي برغبةٍ في استطلاع أمر جوانا والطفل، لا سيما أنها سمعت أمها وأباها يتكلمان عنها، وحملقت في الطفل حين مرت العربة بها، وكان شيئًا صغيرًا جميلًا يجلس سعيدًا في عربته، ربما كانت جوانا فتاةً سيئة الخلق، لكنها بلا شك تعتني بطفلها الذي يبدو أكثر نظافةً وجمالًا وأناقة من أطفال النساء الشريفات. وكان الطفل يلبس قبعةً موشاة ورداءً نظيفًا أبيض و«مريلة»، وكان غطاء العربة نظيفًا عليه رسومٌ جميلة طُرِّزت باليد.

وكانت جوانا تشتغل في مصنع وأمها ترعى طفلها، وشعرت الأم بعارٍ شديد حتى إنها لم تكن تخرج بالطفل من البيت؛ ولذلك لم يتنزه الطفل في الهواء الطلق إلا في نهاية الأسبوع حين تخلو جوانا من العمل. أجل، لقد قررت فرانسي أنه طفلٌ جميل، يشبه جوانا تمامًا، وتذكرت كيف وصفها أبوها في اليوم الذي كانت أمها تتكلم عنها: إن لها بشرةً كأكمام زهرة المانوليا (ولم يكن جوني قد رأى زهرة المانوليا قط)، وإن شعرها أسود سواد جناح الغراب الأسحم (ولم يكن قد رأى مثل هذا الطائر)، وإن عينَيها عميقتان داكنتان كينابيع الغابة، (ولم يكن رأى غابةً قط)، ولكنه وصف جوانا وصفًا دقيقًا، لقد كانت فتاة جميلة.

وأجابت كاتي: نعم قد تكون كذلك، ولكن أي خير جلبه لها جمالها؟ إن جمالها لعنة عليها، وقد سمعتُ أن أمها لم تتزوج أبدًا، وأنجبت طفليها على هذا النحو، وإن ابنها الآن محبوس في سجن «سنج سنج»، وابنتها أنجبت ذلك الطفل، إن الفساد يجري في دم سلالتهما من الجد إلى الحفيد، وما من جدوى ترجى من العطف عليهما.

وأضافت في تنزهٍ عن الغرض، وهي صفة كانت تقدر عليها قدرةً عجيبة في بعض الأحيان: لا شك أن هذا الأمر لا يعنيني، ولست بحاجةٍ إلى أن أتخذ حياله هذا الموقف أو ذاك، وما من داعٍ يدعوني إلى الخروج من داري والبصق على الفتاة لأنها أخطأت، كما أنني لست بحاجةٍ إلى أن أُوويها في بيتي وأتبناها لأنها أخطأت، لقد عانت كثيرًا من الآلام لتخرج ذلك الطفل إلى العالم، كما لو كانت تزوجت سواء بسواء، ولسوف تتلقى درسًا من ذلك الألم والعار إذا كانت فتاةً طيبة في جوهرها، أما إذا كانت بطبيعتها فتاةً سيئة فلن تهمها المعاملة السيئة التي تلقاها من الناس؛ ولهذا فإنني لو كنت مكانك يا جوني لما شعرت بالأسف الكثير من أجلها.

واستدارت فجأة إلى فرانسي، وقالت: لتكن جوانا عبرة لك.

وراقبت فرانسي عصر ذلك اليوم من أيام السبت جوانا، وهي تسير صاعدةً هابطة وتحيرت متسائلة، على أي نحوٍ تكون مثل تلك الفتاة عبرة لها؟ وبدت جوانا فخورًا بطفلها، هل كانت العبرة تكمن في ذلك؟ كانت جوانا في السابعة عشرة من عمرها فحسب، أليفةً أنيسة تريد من كل شخص أن يكون أليفًا وأنيسًا معها، وكانت تبتسم إلى النساء الشريفات الصارمات، لكن ابتسامتها تموت على شفتَيها حين تراهن يقابلنها بالعبوس، وتبتسم للأطفال الصغار وهم يلعبون في الشارع، وبعضهم يبتسم لها، وابتسمت لفرانسي، وأرادت فرانسي أن تبتسم لها ولكنها أحجمت، ترى أكانت العبرة في أن الأمر يقتضيها ألا تعامل بالود فتياتٍ على شاكلة جوانا؟

وبدت الزوجات الشريفات وقد امتلأت أذرعهن بحقائب الخضراوات، ولفائف اللحم البنية اللون كأنما لا ينتظرهن إلا عملٌ قليلٌ ذلك العصر، فأخذن يجتمعن في «شللٍ» صغيرة ويتهامسن، ويتوقف الهمس حين تمر جوانا بهن، ليبدأ مرةً أخرى حين تبتعد.

وكانت جوانا في كل مرة تمر فيها يزداد خداها توردًا ويزداد رأسها شموخًا، ويضرب إزارها الهواء بعنفٍ من خلفها في مزيدٍ من الجرأة والتحدي، وبدت كأنها تزداد جمالًا وكبرياء كلما مشت، وكانت تتوقف أكثر مما يقتضيه الأمر لتحكم غطاء الطفل، وجنَّت عقول النساء وهي تلمس خد الطفل وتبتسم له في حنان، وكيف تجرؤ على ذلك! وفكرن كيف تبلغ بها الجرأة أن تتصرف كما لو كان لها الحق في أن تفعل ذلك؟

ومعظم هؤلاء النساء الشريفات نشَّأن أطفالهن بالصراخ والضرب، والكثيرات منهن يكرهن أزواجهن الذين ينامون إلى جوارهن بالليل، ولم يعدن يشعرن بمتعةٍ كبيرة معهم، وكن يتحملن في صرامةٍ المعاشرة الزوجية معهم، وهن يصلين طول الوقت ألا تكون النتيجة طفلًا آخر، وجعل هذا الاستسلام المرير الرجل فظًّا متوحشًا، وأصبحت المعاشرة الزوجية في نظر بعضهم رجالًا ونساءً أمرًا وحشيًّا، كلما عجلوا بنهايتها كان ذلك أفضل لهم، وكرهوا هذه الفتاة لأنهم شعروا أن شأنها مع أبي طفلها لم يكن كشأنهم.

واكتشفت جوانا كراهية النساء لها، لكنها لم تضعف حيال ذلك ولم تسلم بالأمر وتأخذ الطفل داخل البيت، وكان لا بد أن يحدث شيء، وانفجرت النساء أولًا، وقد عجزن عن تحمل الأمر أكثر من ذلك، وكان عليهن أن يفعلن شيئًا في هذا الشأن، وصاحت امرأةٌ متوترة الأعصاب حين مرت بهن جوانا في المرة التالية: ألا تشعرين بالخزي من نفسك؟

وسألت جوانا: لماذا؟

وأشعل هذا السؤال غضب المرأة، وقالت لامرأة ثانية: إنها تسأل لماذا؟ سأقول لها لماذا … لأنك عار وفضيحة، إنه ليس من حقك أن تستعرضي نفسك في الشوارع ومعك ابن السفاح، حيث يراك الأطفال الأبرياء.

وقالت جوانا: أعتقد أن هذا بلدٌ حر.

– ليس حرًّا لأمثالك، اغربي عن هذا الشارع، اغربي عن هذا الشارع.

– حاولي أن تحمليني على ذلك!

وأمرتها المرأة المتوترة الأعصاب قائلة: اغربي عن هذا الشارع أيتها العاهرة!

وارتعش صوت الفتاة وهي تجيب: حاسبي نفسك على ألفاظك.

وقاطعتها امرأةٌ أخرى: لسنا بحاجةٍ لأن نحاسب أنفسنا على ما نقول لامرأة ليس من حقها أن تمشي في الشارع.

وتوقف رجلٌ لحظةً كان مارًّا ليهدئ الجو، ولمس ذراع جوانا قائلًا: انظري يا أختاه، لماذا لا تدخلين إلى بيتك حتى تهدأ هذه النفوس الثائرة! إنك لن تستطيعي الانتصار عليهن.

وانتزعت جوانا ذراعها عنه، وقالت: انصرف لشأنك.

– إن قصدي شريف يا أختاه … معذرة.

ومضى لشأنه، وقالت المرأة المتوترة الأعصاب في إغراء: لم لا تذهبين معه؟ فقد تظفرين منه بربع دولار؟

وضحكت الأخريات، وقالت جوانا بصوتٍ هادئ: إنكن جميعًا غيارى.

وقالت المرأة التي تحاورها: إنها تقول إننا غيارى، غيارى من أي شيء يا أنتِ؟

وقالت «أنت» كأنما كان هذا هو اسم الفتاة.

وقالت للمرأة المتوترة الأعصاب: غيارى، لأن الرجال يحبونني، هذا هو السبب، لقد حالفك الحظ لأنك تزوجتِ من قبلُ، ولستِ خليقة بأن تحصلي على رجلٍ على نحوٍ آخر، إني أراهن أن زوجك يبغضك، ويعاشرك رغمًا عنه، إني أراهن أن تلك هي حاله تمامًا.

وصرخت المرأة المتوترة الأعصاب، وقد تملكتها نوبةٌ عصبية: أيتها العاهرة! أيتها العاهرة!

ثم التقطت حجرًا من مصرف الماء، وألقته على جوانا وقد دفعتها غريزة كانت، ولا تزال تتملك النفوس.

وكان ذلك إشارة للنساء الأخريات، فبدأن يلقين الحجارة عليها، وألقت عليها امرأة أكثر مجونًا من الأخريات كرة من روث الجياد، وأصابت بعض الحجارة جوانا، لكن حجرًا حادَّ الطرف أخطأ جوانا وأصاب جبين الطفل، وانساب على الفور خيطٌ رفيعٌ صافٍ من الدم على وجه الطفل ولوَّث «مريلته» النظيفة، وصاح الطفل صيحاتٍ متقطعة، ورفع ذراعَيه لأمه لتحمله.

وتوقفت بعض النساء عن إلقاء مزيد من الحجارة، وأسقطوها في هدوء في المصرف مرةً أخرى، وانتهى العراك كله، وشعرت النساء فجأة بالخزي، فلم يكن قصدهن إيذاء الطفل، وإنما أردن أن يطردن جوانا من الشارع، وتفرق شملهن وعدن إلى بيوتهن في هدوء، واستأنف بعض الأطفال، الذين كانوا واقفين هناك ينصتون، لعبهم وكأن شيئًا لم يحدث.

وحملت جوانا التي كانت تبكي، طفلها من العربة، واستمر الطفل في الصياح بصوتٍ خفيض، كأنما لم يكن له حق في البكاء بصوتٍ عال، وضغطت جوانا خدها على وجه الطفل واختلطت دموعها بدمه، لقد انتصرت النساء، وحملت جوانا طفلها إلى البيت، غير عابئة بتركها العربة واقفة في وسط الممر الجانبي.

وكانت فرانسي قد رأت كل شيء … رأت كل شيء … وسمعت كل كلمة، وتذكرت كيف أن جوانا ابتسمت لها، وكيف أنها أشاحت بوجهها عنها دون أن ترد ابتسامتها، لمَ لمْ ترد ابتسامتها؟ لمَ لمْ ترد ابتسامتها؟ إنها سوف تتعذب، سوف تتعذب بقية حياتها كلما تذكرت أنها لم ترد ابتسامتها.

وبدأ بعض الصبيان الصغار يلعبون لعبة المحاورة حول العربة الفارغة، ويمسكونها من جانبيها ويشدونها وهم يطاردون بعضهم بعضًا، وفرَّقتهم فرانسي، وجرَّت العربة إلى باب بيت جوانا ثم أوقفتها، وكان العرف يقضي بألا يمس أحد أي شيء يقف خارج باب البيت الذي ينتمي إليه هذا الشيء.

وكانت فرانسي لا تزال تمسك بالمجلة التي تشتمل على قصتها، ووقفت بجوار العربة ونظرت إلى اسم القصة مرةً أخرى «موسم الشتاء بقلم فرانسيس نولان»، وأرادت أن تفعل شيئًا، أرادت أن تضحي بشيءٍ لتكفر عن عدم ابتسامتها لجوانا، وفكرت في قصتها وكانت فخورًا بها، مشغوفة كل الشغف بأن تريها لأبيها وخالتيها إيفي وسيسي، وأرادت أن تحتفظ بها دائمًا لتنظر إليها حتى يسري في كيانها ذلك الشعور الدافئ الممتع الذي تحسه حين تنظر إليها، وما كان لديها من وسيلةٍ تحصل بها على نسخةٍ أخرى من المجلة، لو أنها تخلَّت عن النسخة التي معها، ودسَّت المجلة تحت وسادة الطفل وتركتها مفتوحة عند الصفحة التي كتبت فيها قصتها.

ورأت بعض قطرات صغيرة من الدم على وسادة الطفل البيضاء الناصعة، ومرةً أخرى رأت الطفل وخيط الدم الرفيع ينساب على وجهه، وكيف كان يرفع ذراعَيه لتحمله أمه، واستولت على قلب فرانسي موجة من الألم، لم تتركها إلا بعد أن حلت بها الدهشة وانتابتها موجةٌ أخرى، ثم توقفت، وانحسرت، وشقت فرانسي طريقها هابطةً إلى مخزن المؤن في بيتها، حيث جلست في أظلم ركن على كومٍ من أكياس الخيش، وانتظرت هناك، على حين راحت موجات الألم تعصف بها، وكانت ترتعد كلما انحسرت موجة لتحل محلها موجةٌ جديدة، جلست هناك مشدودة الأعصاب تنتظر حتى يتوقف سيل تلك الموجات، وكانت خليقة بأن تموت إذا لم تتوقف، أجل كانت خليقة بأن تموت.

وخفت حدة موجات الألم بعد فترة، وطالت المدة بين كل موجةٍ وأخرى، وبدأت فرانسي تفكر، لقد أصبحت الآن تتلقى العبرة من جوانا، ولكنها ليست العبرة التي عنتها أمها.

وتذكرت جوانا تمر ببيتها أحيانًا كثيرة وهي عائدة من المكتبة إلى بيتها ليلًا، وتراها هي والصبي واقفَين متلازمَين في الممر الضيق، وترى الصبي وهو يربت في حنانٍ شعر جوانا الجميل، وترى كيف ترفع جوانا يدها لتلمس خده، ويبدو وجه جوانا هادئًا حالمًا في ضوء مصباح الشارع، هل صحيح أن العار والطفل خرجا من تلك البداية؟ لماذا؟ لماذا؟ إن البداية كانت تبدو غايةً في الحنان والصواب، فلماذا إذن …؟

وفرانسي تعلم أن إحدى النساء اللائي قذفنها بالحجارة أنجبت طفلًا بعد ثلاثة أشهر فحسب من زواجها، وكانت عندئذٍ طفلة ضمن الأطفال الواقفين عند منعطف الشارع، يرقبون الجمع وهم خارجون إلى الكنيسة، ورأت بروز الحمل من تحت الخمار العذري للعروس، وهي تخطو إلى العربة المستأجرة، رأت يد الأب، وهي تمسك العريس وتشدُّ أزره، وكان العريس حزينًا كل الحزن، تظهر الهالات السوداء تحت عينَيه.

ولم يكن لجوانا أب ولا رجال من ذوي القربى، لم يكن هناك أحدٌ ليمسك بيد رجلها في الطريق إلى الهيكل ويشدُّ أزره، وقررت فرانسي أن ذلك هو جريمة جوانا؛ ليس لأنها فتاةٌ سيئة الخلق؛ ولكن لأنها لم تكن من الذكاء وسعة الحيلة بحيث تأخذ رجلها إلى الكنيسة.

ولم تجد فرانسي طريقًا إلى معرفة القصة بأكملها، وكان رجل جوانا في الواقع يحبها ويريد الزواج منها، بعد أن أصابته المشاكل كما يقول الناس، وله أسرةٌ تتألف من أمٍّ وثلاث أخوات، وأخبرهن أنه يريد الزواج بجوانا فاقتلعوا الفكرة من رأسه، وقلن له لا تكن أبله فهي ليست فتاة طاهرة الذيل، وأسرتها كلها ليست طاهرة الذيل، ثم كيف تعلم أنك أنت أبو الطفل، إنها ما دامت قد استسلمت لك، فقد استسلمت للآخرين، إن كيد النساء عظيم، ونحن نعلم ذلك؛ فإننا نساء. إنك رجلٌ طيبٌ رحيم القلب؛ ولذلك تصدق كلمتها لك بأن طفلها منك، إنها تكذب، لا تنخدع يا بني، لا تنخدع أيها الأخ، إذا كان لا بد لك أن تتزوج، فتزوج فتاةً طاهرة لا تستسلم لك إلا بعد أن يعقد زواجكما القسيس، وإذا تزوجتَ هذه الفتاة فلن تكون ابني، ولن تكون أخانا، فهيهات أن تتأكد أن هذا الطفل من صلبك، وسوف يشغل بالك، وأنت تمارس عملك وتتحير من هو الرجل الذي يتسلل إلى فراشك بجانبها بعد أن تغادرها في الصباح، أوه! أجل، يا بني، يا أخانا، إن ذلك ما تفعله النساء، إننا نعلم؛ فنحن نساء نعرف كيف يفعلن ما يفعلن، إن كيدهن عظيم.

واستسلم الفتى لمنطقهن حتى اقتنع وأعطته النساء من أهله المال، وحصل على عملٍ ومسكن في جيرسي، ولم يخبرن جوانا أين هو، فلم تره مرةً أخرى، ولم تتزوج جوانا وأنجبت الطفل.

وكانت موجات الألم العاصفة بفرانسي قد توقفت أو كادت، حين اكتشفت لهولها أن ضرًّا قد ألمَّ بها، وضغطت بيدها على قلبها تحاول أن تمس حافته البارزة من تحت لحمها، وكانت قد سمعت أباها يغني أغاني كثيرة عن القلب، القلب الذي ينفطر، والقلب الذي يتوجع، والقلب الذي يرقص، والقلب المثقل بالهموم، والقلب الذي يقفز فرحًا، والقلب المليء بالأسف، والقلب الذي يتحول، والقلب الذي يقيم على العهد، وآمنت حقًّا أن القلب يفعل هذه الأشياء، وشعرت بالفزع حين فكرت أن قلبها قد تحطم بين ضلوعها حزنًا على طفل جوانا، وأن الدم قد أخذ الآن يفيض من قلبها وينساب من جسدها.

وصعدت السلم إلى الشقة ونظرت في المرآة، ورأت هالاتٍ سوداء تحت عينَيها وشعرت بصداعٍ شديد، ورقدت على أريكةٍ قديمة من الجلد في المطبخ، وانتظرت حتى تعود أمها إلى البيت.

وأخبرت أمها بما حدث لها في مخزن المؤن، ولم تذكر شيئًا عن جوانا، وتنهدت كاتي وقالت: أهكذا سريعًا؟ إنك بلغت الثالثة عشرة فحسب، إنني لم أكن أحسب أنها ستوافيك قبل سنةٍ أخرى، لقد وافتني وأنا في الخامسة عشرة.

– إذن … إذن … إن كل ما حدث شيءٌ طبيعي؟

– إنه شيءٌ طبيعي يدرك كل النساء.

– إنني لست امرأة؟

– إنه يعني أنك تغيرتِ من فتاةٍ إلى امرأة.

– هل تظنين أنها ستنقطع؟

– بعد أيامٍ قلائل، ولكنها ستعاودك بعد شهر.

– وإلى متى تستمر معي؟

– إلى وقتٍ طويل حتى تبلغي الأربعين، بل الخمسين.

وتفكَّرتْ قليلًا ثم قالت: كانت أمي في الخمسين من عمرها حين ولدتني!

– أوه! هل لها علاقة بإنجاب الأطفال؟

– نعم، تذكري دائمًا أن تكوني فتاةً طاهرة، فإنك تستطيعين الآن إنجاب طفل.

وطافت صورة جوانا والطفل بعقل فرانسي كالبرق، وقالت الأم: لا تدعي الصبيان يقبلوك.

– هل تنجبين طفلًا على ذلك النحو؟

– لا، ولكن إنجاب الطفل كثيرًا ما يبدأ بقُبلة.

وأضافت: تذكري جوانا.

ولم تكن كاتي قد علمت شيئًا عن مشهد الشارع، وتصادف أن قفزت صورة جوانا إلى مخيلتها، ولكن فرانسي شعرت أن أمها قد وُهبت بصيرةً قوية تدعو إلى الدهشة، ونظرت إلى أمها نظرةً جديدة من الاحترام والتقدير.

تذكري جوانا … تذكري جوانا، لم تستطع فرانسي أن تنساها أبدًا، ومن ذلك اليوم كانت كلما تذكرت النساء اللائي قذفنها بالحجارة تكره النساء، وتخاف منهن من أجل أساليبهن المنحرفة الضالة، ولا تثق بغرائزهن، وبدأت تكرههن من أجل خيانة بعضهن بعضًا، وقسوة بعضهن على بعض، ولم تجرؤ واحدة من النساء كلهن اللائي قذفن جوانا بالحجارة، أن تفوه بكلمةٍ في صف الفتاة خشية أن يتلطخن بعارها، وكان الرجل المار بالطريق هو الإنسان الوحيد الذي كلمها بصوتٍ عطوف.

وهناك شيءٌ واحد يجمع بين معظم النساء، ذلك هو الألم العظيم الذي يقاسينه حين يلدن أطفالهن، وهذا خليقٌ بأن يوجِد رابطةً تربط بينهن جميعًا، أجل، إنه خليقٌ بأن يحملهن على حب بعضهن البعض، وحماية بعضهن البعض ضد عالم الرجل، ولكن الأمر لم يكن كذلك، بل كان يبدو أن آلام الولادة العظيمة تجفف قلوبهن وأرواحهن، فلا يتحدن معًا إلا لامتهان امرأةٍ أخرى … سواء برميها بالحجارة أو بالنيل منها بثرثرتهن، وهذا فيما يظهر هو الولاء الوحيد الذي يشعرن به.

أما الرجال فكانوا يختلفون عن النساء، وربما يكره بعضهم بعضًا، ولكنهم يتحدون معًا ضد العالم وضد أي امرأة توقع أحدهم في حبائلها.

وفتحت فرانسي المفكرة التي اعتادت أن تسجل فيها يومياتها، وتركت سطرًا تحت الفقرة التي كتبتها عن عدم التسامح، وكتبت:

«لن أتخذ من النساء صديقة لي ما حييت، ولن أمنح ثقتي أبدًا لامرأةٍ أخرى، وقد أستثني من ذلك أمي وخالتيَّ إيفي وسيسي في بعض الأحيان.»

٣١

ووقع حادثان عظيما الأهمية في السنة التي بلغت فيها فرانسي الثالثة عشرة من عمرها، فقد اشتعلت نار الحرب في أوروبا، ووقع جواد في غرام الخالة إيفي.

وكان زواج إيفي والجواد درامر عدوَّين لدودين منذ ثماني سنوات، وكان رجلًا وضيعًا في معاملته للجواد، يرفسه ويلطمه ويسبه ويجذب قرطمته٤ بشدة، وكان الجواد وضيعًا في معاملته للعم ويلي فليتمان، والجواد يعرف الطريق ويقف من تلقاء نفسه عند كل مكان يوزع فيه اللبن، وقد اعتاد أن يستأنف المسير بمجرد أن يركب فليتمان العربة، ثم أصبح أخيرًا يستأنف المسير لحظة نزول فليتمان ليوزع اللبن، ويخب الجواد مسرعًا؛ مما كان يضطر فليتمان في كثيرٍ من الأحيان أن يجري خلفه مسافة لا يُستهان بها ليلحق به.

ومن عادة فليتمان أنه يوزع اللبن وقت الظهيرة، ويعود إلى البيت لتناول الغداء، ثم يأخذ الجواد والعربة إلى الحظيرة حيث يقتضيه الأمر أن يغسل درامر والعربة، ولهذا الجواد حيلةٌ وضيعة، إذ كثيرًا ما يبول على فليتمان وهو يغسل ما تحت بطنه، وكان الزملاء الآخرون يقفون هناك ينتظرون حتى يفعل الجواد فعلته، فيستمتعون بلحظاتٍ سعيدة من الضحك، ولم يكن فليتمان يتحمل ذلك فتعوَّد أن يغسل الجواد أمام بيته، وكل ذلك يحدث على ما يرام في الصيف، ولكنه شيءٌ قاسٍ على الجواد في الشتاء، وكثيرًا ما تهبط إيفي في أيام البرد القارسة، وتخبر ويلي بأنه من الوضاعة أن يغسل درامر في الجو البارد وبالماء البارد أيضًا، وكأنما كان الجواد يعرف أن إيفي تتكلم من أجله فيصهل مسترحمًا، وهي تجادل زوجها، ويضع رأسه على كتفها.

وأخذ درامر في يومٍ بارد زمام الأمور في يديه، أو كما قالت الخالة إيفي بين قدميه، واستمعت فرانسي في بهجة، على حين راحت الخالة إيفي تحكي القصة لأسرة نولان، وما من أحدٍ يستطيع أن يحكي قصة كما تحكيها إيفي، إنها تمثل كل أجزائها حتى ما يخص الجواد، وتشرح على نحوٍ مسلٍّ فكهٍ ما تظن أنه يدور في نفس كل فرد في ذلك الوقت، وقد حدثت القصة على هذا النحو كما وصفت إيفي:

كان ويلي يقف في الشارع يغسل الجواد المنتفض بالماء البارد والصابون الأصفر الخشن، وإيفي تقف في النافذة تراقبه، ومال ويلي تحت الجواد يغسل بطنه، وشد الجواد عضلاته، وظن فليتمان أن الجود سيبول عليه مرةً أخرى، وكان ذلك فوق احتمال الرجل الضئيل التافه المضنى، فانسحب من تحت الجواد ولطمه على بطنه، ورفع الجواد رجلًا ورفس ويلي في رأسه بعزم، وتدحرج فليتمان تحت الجواد ورقد فاقد الوعي.

ونزلت إيفي مسرعة، وصهل الجواد في سعادةٍ حين رآها، لكنها لم تعره اهتمامًا، ولما نظر من فوق كتفه ورأى إيفي وهي تحاول أن تجر فليتمان من تحته بدأ يمشي، وربما أراد أن يساعد إيفي بأن يجر العربة بعيدًا عن الرجل الفاقد الوعي، أو ربما أراد أن يختم فعلته ويجر العربة فوقه، وصاحت إيفي قائلة: «وي! قف حيث أنت» وتوقف درامر في الوقت المناسب تمامًا.

وذهب صبي إلى رجلٍ من رجال الشرطة انطلق ليحضر رجال الإسعاف، ولم يستطع طبيب الإسعاف أن يكتشف ما إذا كان فليتمان قد أصيب بكسرٍ في الجمجمة أم ارتجاج بالمخ، وحمله إلى مستشفى جرينبوينت.

وهكذا اقتضى الأمر أن يعاد الجواد والعربة المملوءة بزجاجات اللبن الفارغة إلى الحظيرة، ولم تكن إيفي قد قادت جوادًا قط، ولكن ذلك لم يكن سببًا في أنها لا تستطيع، ولبست معطفًا من معاطف زوجها القديمة ولفَّت وشاحًا حول رأسها، وصعدت إلى المقعد والتقطت العنان وصاحت: «اذهب إلى البيت يا درامر»، وأدار الجواد رأسه إلى الخلف ليصوب إليها نظرة حب، ثم بدأ يخطو في سعادة.

ومن حسن التوفيق أن الجواد يعرف الطريق، فلم تكن إيفي تعرف شيئًا عن مكان الحظيرة، لكنه كان جوادًا ذكيًّا، يتوقف عند كل تقاطع، وينتظر حتى تنظر إيفي في طول الشارع المتقاطع وعرضه، فإذا وجدته خاليًا تقول «هيا يا فتى»، وإذا ما رأت عربةً أخرى قادمة، فإنها تقول «انتظر لحظةً يا فتى»، ووصلا على ذلك النحو إلى الحظيرة دون أن يحدث لهما مكروه، ودخل الجواد في فخرٍ إلى مكانه المعتاد من الصف، ودهش السائقون الآخرون وهم يغسلون عرباتهم حين رأوا امرأة تقوم بدور السائق، وأحدثوا ضجةً واضطرابًا في المكان، حتى إن رئيس الحظيرة جاء مهرولًا، وأخبرته إيفي بما حدث.

وقال الرئيس: توقعت أن يحدث هذا، فإن فليتمان لم يحب الجواد قط، وكذلك كان الجواد، حسنًا! إن علينا أن نستخدم رجلًا آخر.

وسألته إيفي، وقد خشيت أن يفقد زوجها عمله، عما إذا كانت تستطيع أن تتولى عمله أثناء وجوده بالمستشفى، وحاجَّت بأن اللبن يوزع في الظلام، ولن يكتشف الأمر أحد أبدًا، وضحك الرئيس منها، فأنبأته بمبلغ حاجتها إلى الاثنين والعشرين دولارًا التي يتقاضونها في الأسبوع، وأخذت تستعطفه في حرارة، وكانت تبدو صغيرةً جميلةً نشطةً رشيقة حتى سلم بالأمر أخيرًا، وأعطاها قائمة بأسماء الزبائن وأخبرها بأن الصبية سوف يحملون العربة لها، وقال: إن الجواد يعرف الطريق، والعمل لن يكون صعبًا، واقترح أحد السائقين أن تأخذ كلب الحظيرة معها ليصحبها ويحميها من لصوص اللبن، ووافق الرئيس على ذلك، وأخبرها بأن تعود إلى الحظيرة في الثانية صباحًا، وكانت إيفي أول امرأة توزع اللبن في الطريق العام.

وقامت بعملها خير قيام، وأحبها زملاؤها في الحظيرة، وقالوا: إنها كانت في عملها أفضل من فليتمان، وبالرغم من واقعيتها في عملها كانت رقيقة تفيض أنوثة، وأحب الرجال صوتها الخفيض وأسلوبها الهامس في الحديث، وكان الجواد سعيدًا كل السعادة، يتعاون معها ما وسعه ذلك، فيقف من تلقاء نفسه عند كل بيت يوزع عليه اللبن، ولا يستأنف المسير أبدًا، حتى تجلس آمنة على المقعد.

واعتادت أن تأخذه إلى بيتها، وهي تتناول غداءها كما كان فليتمان يفعل، وكان الجو قارس البرد فتناولت دثارًا قديمًا، وألقت به على الجواد حتى لا يصيبه البرد وهو ينتظرها، وكانت تحمل الشوفان الخاص بالجواد إلى الطابق الأعلى، وتسخنه بضع دقائق في الموقد قبل أن تطعمه، واعتقدت أن الشوفان البارد لا يثير «الشهية»، وكان الجواد يستطيب الشوفان الساخن، وبعد أن يلوكه بين أسنانه تناوله نصف تفاحة أو قطعةً من السكر.

ورأت إيفي أن الجو من البرودة بحيث لا يطيق الجواد أن تغسله على قارعة الطريق، فكانت تأخذه إلى الحظيرة لتغسله هناك، ورأت أن الصابون الأصفر قاسٍ عليه، فأحضرت له قطعة من الصابون الناعم ومنشفةً كبيرةً قديمة لتجففه بها، وعرض عليها رجالٌ في الحظيرة أن يغسلوا الجواد والعربة من أجلها، ولكنها أصرت على غسل الجواد بنفسها، وتقاتل رجلان أيهما يغسل لها العربة، وحسمت إيفي الأمر بأن جعلت أحدهما يغسلها يومًا والآخر يومًا.

وكانت تسخن الماء الذي تغسل به درامر على موقد الغاز في مكتب الرئيس، ولم تفكر أبدًا في أن تغسله بالماء البارد، وتعودت أن تغسله بالماء الدافئ والصابون المعطر، وتجففه في عنايةٍ بالمنشفة جزءًا جزءًا، ولم يرتكب الجواد قط فعلًا نابيًا معها وهي تغسله، بل كان ينخر ويصهل في سعادة أثناء غسله، وتترجرج بشرته من النشوة والسعادة حين تحك إيفي المنشفة بجسمه لتجففه، وكان يضع رأسه الكبير على كتفها الصغيرة حتى تجفف ما حول صدره، لم يكن هناك شكٌّ في الأمر، لقد كان الجواد مدلها بحب إيفي.

ورفض الجواد حين شُفي فليتمان وعاد إلى عمله أن يترك الحظيرة وهو على مقعد العربة، واضطروا أن يعطوا فليتمان جوادًا آخر ويعينوا له طريقًا آخر، ولكن درامر رفض أن يخرج مع أي سائقٍ آخر أيضًا، وأوشك الرئيس أن يقرر بيعه حين لاحت له فكرة، وكان من بين السائقين شابٌّ مخنث، في كلامه لثغة، فأقامه على عربة فليتمان، وبدا على درامر الرضا، وقَبِل أن يخرج مع السائق الذي يشبه النساء.

وهكذا قام درامر بواجباته المنتظمة مرةً أخرى، ولكنه في ظهيرة كل يوم يستدير في الشارع الذي تسكن فيه إيفي ويقف أمام بيتها، ولا يعود إلى الحظيرة حتى تنزل إيفي وتعطيه قطعةً من التفاح أو السكر وتربت أنفه وتودعه.

وقالت فرانسي بعد أن سمعت القصة: إنه لجوادٌ مضحك.

وقالت الخالة إيفي: قد يكون جوادًا مضحكًا، ولكنه بلا شك يعرف ما يريد.

٣٢

وبدأت فرانسي تكتب يومياتها عندما بلغت الثالثة عشرة من عمرها، واستهلَّتها بما يأتي:
  • ١٥ ديسمبر: اليوم أستقبل عامي الثالث عشر، ترى ماذا تخبئه لي هذه السنوات، لست أدري!

    ولم تأتِ هذه السنة إلا بالقليل على ما نَتبيَّنه من أن ما سجلته، قد أصبح على فتراتٍ متباعدة كلما أوغلت السنة، وكانت قد تأهبت لأن تبدأ يومياتها؛ لأن بطلات الروايات كن يكتبن يومياتهن ويملأنها بالأفكار الخصيبة التي تفيض بالشجن، وظنت فرانسي أن يومياتها ستكون على ذلك النحو، ولكن ما سجلته فيها كان عاديًّا، ما عدا بعض الملاحظات العاطفية عن الممثل هارولد كلارنس، وكانت قرب نهاية السنة تقلب الصفحات، وتقرأ فقرةً من هنا، وفقرةً من هناك.

  • ٨ يناير: إن لدى جدتي ماري روملي صندوقًا منقوشًا جميلًا، صنعه جدها الأكبر في النمسا منذ أكثر من مائة سنة، وإن لديها أيضًا رداءً أسود، وقميصًا أبيض، وحذاءً بداخله جورب، وكانت تلك هي الملابس التي ستدفن بها؛ لأنها لم ترغب في أن تدفن بالكفن. وقال العم ويلي فليتمان: إنه يرغب في أن تحرق جثته ويبعثر رمادها من فوق تمثال الحرية، وكان يظن أنه سيكون طائرًا في الحياة الأخرى، ويرغب في أن يبدأ بدايةً طيبة، وقالت إيفي إنه طائرٌ بالفعل … هو الوقواق، وأنَّبتني أمي لأنني ضحكت، ترى هل حرق الجثث أفضل من دفنها؟ لست أدري.
  • ١٠ يناير: إن أبي مريضٌ اليوم.
  • ٢١ مارس: سرق نيلي نبات الصفصاف من حديقة ماك كارين وأعطاه لجريتشن هان، وقالت أمي إنه أصغر سنًّا من أن يفكر في البنات طويلًا، وإن الوقت ما زال أمامه كافيًا ليشغل باله بهن.
  • ٢ أبريل: لم يذهب أبي إلى العمل ثلاثة أيام، وإنه يعاني من مرضٍ ما في يديه؛ لأنهما ترتعشان كثيرًا، حتى إنه لا يستطيع أن يمسك شيئًا.
  • ٢٠ أبريل: إن الخالة سيسي تقول إنها ستلد طفلًا، لا أصدق ذلك لأن بطنها من الأمام ليس بارزًا، ولقد سمعتها تقول لأمي إنها تحمله من الخلف، لست أدري؟
  • ٨ مايو: إن أبي مريضٌ اليوم.
  • ٩ مايو: ذهب أبي إلى العمل الليلة، ولكنه عاد إلى البيت يقول إن القوم لا يحتاجون إليه.
  • ١٠ مايو: أبي مريض، لقد تتابع عليه كابوس وراء الآخر في أثناء النهار وأخذ يصرخ، اضطررت إلى إحضار الخالة سيسي.
  • ١٢ مايو: لم يذهب أبي للعمل منذ أكثر من شهر، أراد نيلي أن يستخرج أوراقه ليشتغل ويترك المدرسة، لكن أمي رفضت.
  • ١٥ مايو: اشتغل أبي الليلة، وقال إنه سيتولى الأمور من اليوم، وأنَّب نيلي من أجل استخراجه الأوراق للشغل.
  • ١٧ مايو: عاد أبي إلى البيت مريضًا، وكان بعض الصبية يتبعونه في الشارع ويسخرون منه، إني أكره الصبية.
  • ٢٠ مايو: حصل نيلي على عملٍ لبيع الصحف، إنه لا يدعني أساعده في بيع الصحف.
  • ٢٨ مايو: لم يقرص كارني خدي هذه المرة، أظن أنني كبرت على بيع النفايات.
  • ٣٠ مايو: قالت الآنسة جاردنر إنهم سينشرون موضوع الإنشاء الذي كتبتُه بعنوان: «موسم الشتاء» في المجلة.
  • ٢ يونيو: عاد أبي إلى البيت مريضًا اليوم، ولم نجد مناصًا أنا ونيلي من أن نساعد أمي لنصعد بأبي فوق السلم، كان أبي يبكي.
  • ٤ يونيو: حصلت على درجة جيد في موضوع الإنشاء اليوم، وكان علينا أن نكتب عن «طموحي»، أخطأت في كلمةٍ واحدة صححتْها لي الآنسة جاردنر.
  • ٧ يونيو: جاء بأبي إلى البيت اليوم رجلان، لقد كان مريضًا، وكانت أمي خارج البيت، وضعتُ أبي في الفراش وأعطيته قهوةً صرفًا، وقالت أمي حين عادت إلى البيت إنني أصبت في ذلك.
  • ١٢ يونيو: أعطتني الآنسة تنمور اليوم مقطوعة لشوبير، إن أمي تسبقني، فقد أخذت مقطوعة نجم الليل من أوبرا تانهاوزر، ويقول نيلي إنه يسبقنا نحن الاثنتين، فهو يستطيع أن يعزف مقطوعة ألكسندر من موسيقى الراجتيم دون أن ينظر في العلامات الموسيقية.
  • ٢٠ يونيو: ذهبنا إلى المسرح، ورأينا مسرحية فتاة الغرب الذهبي، وكانت أجمل مسرحية رأيتها، وخاصة طريقة انسياب الدم من السقف.
  • ٢١ يونيو: تغيب أبي عن البيت ليلتَين، ولم نعرف أين كان، وعاد إلى البيت مريضًا.
  • ٢٢ يونيو: قلبت أمي حشيتي اليوم، ووجدتْ يومياتي وقرأتْها، وجعلتني أحذف كلمة مخمور من كل مكان وأكتب بدلًا منها مريض، ومن حسن التوفيق أنني لم أكتب شيئًا يسيء إلى أمي.

    ولو قدر لي أن يكون لي أطفال فسوف لا أقرأ يومياتهم أبدًا؛ لأنني أعتقد أن من حق الطفل أيضًا أن يكون له أشياء خاصة به، وإني لآمل أن تفهم أمي هذه الإشارة إذا تصادف أن وقعت عيناها على يومياتي مرةً أخرى وقرأتْها.

  • ٢٣ يونيو: يقول نيلي إن له فتاة، وتقول أمي إنه أصغر من ذلك، لست أدري.
  • ٢٥ يونيو: حضر الليلة العم ويلي والخالة إيفي وسيسي وزوجها جون، وشرب العم ويلي كثيرًا من الجعة وبكى، وقال إن الجواد الجديد الذي أخذه والذي يدعى بيسي فعل ما هو أسوأ من أن يبول عليه، وأنَّبتني أمي لأنني ضحكت.
  • ٢٧ يونيو: ختمنا اليوم الإنجيل، وحق علينا الآن أن نبدأ تلاوته من جديد وقد قرأنا شكسبير أربع مرات من قبلُ.
  • أول يوليو: إن عدم التسامح …

    ووضعت فرانسي يدها على ما سجلت في ذلك اليوم لتخفي الكلمات التي تلي هذه العبارة، وظنت لحظةً أن موجات الألم سوف تجرفها مرةً أخرى، ولكن هذا الشعور ولَّى، وقلبت الصفحة وقرأت ما سجلته في يومٍ آخر.

  • ٤ يوليو: أحضر الشاويش ماكشين أبي إلى البيت اليوم، ولم يكن أبي قد قُبض عليه كما ظننا أول الأمر، ولكنه كان مريضًا، وأعطى السيد ماكشين لي ولنيلي ربع دولار، ولكن أمي حملتنا على أن نرده إليه.
  • ٥ يوليو: أبي لا يزال مريضًا، ترى أيعود إلى عمله؟ لست أدري!
  • ٦ يوليو: بدأنا نلعب لعبة القطب الشمالي اليوم.
  • ٧ يوليو: لعبة القطب الشمالي.
  • ٨ يوليو: لعبة القطب الشمالي.
  • ٩ يوليو: لعبة القطب الشمالي، لم تأتِ النجدة المتوقعة.
  • ١٠ يوليو: فتحنا الحصالة اليوم، وكان بها ثمانية دولارات وعشرون سنتًا، وقد استحالت بنساتي الذهبية إلى اللون الأسود.
  • ٢٠ يوليو: أنفقنا كل المال الذي كان في الحصالة، أخذت أمي بعض الملابس لتغسلها للسيدة ماكجريتي، وساعدتُ أمي في الكي، لكني أحرقت سروال السيدة ماكجريتي وأحدثت به ثقبًا، ولم تسمح لي أمي بالكي مرةً أخرى.
  • ٢٣ يوليو: حصلت على عملٍ في مطعم هندلر فترة الصيف فحسب، كنت أغسل الأطباق أثناء زحمة الغداء والعشاء، وأستخدم مسحوق الصابون الذي أفرغه من برميل، وفي يوم الإثنين كان يقبل رجل ويجمع ثلاثة براميل من بقايا الدهن، ويعيد برميلًا واحدًا مليئًا بالصابون الناعم يوم الأربعاء، ما من شيءٍ يضيع هباء في هذا العالم، وكنت أحصل على دولارين كل أسبوع علاوة على ما أصيبه من طعام، ولم يكن عملًا شاقًّا ولكنني لا أحب ذلك الصابون.
  • ٢٤ يوليو: قالت أمي إنني سوف أغدو امرأة قبل أن أدرك ذلك، لست أدري.
  • ٢٨ يوليو: إن فلوسي جاديس وفرانك سوف يتزوجان بمجرد أن يحصل فرانك على علاوة، فرانك يقول إن معالجة الرئيس ويلسون للأمور سوف تدخلنا في الحرب قبل أن ندري، ويقول إن الدافع إلى زواجه هو الرغبة في أن تكون له زوجة وأطفال، حتى لا يضطر إلى الذهاب للقتال حين تنشب الحرب، ولكن فلوسي تقول إن هذا الكلام ليس صحيحًا، فإنها حالة حبٍ حقيقي، لست أدري! ولكني أذكر كيف دأبت فلوسي على مطاردته منذ سنوات، حين كان يغسل الجواد.
  • ٢٩ يوليو: إن أبي ليس مريضًا اليوم، وسيذهب ليحصل على عمل، وقال إن أمي يجب أن تتوقف عن غسل ملابس السيدة ماكجريتي، وإن عليَّ أن أترك عملي، ويزيد: إننا سنكون أغنياء، وسوف نذهب جميعًا لنعيش في القرية لست أدري!
  • ١٠ أغسطس: سيسي تقول إنها ستنجب طفلًا في القريب العاجل، لست أدري! فإن بطنها مستوٍ كالفطيرة.
  • ١٧ أغسطس: إن أبي يعمل منذ ثلاثة أسابيع، وإننا نتناول عشاءً ممتازًا.
  • ١٨ أغسطس: أبي مريض.
  • ١٩ أغسطس: إن أبي مريض لأنه فقد عمله، ولقد رفض السيد هندلر أن يعيدني إلى العمل بالمطعم، وقال إنني لا يُعتمد عليَّ.
  • أول سبتمبر: حضرت الخالة إيفي والعم ويلي الليلة، وغنى ويلي أغنية فرانكي وجوني ودس فيها كلماتٍ قبيحة، ووقفت الخالة إيفي على كرسي ولطمته على أنفه، وأنَّبتني أمي لأني ضحكت.
  • ١٠ سبتمبر: بدأت سنتي الأخيرة في المدرسة، وقالت لي الآنسة جاردنر إنني لو واظبت على الحصول على درجة ممتاز في الإنشاء، فإنها قد تسمح لي بأن أكتب مسرحية ليوم التخرج، ولديَّ فكرةٌ رائعةٌ جدًّا، قوامها فتاة تلبس ثوبًا أبيض وشعرها يسترسل على ظهرها وهي ترمز إلى القدر، وتخرج بناتٌ أخريات إلى المسرح، ويقلن ماذا يردن من الحياة، فينبئهن القدر بمصيرهن في الحياة، وفي النهاية تأتي فتاة في رداءٍ أزرق، وتبسط ذراعَيها وتقول: «هل الحياة تستحق أن نعيشها إذن؟» فيجيبها المنشدون قائلين: «أجل!» ولكن المسرحية ستكون كلها بالشعر، وأخبرت أبي عنها ولكن المرض كان قد أثقل عليه فلم يفهمها، مسكينٌ أبي!
  • ١٨ سبتمبر: سألتُ أمي عما إذا كنت أستطيع أن أقصَّ شعري فرفضت، وقالت إن الشعر تاج المرأة، هل كان ذلك يعني أنها تتوقع أن أكون امرأة سريعًا؟ إنني أود ذلك لأني أريد أن أكون سيدة نفسي وأقص شعري حين أريد.
  • ٢٤ سبتمبر: اكتشفتُ الليلة وأنا أستحم أنني أستحيل امرأةً متكملة الأنوثة، لقد آن الأوان.
  • ٢٥ أكتوبر: إنني سوف أسعد حين تمتلئ هذه المفكرة؛ لأنني أصبحت أملُّ الاحتفاظ باليوميات، ما من شيءٍ هام يحدث أبدًا.

    ولم يكن قد بقي من المفكرة إلا صفحةٌ خاليةٌ واحدة. حسنًا، إنها كلما ملأت الصفحة سريعًا انتهى احتفاظها باليوميات سريعًا، وسوف لا تشغل بالها بها من بعدُ، وغمست قلمها في المداد.

  • ٢ نوفمبر: إن الجنس يدخل في حياة كل فرد بلا استثناء، ويكتب الناس مقالات في ذمه، ويدعو القسيس إلى النفور منه، بل إنهم يسنون القوانين ضده، ولكنه يمضي في سبيله غير عابئ، وليس للبنات في المدرسة من حديثٍ إلا الجنس والفتيان، وإنهن شديدات الرغبة في استطلاع أمره واكتشاف كنهه، هل أنا على غرارهن متطلعة إلى الجنس؟

    ودرست العبارة الأخيرة، وعمق الخط الذي يرتسم على الطرف الداخلي لحاجبها الأيمن وحذفت العبارة، وكتبتها مرةً أخرى على النحو التالي: «إني توَّاقةٌ إلى معرفة الجنس.»

٣٣

نعم، كانت لدى الأطفال المراهقين في ويليمسبرج رغبةٌ شديدة في استطلاع أمور الجنس، وكانوا يتحدثون عنه كثيرًا ويصطنعون ألعابًا تُفصح عن هذه النزعة.

ويسود الحيَّ تكتمٌ شديد حول الجنس، ولا يعرف الوالدان حين يسألهما الأطفال في هذا الصدد كيف يجيبان عن ذلك؛ لأن هؤلاء القوم لم يكونوا يعرفون الكلمات الصحيحة التي يستخدمونها، وكان لكل زوجَين كلماتهما الخاصة السريَّة يطلقانها على الأشياء التي يتهامسان بها في الفراش في هدأة الليل، وكان هناك قليلٌ من الأمهات الجريئات اللائي استطعن أن يجهرن بهذه الكلمات ويقلنها لأطفالهن، وكان الأطفال إذا كبروا يعمدون هم أيضًا إلى ابتكار كلمات لا يستطيعون أن يقولوها لأطفالهم بدورهم، وهكذا دواليك.

ولم تكن كاتي نولان هيَّابة لا عقليًّا ولا جسميًّا، فكانت تعالج كل مشكلة ببراعةٍ فائقة، ولم تكن تتطوع بالإدلاء بمعلوماتٍ عن الجنس، ولكنها كانت تجيب حين تسألها فرانسي الأسئلة بأحسن ما تستطيع من البيان، وذات مرة اتفقت فرانسي ونيلي، حين كانا طفلَين صغيرَين، أن يسألا أمهما بعض الأسئلة ووقفا أمامها يومًا، وكانت فرانسي هي المتكلمة.

– أمي: من أين أتينا؟

– لقد وهبكما الله لي.

وكان الأطفال الكاثوليك على استعدادٍ لأن يقبلوا ذلك، ولكن السؤال الثاني كان أوقع.

– كيف وهبنا الله لكِ؟

– لا أستطيع أن أشرح ذلك؛ لأنه يقتضيني أن أستخدم طائفةً من الكلمات الكبيرة التي يعزُّ عليكما فهمها.

– قولي الكلمات الكبيرة، وانظري هل سنفهمها أم لا.

– إذا فهمتماها ما كنتُ خليقة بأن أقولها.

– قوليها في بعض كلمات تؤدي معناها، قولي لنا كيف يأتي الأطفال.

– لا، إنكما أصغر من أن تزنا ذلك، ولو قلت لكما لدرتما هنا وهناك تخبران سائر الأطفال بما تعرفان، فتأتي أمهاتهم إليَّ ويقلن لي: إنك سيدةٌ قذرة، فينشب بيننا العراك.

– إذن خبِّرينا لم تختلف البنات عن الفتيان؟

وفكَّرت الأم لحظة، ثم قالت: الخلاف الجوهري هو أن البنت الصغيرة تجلس حين تذهب إلى دورة المياه، أما الصبي الصغير فيقف.

وقالت فرانسي: ولكني أقف يا أمي حين أشعر بالخوف في دورة المياه المظلمة!

واعترف نيلي الصغير: وأنا أجلس حين …

وقاطعتهما أمهما قائلةً: حسنًا، في كل امرأةٍ شيءٌ من الرجل، وفي كل رجل شيءٌ من المرأة، وانتهت المناقشة عند ذلك الحد؛ لأن رد أمهما كان شديد الإلغاز في نظر الطفلَين، حتى قرَّرا ألَّا يسترسلا في الأمر.

وذهبت فرانسي إلى أمها تخبرها برغبتها في استطلاع الجنس حين بدأت — كما كتبت في يومياتها — تتحول إلى امرأة، وقالت لها كاتي في بساطةٍ وصراحة كلَّ شيء وما كانت تعرفه هي، وكانت كاتي في شرحها لها تستخدم كلماتٍ تعدُّ قبيحة، ولكنها استخدمتها في شجاعةٍ بلا تردد؛ لأنها لم تكن تعرف كلماتٍ أخرى تؤدِّي معناها، ولم يكن أحدٌ أخبرها قط بالأشياء التي قالتها لابنتها، ولم يكن في تلك الأيام كتبٌ ميسورة لأناسٍ مثل كاتي، تستقي منها المعلومات الصحيحة عن الجنس، ولم يكن في شرح كاتي شيء خارج بالرغم من الكلمات الصريحة والعبارات الخالية من التكلف التي كانت تستخدمها.

وكانت فرانسي أسعد حظًّا من معظم أطفال الحيِّ، فقد فهمت كل ما كانت تحتاج إلى معرفته في الوقت الذي كان يجب أن تعرفه، ولم تكن بحاجةٍ أبدًا إلى أن تتسلل في الممرات المظلمة مع البنات الأخريات، وتتبادل معهن الأسرار الآثمة، ولم يضطرها الأمر قط إلى أن تعلم الأمور على نحوٍ مشوَّه.

وإذا كان الجنس الطبيعي سرًّا في الحي، محاطًا بأشد الكتمان، فقد كان الجنس الإجرامي كتابًا مفتوحًا، وكان شيطان الجنس الذي يتسلل في كل أنحاء المدينة الفقيرة المزدحمة المتخمة كابوسًا مرعبًا يجثم على صدور الآباء والأمهات، والظاهر أنه كان في كل حي شيطان من هذا القبيل، وظهر شيطانٌ في ويليمسبرج في ذلك العام الذي بلغت فيه فرانسي الرابعة عشرة من عمرها، وأخذ منذ وقتٍ طويل يتحرَّش بالبنات الصغيرات ويزعجهن، ولم يُقبض عليه قط، بالرغم من أن رجال الشرطة كانوا دائمي البحث عنه، ومن أسباب ذلك أن الآباء حين تقع ابنتهم فريسة له يكتمون السر حتى لا يعرف أحدٌ شيئًا، ويفرق ما بين الطفلة وسائر الأطفال، وينظر إليها كأنما هي شيءٌ معزول، الأمر الذي جعل استئنافها لحياة الطفولة الطبيعية مع أترابها شيئًا مستحيلًا.

وفي يومٍ ما، قُتلت فتاةٌ صغيرة من منطقة فرانسي السكنية، ولم يكن بُد من أن ينكشف الأمر للجميع، وكانت القتيلة طفلةً صغيرة في السابعة من عمرها حسنة السلوك مطيعة، فلما تأخرت عن العودة من المدرسة إلى البيت لم تقلق أمها، وظنَّت أن الطفلة وقفت تلعب هنا أو هناك، لكنهم خرجوا بعد العشاء يبحثون عنها ويسألون زميلاتها، ولم تكن واحدة منهن قد رأت الطفلة منذ خروجها من المدرسة.

وسرت موجةٌ من الخوف في الحي، ونُودي الأطفال لمغادرة الشارع، وحُبسن في البيوت داخل الأبواب المغلقة، وجاء ماكشين ومعه ستةٌ من رجال الشرطة، وبدءوا يفتشون الأسطح ومخازن المؤن.

وعَثر على الطفلة أخيرًا أخوها الفظ الأحمق الذي يبلغ من العمر سبعة عشر عامًا، وكانت جثتها الصغيرة ترقد في عربة من عربات الدُّمَى التي سقطت حشيتها في مخزن للمؤن في بيتٍ من البيوت المجاورة، ولقد أُلقي رداؤها الممزَّق وملابسها الداخلية وحذاؤها وجوربها الأحمر الصغير على كومٍ من الرماد، وسُئل الأخ، وكان مضطربًا يتلجلج في الإجابة، وقبضوا عليه من قبيل الشك، ولم يكن ماكشين غبيًّا، فقد قبض عليه للتعمية حتى لا يجد القاتل ما يريبه، وكان ماكشين يدرك أن القاتل سوف يشعر بالأمان، فيضرب ضربةً أخرى، وفي هذه المرة سيكون رجال الشرطة له بالمرصاد.

وشمَّر الآباء والأمهات عن ساعد العمل، فأخبروا أطفالهم عن الشيطان وعما يأتيه من أفعالٍ بشعة، غير عابئين بتخيُّر الألفاظ المناسبة، وحُذِّرت البنات الصغيرات بألا يأخذن الحلوى من الغرباء، ولا يتكلمن مع رجلٍ غريب، وأخذت الأمهات ينتظرن أطفالهن على البوابات حين تنصرف المدرسة، وهُجرت الشوارع كأنما قاد الزمار الأرقط كل الأطفال إلى جبلٍ بعيد، وعمَّ الفزع والرعب كل أنحاء الحي، واستبد القلق بجوني خوفًا على فرانسي، حتى إنه أحضر إلى البيت غدارة.

وكان لجوني صديق اسمه برت يعمل حارسًا ليليًّا للمصرف القائم بمنعطف الشارع، وكان برت في الأربعين من عمره، متزوجًا من فتاةٍ في نصف عمره، يغار عليها بجنون، ويشك في أنها تتخذ لنفسها عشيقًا بالليل حين يكون في حراسة المصرف، واختمرت الفكرة في رأسه حتى انتهى إلى أنه سوف يستريح لو تحقق ذلك الشك، وكان يؤثر أن ينفطر قلبه بظهور الحقيقة، على أن تتحطم روحه في جحيم الشك، وهكذا يتسلل إلى بيته في أوقاتٍ شاذة أثناء الليل، ويأخذ مكانه في حراسة المصرف صديقه جوني نولان، وكانت بينهما إشاراتٌ معينة، فبرت أثناء الليل حين يعصف به عذاب الشك ويضطر إلى الذهاب إلى بيته، يطلب من الشرطي المكلف بنوبة الحراسة أن يدق جرس نولان ثلاث مرات، فإذا كان جوني بالبيت حين يسمع الإشارة يقفز من الفراش كرجل المطافئ، ويرتدي ملابسه عجلًا ويجري إلى المصرف، كما لو كانت حياته تتوقف على ذلك.

ورقد جوني، بعد أن تسلَّل برت، على أريكته الضيقة، وأحسَّ بالمسدس الصلب من خلال الوسادة الرقيقة، ورجا أن يحاول أحد اللصوص سرقة المصرف حتى يستطيع أن ينقذ المال ويصبح بطلًا، ولكن ساعات الليل التي تولَّى فيها الحراسة مضت جميعًا دون وقوع حادث، بل إنه لم يستمتع أيضًا بنشوة ضبط الحارس لزوجته متلبسةً بالجريمة الوهمية، فقد كانت المرأة دائمًا غارقةٌ في النوم العميق وحدها، حين يتسلل زوجها إلى داخل شقتهما.

وذهب جوني حين سمع قصة اغتصاب الطفلة وقتلها إلى المصرف ليقابل صديقه برت، وسأله عمَّا إذا كانت لديه بندقيةٌ أخرى.

– بكل تأكيد، ولمَ؟

– أريد أن أستعيرها يا برت!

– لماذا يا جوني؟

– إن الرجل الذي قتل البنت الصغيرة في منطقتنا لا يزال طليقًا.

– إني لآمل أن يقبضوا عليه يا جوني، إني متأكدٌ أنهم سيمسكونه.

– إن لي ابنة.

– نعم، نعم، إني أعرف يا جوني.

– لهذا أرغب أن تعيرني بندقية!

– إن ذلك يخالف قانون سوليفان.

– وإن مغادرتك للمصرف في أثناء الحراسة وتركي هنا يخالف قانونًا آخر، فما أدراك؟ ربما أكون لصًّا؟

– أوه حاشا يا جوني!

– إني أدرك أننا إذا خرقنا قانونًا، فلا بأس من أن نخرق قانونًا آخر.

– صدقت، صدقت، سأعيرك غدارة.

وفتح أحد أدراج المكتب وأخرج غدارة.

– والآن سأشرح لك، حينما تريد أن تقتل شخصًا فإنك تصوب نحوه هكذا (وصوب الغدارة نحو جوني) ثم تشد ذلك الزناد.

– نعم إني أفهم، دعني أجربها.

(وصوب جوني الغدارة نحو برت)، وقال برت: مما لا شك فيه أنني أنا نفسي لم أطلق ذلك الشيء الملعون أبدًا.

وقال جوني موضحًا: هذه أول مرة في حياتي أمسك فيها غدارة بيدي.

وقال الحارس في هدوء: احترس إذن، فإنها محشوَّة بالرصاص.

وارتعد جوني ووضع الغدارة جانبًا في عناية، ثم قال: لا أدري يا برت، كان من الممكن أن يقتل أحدنا الآخر.

وتراجع الحارس قائلًا: يا إلهي! إنك لعلى حق.

وقال جوني متفكرًا: إن هزةً واحدة من الإصبع تقتل رجلًا.

– جوني، أتراك تفكر في قتل نفسك؟

– لا، إن الخمر تتكفل بذلك …

وبدأ جوني يضحك، ولكنه توقَّف عن الضحك فجأة، وقال برت حين رحل جوني ومعه الغدارة: وأرجوك أن تنبئني عندما تقبض على المجرم الآثم.

ووعده جوني قائلًا: سأفعل.

– نعم، إلى اللقاء.

– إلى اللقاء يا برت.

وجمع جوني أسرته حوله، وأخذ يشرح ما عرفه عن الغدارة، وحذر فرانسي ونيلي من أن يلمساها، وشرح الأمر على نحوٍ تمثيلي قائلًا: هذه الفوهة الصغيرة تحمل الموت لخمسة أشخاص.

واعتقدت فرانسي أن الغدارة تشبه إصبعًا غريبة ضخمة تشير إلى الموت وتأمره بالمجيء عدوًا، وشعرت بالسعادة حين وضع أبوها الغدارة تحت الوسادة بعيدًا عن الأعين.

وبقيت الغدارة تحت وسادة جوني شهرًا دون أن يمسَّها أحد، ولم تقع أية حادثة اغتصاب للبنات في الحي من بعدُ، وخُيل للقوم أن الشيطان قد ولَّى عنهم، وبدأت أعصاب الأمهات المشدودة ترتخي وتهدأ، لكن القليلات منهن أمثال كاتي دأبن على مراقبة الباب ومدخل البيت، حين يعرفن أن موعد رجوع الأطفال من المدرسة قد حلَّ، وكان من عادة القاتل أن يتربص لضحاياه في مداخل البيوت المظلمة، ووجدت كاتي أن الحرص لن يكلفها شيئًا.

ولما أخلد معظم الناس إلى الطمأنينة والأمان، ضرب الرجل المنحرف ضربةً أخرى.

كانت كاتي في عصر يومٍ من الأيام تنظِّف ردهات البيت الثاني بعيدًا عن بيتها، حين سمعت أصوات الأطفال في الشارع، فعرفت أن المدرسة قد انصرفت، وتساءلت: أمن الضروري أن تعود إلى بيتها وتنتظر فرانسي في مدخل البيت، كما كانت تفعل منذ حادث القتل؟ وكانت فرانسي قد أوشكت على الرابعة عشرة، وبلغت من العمر ما يؤهلها لرعاية نفسها، كما أن القاتل عادةً يهاجم البنات الصغيرات، في سن السادسة أو السابعة، وربما قبض عليه في حيٍّ آخر ووضع في أمان في السجن … ولكن … وترددت قليلًا ثم قررت أن تعود إلى البيت؛ إنها تحتاج إلى قطعةٍ جديدة من الصابون خلال تلك الساعة، وسوف تضرب عصفورَين بحجرٍ واحد إذا ذهبت إلى البيت الآن.

ونظرت في طول الشارع وعرضه وشعرت بالقلق؛ إذ لم ترَ فرانسي وسط الأطفال، ثم تذكرت أن فرانسي تذهب إلى مدرسةٍ بعيدة وترجع متأخرةً بعض الوقت، وقررت كاتي حين وصلت إلى شقتها أن تسخِّن القهوة وتشرب منها فنجانًا، فتكون فرانسي قد وصلت إلى البيت وتهدأ نفسها، وذهبت إلى حجرة النوم لترى هل الغدارة لا تزال في مكانها تحت الوسادة، وكانت بطبيعة الحال هناك، واتهمت نفسها بالبله ببحثها عنها، وشربت القهوة وأخذت قطعة الصابون الأصفر، وتهيأت للعودة إلى عملها.

ووصلت فرانسي إلى بيتها في وقتها المعتاد، وفتحت باب المدخل وحملقت في طول الممر الضيق وعرضه، ولما لم ترَ شيئًا أغلقت الباب الخشبي الثقيل خلفها، فأظلم الممر تمامًا، وسارت في الممر القصير متجهةً إلى السلم، وبينما هي تضع قدمها على أول درجةٍ رأته أمامها …

وخطا إلى الأمام خارجًا من فجوةٍ تحت السلم لها مدخل إلى مخزن المؤن، وسار في هدوء ولكنه كان يثب في خطواته، وهو نحيلٌ ضئيل الجسم يرتدي حلةً داكنةً مهلهلة ليس لها بنيقة، وقميصها مفتوحٌ، وشعره الكث الغزير ينمو على جبينه ويكاد يصل إلى حاجبَيه، وأنفه مقوَّس وفمه رفيع كأنه خطٌ معقوف، ورأت فرانسي بالرغم من غبشة الظلام أن نظرات عينَيه كانت مخضلَّة، وتقدمت خطوةً أخرى، ثم تحجرت قدماها حين رأته أكثر وضوحًا، ولم تقوَ على أن ترفعهما لتخطو الخطوة التالية، وتشبثت يداها بحاجز السلم، وحاولت أن تصرخ وتنادي أمها، لكن حلقها غصٌّ فلم تخرج منه إلا أنفاسها، وكان ما اعتراها أشبه بحلمٍ مفزع، تحاول أن تصرخ لكنها لا تستطيع أن تخرج صوتًا، ولم تستطع أن تتحرك! نعم لم تستطع أن تتحرك! وآلمتها يداها من القبض على حاجز السلم، وها هو ذا الرجل يتجه الآن إليها وهي لا تستطيع أن تجري! نعم لا تستطيع أن تجري! وقالت مبتهلة: يا إلهي! هلا أقبل أحدٌ من السكان فأنقذني!

وفي تلك اللحظة كانت كاتي تهبط السلم في هدوء، وفي يدها قطعة الصابون الأصفر، ونظرت إلى أسفل حين وصلت إلى الدرجة العليا من آخر قلبة في السلم، ورأت الرجل متجهًا إلى فرانسي، وأبصرت فرانسي متجمدةً على حاجز السلم وقد شُلَّت حركتها، ولم تصدر كاتي أي صوت، ولم يرها أحدٌ منهما، واستدارت في هدوءٍ وجرت صاعدةً قلبة السلم إلى شقتها، وكانت يداها ثابتتَين حين أخذت المفتاح من تحت الحصيرة وفتحت الباب، وقضت بعض اللحظات الثمينة غير واعيةٍ تمامًا بما تفعل، وهي تضع قطعة الصابون الأصفر على غطاء حوض الغسيل، وأخذت الغدارة من تحت الوسادة ووضعتها تحت «مريلتها» وهي مصوبة، وارتعشت يدها في تلك اللحظة، فوضعت يدها الأخرى تحت «مريلتها»، وأسندت الغدارة بكلتا يديها، وجرت هابطة السلم وهي تحمل الغدارة على هذا النحو.

ووصل القاتل إلى أسفل السلم ولف حوله، ثم قفز الدرجتين وألقى ذراعه في حركةٍ سريعة كالهر حول رقبة فرانسي، وضغط براحته على فمها ليحول بينها وبين الصراخ، ووضع ذراعه الأخرى حول خصرها وحاول أن يخلص يديها من حاجز السلم.

وسمع صوت، فنظرت فرانسي إلى أعلى ورأت أمها تجري هابطة تلك القلبة الأخيرة من السلم، وكانت كاتي تجري وهي تتعثر، وقد عجزت عن أن تحتفظ بتوازنها كاملًا؛ لأن يديها الاثنتين كانتا تحت «المريلة» قابضتَين على الغدارة، ورآها الرجل، ولم يستطع أن يتبين أنها تحمل غدارة، وأرخى قبضته في ترددٍ وتراجع إلى الوراء هابطًا الدرجتين، شاخصًا بعينيه المخضلَّتَين إلى كاتي، ووقفت فرانسي ويدها لا تزال تمسك بحاجز السلم في شدة، ولا تستطيع أن تفتح أصابع يدها، وهبط الرجل الدرجتين وأسند ظهره إلى الحائط، وبدأ يزحف متجهًا إلى باب مخزن المؤن، وتوقفت كاتي وركعت على درجةٍ من درجات السلم، ودفعت «مريلتها» بما تحتها بين عمودي الحاجز وحملقت فيه ثم شدت الزناد.

ودوى صوت انفجارٍ شديد، وانبعثت رائحة شياط الثوب من الثقب الذي احترق في «مريلة» كاتي، وانقلبت شفة الرجل المنحرف لتكشف عن أسنانٍ قذرةٍ متكسرة، ووضع يديه على معدته وسقط على الأرض، وابتعدت يداه عن جسمه وهو يخبط الأرض، وسال الدم فغطَّى جسمه، وامتلأ الممر الضيق برائحة الدخان.

وانطلقت صرخات النساء، ودوى صوت الأبواب وهي تفتح بشدة، ووثبت الأقدام تجري في الممرات، وبدأ الناس في الشوارع يندفعون كالسيل إلى الردهة، وازدحم مدخل الباب في لحظةٍ بالكتل البشرية، حتى استحال على أي شخصٍ أن يدخل أو يخرج.

وأمسكت كاتي بيد فرانسي وحاولت أن تجرَّها لتصعد بها فوق السلم، ولكن يد الطفلة تجمدت على العمود، ولم تستطع أن تفتح أصابعها، وضربت كاتي حين يئست من فتح أصابعها معصم فرانسي بطرف الغدارة الغليظ، فارتخت عضلات الأصابع المتشنجة في النهاية، وجرَّت كاتي فرانسي فوق درجات السلم وفي ردهات الشقق، وظلت تلقى النساء خارجات من شققهن، وهن يصرخن قائلات: ماذا حدث؟ ماذا حدث؟

وقالت لهن كاتي: إن كل شيءٍ على ما يرام الآن، إن كل شيء على ما يرام الآن!

وظلت فرانسي تتعثَّر وتسقط على ركبتها، فاضطرت كاتي أن تجرها على ركبتها طول الردهة الأخيرة، وأدخلتها الشقة، ووضعتها على الأريكة في المطبخ، ثم أغلقت الباب بالسلسلة، وبينما هي تضع الغدارة بعنايةٍ بجوار قطعة الصابون الأصفر، لمست يداها مصادفةً فوهة الغدارة، فارتاعت حين وجدتها ساخنة، ولم تكن كاتي تعرف شيئًا عن الغدارات، ولم تكن أطلقت غدارة من قبلُ، فاعتقدت أن السخونة قد تجعلها تنطلق من تلقاء نفسها، ففتحت غطاء حوض الغسيل وألقت الغدارة في الماء، حيث كانت بعض الملابس القذرة قد نقعت، وألقت قطعة الصابون وراءها، وقد ارتبط في ذهنها وجود قطعة الصابون بالحادث كله، وذهبت إلى فرانسي وقالت: هل أصابك سوء يا فرانسي؟

وقالت وهي تئن: لا يا أمي، ولكن جسمه لامس جسمي.

ودق الناس الباب يريدون أن يعرفوا ماذا حدث، وتجاهلتهم كاتي وتركت الباب مغلقًا، وأعطت فرانسي قدحًا من القهوة الصرف المغلية لتشربه، ثم أخذت تذرع الحجرة جيئةً وذهابًا، وأصبحت ترتعد، فقد كانت لا تدري ماذا تفعل بعد ذلك.

وكان نيلي يتسكع في الشارع حين دوَّى صوت الطلقة، فشقَّ طريقه إلى مدخل البيت أيضًا، حين رأى الناس يتزاحمون عليه وصعد السلم ونظر من أعلى إلى أسفل، وكان الرجل المنحرف قد تكوَّم حيث سقط، بعد أن مزقت النساء المتزاحمات سرواله عن جسمه، وداس فوق لحمه كل من استطاع أن يقترب منه وهرسه بكعبه، وكان البعض الآخر يرفسونه ويبصقون عليه، لكن الجميع انهالوا عليه بالسباب البذيء صارخين، وسمع نيلي اسم أخته يتردد على الأفواه: فرانسي نولان.

– أجل، فرانسي نولان.

– أواثقٌ أنت؟ فرانسي نولان؟

– نعم، لقد رأيت بعيني.

– ذهبت أمها و…

– فرانسي نولان؟

وسمع صوت ناقوس عربة الإسعاف، وظن نيلي أن فرانسي قد قتلت، فقفز يقطع درجات السلم جريًا وهو ينشج باكيًا، ودق الباب صارخًا: دعيني أدخل يا أمي! دعيني أدخل!

وفتحت كاتي له الباب ليدخل، وأخذ يصرخ بصوتٍ عالٍ حين رأى فرانسي نائمةً على الأريكة، وبدأت فرانسي تصرخ أيضًا.

وصاحت كاتي: لا تصرخا! لا تصرخا!

وأخذت تهزُّ نيلي، حتى لم يبقَ فيه جهد للنشيج: امض مسرعًا وأحضر أباك، ابحث عنه في كل مكانٍ حتى تجده.

ووجد نيلي أباه في مشرب ماكجريتي، وكان جوني على وشك أن يتهيأ ليشرب الخمر في تمهلٍ طوال فترة العصر الطويلة، وألقى كأسه حين سمع قصة نيلي وانطلق يجري معه، ولم يستطيعا دخول البيت، فقد كانت عربة الإسعاف تقف أمام الباب، وأربعةٌ من رجال الشرطة يشقُّون طريقهم بصعوبةٍ وسط الجمهور، ليفسحوا طريقًا يدخل منه طبيب الإسعاف.

ودخل جوني ونيلي من باب مخزن المؤن المجاور للفناء، وساعد كلٌّ منهما الآخر ليتسلق السور فأصبحا في فناء بيتهما، وصعدا فوق سلم الطوارئ، وصرخت كاتي حين رأت قبعة جوني الدربي تبرز من النافذة، وجرت في البيت مذعورة تبحث عن الغدارة، لكنها لحسن حظ جوني نسيت أين ألقت بها.

وجرى جوني إلى فرانسي، ورفعها عاليًا بين ذراعَيه بالرغم من كبرها، كما لو أنها طفلة صغيرة، وأخذ يهزها رواحًا وجيئة، ثم طلب منها أن تذهب وتنام، ولكن فرانسي ظلت تهذي، وهو يحاول أن يهدئ من روعها.

وسأل جوني: هل نالها سوء؟

وقالت كاتي عابسةً: لا، أنا التي نلته.

– هل أطلقتِ عليه الرصاص من الغدارة؟

– وبأي شيءٍ سواها كنت أفعل ذلك؟

وكشفت له عن الثقب الذي في «مريلتها».

– هل صوبت عليه جيدًا؟

– فعلتُ خير ما في وسعي.

– إنه شيءٌ سيئ جدًّا أن يحدث لها ذلك، إنها من النوع الذي لا ينسى، وقد لا تتزوج أبدًا حين تتذكر أن هذا الرجل الدنس قد لامس جسمها.

ووضع جوني فرانسي ثانية على الأريكة، وأتى بحامض الكربوليك، ومسَّ جسم فرانسي بالحامض المركَّز القوي، ورحبت فرانسي بالألم الحارق الذي أصابها به الحامض، وقد شعرت أن الدنس الذي حلَّ بساقها من لمسة الرجل قد طهرته النار.

ودق شخصٌ على الباب، فظلوا صامتين لا يردون، ورغبوا عن دخول الناس إلى بيتهم في ذلك الوقت، وصاح صوت أيرلندي قوي قائلًا: افتحوا الباب. إننا رجال القانون.

وفتحت كاتي البيت، ودخل شرطي يتبعه طبيب الإسعاف الباطني يحمل حقيبة، وأشار الشرطي إلى فرانسي: أهذه هي الطفلة التي حاول أن ينالها؟

– نعم.

– إن الطبيب سيفحصها طبيًّا.

واعترضت كاتي: أنا لا أسمح بذلك.

وأجاب في هدوءٍ: إنه القانون.

وأخذت كاتي والطبيب فرانسي إلى حجرة النوم، حيث اضطرت الطفلة المذعورة أن تستسلم للفحص المهين، وقام الطبيب المرح الرشيق بفحصٍ دقيقٍ سريع، ثم اعتدل وبدأ يعيد آلاته إلى الحقيبة، وقال: إنها على ما يرام؛ ذلك أنه لم يقربها قط.

وأخذ معصمها الوارم في يده، وقال: كيف حدث ذلك؟

وشرحت كاتي قائلة: إنني اضطررت إلى أن أضربها بالغدارة لأحملها على إرخاء قبضتها من حول عمود الحاجز.

ولاحظ ركبتها المتقرحة.

– وما هذا؟

– لقد اضطررت إلى أن أجرها على ركبتها طول الردهة.

ثم رأى الحرق الملتهب فوق كعبها مباشرة.

– وما هذا أيضًا؟

– إن والدها غسل هذا الموضع الذي لمسه الرجل بحامض الكربوليك.

وانفجر الطبيب قائلًا: يا إلهي! أحاولت أن تصيبها بحرقٍ من الدرجة الثالثة!

وفتح الحقيبة مرةً أخرى، ووضع محلولًا مبرِّدًا على الحرق، وربطه برباطٍ نظيف، وقال ثانيةً: يا إلهي! لقد صنعتما بها أنتما الاثنان أكثر مما فعله المجرم.

وسوَّى رداء فرانسي وربت خدها في رفقٍ، وقال: سوف تكونين على ما يرام يا فتاتي الصغيرة، سأعطيك شيئًا يجعلك تنامين، وحين تستيقظين تذكري أنك رأيت حلمًا مزعجًا فحسب، أجل لم يكن الأمر كله سوى حلمٍ مزعج، أسمعت؟

وقالت فرانسي في امتنان: نعم يا سيدي.

ورأت مرةً أخرى الإبرة الحادة، وتذكرت حدثًا وقع منذ وقتٍ بعيد فقلقت! ترى هل كانت ذراعها نظيفة، هل سيقول …

وقال وهو يخرج الإبرة: إنها فتاةٌ شجاعة.

وفكرت فرانسي في شرود: غريبة! إنه في صفِّي!

واستغرقت في النوم مباشرة بعد أن حُقنت تحت جلدها.

وخرج الطبيب وكاتي إلى المطبخ، وجلس جوني والشرطي إلى المائدة، وكان الشرطي يمسك بجزء من قلم بين أصابعه الكبيرة، ويدون في أسًى ملاحظاتٍ مقتضبة في دفترٍ صغير، وسأل الشرطي: هل الطفلة على ما يرام؟

وقال الطبيب له: إنها بخير، وكل ما في الأمر أنها تعاني من الصدمة والالتهاب، اللذين أصابها بهما أبواها.

وغمز بعينه إلى الشرطي، وقال لكاتي: تذكري حين تستيقظ أن تقولي لها إنها رأت حلمًا سيئًا، لا تتحدثي عن الأمر بشيءٍ غير ذلك.

وسأل جوني: كم تطلب أيها الطبيب؟

– لا شيء يا ماك، إن البلدية هي التي تتكفل بذلك.

وهمس جوني: أشكرك!

ولاحظ الطبيب يدَيْ جوني المرتعشتَين، فجذب زجاجةً من جيب خاصرته، ودفع بها إلى جوني: خذها.

ونظر جوني إليه، وأصرَّ الطبيب قائلًا: هيا اشرب يا ماك!

وجرع جوني من الزجاجة وهو يشكره في امتنانٍ جرعةً كبيرة، وأعطى الطبيب الزجاجة لكاتي: أنت أيضًا أيتها السيدة يبدو أنك في حاجةٍ إلى شيءٍ منها.

وشربت كاتي جرعةً كبيرة، وأفصح الشرطي قائلًا: ماذا تظنيني؟ يتيمًا؟

ولم يبقَ بالزجاجة إلا القليل حين أعاده الشرطي إلى الطبيب، وتنهد الطبيب وأفرغها في جوفه، وتنهَّد الشرطي أيضًا والتفت إلى جوني: وبعدُ، أين تضع الغدارة؟

– تحت وسادتي.

– أحضرها، إن عليَّ أن آخذها إلى دار الشرطة.

وذهبت كاتي إلى حجرة النوم لتنظر تحت الوسادة، ونسيت كيف تخلصت من الغدارة، وعادت والقلق يرتسم على وجهها: عجبًا! إنها ليست هناك!

وضحك الشرطي: هذا شيءٌ طبيعي، إنكِ أخذتِها لتقتلي الوغد.

ومرَّ وقتٌ طويل حتى تذكرت كاتي أنها ألقتها في حوض الغسيل، فذهبت وانتشلتها من الماء، وجففها الشرطي وأخرج منها الرصاص وسأل جوني سؤالًا: هل لديك ترخيص بهذه الغدارة يا ماك؟

– لا.

– هذا يخالف القانون.

– إنها ليست غدارتي.

– من أعطاها لك؟

– لا … لا أحد.

ولم يكن جوني يريد أن يوقع الحارس في المتاعب.

– كيف حصلت عليها إذن؟

– وجدتها … أجل وجدتها قرب البالوعة.

– وقد عمِّرت وشحمت جميعًا.

– هذا هو الحق.

– أهذه هي قصتك؟ أليست لديك أقوالٌ أخرى؟

– كلا هذه هي قصتي وليست لديَّ أقوالٌ أخرى.

– هذا لا بأس به، بالنسبة لي يا ماك، ولكن حاول أن تثبت على هذه القصة.

وصاح سائق عربة الإسعاف من مدخل البيت، بأنه عاد بعد أن ذهب بالرجل إلى المستشفى، واستعد الطبيب للرحيل.

وسألت كاتي: المستشفى؟ أنا لم أقتله إذن؟

وقال الطبيب: ليس تمامًا، وسوف نجعله يقف على قدمَيه حتى يستطيع أن يسير إلى الكرسي الكهربائي بنفسه.

وقالت كاتي: أنا آسفة، لقد قصدت أن أقتله.

وقال الشرطي: إنني حصلت على أقواله قبل أن يذهب إلى المستشفى، واعترف أنه هو الذي قتل تلك الطفلة الصغيرة في أسفل العمارة، وأنه مسئول عن فعلتَين أخريين أيضًا، إنني حصلت على أقواله وتوقيعه هو والشهود.

وربت جيبه قائلًا: لن أعجب إذا نلتُ ترقيةً على ذلك حين يسمع بها المأمور.

وقالت كاتي في اكتئاب: أرجو ذلك، أرجو أن ينال شخص بعض الخير مما حدث.

وكان الأب في البيت حين استيقظت فرانسي في صباح اليوم التالي، وقال لها إن الأمر كله كان حلمًا، وبدا لها الحادث فعلًا بمرور الأيام كأنه حلمٌ، ولم يترك صورًا قبيحة في ذاكرتها، وطمس الرعب الذي أصاب جسمها حسَّها وشعورها، ولم يستغرق الفزع الذي عانته على السلم إلا ثلاث دقائق لكنه كان بمثابة المخدر لأعصابها، ولم تكن الأحداث التي تبعته واضحةً في عقلها بسبب المهدئ الذي لم تتعوده، بل إن القضية التي عقدت في المحكمة حيث ذهبت لتدلي بقصتها، بدت كأنها جزءٌ من مسرحيةٍ خيالية لعبت فيها دورًا قصيرًا.

ورُفعت قضية في المحكمة، لكنهم أخبروا كاتي من قبلُ أنها لم تكن سوى إجراءٍ شكلي، وتذكرت فرانسي القليل عنها، اللهم إلا أنها حكت قصتها، وكذلك فعلت كاتي، ولم يكن الأمر يحتاج إلا لكلماتٍ قليلة.

وأدت فرانسي الشهادة قائلة: كنت عائدةً إلى البيت من المدرسة، وحينما دخلت إلى الردهة، ظهر هذا الرجل وأمسكني قبل أن أصرخ، وبينما كان يحاول أن يجرني من فوق السلم هبطت أمي.

وقالت كاتي: كنت أهبط السلم حين رأيته يجر ابنتي، فجريت صاعدةً وأتيت بالغدارة (ولم يستغرق ذلك وقتًا طويلًا)، وجريت هابطة السلم وأطلقت عليه الرصاص، وهو يحاول أن يتسلل إلى مخزن المؤن.

وتساءلت فرانسي: ترى أيقبضون على أمها لأنها أطلقت الرصاص على رجل؟ ولكن لم يحدث ذلك، وانتهت القضية بأن صافح القاضي أمها، وصافحها هي أيضًا.

وحدث شيءٌ طريف في تناول الصحف للحادث، فقد حصل على حقائق القصة مخبرٌ صحفيٌّ سكِّير، وهو يقوم كعادته كل ليلة باتصالاته بمراكز الشرطة ليستقي الأخبار الواردة في دفتر الأحوال، ولكنه خلط بين اسم نولان واسم الشرطي الذي تولى الحادث، ونشر نصف عمود في صحيفة بروكلين، قال فيه: إن السيدة أوليري من أهل ويليمسبرج أطلقت الرصاص على رجلٍ كان يتعسس في ردهة بيتها، وفي اليوم التالي خصصت صحيفتان من صحف نيويورك مساحة من بضعة أسطر، روت فيها أن السيدة أوليري من ويليمسبرج قد أطلق عليها الرصاص رجلٌ كان يتعسس في ردهة بيتها.

وانطوى الحادث كله أخيرًا في زوايا النسيان، ولعبت كاتي دور البطلة إلى حينٍ في الحي، ولكن مرت الأيام، ونسي أهل الحي الرجل القاتل المنحرف، ولم يتذكروا سوى أن كاتي نولان أطلقت الرصاص على رجل، وكانوا حين يتكلمون عنها يقولون إنها ليست من النساء اللائي يمكن للمرء أن يدخل في عراكٍ معهن، فإنها خليقةٌ بأن تطلق الرصاص على شخصٍ بمجرد أن تنظر إليه.

ولم تختفِ قط الندبة التي أحدثها حامض الكربوليك في ساق فرانسي، ولكنها أخذت تتضاءل حتى أصبحت في حجم قطعة العشرة السنتات، واعتادتها فرانسي بمرور الوقت، وقلما كانت تلحظها بعد أن اشتد عودها.

أما جوني، فقد غرم خمسة دولارات لمخالفته قانون سوليفان وإحرازه غدارة دون ترخيص، ثم وقع المحظور! لقد هربت زوجة الحارس أخيرًا مع رجلٍ إيطالي يكاد يقاربها في العمر.

وجاء الشاويش ماكشين بعد بضعة أيام ليسأل كاتي، ورآها تحمل صفيحةً من القمامة لتلقي بها عند المنعطف فتحرك قلبه شفقةً عليها، وساعدها في حمل الصفيحة فشكرته كاتي وهي تشخص إليه، وتذكرت أنها رأته مرةً في رحلةٍ ماتي ماهوني يوم سأل فرانسي هل كاتي هي أمها، وكانت رأته مرةً أخرى حين أحضر جوني إلى البيت في اليوم الذي لم يستطع فيه الوصول إلى البيت وحده، وسمعت كاتي أن زوجة ماكشين كانت حينذاك نزيلة إحدى المصحَّات التي يُعزل بها مرضى السل غير القابلين للشفاء، ولم يتوقع الناس لها حياةً طويلة، وتساءلت كاتي: «ترى أيتزوج مرةً أخرى بعدُ؟» وأجابت عن سؤالها: «سيفعل بلا شك، إنه رجلٌ وسيمٌ مستقيم، له مركزه؛ وسوف تختطفه امراة من النساء.» وخلع قبعته وهو يحدثها: إني بالأصالة عن نفسي وعن رجال مركز الشرطة يا سيدة نولان نشكرك على مساعدتك لنا في القبض على القاتل.

وقالت كاتي الكلمة التقليدية: مرحبًا بك.

– وإن الرجال يرسلون لكِ هذه المكافأة ليظهروا تقديرهم لك.

ومدَّ لها يده بمظروفٍ، وسألت: أهو مال؟

– نعم!

– احتفظ به!

– سوف تحتاجين إليه بلا شك، فإن رجلك لا ينتظم في العمل وطفليك يحتاجان إلى ما يصلح أحوالهما.

– إن هذا ليس من شأنك أيها الشاويش ماكشين، وإنك لترى أنني أجهد نفسي في العمل، ونحن لا نريد شيئًا من أحد.

– كما تشائين.

وأعاد المظروف إلى جيبه، ونظر إليها طول الوقت نظرةً ثابتة، وقال بينه وبين نفسه: هذه امرأةٌ ممشوقة القوام، لها وجهٌ أبيضُ جميل، وشعرٌ أسودُ مجعد، ولكنها أوتيت من الشجاعة والعزة قدر ست نساء.

وواصل أفكاره: وأنا رجلٌ في منتصف عمري في الخامسة والأربعين وهي لم تتجاوز طور الشباب (وكانت كاتي قد بلغت الحادية والثلاثين، ولكنها تبدو أصغر من سنها كثيرا)، ولقد حالفنا نحن الاثنين الحظ العاثر في زواجنا.

وكان ماكشين يعلم كل شيء عن جوني، ويعلم أنه لن يعيش طويلًا إذا استمرت حياته على ما هي عليه، ولم يحمل لجوني إلا الشفقة، ولا لزوجته مولي إلا العطف، وهو ليس خليقًا بأن يضر واحدًا منهما كما أنه لم يخن زوجته المريضة قط، وسأل نفسه: ولكن هل الأمل الذي يراودني يصيب بالضر أحدهما؟ سوف أنتظر بلا شك … ترى كم سنةً سأنتظر؟ سنتين؟ خمسًا؟ آه لا بأس؟ إنني انتظرت وقتًا طويلًا دون أملٍ في السعادة، ولا شك أنني أستطيع أن أمدَّ في حبال صبري بعض الشيء.

وشكرها مرةً أخرى وودعها في شيءٍ من التكلف، وفكر وهو يمسك يدها مصافحًا قائلًا بينه وبين نفسه: لتصبح زوجتي في يومٍ ما إن شاء الله وشاءت هي.

ولم تستطع كاتي أن تعرف الأفكار التي تراوده (ترى أكانت تستطيع؟) … ربما … لأن شيئًا دفعها إلى أن تناديه قائلة: آمل أن تنال في المستقبل من السعادة ما أنت جديرٌ به أيها الشاويش ماكشين.

٣٤

وتساءلت فرانسي حين سمعت خالتها سيسي تقول لأمها إنها ستحصل على طفل: لماذا لم تقل سيسي إنها ستنجب طفلًا، شأنها شأن جميع النساء؟ وتبينت أن هناك سببًا دعا سيسي إلى أن تقول إنها ستحصل على طفلٍ بدلًا من أن تنجبه.

وسيسي تزوجت ثلاثة رجال، وأضحت تمتلك عشرة شواهد قبور صغيرة في مكانٍ صغير من مقبرة القديس جون في سايبريس هيلز، وكُتب على كل شاهد تاريخ الوفاة وهو نفسه تاريخ الميلاد، وكانت سيسي قد بلغت الخامسة والثلاثين حينذاك، واستبدت بها رغبةٌ يائسة في أن يكون لها طفل، وتكلم جوني وكاتي معًا عن ذلك الأمر كثيرًا، وخشيت كاتي أن تخطف سيسي طفلًا في يومٍ ما.

وأرادت سيسي أن تتبنى طفلًا، لكن زوجها جون رفض قائلًا في عبارته المعهودة: لن أعول لقيطًا من صلب رجلٍ آخر! هل فهمتِ؟

وسألته سيسي في مداهنة: ألا تحب الأطفال يا حبيبي؟

وأجابها قائلًا وهو يعيب نفسه دون قصدٍ: أحب الأطفال بلا شك، ولكن يجب أن يكونوا أطفالي أنا، وليسوا أطفال رجلٍ آخر.

وكان جون في معظم الأحوال عجينةً لينة في يد سيسي، ولكنه في ذلك الأمر بالذات يرفض أن ينساق في طريقها، ويصر ُّدائمًا على أنه لو أصبح لهما طفلٌ، فلا بد أن يكون ابنه هو، وليس ابن رجلٍ آخر، وعلمت سيسي أنه يعني ما يقول، بل إنها كانت تُكنُّ له نوعًا من الاحترام من أجل موقفه ولكنها كانت مضطرةً إلى أن يكون لها طفلُ يعيش.

واكتشفت سيسي بمحض المصادفة أن فتاةً جميلة في السادسة عشرة من عمرها، تعيش في ماسبيث قد تورطت من رجلٍ متزوج حملت منه، وحبسها أهلها، وهم من أهل صقلية جاءوا أخيرًا من العالم القديم، في حجرةٍ مظلمة حتى لا يتسنى للجيران أن يقع بصرهم على عارها، وهو يتكشف يومًا بعد يوم، وتركها أبوها تعيش على طعامٍ مكون من الخبز والماء فحسب، وكانت له نظرية في أن ذلك خليقٌ بأن يضعفها؛ فتموت هي وطفلها ساعة الوضع، ولم يترك الأب مالًا بالبيت حين يخرج إلى عمله في الصباح، حتى لا تطعم الأم الحنون ابنتها لوسيا في غيابه، وكان يحضر كل مساء حين يعود إلى البيت حقيبةً مليئة بالأطعمة، ويحرص على ألا يتسرب شيء من الطعام ويدخر للفتاة، وكان يعطي الفتاة بعد أن تفرغ الأسرة من طعامها نصيبها اليومي المقرر، وهو نصف رغيف من الخبز وإبريق ماء.

وصُدمت سيسي حين سمعت بهذا التجويع وتلك القسوة ودبرت أمرًا، وظنت إذ رأت ذلك منهم أن الأسرة سوف ترحب بالتخلص من الطفل عند ولادته، وقررت أن ترى هؤلاء الناس، فإذا بدت عليهم أمارات الصحة والعافية، فسوف تعرض عليهم أن تأخذ الطفل.

ورفضت الأم أن تسمح لها بدخول البيت حين مضت لزيارتهم، وعادت إليها سيسي في اليوم التالي، وقد ثبتت شارةً على معطفها، وطرقت الباب وأشارت إلى الشارة حين انفرج الباب عن شقٍ ضيق، وطلبت الدخول في صرامة، وسمحت لها الأم المرتاعة بالدخول، وظنت أنها من إدارة الهجرة، ولم تكن الأم تعرف القراءة ولا الكتابة، وإلا لقرأت كلمات الشارة التي تقول: «مفتش الدواجن» وبدأت سيسي الهجوم، وانتاب الفتاةَ الحامل شعورٌ بالرعب والتحدي، وبدت أيضًا نحيلة جدًّا من جرَّاء الحرمان من الأكل، وهددت سيسي أمَّ الفتاة بالقبض عليها إذا لم تُحسن معاملتها، وتكلمت الأم بلغةٍ إنجليزيةٍ ركيكة والدموع تنهمر من عينيها عن العار الذي سيلحق بهم، وما يفكر فيه الأب من تجويع الفتاة وجنينها حتى يدركهما الموت، وتكلمت سيسي مع الأم وابنتها لوسيا طول النهار، وعمدت في معظم كلامها إلى التمثيل الصامت، واستطاعت سيسي في النهاية أن تفهمها أنها مستعدة لتأخذ الطفل منهما فور ولادته، وغمرت الأم، بعد أن فهمت أخيرًا، يد سيسي بقبلات الشكر والامتنان، وأصبحت سيسي منذ ذلك اليوم صديقة الأسرة تحبها أشد الحب وتثق بها كل الثقة.

ونظفت سيسي شقتها بعد أن خرج جوني إلى عمله في الصباح، وطهت قدرًا من الطعام للوسيا، وأخذته معها إلى البيت الإيطالي وأطعمت لوسيا جيدًا بطعامٍ يجمع بين طريقة الأيرلنديين والألمان، وكانت لها نظرية بأن الطفل إذا امتصَّ مثل هذا الطعام قبل الولادة، فسوف يشبه الإيطاليين شبهًا كبيرًا.

وعنيت سيسي بلوسيا، وأخذتها معها إلى المتنزه وجعلتها تجلس في الشمس، وكانت سيسي خلال صداقتهما الغريبة تتفانى من أجل الفتاة، وتقوم معها بدور الرفيق المرح، وأحبت لوسيا سيسي حتى العبادة؛ فقد كانت هي الإنسانة الوحيدة التي عاملتها بحنانٍ في ذلك العالم الجديد، وأحبت الأسرة جميعًا سيسي (فيما عدا الأب الذي لم يعلم بوجودها)، واشتركت الأم والأطفال الآخرون فرحين في مؤامرةٍ على الأب ليظل جاهلًا بالأمر، فكانوا يحبسون لوسيا في حجرتها المظلمة حين يسمعون وقع قدمَي الأب على السلم.

لم يستطيع أفراد الأسرة أن يتكلموا الإنجليزية جيدًا، ولم تكن سيسي تعرف اللغة الإيطالية، ولكنهم بمرور الشهور تعلموا بعض الإنجليزية منها، وتعلمت هي منهم بعض الإيطالية، فاستطاعوا أن يتبادلوا الحديث، ولم تذكر سيسي اسمها قط فنادوها باسم تمثال الحرية، تيمُّنًا باسم السيدة التي تحمل المشعل، وهي أول ما يراه القادم إلى أمريكا.

وغمرت سيسي بعنايتها لوسيا وطفلها المرتقب والأسرة جميعًا، وأعلنت سيسي لأصدقائها وأسرتها حين استقرت الأمور واتفقت على كل شيء، أنها حاملٌ بطفلٍ آخر، ولم يحفل أحدٌ بالأمر؛ فقد كانت سيسي تحمل دائمًا.

وعثرت على قابلةٍ مغمورة، ودفعت لها مقدمًا أتعاب الولادة وأعطتها ورقةً كانت قد طلبت من كاتي أن توقِّع عليها باسمها وباسم زوجها جون واسم سيسي قبل الزواج، وقالت للقابلة إنها يجب أن تقدم الورقة إلى مكتب الصحة بعد الولادة مباشرة، واعتقدت القابلة الجاهلة التي لم تعرف الإيطالية (وقد تأكدت سيسي من ذلك حين استأجرتها) أن الأسماء التي أعطيت لها كانت أسماء الأم والأب، ورغبت سيسي في أن تكون شهادة الميلاد قانونية.

وكانت سيسي قد أخذت الأمر مأخذ الواقع الصرف في شأن حملها نيابة عن لوسيا، لدرجة أنها تخيلت أنها تشعر بالغثيان في صباح الأسابيع الأولى، وحينما أعلنت لوسيا أنها شعرت بحركة الجنين، أخبرت سيسي زوجها أنها شعرت بحركة الجنين.

وذهبت سيسي إلى بيتها ونامت في فراشها في عصر اليوم الذي بدأت تشعر فيه لوسيا بآلام المخاض، وقالت لزوجها حين عاد إلى البيت من عمله: إن الطفل بدأ في النزول، ونظر إليها، كانت رشيقة القوام كراقصة الباليه، وعارَضها، لكنها كانت تصرُّ بقوةٍ حتى إنه ذهب وأحضر أمها، ونظرت ماري روملي إلى سيسي، وقالت إنها لا تستطيع أن تلد طفلًا، وأجابتها سيسي بصرخةٍ يجمد لها الدم في العروق، وقالت إن آلام المخاض تكاد تقتلها، ونظرت ماري إليها مفكرة، ولم تعرف ما يدور في عقل سيسي، ولكنها كانت تعلم أن لا فائدة ترجى من الجدال معها، فإذا قالت سيسي إنها ستلد طفلًا فلا بد أن تلد طفلًا، ولا مناص لهم من التسليم بالأمر، على أن زوجها جون اعترض قائلًا: ولكن، انظري كم هي نحيفة! ليس هناك طفل في ذلك البطن، أفهمتِ؟

وقالت ماري روملي: ربما تلد الطفل من رأسها، وإنه لرأسٌ كبير يتسع لذلك كما ترى.

وقال جون: أوه! إنه لا يخرج مثل هذه الأشياء.

وسألت سيسي: من أنت حتى تقول ذلك، ألم تلد العذراء مريم نفسها طفلًا دون أن يمسَّها رجل؟ وإذا كانت هي قد استطاعت ذلك فإني خليقةٌ بلا شك أن أستطيعه بمزيدٍ من اليسر؛ لأنني متزوجةٌ ولي رجل.

وسألت ماري: من يدري؟

واتجهت إلى الزوج القلق الفزع، وقالت في رقةٍ: هناك أشياءٌ كثيرة لا يفهمها الرجال.

وحثت الرجل المبلبل الفكر على أن ينسى الأمر جميعًا، ويتناول العشاء الطيب الذي ستطهاه له، ثم يذهب إلى فراشه ويستمتع بالنوم الهانئ.

ورقد الرجل الحائر بجوار زوجته طوال الليل، ولم يستطع أن يخلد إلى النوم، وكان ينهض مستندًا على مرفقه من حينٍ إلى حين ويحملق فيها، ويتحسَّس بيده من وقتٍ لآخر بطنها المستوي، أما سيسي فقد استغرقت طول الليل في نومٍ عميق.

وأعلنت سيسي حين كان جون يغادر البيت صباح اليوم التالي ذاهبًا إلى عمله، أنه سوف يكون أبًا قبل أن يعود ذلك المساء.

وصاح الرجل المعذب: لا حيلة لي في الأمر، وليكن ما يكون!

ثم رحل الرجل إلى عمله في دار المجلات، التي تنشر القصص البوليسية والجنسية.

وانطلقت سيسي مسرعةً إلى بيت لوسيا، ووجدت أن الطفل وُلد بعد خروج الأب بساعةٍ تمامًا، وكان الطفل بنتًا جميلةً وافرة الصحة، وشعرت سيسي بسعادةٍ كبيرة، وطلبت من لوسيا أن تُرضع الطفلة عشرة أيام لتمنحها الدفعة الأولى في الحياة، ثم تأخذها هي إلى بيتها، وخرجت سيسي واشترت دجاجةً للشيِّ وفطيرة خُبزت في الفرن، وطهت الأم الدجاجة على الطريقة الإيطالية، واشترت سيسي على الحساب زجاجة من نبيذ كيانتي من البقال الإيطالي الذي يوجد محله بمنطقتهم السكنية، وتناول الجميع غداءً طيبًا، وبدا البيت كأنه في يوم عيد، وأحسَّ الجميع بالسعادة وأوشك بطن لوسيا أن يعود إلى الاستواء مرةً أخرى، وانمحى كل أثر ينمُّ عن عارها، وعاد كل شيء إلى ما كان عليه، أو هو خليقٌ بأن يكون كذلك حين تمضي سيسي بالطفلة.

وأخذت سيسي تغسل الطفلة كل ساعة، وتغير قميصها وقماطها ثلاث مرات في اليوم، وتغير الكافولة مرة كل خمس دقائق، سواء اقتضى الأمر ذلك أم لا، وأعانت لوسيا على الاغتسال وجعلتها نظيفةً حلوة، وأخذت تمشط شعرها مرة واثنتين وثلاث مرات، حتى أصبح يبرق كقماش الساتان اللامع، ولو كان في وسعها أن تفعل من أجل لوسيا والطفلة أكثر من ذلك لفعلت، وكان عليها أن تنتزع نفسها بالقوة حين يحين موعد رجوع الأب إلى البيت.

وعاد الأب إلى البيت، ودخل الحجرة المظلمة ليعطي لوسيا راتبها اليومي الصغير من الطعام، وأضاء المصباح فرأى لوسيا تتألق نضارةً وبجانبها طفلةٌ ربلةٌ وافرة الصحة تنام راضية في هدوء، وأذهلته الدهشة، أيحدث ذلك كله وهي تعيش على الخبز والماء! ودبَّ الخوف في أوصاله، لقد كانت معجزة! لا شك أن العذراء مريم قد شفعت للأم الصغيرة، وعرف عنها مثل هذه المعجزات في إيطاليا، إنه قد يجازى على معاملته الوحشية لابنته التي من لحمه ودمه، وأحضر لها بعد أن تاب وندم طبقًا مليئًا بطعام المكرونة الإسباجيتي، لكن لوسيا رفضته قائلةً إنها تعوَّدت الخبز والماء، وانحازت الأم إلى صف لوسيا، وبينت أن الخبز والماء قد أخرجا ذلك الطفل المثالي، وأخذ الأب يصدق شيئًا فشيئًا أن معجزةً قد نزلت بهم، وحاول مذعورًا أن يتلطف مع لوسيا، ولكن أفراد الأسرة أرادوا أن يعاقبوه، فلم يسمحوا له أن يُظهر أية شفقة على ابنته.

وكانت سيسي راقدةً في سريرها في هدوء، حين عاد جون إلى البيت ذلك المساء، فسأل مازحًا: هل ولدتِ ذلك الطفل اليوم؟

وقالت في صوتٍ ضعيف: نعم.

– أوه! وبعد!

– لقد ولدته بعد ساعةٍ من رحيلك هذا الصباح.

– لم يحدث ذلك!

– إني لأقسم!

ونظر حوله في الحجرة: أين هو إذن؟

– في المحضنة في كوني أيلاند.

– في ماذا؟

– لقد ولد لسبعة أشهر كما تعلم، وهو لا يزن إلا ثلاثة أرطال؛ ولذلك لم أظهره.

– إنك تكذبين!

– سوف آخذك إلى كوني أيلاند بمجرد أن أستردَّ قوتي حيث الجهاز الزجاجي.

– ماذا تحاولين أن تفعلي؟ أتدفعينني إلى الجنون؟

– سوف أحضر الطفل إلى البيت بعد عشرة أيام بمجرد أن تنمو أظافره.

قالت ذلك على البديهة.

– ماذا دهاك يا سيسي؟ أنت تعلمين جيدًا أنك لم تلدي طفلًا هذا الصباح.

– لقد ولدت طفلًا وزنه ثلاثة أرطال، وأخذوه إلى المحضنة حتى لا يموت، وسوف أسترده بعد عشرة أيام.

وصرخ قائلًا: إني لأسلم! إني لأسلم!

وخرج من البيت وذهب يشرب الخمر حتى ثمل.

وأحضرت سيسي الطفلة بعد عشرة أيام، وكانت طفلةً كبيرة تزن أحد عشر رطلًا، وأصرَّ جون على رأيه إلى آخر لحظة، وقال: إنها تبدو أكبر وأقوى من طفلةٍ في يومها العاشر!

وهمست: إنك رجلٌ كبيرٌ قوي يا حبيبي.

ورأت ابتسامة الرضا تملأ وجهه، وأحاطته بذراعيها، وهمست في أذنه: إنني على ما يرام الآن إذا أردت أن تقضي الليل معي.

وقال بعد ذلك: هل تعلمين أن الطفلة تشبهني بعض الشبه!

وتمتمت سيسي وهي ناعسةٌ: وخاصة حول أذنيها.

وعادت الأسرة الإيطالية إلى إيطاليا بعد شهورٍ قليلة، وفرحوا بالعودة لأن العالم الجديد لم يجلب لهم إلا الأسف والفقر والعار، ولم تسمع سيسي عنهم من بعدُ قط.

وكان الجميع يعلمون أن الطفلة ليست ابنة سيسي … إنها لا يمكن أن تكون ابنتها، ولكن سيسي ثبتت على قصتها، فاضطر الناس إلى أن يقبلوها ما دام لا يوجد هناك تعليلٌ آخر، ثم إن الأحداث الغريبة تقع في العالم على أي حال، وعمَّدت سيسي الطفلة وسمَّتها سارة، ولكن الجميع نادوها بمرور الوقت سيسي الصغيرة.

وكاتي هي الإنسانة الوحيدة التي صرحت لها سيسي بحقيقة الطفلة، فقد وثقت بها حين طلبت منها أن تكتب الأسماء في شهادة الميلاد، ولكن فرانسي عرفت أيضًا، وكانت تستيقظ كثيرًا في الليل على صوتهما وتسمع أمها وخالتها سيسي تتحدثان في المطبخ عن الطفلة، وأقسمت فرانسي على أن تكتم سر سيسي دائمًا.

وجوني هو الشخص الآخر الوحيد الذي عرف القصة (خارج الأسرة الإيطالية)؛ لأن كاتي أخبرته، وسمعتهما فرانسي يتحدثان عن الأمر حين ظنا أنها راحت في نومٍ عميق، وانحاز الأب إلى صف زوج سيسي.

– إنها حيلةٌ قذرة يخدع بها الرجل … أي رجلٍ، إن شخصًا يجب أن يطلعه على الأمر، وأنا الذي سأتولى ذلك بنفسي.

وقالت الأم في حدة: لا، إنه رجلٌ سعيد، دعه ينعم بسعادته.

– سعيد، وقد ألصق به طفل رجلٍ آخر؟ إنني لا أرى ذلك.

– إنه يكاد يجنُّ غرامًا بسيسي، وإنه يخشى دائمًا أن تتركه، وهو خليقٌ بأن يموت إذا تركته، وأنت تعرف سيسي، إنها انتقلت من رجلٍ إلى رجل، ومن زوجٍ إلى زوج، تحاول دائمًا أن تنجب طفلًا، وكانت على وشك أن تترك زوجها لولا أن أحست بمجيء الطفل، إن سيسي سوف تغدو امرأةً أخرى من اليوم فصاعدًا، اذكر ما أقول، إنها ستستقر أخيرًا، وتكون له زوجةً أفضل مما يستحق.

وقاطعت نفسها متسائلة: وبعدُ! فمن يكون جون هذا؟ إنها ستكون أمًّا صالحة، وسوف تكون الطفلة عالمها جميعًا، ولن تكون بحاجةٍ إلى أن تجري خلف الرجال من بعدُ؛ لهذا لا تثرثر بالأمر يا جوني.

وقال جوني مقررًا: إنكن يا نساء روملي أدهى من أن نفهمكن نحن الرجال!

وطرأت عليه فكرة: خبريني، ألم تفعلي أنت ذلك معي؟ هل فعلت؟

وأجابته كاتي بأن أخرجت الطفلين من فراشهما، وجعلتهما يقفان أمامه بملابس النوم الطويلة البيضاء، وأمرته قائلة: انظر إليهما.

ونظر جوني إلى ابنه، وخيل إليه أنه ينظر في مرآةٍ خداعة يرى فيها نفسه تمامًا، ولكن في حجمٍ مصغَّر، ونظر إلى فرانسي، وكانت ملامحها جميعًا كملامح كاتي (ولكنها أكثر صرامة) ما عدا عينَيها فكانتا مثل عينَي جوني، وأحست فرانسي بدافع يدفعها إلى التقاط طبق وضعته على قلبها، كما يفعل جوني بقبعته حين يغني، وغنت أغنية من أغانيه:

لقد سمَّوها سال العابثة،
كأنما هي أغنيةٌ عجيبة.

وكانت ملامحها من ملامح جوني، وإيماءاتها من إيماءاته.

وهمس الأب قائلًا: إني لواثقٌ، إني لواثق.

وقبَّل طفلَيه وربت ظهرهما، وطلب منهما أن يعودا إلى فراشهما.

وجذبت كاتي — بعد أن ذهب الطفلان — رأس جوني إلى أسفل، وهمست في أذنه بشيءٍ:

وقال جوني في دهشة: لا!

وقالت في هدوء: نعم يا جوني.

ووضع قبعته على رأسه: إلى أين أنت ذاهب يا جوني.

– إلى الخارج.

– أرجوك يا جوني لا تأتِ إلى البيت …

ونظرت إلى باب حجرة النوم، ووعدها قائلًا: لن أفعل يا كاتي!

وقبَّلها في رقةٍ وخرج.

واستيقظت فرانسي في منتصف الليل، لا تدري ما الذي أطار النوم من عينَيها. آه! إن أباها لم يعد إلى البيت بعدُ، هذا هو السبب، إنها لم تستغرق قط في النوم حتى علمت أنه عاد، وما إن استيقظت حتى بدأت تفكر في طفلة سيسي، وتفكر في الولادة، وانصرفت أفكارها إلى خاتمة المولد، ألا وهو الممات، ولم ترغب في أن تفكِّر في الموت وكيف يولد كل امرئ ليموت، وسمعت صوت أبيها وهي تطرد فكرة الموت، صاعدًا السلم يغني برقَّة، وارتعد جسمها حين سمعته يغني الأبيات الأخيرة من أغنية «مولي مالون»، إنه لم يغنِّ هذه الأبيات قط … قط! لماذا …؟

إنها ماتت من الحمى،
ولم يستطع أحد أن ينقذها،
وهكذا فقدتها؛
حبيبة قلبي مولي مالون.

ولم تتحرك فرانسي من سريرها، كانت عادتهم المألوفة أن أمها هي التي تفتح الباب حين يعود أبوها إلى البيت متأخرًا، وأوشكت الأغنية على الانتهاء، ولكن أمها لم تسمع؛ لأنها لم تنهض من فراشها، فقفزت فرانسي من سريرها سريعًا، وانتهت الأغنية قبل أن تصل إلى الباب، ورأت أباها حين فتحت الباب واقفًا في هدوءٍ وقبعته في يده، وكان ينظر إلى الأمام من فوق رأسها، وقالت: لقد انتصرتَ يا أبي.

وسألها: أحقًّا؟

ودخل إلى الحجرة دون أن ينظر إليها.

– لقد أنهيتَ الأغنية.

– نعم، أظن أنني أنهيتُ الأغنية.

وجلس على الكرسي بجوار النافذة.

– أبي …

– أطفئي النور وعودي إلى فراشك.

(وكان النور يترك خافتًا حتى عودته) وأطفأت النور.

– أبي، هل أنت مريض؟

وقال بصوتٍ واضح في الظلام: لا، أنا لستُ مخمورًا.

وعلمت فرانسي أنه يقول الصدق.

وذهبت إلى فراشها ودفنت رأسها في الوسادة وبكت، ولكنها لم تعرف لبكائها سببًا.

٣٥

وحلَّ الأسبوع الذي يسبق عيد الميلاد مرةً أخرى، وكانت فرانسي قد أتمت لتوها عامها الرابع عشر، ونيلي على حد تعبيره ينتظر أن يبلغ الثالثة عشرة في أية لحظة، وبدا أن عيد الميلاد لن يكون سعيدًا، فلم يكن جوني على ما يرام، وكان لا يشرب الخمر، وقد توقف عن شربها بطبيعة الحال مراتٍ أخرى من قبلُ، وكان ذلك يحدث حين يشتغل، أما الآن فإنه لا يشرب الخمر أبدًا ولا يشتغل أيضًا، وعلة جوني أنه لم يكن يشرب الخمر لكنه يسلك سلوك المخمورين.

ولم يكن قد تحدث مع أسرته منذ أكثر من أسبوعين، وتذكرت فرانسي المرة الأخيرة التي قال أبوها لها شيئًا، وكانت هي الليلة التي عاد فيها صاحيًا يغني الأبيات الأخيرة من أغنية «مولي مالون»، وفكرت في الأمر فوجدت أن أباها لم يُغنِّ منذ تلك الليلة أيضًا، كان يدخل ويخرج صامتًا، ويبقى خارج البيت إلى وقتٍ متأخر من الليل ثم يعود صاحيًا، ولا يعلم أحد أين أنفق ذلك الوقت، وكانت يداه ترتعشان بشدة، ويمسك الشوكة حين يأكل بصعوبةٍ بالغة … ثم بدا فجأة كأنه رجلٌ طاعنٌ في السن.

وعاد إلى البيت بالأمس وهم يتناولون العشاء، ونظر إليهم كأنما يهم بالكلام ولكنه لم يتكلم، وأغلق عينَيه لحظةً ثم ذهب إلى حجرة النوم، ولم يكن يلتزم نظامًا زمنيًّا معينًا في أي شيء، كان يروح ويغدو في أوقاتٍ شاذة من النهار والليل، ويقضي الوقت حين يكون بالبيت راقدًا على فراشه، بكامل ملابسه وعيناه مغلقتان.

ومضت كاتي لشأنها هادئةً ساكنة، ولكن سلوكها ينبئ بوقوع الشر كأنها تحمل مأساة في طيات نفسها، وكان وجهها نحيلًا تظهر فيه التجاعيد تحت خدَّيها، ولكن جسمها كان أكثر امتلاء.

وتعهدت بالقيام بعملٍ إضافي في ذلك الأسبوع السابق لعيد الميلاد، فأخذت تستيقظ مبكرة عما ألفت وتشتغل في تنظيف الشقة أسرع مما درجت عليه، وتفرغ من عملها في أول فترة الأصيل، وتندفع مسرعةً إلى محل جورلينج، وهو مخزن يبيع مختلف السلع في الطرف البولندي من شارع جراند، حيث كانت تشتغل من الساعة الرابعة إلى السابعة، تقدم القهوة والشطائر إلى البنات البائعات اللائي لم يكن يرخص لهن بالخروج لتناول العشاء بسبب زحمة العمل في الأيام السابقة لعيد الميلاد، وكانت أسرتها في مسيس الحاجة إلى الخمسة والسبعين سنتًا التي تكسبها كل يوم.

وكانت الساعة السابعة أو نحوها حين عاد نيلي من بيع الصحف وعادت فرانسي من المكتبة، ولم يكن بالشقة نارٌ موقدة فاضطرا إلى الانتظار حتى تعود الأم، ومعها بعض المال ليشتروا به حزمةً من الخشب، ولبس الطفلان معطفَيهما وقبعتَيهما لشدة البرودة داخل الشقة، ورأت فرانسي أن أمها نثرت بعض الملابس على حبل الغسيل فجذبته إلى الداخل، ولكن الملابس قد تجمَّدت متخذة أشكالًا عجيبة واستعصى إدخالها من النافذة.

وقال نيلي مشيرًا إلى حلةٍ داخلية تجمدت من الصقيع: دعيها لي.

وكانت ساقا السروال قد تجمدتا واتجهت كل ساق في ناحية، وذهبت محاولات نيلي أدراج الرياح، وقالت فرانسي: لأحطمن ساقَي هذا السروال الملعون.

وضربته بعنفٍ فتكسَّر وانطوى، وشدته إلى الداخل في اكتئاب، وكانت تشبه كاتي في تلك اللحظة.

– فرانسي!

– هيه؟

– لقد سببتِ ولعنتِ.

– أنا أعلم ذلك.

– لقد سمعك الله.

– يا للهول!

– لقد سمعك الله، إنه يسمع ويرى كل شيءٍ.

– نيلي! هل تعتقد أنه ينظر إلى داخل تلك الحجرة الصغيرة القديمة؟

– نعم، إنه يفعل أيتها الحمقاء.

– لا تصدق ذلك يا نيلي، إنه مشغولٌ جدًّا يرقب العصافير الصغيرة جميعًا وهي تسقط، ويهتم بالأكمام الصغيرة ليعرف أتتفتح عن زهورٍ أم لا تتفتح، فلا يجد بذلك وقتًا ينفقه في تبيُّن حالنا.

– لا تتكلمي على هذا النحو يا فرانسي.

– بل سأتكلم؛ إنه لو كان يجول بنظره داخل نوافذ الناس كما تقول لرأى كيف تسير الأمور هنا، ورأى أننا نقاسي من البرد وأن البيت خالٍ من الطعام، ورأى أن أمنا لم تبلغ من القوة ما يعينها على كل هذا الشقاء في عملها، ورأى حال أبينا وفعل شيئًا من أجله، أجل إنه كان خليقًا بأن يفعل!

– فرانسي …

وتلفَّت الصبي حوله في قلق، ورأت فرانسي أنه قلق فعلًا، وقالت بينها وبين نفسها: لقد بلغتُ من السن ما يمنعني من معاكسته.

وقالت بصوتٍ عالٍ: حسنًا يا نيلي!

وتكلما في أشياءَ أخرى حتى عادت كاتي إلى البيت.

ودخلت كاتي مندفعة، ومعها حزمةٌ من كتل الخشب اشترتها بسِنتين، وعلبة من اللبن المركز وثلاث موزات ووضعت الورق والخشب في الموقد، وأشعلت النار في لحظة.

– حسنًا يا طفليَّ، أظن أننا سنتناول الشوفان في عشائنا الليلة.

وغضبت فرانسي: مرةً أخرى؟

وقالت الأم: إنه لن يكون سيئًا، فلدينا اللبن المركز، ولقد أحضرت الموز ليقطع فوقه.

واحتجَّ نيلي على أمه قائلًا: أمي، لا تخلطي نصيبي من اللبن المركز بالشوفان، دعيه يطف فوق السطح.

واقترحت فرانسي: قطعي الموز واطهيه مع الشوفان.

واعترض نيلي: أريد أن آكل موزي سليمًا.

وحسمت الأم المناقشة قائلةً: سأعطي كلًّا منكما إصبعًا من الموز يأكلها كما يريد.

وملأت كاتي بعد أن طهت الشوفان «صحنين» من «صحون» الحساء إلى آخرهما ووضعتهما على المائدة، وصنعت ثقبين في علبة اللبن، ووضعت إصبع الموز بجانب كل «صحن»، وسألها نيلي: ألا تأكلين يا أمي؟

وتنهدت كاتي: سآكل فيما بعدُ، لست جائعةً الآن!

وقالت فرانسي: أمي! إذا كنت لا تشعرين برغبةٍ في الطعام، فلماذا لا تعزفين على البيانو، فنشعر وكأننا في مطعمٍ ونحن نأكل.

– إن الجو باردٌ في الحجرة الأمامية.

وقال الطفلان في صوتٍ واحد: أشعلي موقد الزيت.

– وهو كذلك.

وأخذت كاتي من الصوان موقد زيت يمكن حمله، وقالت: ولكنكما تعلمان أنني لا أجيد العزف!

وقالت فرانسي في إخلاص: إنك لبارعةٌ في العزف يا أمي.

وسُرَّت كاتي وركعت على ركبتَيها لتشعل موقد الزيت، وسألتهما: ماذا تريدان مني أن أعزف؟

وقالت فرانسي: اعزفي «أوراق الشجر الصغيرة».

وصاح نيلي: «مرحبًا أيها الربيع الجميل».

وقررت الأم: وسأعزف «أوراق الشجر الصغيرة» أولًا؛ لأنني لم أعطِ فرانسي هديةً في عيد ميلادها.

وذهبت إلى الحجرة الأمامية الباردة، وقالت فرانسي: أظن أنني سأقطِّع الموز فوق الشوفان، سأقطعه قطعًا رقيقة حتى تصبح منه كميةٌ كبيرة.

وقرر نيلي: وأنا سآكل الموز صحيحًا وفي بطءٍ، حتى يبقى في فمي طويلًا.

وأخذت الأم تعزف أغنية فرانسي، وكانت من الأغاني التي علَّمها السيد مورتون للأطفال، وغنت فرانسي مع الموسيقى:

قالت الريح يومًا، تعالي يا أوراق الشجر الصغيرة،
تعالي إلى المروج والْعبي معي،
واكتسي بأثوابكِ الحُمر الذهبية …

وقاطعها نيلي: أوه! إنها أغنية أطفال.

وتوقفت فرانسي عن الغناء، وبدأت كاتي بعد أن انتهت من أغنية فرانسي تعزف لحن روبنشتاين، وكان السيد مورتون قد علمها للأطفال أيضًا وسماها: «مرحبًا أيها الربيع الجميل»، وبدأ نيلي يغني:

مرحبًا أيها الربيع الجميل، إنَّا نحييك بالغناء.

وتغيَّر صوته فجأة من الصادح إلى المترنِّم وهو يغني من الطبقة العالية، وضحكت فرانسي مقهقهةً، وسرعان ما أغرب نيلي في القهقهة حتى عجز عن الغناء، وسألته فرانسي: أتعرف ماذا كانت تقوله أمي لو أنها جالسة هنا الآن؟

– ماذا؟

– كانت تقول: «إن الربيع سيحلُّ قبل أن تشعروا.»

ثم ضحكا وقال نيلي معلقًا: إن عيد الميلاد يقترب سريعًا.

وقالت فرانسي التي أكملت عامها الثالث عشر فحسب، وبدأت في عامها الرابع عشر: أتذكر ونحن بعدُ أطفال كيف ألفنا أن نستروح نسائم عيد الميلاد تلوح في الجو؟

وقال نيلي في انفعال: فلنجرب هل نستطيع أن نستروح تلك النسائم.

وفتح النافذة عن فرجةٍ صغيرة ووضع أنفه فيها: وي!

– ماذا استروحت؟

– إني أستروح رائحة الثلج، أتذكرين كيف ألفنا ونحن بعدُ أطفال أن نرفع بصرنا إلى السماء، ونصيح: أيها الصبي ذو الريش، أيها الصبي ذو الريش، أنزل علينا بعض الريش من السماء، وكنَّا نظن حين تسقط الثلوج أن صبيًّا له ريش يقف في السماء.

وطلبت منه فجأة: دعني أستروح.

ووضعت أنفها في فرجة النافذة، وقالت: نعم إنني أستطيع أن أستروح النسيم، إنه يشبه رائحة قشور البرتقال ممتزجةً برائحة شجر عيد الميلاد.

ثم أغلقا النافذة.

– إنني ما وشيتُ بك في ذلك الوقت الذي أخذتِ فيه الدمية، وقلتِ إن اسمك ماري.

وقالت فرانسي في امتنان: لا، ولا أنا أيضًا ما وشيت بك حين صنعت لفافةً من مسحوق البن ودخَّنتها، وأشعلت النار في الورقة التي سقطت على قميصك، وأحدثت فيه ثقبًا كبيرًا، ولقد ساعدتك على أن تخفيه.

وتفكر نيلي قائلًا: أتعلمين، لقد وجدتْ أمي ذلك القميص، وحاكت رقعةً فوق الثقب، ولم تسألني قط عنه.

وقالت فرانسي: إن أمنا لها أشياء فكهة.

وأخذا يتفكران لحظةً في أساليب أمهما الغامضة.

وخمدت النار، لكن المطبخ ظل دافئًا، وجلس نيلي على قمة الطرف البعيد للموقد لأن الحرارة لم تكن شديدة، وكانت أمه قد حذَّرته من الجلوس فوق الموقد الساخن خشية أن يصاب بالبواسير، ولكن نيلي لم يهتم بالأمر، فقد كان يحب أن يشعر بالدفء يسري في ظهره.

وكان الطفلان سعيدَين أو يكادان، والمطبخ دافئًا، وقد أكلا وشبعا، وأشعرهما عزف أمهما بالطمأنينة والراحة، وأخذا يتذكران أعياد الميلاد السابقة أو الأيام الخالية على حد تعبير فرانسي.

وطرق البابَ طارقٌ بشدة وهما يتحدثان، وقالت فرانسي: إنه أبي.

– لا، إن أبي يغني دائمًا وهو صاعدٌ السلم لنعرف أنه هو.

– نيلي! إن أبي لم يغنِّ في عودته إلى البيت منذ تلك الليلة …

وصاح جوني: افتحي الباب!

ودقَّ الباب بشدة كأنه سيكسره، وجاءت الأم تجري من الحجرة الأمامية، وبدت عيناها شديدتَي السواد بالقياس إلى وجهها الأبيض، وفتحت الباب، ووثب جوني إلى الداخل، وحملقوا فيه، فلم يكونوا قد رأوا أباهم قط على هذه الحال؛ لأنه أنيقٌ دائمًا كل الأناقة، أما الآن فقد بدت سترة السهرة قذرة كأنما رقد بها على الوحل، وبدت قبعته كأنها انضغطت، ولم يكن لديه معطف أو قفاز، فكانت يداه الباردتان الحمراوان ترتعشان، ودق المائدة وقال: لا، لست ثملًا.

وبدأت كاتي قائلةً: لم يقل أحدٌ ذلك.

– إنني ضقت بها ذرعًا، إنني أكرهها، أكرهها! أكرهها!

ودق المائدة بشدة، وعرفوا أنه يقول الحق، وانفجر قائلًا فجأة: لم أشرب قطرةً واحدة منذ تلك الليلة … ولكن لم يعد أحد يصدقني، نعم لم يعد أحدٌ يصدقني …

وقالت الأم مواسية: هون عليك يا جوني.

وسألت فرانسي: ماذا حدث يا أبي؟

وقالت الأم: اسكتي، لا تزعجي أباك.

وخاطبت جوني: بعض القهوة باق منذ الصباح يا جوني، إنها قهوةٌ جيدة وساخنة، كما أن لدينا لبنًا الليلة، لقد كنت أنتظر حتى تعود إلى البيت لنأكل معًا.

وأفرغت القهوة، وقال نيلي: لقد أكلنا نحن من قبلُ.

وقالت له الأم: اسكت!

ووضعت اللبن على القهوة، وجلست في مواجهة جوني، وقالت له: اشربها يا جوني وهي ساخنة.

وحملق جوني في القدح، ثم دفعه بعيدًا عنه، وتنفست كاتي تنفسًا عميقًا وهي تراه يتعثر على الأرض، ودفن جوني رأسه في ذراعيه، وأخذ ينشج وهو يرتعد، ومضت إليه كاتي مواسية: ماذا حدث يا جوني؟ ماذا حدث؟

وأخيرًا انفجر قائلًا من خلال نشيجه: لقد طردوني اليوم من اتحاد النُّدُل، وقالوا إنني صعلوكٌ سكِّير، وقالوا إنهم لن يعطوني عملًا آخر ما دمت حيًّا.

وتحكم في نشيجه لحظةً، وبدا في صوته الرعب وهو يقول: ما دمت حيًّا!

ووضع يده فوق «الزرار» الأبيض الصغير الضارب إلى الخضرة الذي يضعه على قلابة سترته، وشعرت فرانسي بغصةٍ في حلقها حين تذكرت كيف قال كثيرًا إنه يضعه كوردة يتحلى بها، كان يعتز كل الاعتزاز بأن يكون واحدًا من رجال الاتحاد، وقال في نشيج: ولكني لن أتخلى عنها.

– هذا أمرٌ لا يستحق منك التفافًا يا جوني، فلتنل قسطًا وافرًا من الراحة، ثم تقف على قدمَيك مرةً أخرى، وسوف يطيب لهم أن يعيدوك إلى زمرتهم، إنك نادلٌ صالح وأفضل مغنٍّ اشتغل عندهم!

– لم أعد أصلح لشيء، ولا أستطيع الغناء بعدُ يا كاتي، إنهم يضحكون مني الآن حين أغني، وقد استخدموني في المرات القليلة الأخيرة التي اشتغلت عندهم فيها لأُضحك الناس، هان شأني إلى هذا الحد، إنني انتهيت.

ونشج في حرارةٍ واستمر ينشج كأنه لا يستطيع أن يكفَّ عن النشيج.

وأحست فرانسي بالرغبة في الجري إلى حجرة النوم، وإخفاء رأسها تحت الوسادة، وذهبت إلى طرف الباب، لكن الأم رأتها فقالت لها في حدة: قفي هناك!

وخاطبت الأم جوني ثانيًا: تعالَ يا جوني، استرح قليلًا، وسوف تشعر بتحسن، إن موقد الغاز مشعل، وسأضعه في حجرة النوم، فتصير الحجرة دافئةً مريحة، وسأجلس بجوارك حتى تستغرق في النوم.

وأحاطته بذراعَيها، فأبعد ذراعَيها عنه في رقة، وذهب إلى حجرة النوم وحده وهدأ نشيجه قليلًا، وخاطبت كاتي الطفلَين: سأبقى مع أبيكما لحظةً فامضيا في الحديث معًا أو فيما كنتما تفعلانه.

وحملق الطفلان فيها وقد خدرت أعصابهما، وتهدج صوتها قائلة: لماذا تنظران إليَّ هكذا؟ لم يحدث شيء.

وأشاحا بوجهيهما عنها، ومضت كاتي إلى الحجرة الأمامية لتحضر موقد الغاز.

ولم ينظر نيلي وفرانسي بعضهما إلى بعض فترةً طويلة، ثم قال نيلي أخيرًا: أتودِّين أن تتحدثي عن الأيام الخالية؟

وقالت فرانسي: كلا.

٣٦

ومات جوني بعد ثلاثة أيام، وكان قد ذهب إلى فراشه في تلك الليلة، وجلست كاتي بجواره حتى استغرق في النوم، ونامت هي بعد ذلك مع فرانسي حتى لا تقلقه، ونهض جوني في وقتٍ ما من الليل ولبس ملابسه في هدوء، خرج ولم يعد إلى البيت في الليلة التالية، وبدءوا يبحثون عنه في اليوم الثاني، بحثوا عنه في كل مكان، لكنهم لم يجدوا جوني قد أوى منذ أسبوع إلى أي مكانٍ من الأمكنة التي اعتادوا أن يأوى إليها.

وجاء ماكشين في الليلة التالية ليأخذ كاتي إلى مستشفًى كاثوليكيٍّ قريب، وأخبرها في الطريق بما وقع لجوني بكل ما وسعه من رفقٍ ولطف، لقد وُجد جوني في ذلك الصباح المبكر مكوَّمًا على الأرض أمام مدخل بيت، وكان فاقد الوعي حين عثر عليه شرطي، وكان معطف سترته الرسمية مُزرَّرًا على قميصه الداخلي، ورأى الشرطي مدلاة القديس أنطونيو حول رقبته فاستدعى عربة إسعاف المستشفى الكاثوليكي، ولم يكن جوني يحمل أية علامة تدلُّ على شخصيته، ثم أبلغ الشرطيُّ عن الحادث وأعطى أوصاف الرجل الفاقد الوعي، ووقعت في يد ماكشين هذه الأوصاف أثناء مراجعته المعتادة لدفتر الأحوال، وهدته حاسته السادسة إلى شخصية الرجل، وذهب إلى المستشفى ورأى أنه جوني نولان.

وكان جوني لا يزال على قيد الحياة حين وصلت كاتي إلى المستشفى، وقال لها الطبيب إنه أصيب بالتهابٍ رئوي، وليست أمامه فرصة للشفاء، وإنه لن يعيش سوى بضع ساعات، ثم إنه فعلًا في غيبوبة الاحتضار، وأخذوا كاتي إليه، ورأت سريره في عنبرٍ يشبه ممرًا طويلًا يشتمل على خمسين سريرًا، وشكرت كاتي ماكشين وودعته، وانصرف ماكشين بعد أن عرف أنها تريد أن تكون وحيدة مع جوني.

ورأت كاتي حول سرير جوني ستارًا، يخفي وراءه الموت، وأحضروا لها كرسيًّا فجلست طوال اليوم تراقبه، وكان جوني يتنفس بصعوبةٍ وعلى وجهه أثر دموعٍ جافة، وبقيت كاتي إلى جواره حتى مات دون أن يفتح عينَيه مرة، أو يقول كلمةً واحدة لزوجته.

ووصلت كاتي إلى بيتها بعد أن حلَّ الظلام، وقررت ألا تخبر الطفلَين حتى الصباح، وقالت بينها وبين نفسها: فلأدعهما يخلدان إلى النوم ليلةً أخرى، ناعمين فيها براحةٍ لا ينغصهما حزنٌ أو ألم.

وكل ما قالته لهما أن أباهما في المستشفى وقد استبدَّ به المرض … ولم تزد. وكان منظرها ينمُّ عن شيءٍ صرف الطفلين عن أن يوجها أي سؤالٍ إليها.

وما إن تنفس الفجر حتى استيقظت فرانسي، ونظرت نحو حجرة النوم الضيقة، فرأت أمها جالسة بجوار سرير نيلي تنظر إلى وجهه، وبدا السواد تحت عينَيها كأنما ظلت جالسة حيث كانت طوال الليل، ولما رأت أن فرانسي قد استيقظت، طلبت منها أن تنهض وترتدي ملابسها فورًا، وهزت نيلي في رفقٍ لتوقظه وطلبت منه الشيء نفسه، وخرجت إلى المطبخ.

وكانت حجرة النوم كالحةً باردة، وارتعدت فرانسي وهي ترتدي ملابسها، وانتظرت نيلي حتى لا تخرج إلى أمها وحدها، وكانت كاتي جالسة إلى النافذة حين مثلا أمامها، ووقفا منتظرَين، وقالت لهما: إن أباكما قد مات.

وتسمَّرت فرانسي وهي واقفةٌ، ولم تشعر لا بالدهشة ولا بالحزن، بل لم تشعر بأي شيء، فإن ما قالته أمها لتوها لم يكن يحمل أي معنًى.

وأمرتهما الأم قائلةً: يجب عليكما ألا تبكيا.

ولم تكن كلماتها التالية تحمل أي معنًى أيضًا.

– لقد نفض يده من الحياة، ولعله الآن أسعد حظًّا منا.

وكان بالمستشفى عاملٌ يتسلم أجرًا من متعهدٍ لدفن الموتى نظير إبلاغه عن كل ميت فور وفاته، وهذا المتعهد اليقظ يسبق منافسيه بالسعي وراء العمل، على حين ينتظر الآخرون حتى يسعى إليهم العمل، وذهب هذا الرجل المقدام إلى كاتي في الصباح المبكر.

وقال لها مشيرًا خلسةً إلى قصاصة الورق التي كتب فيها عامل المستشفى اسمها وعنوانها: أيتها السيدة نولان، إني أواسيك في مصابك الأليم، وأقول لك حكمة: هم السابقون ونحن اللاحقون.

وسألته كاتي بجفوة: ماذا تريد؟

– أن أصبح صديقك.

ثم سارع قبل أن تسيء تأويل كلامه، وأردف قائلًا: ثمة تفصيلات متعلقة … باﻟ… بالرفات … أقصد …

ونظر مرةً أخرى بسرعة إلى القصاصة: إني أقصد السيد نولان، سألتك أن تنظري إليَّ نظرتك إلى صديق يخفف عنك في وقتٍ يقتضي … حسنًا … إني أريد منك أن تتركي لي تدبير كل شيء.

وفهمت كاتي وقالت: كم تطلب من المال نظير جنازة بسيطة؟

وقال وهو يسد عليها المسالك: لا تشغلي بالك بأجري، سوف أرتب له جنازةً تليق بمقامه، فما من رجلٍ أحترمه احترامي للسيد نولان (ولم يكن يعرف السيد نولان على الإطلاق)، سأهتم بنفسي بالأمر، حتى أطمئنَّ على أنه شيع على خير وجه، لا تشغلي بالك بالأجر.

– لن أشغل بالي بذلك، إنني لا أملك من المال ما يشغل بالي.

وبلل شفتيه وقال: بصرف النظر عن قيمة التأمين، طبعًا …

وكان ذلك سؤالًا وليس تقريرًا.

– هنالك تأمين ولكنه مبلغٌ زهيد.

وفرك يديه مسرورًا: آه! إن ذلك هو ما أستطيع أن أخدم فيه، فثمة إجراءاتٌ متعددة في سبيل الحصول على قيمة التأمين، وتسلم المال يتطلب وقتًا طويلًا، والآن افرضي أنك عهدت إليَّ بذلك (واعلمي أنني لن أتقاضى منك شيئًا نظيره) فما عليك إلا أن توقِّعي هنا (وأخرج من جيبه ورقة) إنك إذا حولت سند التأمين إليَّ، فسوف أسلمك المال مقدمًا ثم أتولى صرفه.

وكان كل متعهدي الموتى يقدمون هذه «الخدمة»، ويتخذون منها حيلةً لتبين مقدار التأمين، وما إن يتبينوا ذلك حتى يقدروا تكاليف الجنازة بثمانين في المائة من مبلغ التأمين، ويقتضيهم الواجب أن يتركوا مالًا قليلًا تشتري به أسرة الميت ملابس الحداد ترضيةً لهم.

وأحضرت كاتي سند التأمين، والتقطت عيناه الخبيرتان قيمته، وهي تضع السند على المائدة ووجدها مائتي دولار، وتظاهر بأنه لم ينظر إلى السند، وتكلم في أشياءٍ أخرى فترة بعد أن وقَّعت كاتي، ثم قال أخيرًا كأنما وصل إلى قرار: سأقول لك يا سيدة نولان ما سأفعله، إني سأعدُّ للراحل عربة جنازة من الدرجة الأولى تجرها أربعة جياد، ومقبض تابوتها من النيكل نظير مائة وخمسة وسبعين دولارًا، وإني لأتقاضى نظير هذا العمل مائتين وخمسين دولارًا دون أن أربح بنسًا واحدًا.

وسألته كاتي: لم تفعل هذا إذن؟

ولم يحرجه هذا السؤال، فقال: أفعل هذا لأنني أحببت السيد نولان، كان رجلًا عظيمًا مكافحًا مناضلًا، ولاحظ نظرة الدهشة التي صوبتها كاتي إليه.

وترددت قائلة: لا أدري، مائة وخمسة وسبعين …

وقال في سرعةٍ: إن ذلك يشمل القدَّاس أيضًا.

وقالت كاتي في اكتئابٍ: حسنًا!

وكانت قد ملَّت الكلام في ذلك الموضوع.

والتقط المتعهد سند التأمين، وتظاهر بأنه يرى القيمة لأول مرة، وقال في دهشةٍ مصطنعة: انظري! إنها مائتان، ومعنى ذلك أنك ستأخذين خمسة وعشرين دولارًا بعد أن تدفعي نفقات الجنازة.

ودس يده في جيبه باسطًا ساقه في استقامة أمامه، وقال: طالما قلت لنفسي إن المرء لا يواتيه إلا قليل من المال نقدًا في مثل هذا الوقت … بل في أي وقت تشائين.

وقال في نبرة المدرك: لهذا سأعطيك الفرق مقدمًا من جيبي الخاص.

ووضع على المائدة خمسة وعشرين دولارًا أوراقًا جديدة.

وشكرته كاتي، ولم يكن الرجل يستغفلها، فلم تعترض؛ لأنها كانت تعلم أن الأمور تسير على هذا النحو، وأن ذلك إنما كان هو ما تقتضيه مهنته، وطلب منها أن تحصل على شهادة الوفاة من الطبيب المناوب.

– وأرجوك أن تخبريهم بأني سآتي لأحمل اﻟ… أقصد المتوفي … أجل سآتي لأحمل السيد نولان.

وأخذوا كاتي إلى مكتب الطبيب حين عادت إلى المستشفى، وكان قسيس الأبرشية هناك، يحاول أن يمدَّهم بالبيانات لاستخراج شهادة الوفاة، ولما رأى كاتي رسم علامة الصليب متبركًا ثم هز رأسه، وقال القسيس: إن السيدة نولان تستطيع أن تدلي لكم ببياناتٍ أكثر مما أستطيع.

وسأل الطبيب الأسئلة الضرورية: الاسم كاملًا ومحل الميلاد وتاريخه وما إلى ذلك، وسألت كاتي في النهاية سؤالًا: ماذا تكتب هناك؟ … أقصد ماذا كان سبب الوفاة؟

– تسمم كحولي حاد والتهاب رئوي.

– لقد قالوا إنه مات بسبب الالتهاب الرئوي.

– كان ذلك هو سبب الوفاة المباشر، ولكن التسمم الكحولي الحاد كان عاملًا مساعدًا على الوفاة بلا شك، والراجح أنه السبب الرئيسي للوفاة إذا أردتِ الصدق.

وقالت كاتي في بطءٍ وثبات: لا أريد أن تكتب أنه مات بسبب إسرافه في شرب الخمر، اكتب أنه مات بسبب الالتهاب الرئوي فقط.

– الواجب يقتضيني يا سيدتي أن أكتب الصدق كله.

– لقد مات وانتهى، فماذا يعنيك من سبب وفاته؟

– إن القانون يقتضي …

وقالت كاتي: استمع إليَّ، إن لي طفلَين جميلَين سوف يشبَّان ويتطلعان لأن يصبحا شيئًا، وليس الذنب ذنبهما أن أباهما … مات بسبب ما ذكرتَ، وإنه ليهمني كثيرًا أن يُتاح لي أن أذكر لهما أن أباهما مات بسبب الالتهاب الرئوي فحسب.

ومدَّ القسيس يد المساعدة، وقال: إنك تستطيع ذلك أيها الطبيب، فتفيد الآخرين دون أن تصيب نفسك بالضر، لا تنبش ماضي رجلٍ بائس مات وانتهى، اكتب «التهاب رئوي» وليس في هذا كذب، ولسوف تذكرك هذه السيدة في صلواتها أمدًا طويلًا.

وأضاف على نحوٍ عملي: زد على ذلك أن ليس في الأمر ما يسوءك!

وتذكر الطبيب فجأة شيئين: تذكر أن القسيس عضو في هيئة المستشفى، وأنه يطمع في أن يصبح الطبيب الأول في هذا المستشفى بالذات، ووافق قائلًا: حسنًا! سأفعل ذلك، ولكن لا تبوحا بالسر لأحد، إنها مجاملةٌ شخصية لك أيها الأب.

وكتب «التهاب رئوي» في السطر المقابل لسبب الوفاة.

وهكذا لم يكن هناك تقريرٌ يثبت أن جوني مات سكران.

وأنفقت كاتي الخمسة والعشرين دولارًا في شراء ملابس الحداد، فاشترت لنيلي حلةً جديدة سوداء لها سروالٌ طويل، وكانت أول حلة يلبسها من هذا القبيل، واصطرعت في قلب نيلي مشاعر الفخر والسرور والحزن في آن، واشترت كاتي لنفسها قبعةً سوداء جديدة، ونقابًا طوله ثلاث أقدام تلبسه الأرامل وفقًا لتقاليد بروكلين، وحصلت فرانسي على حذاءٍ جديد كانت تحتاج إليه منذ فترةٍ طويلة، وقررت كاتي ألا تشتري لفرانسي معطفًا أسود لأنها تنمو بسرعة، وسوف لا يناسبها المعطف في الشتاء القادم، وقالت الأم: إن معطفها الأخضر القديم يصلح لأن تلبسه بعد أن تضع شريطًا أسود حول الذراع، وفرحت فرانسي لأنها كانت تكره اللون الأسود، وأصابها القلق خشيةً أن تُلبسها أمها ملابس الحداد الكاملة، ووضعت كاتي النقود المتبقية بعد شراء هذه الحاجات في الحصالة القصدير.

وعاد المتعهد ليبلغهم أن جوني في بهو الجنازة، وأنه جُهِّز تجهيزًا جيدًا، وسوف يحمله إلى البيت ذلك المساء، وطلبت منه كاتي في حدةٍ ألَّا يشرح لهم التفاصيل.

ثم حلت النكبة حين قال: أيتها السيدة نولان، أريد أن أحصل على العقد الخاص بحصتك.

– أية حصة؟

– حصة المقبرة، إني أريد العقد حتى أفتح المقبرة.

– كنت أظن أن المائة والخمسة والسبعين دولارًا تشمل ذلك كله.

– لا، لا، لا! إني أقدم لك الحساب، لقد كلفني التابوت وحده …

وقالت كاتي بطريقتها الجافة: أنا لا أميل إليك، ولا أميل إلى تلك المهنة التي تزاولها.

ثم أردفت بلهجتها الواقية العجيبة المعهودة: إني لأحسب أنه لا بد أن يقوم شخص بدفن الميت، كم تكلفني الحصة!

– عشرين دولارًا؟

– كيف يتأتَّى لي الحصول على هذا المبلغ؟

وتوقفت فجأة: فرانسي! أحضري الفتاحة.

وفتحوا الحصالة المصنوعة من القصدير، وكان بها ثمانية عشر دولارًا واثنان وستون سنتًا، وقال المتعهد: إنها لا تكفي وسأدفع الباقي!

ومدَّ يده ليأخذ المال، وقالت له كاتي: سأجمع المال المطلوب كله، ولكني لن أعطيه لك حتى يصبح العقد بين يدي.

ولغط وجادل، وانصرف في النهاية وهو يقول إنه سيحضر العقد، وأرسلت الأم فرانسي إلى بيت سيسي لتستدين دولارين، وتذكرت كاتي — حين عاد المتعهد بالعقد — شيئًا قالته لها أمها منذ أربعة عشر عامًا فقرأته في بطءٍ وعناية، وجعلت فرانسي ونيلي يقرآنه أيضًا، ووقف المتعهد على قدمٍ أولًا، ثم وقف على القدم الأخرى، وناولته كاتي المال حين اطمأن آل نولان الثلاثة إلى أن العقد سليم.

وسأل في استعطافٍ وهو يضع المال في جيبه بعناية: ما الذي يحملني على غشك يا سيدة نولان؟

وسألت بدورها: ترى ما الذي يحمل شخصًا على أن يغش الآخر؟ ولكنهم يفعلون ذلك.

وكانت الحصالة المصنوعة من القصدير قائمةً في وسط المائدة، تحمل من العمر أربعة عشر عامًا وقد تقوَّضت أشرطتها، وسألت فرانسي: أتريدين أن أثبِّتها بالمسامير ثانيةً يا أمي.

وقالت الأم ببطء: لا، إننا لا نحتاج إليها بعدُ، أترين؟ … إننا نمتلك قطعة من الأرض الآن.

ووضعت العقد المطوي فوق الحصالة الغليظة التي تشبه النجم.

وبقي نيلي وفرانسي في المطبخ طوال الوقت الذي وضع فيه التابوت في الحجرة الأمامية، بل إنهما ناما في المطبخ، ولم يرغبا في رؤية أبيهما في التابوت، وأدركت كاتي ذلك فلم تصر على أن يذهبا وينظرا إلى أبيهما.

وامتلأ البيت بالزهور، فقد أرسل اتحاد النُّدُل الذي طرد جوني منذ أقل من أسبوعٍ، باقةً كبيرة من زهور القرنفل البيضاء، يحيط بقطرها شريطٌ أرجواني كتبت عليه كلمة «أخونا» بالمداد المذهب، وأرسل رجال الشرطة في الحي صليبًا من الورد الأحمر ذكرى للقبض على القاتل، وأرسل الشاويش ماكشين باقةً من زهور السوسن، وأرسلت أم جوني وأسرة روملي وبعض الجيران الزهور، وتوالت باقات الورد والزهر من عشراتٍ من أصدقاء جوني، الذين لم تكن كاتي قد سمعت بهم قط، وأرسل ماكجريتي صاحب الحانة إكليلًا من أوراق الغار الصناعية.

وقالت إيفي في سخطٍ حين قرأت البطاقة: سوف ألقي بها في سلة المهملات.

وقالت كاتي في رقَّة: لا، أنا لا أستطيع أن ألوم ماكجريتي، كان يجب على جوني ألا يذهب إلى هناك.

(وكان جوني مدينًا لماكجريتي بأكثر من ثمانية وثلاثين دولارًا حين أدركته المنية، ولكن صاحب المشرب لم يذكر لكاتي لسببٍ ما شيئًا عن الدَّين وألغاه في صمت.)

وأضحى جو الشقة ثقيلًا من الرائحة المختلطة التي تنبعث من الورد وزهر السوسن والقرنفل، وظلت فرانسي طول حياتها بعد ذلك تكره هذه الزهور، ولكن كاتي سُرَّت، إذ تجلَّى لها أن زوجها موضع تقدير كل هؤلاء القوم.

ووافت كاتي الطفلَين في المطبخ قبل أن يغلق غطاء التابوت على جوني بلحظاتٍ قلائل، ووضعت يديها على كتف فرانسي، وقالت بصوتٍ خفيض: لقد سمعت بعض الجيران يتهامسون ويقولون إنكما لن تنظرا إلى أبيكما؛ لأنه لم يكن بالنسبة لكما أبًّا صالحًا!

وقالت فرانسي في شدةٍ: لقد كان أبًّا صالحًا.

ووافقت كاتي: نعم، لقد كان.

وانتظرت حتى يتخذ الطفلان قرارهما، وقالت فرانسي: هيا نذهب يا نيلي.

وسار الطفلان يدًا في يد إلى جثمان أبيهما المسجى، ونظر نيلي نظرةً سريعة ثم جرى خارج الحجرة، خشية أن يجهش بالبكاء، ووقفت فرانسي مطرقةً ببصرها إلى الأرض تخاف من الرؤية، لكنها رفعت عينَيها أخيرًا، ولم تستطع أن تصدق أن أباها لم يكن حيًّا! كان يلبس بذلته الرسمية التي نظفت وكويت من قبلُ، وكان يرتدي صدريةً جديدةً وبنيقة وربطة عنق رُبِطَت بعناية، وكانت هناك زهرة من زهور القرنفل في عروة سترته ومن فوقها شارة الاتحاد، وكان شعره ذهبيًّا لامعًا مجعدًا كشأنه دائمًا، وقد سقطت خصلة من خصلات شعره على جبينه منحرفةً بعض الشيء، وكانت عيناه مغمضتَين كأنه استغرق في النعاس، وبدا شابًّا وسيمًا مُعتَنًى به كل العناية، ولاحظت لأول مرة كيف استدار حاجباه في جمال، وبدا شاربه الصغير مشذبًا لطيفًا كشأنه دائمًا، وقد اختفت من وجهه الأحزان والآلام والقلق جميعًا، وبدا ناعمًا، يشبه وجه الصبي، وكان جوني في الرابعة والثلاثين من عمره حين أدركته المنية، ولكنه بدا الآن أصغر من سنه كأنما هو فتًى لا يتجاوز العشرين.

ونظرت فرانسي إلى يديه المتشابكتَين في استرخاءٍ فوق صليبٍ من الفضة، ورأت دائرةً من الجلد أكثر بياضًا على إصبعه الوسطى، حيث اعتاد أن يلبس خاتمه الذي أهدته له كاتي حين تزوجا (وكانت كاتي قد خلعته من إصبعه لتعطيه لنيلي حين يكبر)، وبدت يدا أبيها في نظرها غريبتَين وهما ساكنتان هادئتان، حين تذكرت أنهما كانتا ترتعشان دائمًا، ولاحظت فرانسي كيف تبدو يداه رقيقتَين بأصابعهما الطويلة الحادة الطرف، وحملقت في ثبات في يديه وتوهمت أنهما تتحركان، وانتفضت فزعًا وهلعًا وأرادت أن تجري بعيدًا، ولكن الحجرة كانت غاصة بأناسٍ يرقبونها، وإنهم لخليقون بأن يقولوا إنها جرت بعيدًا لأنه لم يكن أبًا صالحًا … ولكنه كان صالحًا! كان صالحًا! ووضعت يدها على شعره وأعادت خصلة الشعر إلى مكانها، وجاءت الخالة سيسي ووضعت ذراعها حولها وهمست قائلةً: لقد حان الوقت.

وتراجعت فرانسي إلى الوراء لتقف مع أمها وهم يضعون الغطاء.

وركعت فرانسي في القداس إلى جانب أمها، وركع نيلي في الجانب الآخر، وظلت فرانسي مطرقة إلى الأرض، حتى لا تضطر أن تنظر إلى التابوت الذي نُصب على قوائم أمام الهيكل وغُطِّي بالزهور، واختلست نظرةً إلى أمها، وكانت كاتي راكعةً تحملق في الفضاء أمامها، ويبدو وجهها أبيض هادئًا تحت نقاب الحداد.

ونشجت امرأة كانت تقف تجاه الهيكل نشيجًا حارًّا، حين هبط القسيس وسار حول التابوت، ينضح الماء المقدس على أركانه الأربعة، واستدارت كاتي في حدةٍ لتنظر إلى المرأة التي جرؤت أن تبكي على جوني، وقد استبدَّت بها الغيرة والرغبة الشديدة في الاستحواذ حتى في الموت، وتفحصت المرأة بعينها ثم أدارت رأسها بعيدًا، وتناثرت أفكارها كقصاصاتٍ من الورق تذروها الرياح، وقالت بينها وبين نفسها: إن هيلدي أودير تبدو أكبر من سنها، كأنما نثر مسحوق فوق شعرها الأصفر، ولكنها ليست أكبر مني سنًّا بكثير … فهي تبلغ الثانية والثلاثين أو الثالثة والثلاثين، كانت في الثامنة عشرة حين كنت أنا في السابعة عشرة، وعادت ذاكرتها القهقري: فتلمضِ أنتِ في طريقكِ، ولأمضِ أنا في طريقي، أنت تعني أنك ستمضي في طريقها، هيلدي، هيلدي … إنه فتاي يا كاتي روملي … هيلدي هيلدي … ولكنها خير صديقاتي … لستُ رجلًا صالحًا كل الصلاح يا هيلدي … كان يجب عليَّ ألا أقودك إليَّ … أنت تمضين في … هيلدي هيلدي.

ثم ارتدَّت كاتي إلى عالم الواقع الحاضر، وقالت لنفسها: فلأدعها تبكي، فلأدعها تبكي، لا بد لشخصٍ أحب جوني أن يبكيه، وأنا لا أستطيع أن أبكي … فلأدعها …

وركبت كاتي وأم جوني وفرانسي ونيلي في أول عربة خلف النعش ذاهبين إلى المقبرة، وجلس الطفلان وظهرهما للسائق، وسُرَّت فرانسي لأنها لم تستطع أن ترى النعش الذي يتقدم الموكب، وإنما رأت العربة التي تتبعه، وكانت تركبها الخالة إيفي والخالة سيسي وحدهما، ولم يستطع زوجاهما الحضور لأنهما كانا يعملان، وبقيت الجدة ماري روملي في البيت لترعى طفلة سيسي الجديدة، وودت فرانسي لو ركبت العربة الثانية، وظلت روثي نولان تبكي وتندب طول فترة الركوب، وجلست كاتي صامتةً كالتمثال، وكانت العربة قريبة تنبعث منها رائحة القش الرطب وروث الجياد الآسن.

وشمت فرانسي تلك الرائحة؛ لأنها تركب بالخلف وترى العربة عن كثب، وكان الحزن يضغط على أعصابها ويشدها، فأحست بشعورٍ من المرض والإعياء لم تألفه من قبلُ.

وكان في المقبرة صندوقٌ خشبيٌّ بسيط وبجواره حفرةٌ عميقة، ووضعوا العلبة المغطاة بالقماش بمقابضها اللامعة في الصندوق البسيط، ونظرت فرانسي بعيدًا حين أنزلوه في القبر.

وكان يومًا عبوسًا قمطريرًا عصفت فيه ريحٌ باردة، وطافت دواماتٌ صغيرة من الغبار المتجمد حول قدمَي فرانسي، وعلى بعدٍ قريب، وفي مقبرةٍ مضى على إقامتها أسبوع، أخذ بعض الرجال ينزعون الزهور الذابلة من إطاراتها المصنوعة من السلك، وكانت قد تكوَّمت على القبر، وكانوا يعملون في نظامٍ، ويحفظون الزهور الذابلة في كومٍ نظيف، ويكوِّمون إطارات السلك في عناية، وعملهم هذا مشروع؛ لأنهم يشترون الترخيص من موظفي المقبرة ويبيعون إطارات السلك لبائعي الزهور الذين يستخدمونها مرةً إثر مرة، ولم يكن أحدٌ يشتكي من ذلك؛ لأن هؤلاء الرجال حريصون أشد الحرص على ألا ينتزعوا الزهور إلا بعد أن تذبل تمامًا، ودفع شخصٌ في يد فرانسي قطعةً من الغبار البارد الرطب، ورأت أمها ونيلي واقفين عند طرف القبر يسقطان فيه الغبار الذي يملأ أيديهما، وسارت فرانسي في تؤدة إلى طرف القبر وأغمضت عينَيها وفتحت يدَيها في بطء، وسمعت دقةً خفيفة بعد لحظةٍ فعاد إليها ذلك الشعور بالمرض والإعياء.

وسارت العربات بعد الدفن في اتجاهاتٍ مختلفة تحمل كل مشيع إلى بيته، وذهبت روثي نولان مع بعض المشيعين الذين يسكنون بجوارها، ولم تقل كلمة وداع، ورفضت أن تتحدث إلى كاتي والطفلَين طول فترة الدفن، وركبت الخالة سيسي وإيفي في العربة مع كاتي وفرانسي ونيلي، ولم تتسع العربة لخمسة أشخاص، فجلست فرانسي على حجر إيفي، وران عليهم الصمت طول الطريق المؤدي إلى البيت، وحاولت الخالة إيفي أن تُرفِّه عنهم بأن تحكي بعض القصص الجديدة عن العم ويلي وجواده، ولكن أحدًا لم يبتسم؛ لأنه لم يكن بينهم من ينصت إليها.

وأوقفت الأم العربة أمام حلاق عند المنعطف بالقرب من بيتهم.

وقالت لفرانسي: ادخلي إلى الحلاق وهاتي وعاء أبيك.

ولم تفهم فرانسي ماذا تقصد، فسألتها: أي وعاء؟

– اطلبي وعاءه فحسب.

ودخلت فرانسي إلى الحلاق، ورأت هناك حلاقَين اثنين والمحل خاليًا من الزبائن، كان أحدهما يجلس في كرسيٍّ من الكراسي المصفوفة تجاه الحائط، ويضع كعبه الأيسر على ركبته اليمنى ويحمل ماندولين، يعزف عليه أغنية «أنت يا حبيبي الوحيد»، وعرفت فرانسي الأغنية، فقد علَّمها لهم السيد مورتون قائلًا إن عنوانها هو «الشمس المشرقة»، وكان الحلاق الآخر يجلس في كرسيٍّ من كراسي الحلاقة ينظر إلى نفسه في المرآة الطويلة، وترك كرسيه حين دخلت الفتاة.

وسألها: ماذا تريدين؟

– أريد وعاء أبي؟

– ما اسمه؟

– جون نولان.

– آه، يا للأسف!

وتنهد وهو يأخذ كأسًا من الكئوس المصفوفة فوق الرف، وكانت كأسًا بيضاء سميكة كتب عليها «جون نولان» بالذهب بحروفٍ كبيرةٍ جميلة، وكانت في قاعها قطعةٌ من الصابون الأبيض المستهلكة وفرشاةٌ بالية، وأخرج قطعة الصابون والفرشاة، ووضعهما في وعاءٍ أكبر حجمًا ليس عليه كتابة وغسل وعاء جوني.

ونظرت فرانسي حولها وهي تنتظر؛ ذلك أنها لم تكن قد دخلت قط محل حلاق، وشمت رائحة الصابون والمناشف النظيفة ومشروب الروم، وكان هناك موقد غاز يُصدر صفيرًا خفيفًا مصاحبًا للغناء، وأنهى الحلاق الأغنية وبدأها مرةً أخرى، وأحدث رنين الماندولين الرفيع صوتًا حزينًا في المحل الدافئ، وغنت فرانسي بينها وبين نفسها كلمات السيد مورتون مع الأغنية:

آه! هل من جمال يا حبيبي
يفوق جمال يوم تشرق شمسه
بعد أن ولَّت العاصفة،
وتجلَّت السماء زرقاء صافية؟

وتفكرت فرانسي: إن لكل امرئ حياته الخاصة لا يبوح بها لأحدٍ وإن أباها لم يتكلم أبدًا عن محل الحلاق، ولكنه كان يأتي إلى هنا ثلاث مرات في الأسبوع ليحلق، ولقد اشترى جوني المتأنق وعاءه الخاص على غرار الرجال، الذين كانوا يعيشون في مستوًى أرفع من مستواه، إنه لم يكن خليقًا بأن يحلق بالرغوة التي توضع في الوعاء العام. حاشاه! وكان يغشى محل الحلاق ثلاث مرات في الأسبوع، حين يتيسر له المال ويجلس في كرسيٍّ من هذه الكراسي، وينظر في هذه المرآة ويتكلم مع الحلاق عن شيء … ترى أكان حديثه عن فريق بروكلين، وهل أتيح له هذا العام فريق كرة جيد؟ أم كان يتحدث متسائلًا عن الديمقراطيين وهل سيفوزون في الانتخابات كشأنهم، ولعله كان يغني حين يعزف الحلاق الآخر على الماندولين، أجل إنها لواثقةٌ أنه كان يغني، فقد كان الغناء عنده أسهل من التنفس وأيسر، وتساءلت: أتراه كان يعمد، حين يضطر إلى الانتظار، إلى قراءة مجلة الشرطة وهو يجلس على ذلك المقعد.

وأعطاها الحلاق الوعاء النظيف الجاف، وقال: كان جوني نولان رفيقًا لطيفًا، قولي لأمك إنني — أنا حلَّاقه — قد قلت ذلك.

وهمست فرانسي في امتنان: أشكركَ.

وخرجت وأغلقت الباب دون صوت الماندولين الحزين، وناولت الوعاء لكاتي حين عادت إلى العربة، لكن أمها قالت لها: إن هذا لك، وسيأخذ نيلي خاتم أبيه.

ونظرت فرانسي إلى اسم أبيها الذهبي، وهمست في امتنانٍ للمرة الثانية في خمس دقائق: أشكركِ.

وكان جوني قد عاش أربعة وثلاثين عامًا، وسار منذ أقل من أسبوع في هذه الشوارع، والآن أصبح الوعاء والخاتم وفوطتان غير مكويتين من فوط النُّدُل بالبيت، هي الأشياء الملموسة الوحيدة التي بقيت لتشير إلى أن رجلًا كان يعيش في يومٍ من الأيام، ولم تكن هناك أشياء أخرى مادية تحمل ذكرى جوني؛ لأنه دفن بالملابس التي كان يملكها جميعًا، وبأزرار قميصه وزرار بنيقته الذهبي عيار أربعة عشر قيراطًا.

وحين وصلوا إلى البيت وجدوا أن الجيران في الشقة وقد أتموا ترتيبها، وأعادوا الأثاث إلى مكانه في الحجرة الأمامية، وكسوا الأوراق الذابلة وأوراق أكمام الزهور التي سقطت على الأرض، وفتحوا النوافذ وغيروا هواء الحجرات، وأحضروا فحمًا وأشعلوا نارًا كبيرة في موقد المطبخ، ووضعوا قماشًا أبيض نظيفًا على المائدة، وأحضرت الآنستان تنمور كعكة كانتا قد خبزتاها بنفسيهما ووضعتاها في طبقٍ بعد أن قطعتاها، وأحضرت فلوس جاديس وأمها قطعةً كاملة من شرائح اللحم ووضعتاها في طبقَين إلى جانب سلة تمتلئ بخبز الجويدار المقطع الطازج وأقداح القهوة المُعدة على المائدة، وكان على الموقد وعاءٌ مليء بالقهوة الطازجة، ووضع أحدهم في وسط المائدة ماعونًا من القشدة الحقيقية، وكلهم فعلوا ذلك حينما كانت أسرة نولان خارج البيت، ثم انصرفوا وأغلقوا الباب خلفهم، ووضعوا المفتاح تحت الحصيرة.

وجلست الخالة سيسي وإيفي والأم وفرانسي ونيلي إلى المائدة، وأفرغت الخالة إيفي القهوة، وجلست كاتي وقتًا طويلًا تنظر إلى قدحها، ثم تذكرت المرة الأخيرة التي جلس فيها جوني إلى هذه المائدة، وفعلت ما فعله جوني، إذ دفعت القدح بذراعها بعيدًا، ووضعت رأسها على المائدة وبكت في نشيجٍ يحزن القلب، وأحاطتها سيسي بذراعَيها وقالت لها في صوتها الحنون الذي يفيض حبًّا: كاتي! كاتي لا تبكي هكذا، لا تبكي هكذا، وإلا أصبح الطفل الذي سيخرج من أحشائك قريبًا إلى هذا العالم طفلًا حزينًا.

٣٧

وبقيت كاتي في الفراش نهار اليوم الذي تلا الجنازة، وتجول نيلي وفرانسي مُبلبلَي الخاطر في أنحاء المسكن، وقد تملكتهما الحيرة والذهول، ونهضت كاتي قرب المساء وأعدَّت لهما بعض الطعام للعشاء، وحثتهما بعد أن أكلا على أن يخرجا للسير على الأقدام بعض الوقت، قائلةً إنهما في حاجةٍ إلى الهواء الطلق.

وسار نيلي وفرانسي مصعدَين في شارع جراهام متجهين إلى برودواي، وكانت ليلةً قارسة البرد ساكنة الهواء لا تغشاها الثلوج، والشوارع خالية من المارة، وكان قد انقضى على عيد الميلاد ثلاثة أيام، وأوى الأطفال إلى بيوتهم يلعبون بلعبهم الجديدة، وأنوار الشارع هزيلةٌ ضئيلة، وهبت ريحٌ ثلجيةٌ ضعيفة من البحر قريبًا من الأرض، فأثارت قصاصات الأوراق القذرة حول البالوعات، وكانا قد ودعا عهد الطفولة في الأيام القليلة الأخيرة، ومر بهما عيد الميلاد دون أن يشعرا به، ذلك أن أباهما مات في يوم من أيام عيد الميلاد، وضاع عيد ميلاد نيلي الثالث عشر في الأيام القليلة الأخيرة.

ووصلا إلى المسرح الفكاهي الكبير وقد تلألأت واجهته بالأنوار الزاهية، وحيث إنهما كانا مشغوفَين بالقراءة، يقرآن كل ما تقع عليه عيونهما، فقد توقفا وقرآ بلا وعي قائمة المشاهد التي كانت ستمثل في ذلك الأسبوع، ورأيا تحت المشهد السادس إعلانًا كبيرًا كُتب بالحروف الكبيرة «هنا في الأسبوع القادم! تسمعون تشونسي أسبورن المطرب المحبوب، يغني أغانيه المحبوبة! فلا تدعوه يفوتكم!» المطرب المحبوب … المطرب المحبوب … المطرب المحبوب.

ولم تكن دمعةٌ واحدة قد طفرت من عينَي فرانسي منذ وفاة أبيهما، وكذلك كان نيلي، وشعرت فرانسي الآن أن جميع الدموع التي اختزنتها قد تجمدت وتجمعت في حلقها، وغدت كتلةً صلبة تنمو وتنمو … وأحسَّت أنها سوف تموت سريعًا هي الأخرى، ما لم تَذُبْ تلك الكتلة سريعًا وتستحل دموعًا، ونظرت إلى نيلي، ورأت الدموع تتساقط من عينيه فانهمرت الدموع من عينَيها أيضًا.

واستدارا إلى شارعٍ جانبيٍّ مظلم، وجلسا على طرف الطوار، وقد تدلت أقدامهما في الحمأة، وتذكر نيلي رغم بكائه أن يبسط منديله على حافة الطريق حتى لا يتسخ سرواله الجديد، وجلسا متلاصقَين لأنهما يشعران بالبرد والوحدة، وأخذا يبكيان طويلًا في هدوء وهما يجلسان في الشارع البارد، وأخيرًا تكلما حين عجزا عن الاستمرار في البكاء: نيلي! ألم يكن مناص من أن يموت أبونا؟

– إني لأحسب أن الله شاء له أن يموت.

– لماذا؟

– ربما ليعاقبه!

– ليعاقبه علامَ؟

وقال نيلي في تعاسة: لا أدري!

– هل تظن أن الله هو الذي أوجد أبي في هذا العالم؟

– نعم!

– إذن كان يريد له أن يحيا؟ أليس كذلك؟

– أظن ذلك!

– لماذا إذن جعله يموت بهذه السرعة؟

وردَّ نيلي دون أن يعلم جوابًا آخر: ربما ليعاقبه.

– إذا كان ذلك صحيحًا فما وجه الخير فيه؟ إن أبي مات وهو لا يعلم أنه يعاقب، إن الله قد سوى أبي على الصورة التي كان عليها، ثم قال لنفسه: إنك لن تجرؤ على أن تغير من أمرك شيئًا، إني أراهن أنه قال ذلك.

وقال نيلي في ذعر: لعل من الواجب عليكِ ألا تتحدثي عن الله بهذه الطريقة.

وقالت فرانسي في سخرية: إنهم يقولون إن الله عظيم، وإنه عليمٌ بكل شيء، قادرٌ على كل شيء، فما باله — وقد بلغ هذه العظمة — لم يساعد أبي بدلًا من أن يعاقبه كما تقول!

– إن كل ما قلته هو أنه أماته، ربما ليعاقبه.

وقالت فرانسي: إذا كان الله موكلًا بالعالم، بالشمس والقمر والنجوم والطير والشجر والزهر جميعًا، والحيوان والناس كافة، فإنك خليقٌ بأن تظن أنه أعظم انشغالًا وأجل قدرًا، من أن ينفق كل هذا الوقت في عقاب رجلٍ واحد، أجل رجل واحد كأبي.

وقال نيلي في قلق: إني لأنكر عليكِ تحدثكِ عن الله بهذه الطريقة، فقد يُنزل بك ضربةً تقضي عليكِ.

وصاحت فرانسي في شدة: ليفعلن ذلك إذن! ولينزلن بي ضربةً تقضي عليَّ هنا في هذا المكان الذي أجلس فيه.

وانتظرا خائفَين، ولم يحدث شيء، وكانت فرانسي أكثر هدوءًا حين استأنفت حديثها: إني لأومن بالرب ويسوع المسيح وأمه مريم العذراء، كان يسوع طفلًا حيًّا في يومٍ من الأيام، يمشي حافيًا كما نفعل نحن في الصيف، لقد رأيت صورةً له حين كان صبيًّا، ولم يكن يلبس في قدمَيه حذاءً، فلما أصبح رجلًا ذهب للصيد كما فعل أبي مرة، وكان في إمكانهم أن ينالوه بالأذى هو أيضًا، كما أنهم لم يستطيعوا أن يمسُّوا الله بضر، إن يسوع لم يكن خليقًا بأن يسعى في الأرض، ينزل العقاب بالناس، لقد كان يعرفهم، فلأومن إذن بالمسيح دائمًا.

ورسما علامة الصليب كما يفعل الكاثوليك حين يذكرون اسم المسيح، ووضعت يدها على ركبة نيلي، وهمست: نيلي! أنا لن أبوح بذلك لأحدٍ سواك، ولكني لم أعد أومن بالرب.

وقال نيلي: أريد أن أعود إلى البيت.

وكان ينتفض.

ورأت كاتي حين فتحت لهما الباب أن الإعياء قد غشى وجهَيهما، ولكنهما كانا هادئَي النفس، وقالت بينها وبين نفسها: حسنا! لقد فرجا عن نفسَيهما بالبكاء!

ونظرت فرانسي إلى أمهما ثم أشاحت بوجهها، وقالت بينها وبين نفسها: لقد بكت حين كنا خارج البيت، وراحت تبكي وتبكي حتى عزَّ عليها البكاء.

ولم يذكر أحدهم كلمة البكاء بصوتٍ عالٍ، وقالت الأم: أظن أنكما عدتما إلى البيت مقرورَين فأعددت لكما مفاجأةً سارة، وسأل نيلي: ما هي؟

– سوف ترى.

وكانت المفاجأة هي «الشوكولاتة الساخنة» التي تشتمل على الكاكاو واللبن المركَّز، بعد أن عجنا ومزجا بالماء المغلي، وأفرغت كاتي الشراب السميك الدسم في الفناجين، ثم أردفت: وليس هذا هو كل ما هنالك.

وأخرجت ثلاثًا من فطائر الخبازي من كيسٍ من الورق من جيب «مريلتها»، ووضعت فطيرةً في كل قدح.

وقال الاثنان في وقتٍ واحد وفي نشوةٍ: أمَّاه!

وكانت الشوكولاتة الساخنة شيئًا فريدًا خاصًّا يُدَّخر عادةً لأعياد الميلاد، وقالت فرانسي بينها وبين نفسها، وهي تمسك فطيرتها بالملعقة وتراقب الدوائر البيضاء الذائبة تغشى الشوكولاتة الداكنة: إن أمي امرأةٌ عظيمة حقًّا، إنها تعلم أننا كنا نبكي ولكنها لا ترهقنا بالأسئلة، إن أمي لا تعمد أبدًا إلى …

واهتدت فرانسي فجأة إلى الكلمة الصحيحة: إن أمي لا تعمد أبدًا إلى اللغو أو التردد.

أجل! إن كاتي لم تكن تعمد إلى اللغو والتردد أبدًا، وحين تستخدم يدَيها الجميلتين رغم ما يبدو عليهما من كلال، فإنها تستخدمهما في ثقة، سواء وضعت زهرةً مقطوفة في كأسٍ من الماء بإيماءةٍ صادقة، أو عصرت الممسحة بحركةٍ واحدةٍ حاسمة، تقبض يدها اليمنى وتبسط اليسرى في آن، وكانت إذا تحدثت تقول الحقيقة بأبسط الكلمات وأسلمها، تمضي أفكارها في خطٍّ واضحٍ صريح دون لفٍّ أو دوران، ومضت الأم تقول: إن نيلي أصبح أكبر من أن ينام في حجرةٍ واحدة مع أخته؛ ولهذا أعددت الحجرة الخاصة …

ثم ترددت في النطق بالكلمة التالية: الخاصة بي وبأبيك، لقد غدت هذه الحجرة الآن حجرة نومك.

وقفزت عينا نيلي شاخصتَين إلى عينَي أمه، حجرةٌ خاصة به! لقد تحقق الحلم، بل تحقق حلمان: السروال الطويل وحجرة خاصة به! لكن عينَيه غامتا بالحزن حين فكر كيف تحققت له هذه الأحلام.

– وسوف أشارككِ في حجرتكِ يا فرانسي.

قالت كاتي ذلك في فطنةٍ غريزية بدلًا من أن تقول: سوف تشاركينني في حجرتي.

وقالت فرانسي بينها وبين نفسها، وقد اجتاحتها موجةٌ من الغيرة: كنت أودُّ أن تكون لي حجرتي الخاصة، ولكن لا بأس، فقد أخذها نيلي، وليس لدينا سوى حجرتَين للنوم فحسب، وهو لا يمكنه النوم مع أمي.

وقالت كاتي وقد أدركت ما يدور برأس فرانسي: إن فرانسي تستطيع أن تأخذ الحجرة الأمامية حين يعود الجو إلى الدفء، ولسوف نضع سريرها هناك، ونبسط عليه غطاء جميلًا بالنهار، فتبدو الحجرة كأنها حجرةٌ خاصة للجلوس، أيروقكِ ذلك يا فرانسي؟

– أجل يا أماه!

وقالت الأم بعد لحظةٍ: لقد نسينا القراءة في الليالي القليلة الأخيرة، ولكنا سنبدأ الآن مرةً أخرى.

وقالت فرانسي بينها وبين نفسها، وقد دُهشت بعض الشيء، وهي تأخذ الإنجيل من فوق رف الموقد: وهكذا ستعود الأمور سيرتها الأولى.

وقالت الأم: أما وقد فقدنا عيد الميلاد هذا العام، فلنسقط الجزء الذي كان من المفروض أن نقرأه ونبدأ من ولادة المسيح، وسوف نتناوب القراءة، ابدئي أنت يا فرانسي.

وقرأت فرانسي: وبينما كانا هناك تمت أيامها لتلد فولدت ابنها البكر وقمطته، وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل.

وتنهدت كاتي في حرقةٍ وأمسكت فرانسي عن القراءة، ورفعت بصرها متسائلة، وقالت الأم: ليس في الأمر شيء! استمري في القراءة.

ثم قالت بينها وبين نفسها: لا، إن في الأمر شيئًا، لقد حان الوقت الذي ينبغي أن أشعر فيه بحركة الطفل، وتحرك الجنين في رفقٍ مرةً أخرى في أحشائها، وساءلت نفسها: أتراه توقف عن شرب الخمر أخيرًا لأنه علم بقدوم ذلك الطفل؟ لقد همست له بأنهما سوف ينجبان طفلًا آخر، هل حاول أن يغير سلوكه حين علم؟ أتراه، إذ علم، مات وهو يسعى إلى إصلاح حاله؟ جوني … جوني … وتنهدت مرةً أخرى.

وقرءوا كلٌّ بدوره عن ميلاد المسيح، وفكروا في موت جوني أثناء القراءة، لكن كلًّا منهم احتفظ بأفكاره لنفسه.

وخرجت كاتي عن مألوفها تمامًا حين استعد الطفلان للذهاب إلى فراشهما، وكان خروجها هذا عن المألوف يرجع إلى أنها لم تكن من النساء اللائي يستعرضن عواطفهن، فقد ضمَّت الطفلَين إلى صدرها وقبلتهما قبلة المساء، وقالت: إني منذ الآن أمكما وأبوكما.

٣٨

وقالت فرانسي لأمها قبل انتهاء إجازة عيد الميلاد مباشرة إنها لن تذهب إلى المدرسة مرةً أخرى.

وسألتها الأم: ألا تحبين المدرسة؟

– بل أحبها، ولكني بلغت الرابعة عشرة، وأستطيع أن أحصل بسهولةٍ على أوراقي للعمل.

– لماذا تريدين أن تذهبي إلى العمل؟

– كي أساعدكِ.

– لا يا فرانسي، إني أريد منك أن تعودي إلى المدرسة وتحصلي على الشهادة، لم يبقَ لك إلا شهور قليلة وسوف يقبل شهر يونيو دون أن تحسِّي به، ويمكنك أن تحصلي على أوراق العمل هذا الصيف، وربما استطاع نيلي ذلك أيضًا، ولكنكما سوف تذهبان أنتما الاثنان إلى المدرسة الثانوية في الخريف؛ لهذا دعكِ من أوراق العمل وعودي إلى المدرسة.

– ولكن كيف نستطيع يا أماه أن نعيش حتى يحل الصيف؟

– سنتدبر الأمر.

ولم تكن كاتي واثقةً بنفسها الثقة التي بدت في كلماتها، فقد كانت تفتقد جوني لأكثر من سبب، لم يكن جوني قد انتظم في عمله أبدًا، ولكن كان هنالك عمل ليلة السبت أو الأحد غير المتوقع الذي يجلب له ثلاثة دولارات، ثم إن جوني كان حين تشتد الحالة سوءًا يلتمس وسيلةً، يستجمع فيها نفسه لحظة ليجتاز بهم تلك الأزمات، ولكن لم يعد لجوني وجود الآن.

وعمدت كاتي إلى التقتير والادخار، وظلت تدفع الإيجار ما دامت ماضية في تنظيف المساكن الثلاثة، وكان نيلي يحصل على دولار ونصف دولار في الأسبوع من بيع الصحف، وكان ذلك خليقًا بأن يوفر الفحم لهم إذا أشعلوا النار في الليل فحسب، ولكن صبرًا! كان يرد إليهم عشرون سنتًا كل أسبوع من أرباح قسط التأمين (وكانت كاتي قد أمنت على حياتها لقاء عشرة سنتات في الأسبوع، وأمن كلٌّ من الطفلين على حياته بخمسة سنتات) حقًّا، إنهم يستطيعون أن يوفروا ذلك لو تنازلوا عن قليلٍ من الفحم، وذهبوا إلى فراشهم مبكرين قليلًا، فما بال الملابس؟ إنهم لم يكونوا يفكرون فيها، وكانت فرانسي من حسن الحظ قد حصلت على الحذاء الجديد، وحصل نيلي على الحلة، وبقيت المشكلة الكبرى، وهي تدبير الطعام.

ربما كانت السيدة ماكجريتي خليقةً بأن تجعلها تغسل لها مرةً أخرى؛ إن ذلك يجلب لها دولارًا في الأسبوع، ثم إنها تستطيع أن تحصل على بعض أعمال التنظيف بالخارج، أجل إنهم يستطيعون تدبير الأمر على أي حال.

ودبَّروا الأمر حتى نهاية شهر مارس، وما إن حلَّ هذا الوقت حتى أصبحت كاتي غير صالحة للعمل (وكان موعد وضعها للطفل يحلُّ في مايو) وكانت النساء اللائي تخدمهن ينقبضن ويشحن بوجوههن عنها، حين يرين بطنها المنتفخ بالجنين، وهي تقف أمام منضدة الكي في مطابخهن، أو يرينها في وضعٍ حرج وهي تزحف على يديها وركبتيها لتمسح أرضية بيوتهن، وكن يضطررن إلى مساعدتها شفقةً عليها، ولكنهن ما لبثن أن أدركن أنهن يدفعن أجرًأ لخادمة تنظف البيت، بينما هن يقمن بمعظم العمل على أي حال؛ ولهذا أخذت كل واحدة منهن بعد الأخرى تخبرها بأنها لم تعد تحتاج إليها.

وجاء يوم عجزت فيه كاتي عن أن تدفع العشرين سنتًا لمندوب شركة التأمين، وكان صديقًا قديمًا لأسرة روملي، ويعرف ظروف كاتي.

– إني أكره أن يفوتكِ موعد دفع قسط التأمين يا سيدة نولان، وخاصة أنكِ قد دأبت على سداده في مواعيده طوال هذه السنين بلا انقطاع.

– أولى بكَ ألا تجعل موعد تسديد القسط يفوتني؛ لأنني تأخرت قليلًا في الدفع.

– أنا لن أفعل، ولكن الشركة تفعل، ولكن انظري! لماذا لا تقبضين تأمين الطفلين نقدًا؟

– لم أكن أعلم أنك تستطيع ذلك.

– قليلٌ من الناس يعلمون، إنهم يتوقفون عن دفع الأقساط وتظل الشركة صامتةً، ويمر الوقت وتحتفظ الشركة بالمال الذي دُفع من قبلُ، إني سوف أفقد وظيفتي إذا علموا أنني أخبرتكِ بذلك، ولكن هذه هي وجهة نظري، لقد أمنتُ على حياة أبيكِ وأمكِ، كما أمنتُ على حياتكن أنتن يا بنات روملي جميعًا وأزواجكن وأطفالكن، ولا أدري كيف كان ذلك، لكني حملت كثيرًا جدًّا من الرسائل بينكم عن الوضع وعن المرض وعن الموت، حتى شعرت أنني جزءٌ من الأسرة.

وقالت كاتي: لم نكن نستطيع عمل شيء بدونكَ.

– إذن هاكِ ما تفعلينه يا سيدة نولان، اقبضي تأمين الطفلَين نقدًا، ولكن اتركي تأمينك، فإذا ما حدث شيء لأحد الطفلين، لا قدر الله، فإنك تستطيعين تدبير أمر دفنه، في حين أنه إذا حدث لك شيء، لا قدر الله أيضًا، فإنهما لا يستطيعان أن يقوما بدفنك من غير قيمة التأمين، أم ترين أنهما يستطيعان؟

– لا، إنهما لا يستطيعان، ينبغي لي أن أستمر في تأميني، إنني لا أريد أن أُدفن كالمعدمين في مقبرة الصدقة، ذلك شيء لن يستطيعا أبدًا أن يغفراه لي، لا هما ولا أولادهما ولا أولاد أولادهما؛ لهذا سأمضي في دفع قسط تأميني، وأعمل بنصيحتك بالنسبة لتأمين الطفلين، أخبرني ماذا يجب عليَّ أن أفعل؟

ودبرت الخمسة والعشرون دولارًا التي حصلت عليها كاتي من إيصال التأمين أمورهم حتى نهاية شهر أبريل، وكان الطفل سيولد في مدى خمسة أسابيع أخرى، وكان نيلي وفرانسي سيتخرجان في المدرسة الابتدائية بعد ثمانية أسابيع أخرى، وكان ينبغي لهم تدبير الأمر في هذه الأسابيع الثمانية على أي حال.

وجلست الأخوات الثلاث من أسرة روملي حول المائدة في المطبخ عند كاتي يتداولن الأمر.

وقالت إيفي: كان يجدر بي أن أقدم لكِ العون إذا استطعتُ، ولكنك تعلمين أن صحة ويلي ليست على ما يرام منذ رَفَسَه ذلك الجواد، وهو حديث العهد برئيسه، ولا يحسن التعامل مع الرجال، وقد انتهى به الأمر إلى أنه لم يبقَ جوادٌ واحد يقبل الخروج معه، فجعلوه يقوم بأعمال الحظيرة من كنس الروث ونزح الزجاجات المكسورة، وخفَّضوا أجره إلى ثمانية عشر دولارًا في الأسبوع، وهذا لا يكفي لإعالة الأطفال الثلاثة، إنني نفسي أبحث عن القيام بأعمال التنظيف الحقيرة.

وبدأت سيسي قائلة: لو كان في وسعي أن أدبر حيلةً ما …

وقالت كاتي في حزم: لا، إنكِ تفعلين ما فيه الكفاية بأن تكفلتِ بحياة أمنا.

وقالت إيفي: صدقت، فقد ظللت أنا وكاتي مشغولتَي البال من أجل معيشتها وحيدةً في حجرةٍ واحدة، وخروجها واشتغالها بالتنظيف من أجل بنساتٍ قليلة.

وقالت سيسي: إن أمنا لا تكلفني مالًا أو جهدًا، وإن زوجي جون لا يعارض في بقائها معنا، وهو بالطبع لا يكسب سوى عشرين دولارًا في الأسبوع، وقد أصبحت لدينا الآن طفلة، وكنت أريد أن أعود إلى عملي القديم، ولكن أمي تقدم بها العمر، حتى إنها لا تستطيع أن ترعى الطفلة والبيت، فقد بلغت الثالثة والثمانين، وإني أستطيع أن أعمل، ولكن ينبغي لي أن أستأجر شخصًا ما ليرعى أمي والطفلة، لو كان لي عمل لاستطعت أن أساعدك يا كاتي.

وقالت كاتي: إنك لا تستطيعين يا سيسي، فما من سبيلٍ إلى ذلك.

وقالت إيفي: ليس أمامك إلا شيءٌ واحد تفعلينه، هو أن تخرجي فرانسي من المدرسة، وتجعليها تحصل على ترخيصٍ للعمل.

– ولكني أريد لها أن تتخرج، إن طفليَّ سوف يكونان أول من يحصل على الشهادة في أسرة نولان.

وقالت إيفي: إنكِ لن تأكلي الشهادة.

وسألت سيسي: أليس لك أصدقاء رجال يمكنهم مساعدتكِ؟ إنك امرأةٌ جميلة كما تعرفين.

وقالت إيفي: أو إنها ستكون كذلك حين تستعيد حالتها الطبيعية.

وفكرت كاتي لحظةً في الشاويش ماكشين، وقالت: لا، ليس لديَّ أصدقاء رجال، لم يكن لي قط إلا جوني، وما من أحدٍ سواه.

وقررت سيسي قائلة: إذن فإني لأحسب أن إيفي على صواب، إني أكره أن أقول ذلك، ولكن ينبغي لك أن تُخرجي فرانسي من المدرسة.

واعترضت كاتي قائلة: إنها حين تترك المدرسة الابتدائية دون أن تحصل على الشهادة، سوف لا تستطيع أبدًا أن تدخل المدرسة الثانوية.

وتنهدت إيفي: حسنًا، وهناك دائمًا الجمعيات الخيرية الكاثوليكية.

وقالت كاتي في هدوء: سوف أسد الأبواب والنوافذ حين يحل الوقت الذي نأخذ فيه سلال الصدقة، وأنتظر حتى يستغرق الطفلان في نومهما، ثم أفتح صنابير الغاز جميعًا في البيت.

وقالت إيفي في حدة: لا تتكلمي هكذا، أنت تريدين أن تعيشي، أليس كذلك؟

– نعم، ولكني أريد أن أعيش من أجل شيء، أنا لا أريد أن أعيش حتى أحصل على طعام من الصدقة، يهبني القوة التي تقيمني حتى أعود إلى طلب المزيد من طعام الصدقة.

وقالت إيفي: حينئذٍ نعود إلى ذلك مرةً أخرى، ينبغي لفرانسي أن تخرج من المدرسة وتعمل، وأقول فرانسي لأن نيلي في الثالثة عشرة فحسب، ولن يُسمح له بترخيصٍ للعمل.

ووضعت سيسي يدها على ذراع كاتي قائلة: لن يكون الأمر بهذا السوء، فإن فرانسي بنتٌ ذكية تقرأ كثيرًا، وسوف تجد الوسيلة لتثقيف نفسها بوجهٍ من الوجوه.

ووقفت إيفي قائلةً: انظري! ينبغي لنا أن نذهب.

ووضعت قطعة ذات خمسين سنتًا على المائدة، وقالت في شدة، وقد تنبأت بأن كاتي سوف ترفضها: ولا تظني أن هذه منحة، إني أتوقع أن أستردها يومًا ما.

وابتسمت كاتي قائلةً: لستِ بحاجةٍ إلى أن تصبحي هكذا، إني لا أستشعر حرجًا حين آخذ مالًا من أختي.

واختصرت سيسي الطريق فدست دولارًا في جيب مريلة كاتي، حين مالت عليها لتقبلها قبلة الوداع، وقالت لها: إذا احتجت إليَّ فأرسلي لي أجيئك ولو في منتصف الليل، ولكن أرسلي نيلي؛ إذ ليس من المأمون أن تسير فتاةٌ في تلك الشوارع المظلمة مارةً بمخازن الفحم.

وجلست كاتي وحدها إلى مائدة المطبخ حتى أوغل الليل، وقالت بينها وبين نفسها: إني أحتاج لشهرَين … شهرَين فحسب، يا إلهي امنحني شهرَين … شهرَين … إنها فسحةٌ من الوقت قصيرة جدًّا، ما إن تحلَّ حتى يولد طفلي، وأستردَّ صحتي، ويتخرج الطفلان في المدرسة الابتدائية، فإذا ملكتُ عقلي وجسمي، فإنني لن أكون بحاجةٍ إلى معونة أحد، ولكن جسمي الآن يملك عليَّ أمري، فلا أجد سبيلًا إلا أن أسألك العون … شهرَين فحسب … شهرَين …

وانتظرت ذلك الإشراق الذي يعمر القلب بالدفء، ويدل على أن الله قد استجاب لدعائها، ولكنها لم تحسَّ بالإشراق، فحاولت مرةً أخرى ورفعت رأسها قائلة: أيتها العذراء مريم يا أم المسيح، أنت تعلمين حالي، لقد أنجبتِ طفلًا، أيتها العذراء مريم …

وانتظرت فلم تحسَّ شيئًا.

ووضعت الدولار الذي أخذته من سيسي والقطعة ذات الخمسين سنتًا التي أخذتها من إيفي على المائدة، وقالت بينها وبين نفسها: سيقوم ذلك بأودنا ثلاثة أيامٍ أخرى، وماذا بعد ذلك؟

وهمست دون أن تدري ماذا فعلت.

– جوني! حيثما تكن، استجمع نفسك مرةً واحدةً أخرى فحسب، أجل مرةً واحدةً أخرى …

وعادت تنتظر فأحست هذه المرة بالإشراق يعمر نفسها.

وهكذا حدث أن مدَّ لهم جوني يد العون.

لم يستطع ماكجريتي صاحب الحانة أن ينتزع جوني من فكره، ولم يكن ضمير ماكجريتي هو الذي يعذبه … لا … لا شيء من هذا القبيل، فإنه لم يكن يجبر الرجال على دخول حانته، صحيح أنه كان يشحِّم مفصلات الباب تشحيمًا جيدًا حتى إن أقل لمسة تفتح الباب بسهولة، ولكنه لم يكن يقدم أي نوع آخر من الإغراء أكثر مما يقدمه أصحاب الحانات الأخرى، ولم يكن غداؤه المجاني أفضل من غدائهم، ولم تكن هناك أية تسليةٍ مغرية غير تلك التي يسهم بها الزبائن باختيارهم، أجل … لم يكن ضميره هو الذي يقلقه.

لقد افتقد جوني، ذلك كل ما في الأمر، ولم يكن المال هو السبب أيضًا؛ لأن جوني كان مدينًا له دائمًا، ولكنه كان يحب وجود جوني في حانته؛ لأنه يضفي على الحانة ميزةً ونفحة، لقد كان مما ترتاح إليه النفس أن يرى المرء ذلك الشاب الممشوق القوام، يقف في مرحٍ إلى مائدة الشراب بين سائقي العربات وحفاري الخنادق، وسلم ماكجريتي قائلًا: كان جوني نولان بلا شك يمعن في الشراب إلى حد الإضرار بصحته، ولكنه إذا لم يشرب الخمر في حانتي فقد يشربها في مكانٍ آخر، غير أنه لم يكن رجلًا شرسًا، ولم يألف قط أن يسبَّ أو يصيح بعد أن يشرب القليل من الخمر، وقرر ماكجريتي قائلًا: نعم، لقد كان جوني رجلًا رضيَّ الخلق من كل ناحية.

والشيء الذي افتقده ماكجريتي هو حديث جوني، وقال بينه وبين نفسه: كيف كان الحديث يواتي ذلك الرفيق، وما السر في أنه يحكي لي عن حقول القطن القائمة هناك في الجنوب أو عن الشواطئ العربية أو عن فرنسا المشمسة، كأنما كان يعيش فيها ولا يتلقى معلوماته عنها من تلك الأغاني التي كان يعرفها.

وحدَّث نفسه متفكرًا: كنت أحب بلا شك أن أسمعه يحكي عن تلك الأماكن البعيدة، ولكني كنت أحب أكثر ما أحب أن أسمعه يحكي عن أسرته.

وماكجريتي أَلِف أن يعيش في حلمٍ يدور حول أن تكون له أسرة، وكانت أسرة الأحلام تلك، تقطن بعيدًا كل البعد عن حانته، أجل بعيدًا كل البعد حتى إنه كان يضطر إلى القفز إلى عربة التروللي ليعود إلى بيته في الصباح الباكر بعد أن يغلق الحانة، وكانت زوجة الأحلام الرقيقة تنتظره وقد أعدت له القهوة الساخنة وشيئًا من الطعام الشهي، وبعد أن يتناولا الطعام يتكلمان؛ يتكلمان عن أشياءَ أخرى غير الحانة، وكان له أطفالٌ في الأحلام، أطفال تجلوا في حلةٍ من النظافة والملاحة والذكاء، يشتد عودهم حتى ليساورهم شيءٌ من الخجل؛ لأن أباهم يدير حانة، وهو فخورٌ بخجلهم؛ لأنه كان ينم عن قدرته على إنجاب أطفال مهذَّبين.

أجل، كان ذلك هو الحلم الذي يراوده عن الزواج، ثم تزوج ماي، وهي فتاةٌ محنية الظهر لها شعرٌ أحمرُ داكن وفمٌ واسع، ولكنها انقلبت بعد فترةٍ من الزواج امرأةً بدينة رثة الملابس، عرفت في بروكلين باسم «امرأة الحانة»، واستمرت حياتهما الزوجية هانئة سنة أو سنتين، ثم استيقظ ماكجريتي صباح يوم ووجد أنها حياةٌ لا خير فيها، فلم تكن ماي خليقة بأن تتغير لتصبح زوجة أحلامه، كانت تحب الحانة، وصممت على أن يشغلا الحجرات التي تعلوها، ولم تكن ترغب في أن يستأجرا بيتًا في فلاشينج؛ لأنها لم تكن تحب القيام بالأعمال المنزلية، بل تحب أن تجلس في الحجرة الخلفية للحانة ليلًا ونهارًا، وتضحك وتشرب مع الزبائن، وكان الأطفال الذين أنجبتهم ماي له يجرون في الشوارع كالمشاغبين المعربدين، ويتباهون بأن أباهم يمتلك حانة، ويفخرون بها؛ مما جعله يشعر بخيبة أملٍ شديدة.

وكان يعلم أن ماي لا تخلص له، ولم يحفل بذلك ما دام الأمر لم ينتشر انتشارًا يجعل الناس يسخرون منه، وماتت الغيرة في قلبه من سنين مضت، حين ماتت رغبته في زوجته، وغدا لا يهتم شيئًا فشيئًا بمعاشرتها أو معاشرة أية امرأةٍ أخرى، وارتبط في عقله على نحوٍ ما الحديث الممتع بالمرأة الممتعة، وكان يريد أن يجد امرأة يتحدث إليها، امرأة يستطيع أن يحكي لها أفكاره، وتبادله الحديث في حرارةٍ وحكمة وود، وفكر في أنه إذا وجد مثل هذه المرأة لارتدت رجولته إليه، وكان يصبو على طريقته الصامتة الهائمة إلى اتحاد العقل والروح بالجسد، وبمضي السنين أصبحت حاجته إلى حديث الود مع امرأةٍ قريبة من نفسه عقدة من العقد.

وأخذ في عمله يرقب الطبيعة البشرية، ووصل بشأنها إلى نتائجَ معينة، إلا أنها نتائج تنقصها الحكمة والأصالة، بل كانت في الحقيقة متعبةً مملة، ولكنها هامة بالنسبة لماكجريتي؛ لأنه اكتشفها بنفسه، وحاول في سنة الزواج الأولى أن يخبر ماي بهذه النتائج، لكن كل ما كانت تقوله له هو: أستطيع أن أتصور ذلك.

وكانت تغير هذه العبارة في بعض الأحيان فتقول: أكاد أستطيع أن أتصور ذلك.

وهنالك أخذ يفقد قوته كزوجٍ لها شيئًا فشيئًا، بعد أن عجز في ذات نفسه أن يكون بينه وبينها مشاركة، وأصبحت هي خائنة لعهده.

وماكجريتي رجلٌ تئنُّ روحه تحت ثقل ذنبٍ عظيم، وهو يكره أطفاله، وكانت ابنته أيرين في عمر فرانسي، قرنفلية العينَين، شعرها أحمرُ باهت حتى إنه يمكن أن يوصف أيضًا بأنه قرنفلي اللون، وكانت حقيرةً غبية، تخلفت في الدراسة سنين كثيرة حتى بلغت الرابعة عشرة من عمرها وهي في الصف السادس، أما ابنه جيم الذي بلغ العاشرة من عمره، فلم تكن له ميزةٌ ظاهرة، اللهم إلا أن إليتَيه كانتا دائمًا أسمن من أن تتسع لهما سراويله.

وراود ماكجريتي حلمٌ آخر هو أن ماي سوف تأتي إليه، وتعترف بأن الطفلَين ليسا من صلبه، وجعله هذا الحلم سعيدًا، فقد شعر أنه يستطيع أن يحب هذين الطفلَين إذا علم أنهما طفلا رجل آخر، وهنالك يستطيع أن ينظر إلى حقارتهما وغبائهما نظرةً مجردة، ثم يشفق عليهما ويساعدهما، ولكنه يكرههما ما دام يعلم أنهما طفلاه؛ لأنه يرى فيهما أسوأ صفاته، وأسوأ صفات ماي جميعًا.

وأخذ جوني في السنوات الثماني التي كان يرتاد فيها حانة ماكجريتي، يحكي له كل يوم عن كاتي وطفلَيه ويقرظهم، وكان ماكجريتي يمارس لعبةً في الخفاء في أثناء هذه السنوات الثماني، فكان يتظاهر بأنه هو جوني، وأنه — أي ماكجريتي — كان يتكلم على هذا النحو عن ماي وطفلَيه.

وقال جوني مرةً في فخرٍ وهو يأخذ من جيبه ورقة: أريد أن أطلعك على شيء، لقد كتبت ابنتي الصغيرة هذا الموضوع الإنشائي في المدرسة ونالت عنه درجة جيد، وكانت في العاشرة من عمرها، سأقرؤه عليك.

وتصور ماكجريتي، وجوني يقرأ، أن ابنته الصغيرة هي التي كتبت القصة، وفي يومٍ آخر حمل جوني معه طرفَي غلاف كتاب صنعا من الخشب الغفل، ووضعهما على مائدة الشراب في زهو.

وقال متفاخرًا: أريد أن أطلعك على شيءٍ، إن ابني نيلي صنعهما في المدرسة.

وقال ماكجريتي بينه وبين نفسه متفاخرًا، وهو يفحص طرفَي الغلاف: إن ابني جيمي صنعهما في المدرسة.

وسأله ماكجريتي مرةً أخرى ليفتح له باب الحديث: تصور أننا سنخوض غمار الحرب يا جوني.

وأجاب جوني: إنه لشيءٌ مضحك، لقد سهرت أنا وكاتي حتى اقترب الصباح نتحدث عن ذلك الشيء نفسه، وأقنعتها آخر الأمر بأن الرئيس ويلسون سوف يحول بيننا وبين الحرب.

وفكر ماكجريتي كيف يكون الأمر لو أنه سهر هو وماي الليل كله، يتحدثان عن ذلك، وكيف تكون الحال لو أنها قالت: أنت على حق يا جيم!

ولكنه لم يعرف كيف تكون الحال لأنه كان يعلم أن ذلك لن يحدث أبدًا.

وهكذا فقد ماكجريتي أحلامه حين مات جوني، وحاول أن يمارس اللعبة وحده فلم يفلح، وكان بحاجةٍ إلى شخصٍ مثل جوني ليعينه على الأحلام.

وفي الوقت الذي كانت تجلس فيه الأخوات الثلاث يتحدثن في مطبخ كاتي، خطر في ذهن ماكجريتي خاطر، كان يملك من المال أكثر مما يستطيع أن ينفقه، ولا شيء غير ذلك، ولعله يستطيع من خلال طفلَي جوني أن يسترجع أحلامه، وأدرك أن كاتي تعاني عسرًا وربما استطاع أن يخلق عملًا سهلًا صغيرًا، يشتغل فيه طفلا جوني بعد عودتهما من المدرسة، فيساعدهم ذلك على الخروج من هذه الأزمة … ويعلم الله أنه كان يستطيع أن ييسر لهم ذلك، وربما يعود عليه ذلك أيضًأ بشيءٍ من الجزاء … ربما يتكلم الطفلان معه على نحو ما كان ينتظر أن يتكلما مع أبيهما.

وأخبر ماي أنه ذاهبٌ ليرى كاتي ويحدثها عن تيسير بعض العمل لطفلَيها، وردَّت عليه ماي في ابتهاجٍ بأنه سوف يلقى به خارج الدار، ولكن ماكجريتي لم يكن يعتقد أنه سوف يحدث له ذلك، وتذكر وهو يحلق ذقنه تأهبًا للزيارة، ذلك اليوم الذي جاءت فيه كاتي لتشكره على إكليل الزهور الذي أرسله.

كانت كاتي بعد أن انفضت جنازة جوني، قد ذهبت لتشكر كل من أرسل إليهم زهورًا، وسارت متجهةً مباشرة إلى باب ماكجريتي الأمامي، وترفَّعت عن الدخول من الباب الذي كتب عليه «مدخل السيدات»، وتجاهلت نظرات الرجال المحملقة وهم متعلقون بمائدة الشراب، واتجهت مباشرة إلى ماكجريتي، وكان ماكجريتي حين رآها قد شمر طرف «مريلته» في حزامه، مما كان يعني أنه في وقت راحته، وأقبل من خلف مائدة الشراب ليستقبلها.

وقالت: جئت لأشكرك على إكليل الزهور.

وقال وهو يشعر براحةٍ بعد أن ظن أنها قد جاءت لتتشاجر معه: عفوًا.

– لقد كان ذلك شعورًا طيبًا منكَ.

– لقد كنتُ أحب جوني.

– أعلم ذلك.

ومدَّت يدها له، ونظر إليها جامدًا لحظةً قبل أن يفهم أنها تريد أن تصافحه، وسألها وهو يشدُّ على يدها: أمستاءة أنتِ مني؟

وأجابت: لم؟ إن جوني كان رجلًا حرًّا جاوز الحادية والعشرين.

واستدارت في تلك اللحظة، وخرجت من الحانة.

واستقر رأي ماكجريتي على أن مثل هذه المرأة ليست خليقةً بأن تُلقي به خارج الدار إذا ذهب إليها، وقد حسنت نيته.

وجلس وهو يشعر بالحرج على كرسي بالمطبخ يتحدث مع كاتي، وكان المفروض أن الطفلَين يؤديان واجبهما المنزلي، لكن فرانسي التي تظاهرت بوضع الكتاب أمام عينيها كانت تُنصت إلى ماكجريتي.

وقال ماكجريتي حالمًا: لقد تحدثت مع زوجتي بهذا الشأن، واتفقت معي على أن نستخدم ابنتكِ، ولن يكون العمل شاقًّا كما تعلمين، مجرد ترتيب الأسرة وغسل بعض «الصحون» القليلة، وإني أستطيع استخدام الصبي في الطابق السفلي، يقشر البيض ويقطع الجبن التي يأكلها الشاربون بالليل، ولن يقترب من موائد الشراب بأي حالٍ من الأحوال؛ لأنه سيشتغل في المطبخ الخلفي، ولن يستغرق هذا العمل أكثر من ساعةٍ أو نحوها بعد المدرسة ونصف يوم من أيام السبت، وسوف أدفع لكل منهما دولارين في الأسبوع.

وقفز قلب كاتي، وفكرت بينها وبين نفسها: أربعة دولارات في الأسبوع، والدولار والنصف دولار من بيع الصحف، إن كليهما يستطيعان أن يستمرا في الدراسة، وسوف يتوافر لنا الطعام وتمضي سفينة حياتنا في طريقهما.

وسألها: ما رأيكِ يا سيدة نولان؟

وأجابت: إن الرأي رأي الطفلَين.

– حسنًا!

وخاطب الطفلَين قائلًا: ما رأيكما؟

وتظاهرت فرانسي بأنها تنتزع نفسها من فوق كتابها، وقالت: ماذا قلت؟

– أترغبين في أن تساعدي السيدة ماكجريتي في البيت؟

قالت فرانسي: نعم يا سيدي.

ونظر إلى نيلي، وقال: وأنت؟

وردَّ الصبي: نعم يا سيدي.

– اتفقنا.

واستدار إلى كاتي قائلا: إنه عملٌ مؤقت بلا شك حتى نجد امرأة تقوم بأعمال البيت والمطبخ بانتظام.

وقالت كاتي: إني أوثر أن يكون عملًا مؤقتًا على أي حال.

– قد تكونين في حاجةٍ إلى بعض المال.

ووضع يده في جيبه، وقال: لهذا سأدفع أجر الأسبوع الأول مقدمًا.

– لا يا سيد ماكجريتي، إنهما إذا ما كسبا المال فسوف ينالان ميزة جمعه، وإحضاره إلى البيت بنفسيهما في نهاية الأسبوع.

– حسنًا.

ولكنه بدلًا من أن يخرج يده من جيبه، طواها على رزمةٍ سميكة من الأوراق المالية، وقال بينه وبين نفسه: إني أمتلك مالًا كثيرًا لا أحتاج إليه، وهم لا يملكون شيئًا.

وخطرت له فكرة، وقال: يا سيدة نولان! أنت تعلمين كيف كنت أنا وجوني نتعامل معًا، كنت أقرضه المال، وكان يعطيني النفحات التي ينالها، لكنه حين مات كان قد دفع مبلغًا أكبر مما أقرضته.

وأخرج رزمة الأوراق السميكة، وجحظت عينا فرانسي حين رأت كل هذا المال، وكانت فكرة ماكجريتي أن يقول إن جوني دفع له اثني عشر دولارًا أكثر مما يستحق، ويعطي هذا المبلغ لكاتي، ونظر إلى كاتي وهو ينزع عن المال الرباط المطاط، ورأى عينيها تضيقان، فغيَّر رأيه بشأن الاثني عشر دولارًا وعلم أنها لن تصدقه، وخطر له أن يقول هذه الكلمات: إنه ليس مالًا كثيرًا بلا شك؛ مجرد دولارين، ولكني أعتقد أنهما من حقك.

وانتزع ورقتين ومد لها يده بهما.

وهزت كاتي رأسها.

– أنا أعلم أننا لا ندينك بمال، ولو قلت الحق لذكرت أن جوني كان هو المدين.

وخجل ماكجريتي؛ إذ أحسَّ بأن حيلته قد انكشفت، وأعاد الرزمة السميكة إلى جيبه، حيث شعر بها تضايقه فوق فخذه، وقالت كاتي: ولكنني أشكرك يا سيد ماكجريتي على نواياك الطيبة.

وأطلقت كلماتها القليلة الأخيرة لسانه من عقاله فبدأ يتكلم، أخذ يحكي عن صباه في أيرلندا، وعن أمه وأبيه وإخوته وأخواته الكثيرين، وحكى عن حلمه في الزواج، وأخبرها بكل ما راود أفكاره منذ سنين، ولم يذم زوجته وطفلَيه بل أخرجهم تمامًا من قصته، وتكلَّم عن جوني، وكيف كان يحكي له كل يوم عن زوجته وطفلَيه.

وقال وهو يشير بيده السميكة إلى أنصاف الستائر المصنوعة من القطن الأصفر، وقد حُلِّيت بورودٍ حمر: انظري إلى هذه الستائر، فقد أخبرني جوني كيف أنكِ فصلت من رداءٍ قديم لك ستائر المطبخ، وقال إنها جعلت المطبخ يبدو في جمال عربة النور من الداخل.

والتقطت فرانسي التي كفَّت عن التظاهر بالاستذكار كلمات ماكجريتي الأخيرة، وقالت بينها وبين نفسها وهي تنظر إلى الستائر نظرةً جديدة: عربة النور، إذن فقد قال أبي ذلك، إنني لم أعتقد أنه لاحظ الستائر الجديدة حين عُلِّقت، أو أنه علق عليها بشيء، ولكنه لاحظها وقال ذلك الحديث الجميل عنها لهذا الرجل.

وكادت فرانسي وهي تسمع ما يقال عن أبيها، تعتقد أنه لم يمت: إذن فقد قال أبي مثل ذلك الكلام لهذا الرجل.

وحملقت في ماكجريتي باهتمامٍ جديد، وكان رجلًا قصيرًا بدينًا له يدان سميكتان، ورقبةٌ قصيرةٌ حمراء، وشعرٌ ناحل، وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: ترى من كان يظن أبدًا حين ينظر إلى مظهره، أنه يختلف ذلك الاختلاف عن جوهره؟

وأخذ ماكجريتي يتكلم ساعتين دون توقف، واستمعت له كاتي في انتباه، ولم تكن تنصت إلى حديث ماكجريتي، ولكنها كانت تنصت إلى حديثه عن جوني، وحين يتوقف لحظةً كانت تستحثه بردودٍ انتقالية من حينٍ إلى حين مثل «نعم» أو «ثم ماذا» أو «بعد …»، وحين يتعثَّر في كلمة تواتيه بكلمةٍ يتقبلها ممتنًّا.

وبينما هو يتكلم حدث شيء جدير بالذكر، شعر أن رجولته الضائعة دبَّت في أوصاله، ولم يكن ذلك راجعًا إلى تلك الحقيقة المادية، وهي أن كاتي كانت ماثلة معه في الحجرة، فقد كانت حاملًا في أيام حملها الأخيرة، حتى لم يكن يستطيع أن ينظر إليها دون أن تنقبض نفسه، لا … لم تكن هي المرأة التي أثارته، وإنما الحديث معها هو الذي فعل ذلك.

وزحف الظلام إلى الحجرة، وتوقف ماكجريتي عن الكلام بعد أن بُحَّ صوته وشعر بالتعب، ولكنه كان نوعًا جديدًا من التعب؛ ذلك التعب الذي يبعث في النفس الراحة والطمأنينة، وشعر في إحجامٍ أنه ينبغي له أن يذهب إلى عمله، فسوف تمتلئ الحانة بالرجال العائدين إلى بيوتهم بعد العمل، والرجال الذين يعرجون على الحانة ليفرغوا في حلوقهم كأسًا من الخمر قبل تناول العشاء، ولم يكن يحب أن تقف ماي خلف مائدة الشراب حين تزدحم الحانة بالرجال، ونهض على قدمَيه متباطئًا:

وقال وهو يتمسح بقبعته البنية اللون: أيمكنني أن آتي إلى هنا مرةً من حينٍ إلى حين لأتحدث معكِ؟

وهزت كاتي رأسها ببطء، وقال مستعطفًا: لأتحدث فحسب.

وقالت بكل ما يسعها من رقة: لا يا سيد ماكجريتي.

وتنهد وانصرف.

وفرحت فرانسي؛ إذ استغرقت في العمل كل الاستغراق، فقد صرفها ذلك كثيرًا عن الإحساس بفقد أبيها، وكانت تستيقظ هي ونيلي في السادسة صباحًا، ويساعدان أمهما في أعمال التنظيف ساعتَين، قبل أن يتأهَّبا للذهاب إلى المدرسة، ولم تكن الأم قادرةً على العمل الشاق الآن، وجلت فرانسي صفحات الأجراس النحاسية في الدهاليز الثلاثة، ونظفت كل عمود من أعمدة حاجز السلم بخرقةٍ مبلَّلة بالزيت، وكنس نيلي حجرات مخزن المؤن والسلم الذي فُرش بالبساط، واشتركا معًا في حمل صفائح القمامة إلى منعطف الطريق كل يوم، وكان ذلك مشكلة بالنسبة إليهما لأنهما — متكاتفين — لم يقدرا على نقل الصفائح الثقيلة، وخطرت لفرانسي فكرة بأن يميلا الصفائح على جانبٍ، ويفرغاها على الأرض ثم يحملا الصفائح الفارغة إلى منعطف الطريق … ثم يملآها مرةً أخرى بدلو الفحم، ونجحت هذه الفكرة بالرغم مما اقتضته من الصعود من مخزن المؤن والهبوط إليه مرارًا وتكرارًا، ولم يبقَ للأم من عملٍ بعد ذلك سوى أن تمسح أرض الردهات المغطاة بالمشمع، وتطوع ثلاثةٌ من السكان بأن يمسحوا ردهاتهم حتى تنتهي كاتي من وضع طفلها، وساعدها ذلك كثيرًا.

واقتضى الأمر من الطفلَين أن يذهبا إلى الكنيسة بعد المدرسة ليتلقيا «الإرشادات»، حيث إنهما كانا سيثبتان في دينهما في ذلك الربيع، وكانا بعد تلقي الإرشادات يذهبان للعمل عند ماكجريتي، وهو عملٌ سهل كما وعد، فتُرتب فرانسي أربعة أسرة وتعيد فرشها، وتغسل قليلًا من «صحون» الفطور وتكنس الحجرات، وكان ذلك يستغرق أقل من ساعة.

وكان نيلي يقوم بنفس البرنامج الذي تقوم به فرانسي، فيما عدا أنه كان يزيد عليها ببيع الصحف، وفي بعض الأحيان لا يعود إلى البيت للعشاء قبل الساعة الثامنة، ويعمل في المطبخ الخلفي لحانة ماكجريتي، فيقشر خمسين بيضة مسلوقة سلقًا شديدًا، ويقطع الجبن الصلب إلى مكعبات، كل منها بوصة، ويرشق في كل مكعب لاقطة خشبية، ويشطر قطع المخلل الكبيرة شرائح.

وانتظر ماكجريتي أيامًا قليلة حتى اعتاد الطفلان العمل معه، ثم قرر أن الوقت قد حان لكي يتحدثا إليه كما كان جوني يفعل، وذهب إلى المطبخ، وجلس يرقب نيلي وهو يعمل، وقال بينه وبين نفسه: إنه صورةٌ طبق الأصل من أبيه.

وانتظر فترةً طويلة حتى يألفه الصبي في ذلك المكان، ثم سأله وهو يتنحنح: هل صنعتَ أخيرًا أية أطراف خشبية لأغلفة الكتب؟

وتلجلج نيلي وأفزعه هذا السؤال الغريب: لا، لا يا سيدي.

وانتظر ماكجريتي، لماذا لم يبدأ الصبي بالحديث؟ وراح نيلي يقشر البيض بسرعة أكثر مما كان يفعل، وحاول ماكجريتي مرةً أخرى: أتعتقد أن ويلسون سيحول بيننا وبين الحرب؟

وقال نيلي: لا أدري!

وانتظر ماكجريتي فترةً طويلة، وظن نيلي أنه يرقب طريقته في العمل، فحرص على أن يرضيه، وأخذ يشتغل بسرعةٍ كبيرة حتى انتهى من عمله قبل وقته المعتاد، ووضع البيضة المقشرة الأخيرة في الوعاء الزجاجي ورفع بصره، وقال ماكجريتي بينه وبين نفسه: آه! إنه سيتكلم معي الآن.

وسأله نيلي: أهذا كل ما تريد منِّي أن أعمله؟

وقال ماكجريتي وهو لا يزال منتظرًا: نعم.

وقامر نيلي بالقول: أظن أنه يمكنني أن أمضي إذن.

وتنهَّد ماكجريتي قائلًا: وهو كذلك يا بني.

وراقب الصبي وهو يسير خارجًا من الباب الخلفي، وقال ماكجريتي بينه وبين نفسه: لو أنه يستدير ويقول شيئًا … أي شيء … عن نفسه.

ولكن نيلي لم يستدر.

وجرب ماكجريتي فرانسي في اليوم التالي، فصعد إلى المسكن، وجلس دون أن يقول شيئًا، وشعرت فرانسي ببعض الخوف، وبدأت تكنس في اتجاه الباب، وقالت بينها وبين نفسها: إذا جاء نحوي فيمكنني أن أخرج عدوًا.

وجلس ماكجريتي صامتًا وقتًا طويلًا، وظن أنه بذلك يجعلها تألفه، ولم يعلم أنه يفزعها، وسألها: أكتبتِ موضوعًا في الإنشاء أخيرًا وحصلتِ فيه على درجة جيد؟

– لا يا سيدي.

وانتظر لحظةً ثم قال: أتظنين أننا سنخوض هذه الحرب؟

– أنا … أنا لا أدري.

وازدادت قربًا من الباب، وقال بينه وبين نفسه: إنني أفزعها، فهي تظنني مثل ذلك الرجل الذي هاجمها في الردهة.

وقال بصوتٍ عالٍ: لا تخافي، إني ذاهبٌ، يمكنك أن تغلقي الباب دوني إن شئت.

وقالت له: نعم يا سيدي.

وقالت فرانسي لنفسها بعد أن خرج: أظن أنه كان يريد أن يتحدث فحسب، ولكن ليس لديَّ ما أقول له.

وصعدت ماي ماكجريتي مرةً ورأت فرانسي راكعةً على ركبتيها، تحاول أن تنزع بعض القاذورات من خلف مواسير المياه تحت البالوعة، فطلبت منها أن تنهض وتترك القاذورات مكانها، وقالت ماي: إن الله يحبك أيتها الطفلة، لا تقتلي نفسك في العمل، إن هذا المسكن سوف يبقى في مكانه، بعد أن نموت أنا وأنت ونمضي من هذا العالم.

وأخذت قالبًا كبيرًا من الهلام الوردي اللون من الثلاجة وشطرته نصفين، ووضعت قطعة في «صحن» آخر، وحلتها في سخاء بالقشدة المضروبة، وألقت بملعتقين على المائدة، ثم جلست وطلبت من فرانسي أن تفعل مثلها.

وكذبت فرانسي قائلةً: أنا لست جائعة.

وقالت ماي: كلي على أي حال حتى يألفك الناس.

وكانت أول مرة تأكل فيها فرانسي الهلام والقشدة المضروبة، ووجدت طعمهما لذيذًا جدًّا، حتى إنها أحجمت عن التهامهما بعد أن تذكرت آداب المائدة، وقالت لنفسها وهي تأكل: إن السيدة ماكجريتي امرأةٌ طيبة، والسيد ماكجريتي رجلٌ طيب أيضًا، ولكني أظن أنهما ليسا فيما بينهما على علاقةٍ طيبة.

وجلس جيم ماكجريتي وماي وحدهما على مائدةٍ مستديرةٍ صغيرة خلف الحانة، يتناولان عشاءهما في سرعةٍ وصمت كالمعتاد، ووضعت يدها فوق ذراعه على غير انتظار، فارتعد حين أحسَّ بتلك اللمسة التي لم تخطر بباله، ونظرت عيناه الصغيرتان الفاتحتان إلى عينَيها الواسعتَين الداكنتَين، ورأى فيهما شفقةً وعطفًا، وقالت في رقةٍ: إن ذلك لن يجدي شيئًا يا جيم.

وهزت الفرحة أعماقه، وقال بينه وبين نفسه: إنها تعرف! عجبًا … عجبًا … إنها تدرك.

وواصلت ماي قولها: هناك مثلٌ قديم يقول: إن المال لا يشتري كل شيء.

فقال: أنا أعلم، سوف أخلي سبيلهما إذن.

– انتظر أسبوعين بعد أن تضع طفلها، أظهر لهم كرمك.

ونهضت وخرجت إلى الحانة.

وجلس ماكجريتي في مكانه تتنازعه المشاعر، وقال بينه وبين نفسه في تعجبٍ: لقد اتصل بيننا حديث، لم تذكر أسماء ولم تحدد للمعاني كلمات، ولكنها علمت ما كنت أفكر فيه، وأنا علمت ما كانت تفكر فيه.

وأسرع خلف زوجته يريد أن يستبقي تلك البارقة من الإدراك، ورأى ماي تقف على طرف مائدة الشراب، وإلى جوارها سائق خيل أجش الصوت يحيط خصرها بذراعه ويهمس في أذنها بشيء، ووضعت يدها على فمها لتكتم ضحكاتها، ورفع السائق عنها ذراعه خجلًا حين دخل ماكجريتي ليقف مع جمع الرجال، ونظر ماكجريتي في عينَي زوجته وهو يذهب خلف المائدة، كانت عيناها خاليتَين من التعبير والفهم، وارتسمت على وجه ماكجريتي خطوط الحزن وخيبة الأمل القديمة، وبدأ عمل المساء.

وكانت ماري روملي تتقدم في السن، ولم تعد قادرة على أن تسير في بروكلين وحدها، وكانت جد مشتاقة لرؤية كاتي قبل أن تضع طفلها، فأعطت مندوب شركة التأمين رسالةً إليها.

وأخبرته قائلة: حين تلد امرأة فإن الموت يأخذ بخناقها لحظة، ولا يتركها في بعض الأحيان أنبئ ابنتي الصغرى أنني أودُّ أن أراها مرةً، قبل أن يحين موعد ولادتها.

وأبلغ المندوب الرسالة، وذهبت كاتي يوم الأحد التالي لترى أمها ومعها فرانسي، واعتذر نيلي عن الذهاب معهما، قائلًا إنه كان قد وعد بأن يلعب مع فريق «تن إيكس»، الذي حاول أن يقيم مباراةً للكرة في الخلاء.

وكان مطبخ سيسي كبيرًا دافئًا مشمسًا نظيفًا لا تعلوه غبرة، واعتادت الجدة ماري روملي أن تجلس بجوار المدفأة في كرسيٍّ هزاز منخفض، كان هو قطعة الأثاث الوحيدة التي أحضرتها معها من أستراليا، وقد وضع بجوار المدفأة في كوخ أسرتها منذ أكثر من مائة عام.

وجلس زوج سيسي بجوار النافذة يحمل الطفلة ويرضعها من الزجاجة، وحيَّته كاتي وفرانسي بعد أن حيَّتا ماري وسيسي، وقالت كاتي: أهلًا يا جوني.

وأجاب: أهلًا يا كيت.

– أهلًا بالعم جون.

– أهلًا فرانسي.

– ولم ينطق كلمةً أخرى طول الزيارة، وحملقت فرانسي فيه متعجبة، وكانت الأسرة تنظر إليه كزوجٍ مؤقت، كما كانت تنظر إلى أزواج سيسي الآخرين وعشاقها، وتساءلت فرانسي: هل يشعر هو بأنه زوجٌ مؤقت؟ وكان اسمه الحقيقي ستيف، لكن سيسي أطلقت عليه اسم «جون»، وكانت الأسرة حين تتكلم عنه تقول «الجون» أو «رجل سيسي جون».

وتساءلت فرانسي: هل كان الرجال في دار النشر حيث عمل هناك يسمُّونه جون أيضًا؟ وهل أبدى ولو مرةً اعتراضًا على ذلك؟ ترى هل قال مرة انظري يا سيسي، إن اسمي هو ستيف وليس جون، وقولي لأخواتك بأن ينادينني بستيف أيضًا.

وكانت أمها تقول: إنك تزدادين بدانةً يا سيسي.

وقالت سيسي في نظرةٍ جريئة: من الطبيعي أن يمتلئ جسم المرأة بعض الشيء بعد أن تضع طفلًا.

وابتسمت سيسي لفرانسي قائلة: أتودين أن تحملي الطفلة يا فرانسي؟

– أوه! نعم.

ونهض زوج سيسي الطويل القامة دون أن ينبس ببنت شفة، وأعطى الطفلة وزجاجة اللبن لفرانسي، ثم سار خارجًا من الحجرة دون أن ينطق بكلمةٍ أيضًا، ولم تعلِّق إحداهن على خروجه.

وجلست فرانسي في كرسيه الشاغر، ولم تكن قد حملت طفلًا بين ذراعَيها قط، ولمست بأصابعها خد الطفلة المستدير الناعم على نحو ما رأت جوانا تفعل، وانتابتها نشوةٌ بدأت من أناملها وصعدت إلى ذراعها ثم سرت في كيانها كله، وقررت بينها وبين نفسها أن سوف يكون لي دائمًا حينما أكبر طفلٌ جديد في البيت.

وأنصتت وهي تحمل الطفلة إلى حيث أمها وجدتها، وراقبت سيسي وهي تصنع فطائر الشهر كله، وأخذت سيسي كرةً من العجين الأصفر اليابس وبسطتها ببسَّاطة الفطير، ثم طوتها قرصًا كقرص الهلام، وأخذت سكينًا حادة وقطعت العجين قطعًا رقيقة كالورق، وفكتها وعلقتها على رفٍ صُنع من عصا رفيعة من الإسفين مُقام أمام موقد المطبخ، فعلت ذلك لتجفف الفطائر.

وشعرت فرانسي بأن هناك شيئًا ما تغيَّر في سيسي، لم تكن هي الخالة سيسي المعهودة، ولم يكن ذلك يرجع إلى أنها أصبحت أقل نحافةً مما كانت، فإن ما تغير فيها لم يتعلق بمنظرها، وتحيرت فرانسي في ذلك.

وأرادت ماري روملي أن تسمع كل كلمة من أخبارهم، وأنبأتها كاتي بكل شيء بادئة من النهاية إلى البداية، قالت لها أولًا عن عمل الطفلين عند ماكجريتي، وكيف أن المال الذي يكسبانه يسد رمقهما، ثم أخبرتها باليوم الذي جلس فيه ماكجريتي في مطبخها وتحدث عن جوني، واختتمت كلامها قائلة: أخبركِ يا أمي أنه لو لم يأتِ ماكجريتي في حينه، فإنني لا أدري ما الذي كان خليقًا بأن يحدث لنا، لقد كانت نفسي منهارةً يائسة، حتى إنني ناجيت جوني في ملكوت الموت ليساعدني قبل ذلك بليالٍ قليلة، وأنا أعلم أن ما فعلتُ كان حماقةً مني.

وقالت ماري: لا، لم تكن حماقة منكِ، فقد سمعكِ وساعدكِ.

وقالت سيسي: إن الشبح لا يستطيع أن يساعد أحدًا يا أمي.

وقالت ماري روملي: إن الأشباح ليست هي دائمًا التي تنفذ من خلال الأبواب المغلقة، لقد حكت كاتي كيف أن زوجها اعتاد أن يتكلم مع رجل الحانة هذا، وقد بذل جوني أشتاتًا من نفسه لهذا الرجل في تلك السنين التي تحدَّث فيها إليه، وحينما نادت كاتي رجلها ليساعدها تجمعت هذه الأشتات من نفسه في الرجل، وكان جوني الذي يعيش في أعماق رجل الحانة هو الذي سمعها ومد لها يد العون.

وقلَّبت فرانسي الفكرة في رأسها، وقالت بينها وبين نفسها: لو كان ذلك صحيحًا فإن السيد ماكجريتي رد إلينا بعض أشتات أبي، حين تكلم عنه ذلك الوقت الطويل، ولم يعد في أعماقه شيء من أبي الآن، ربما كان ذلك هو السبب في أننا لا نستطيع أن نتكلم معه على نحو ما يريد.

وأعطت سيسي كاتي حين حل موعد رحيلها صندوقًا من صناديق الأحذية مليئًا بالفطائر لتأخذه معها إلى بيتها، وضمت الجدة ماري روملي فرانسي حين كانت تقبلها قبلة الوداع، وهمست في أذنها بلغتها الخاصة: أعطي لأمك في الشهر المقبل ما يزيد على الاحترام والطاعة، فإنها سوف تكون في أشد الحاجة إلى الحب والفهم.

ولم تفهم فرانسي كلمةً مما قالته جدتها، لكنها أجابت قائلةً: نعم يا جدتي!

ووضعت فرانسي صندوق الأحذية في حجرها، وهما تركبان التروللي عائدتَين إلى البيت؛ لأن أمها لم يكن لها الآن حجر، وفكرت فرانسي تفكيرًا عميقًا وهي تركب، وقالت بينها وبين نفسها: لو أن ما قالته جدتي ماري روملي هو الحق، فما من ريبٍ في أن المنية لا تدرك أحدًا أبدًا، لقد ذهب أبي ولكنه لا يزال ماثلًا هنا بصورٍ مختلفة، فهو ماثلٌ في نيلي الذي يشبهه كل الشبه، وماثلٌ في أمي التي خبرته وقتًا طويلًا، وماثل في أمه التي أنجبته والتي لا تزال على قيد الحياة، وقد أُنجب أنا في يومٍ من الأيام صبيًّا يشبه أبي ويرث حسناته جميعًا، ما عدا الإمعان في الشراب، وسوف ينجب هذا الصبي صبيًّا، وهذا الصبي سوف ينجب صبيًّا آخر، ولعل الموت لا يكون له من ثم وجودٌ حقيقي.

وتحولت أفكارها إلى ماكجريتي: ما من أحدٍ يصدق أبدًا أن بعضًا من أبي يعيش في هذا الرجل.

وفكرت في السيدة ماكجريتي وكيف يسرت لها أن تجلس وتأكل ذلك الهلام، وطرأت لفرانسي فكرة! لقد عرفت فجأة ما الذي تغير في سيسي، وقالت لأمها: إن الخالة سيسي لم تعد تستعمل ذلك العطر النفاذ الجميل، أم تراها تستعمله يا أمي؟

– لا، إنها لم تعد بحاجةٍ إليه.

– لماذا؟

– لقد رزقت الآن بطفلة، وقيض لها رجل يرعاها ويرعى الطفلة.

وأرادت فرانسي أن تزيد في السؤال، لكن أمها أغمضت عينَيها وأسندت رأسها إلى ظهر المقعد، وكانت تبدو شاحبةً متعبة، فقررت فرانسي ألا ترهقها أكثر من ذلك، ورأت أنه ينبغي لها أن تفكر هي بنفسها.

وقالت بينها وبين نفسها: لا بد أن استعمال العطر النفاذ يرتبط — على نحوٍ ما — بامرأة تريد طفلًا، وتريد أن تجد رجلًا تنجب منه طفلًا يرعاه ويرعاها أيضًا.

وأضافت تلك الفكرة الصغيرة إلى الأفكار الأخرى كلها التي مضت في جمعها.

وبدأت فرانسي تشعر بصداعٍ لم تدر أيرجع سببه إلى فرحتها بحمل الطفلة، أم إلى اهتزاز عربة التروللي، أم إلى فكرتها عن أبيها، أم إلى اكتشافها لسر عطر سيسي، وقد يكون سببه أنها أصبحت تستيقظ مبكرةً جدًّا في الصباح وتعكف على العمل طوال اليوم، أو لعل ذلك يرجع إلى حلول ذلك الوقت من الشهر الذي تستطيع فيه أن تلتمس سببًا لهذا الصداع، واستقر رأي فرانسي على السبب، وقالت: حسنًا! أظن أن الحياة هي التي تسبب لي هذا الصداع، وليس شيئًا آخر.

وقالت الأم في هدوء، وهي تسند رأسها إلى الخلف، وتغمض عينَيها: لا تكوني بلهاء، لقد كان مطبخ الخالة سيسي حارًّا جدًّا، وأنا نفسي أشعر بصداع.

وقفزت فرانسي، أيمكن لأمها أن تنفذ مباشرةً إلى عقلها، وعيناها مغمضتان، ثم تذكرت أنها قد نسيت أنها تفكر، ونطقت فكرتها الأخيرة عن الحياة بصوتٍ عالٍ، وضحكت لأول مرة منذ وفاة أبيها، وفتحت أمها عينَيها وابتسمت.

٣٩

وثبت نيلي وفرانسي في دينهما في شهر مايو، وكانت فرانسي قد بلغت أو كادت الرابعة عشرة والنصف، أما نيلي فكان يصغرها بعامٍ واحد تقريبًا، وصنعت سيسي — التي كانت حائكةً ماهرة — ثوبًا بسيطًا أبيض لفرانسي من الموسلين، وحاولت كاتي أن تشتري لها خفًّا أبيض من جلد الشاة، وزوجًا من الجوارب الطويلة البيضاء المصنوعة من الحرير، هو أول ما لبست فرانسي من جواربَ حريرية، وارتدى نيلي حلته السوداء التي اشتراها لجنازة أبيه.

وشاعت في الحي أسطورةٌ تقول: إن المرء إذا تمنى ثلاث أمنيات في ذلك اليوم فسوف تتحقق، واقتضى الأمر أن تكون إحدى الأمنيات مستحيلة التحقيق، والأمنية الثانية تستطيع أن تحققها بنفسك، والأمنية الثالثة تتمناها حين تكبر، وكانت أمنية فرانسي المستحيلة هي أن يتحول شعرها المرسل البني اللون إلى شعرٍ ذهبيٍّ مجعد كشعر نيلي، وكانت أمنيتها الثانية هي أن يكون لها صوتٌ نديٌّ مثل صوت أمها وإيفي وسيسي، وكانت أمنيتها الثالثة التي ستتحقق حين تكبر أن تجوب أنحاء العالم جميعًا، أما أمنيات نيلي فكانت الأولى: أن يصبح ثريًّا جدًّا، والثانية: أن يحصل على درجاتٍ أعلى في التقارير التي تكتب في بطاقته، والثالثة: ألا يشرب الخمر كأبيه حين يكبر.

وكان في بروكلين عرفٌ صارم يقضي بأن يصور الأطفال حين تثبيتهم مصورٌ محترف، ولم يكن في مقدور كاتي أن تتكبد نفقات المصور، فاقتنعت بأن تدع فلوسي جاديس، وكانت تمتلك آلةً للتصوير على شكل صندوق، تلتقط لهما صورة، وأوقفتهما فلوسي على حافة الطوار، والتقطت الصورة دون أن تشعر بمرور عربة التروللي في تثاقلٍ وبطء، في اللحظة التي فتحت فيها العدسة، وكبرت الصورة وصنعت لها إطارًا، وقدمتها لفرانسي ونيلي هديةً يوم التثبيت.

وكانت سيسي تزورهم حين وصلت الصورة، وأمسكتها كاتي، وأخذ الجميع يفحصونها بعيونهم من فوق كتفها، ولم تكن فرانسي قد صُوِّرت من قبلُ قط، ورأت لأول مرة نفسها كما يراها الآخرون؛ كانت تقف مستقيمةً مشدودة على حافة الطريق وظهرها لقناة الصرف، وثوبها قد نفخته الريح من طرفَيه، ووقف نيلي ملتصقًا بها وقامته تفوق قامتها بمقدار رأس، ويبدو غاية في الوجاهة والوسامة في حلته السوداء المكوية، وكانت الشمس قد مالت على الأسطح على نحوٍ جعل نيلي يقف في الشمس، فبدا وجهه واضحًا مشرقًا حين بدت فرانسي في الظل داكنة اللون عابسة، وبدت من خلفهما عربة التروللي تسير مهتزة غير واضحة.

وقالت سيسي: إني أراهن أن هذه هي صورة التثبيت الوحيدة في العالم التي تشتمل على عربة تروللي.

وقالت كاتي: إنها صورةٌ جميلة؛ لأنهما يبدوان طبيعيَّين وهما يقفان في الشارع أكثر مما لو وقفا أمام نافذة الكنيسة المصنوعة من الكرتون في محل الصور.

وعلقت الصورة فوق رف المدفأة.

وسألت سيسي: أي اسم اتخذته يا نيلي؟

– اسم أبي، إنني الآن كورنيليوس جون نولان.

وعلقت كاتي على ذلك قائلةً: هذا اسمٌ جميل لطبيبٍ جراح.

وقالت فرانسي في اعتداد: لقد اتخذت اسم أمي، إن اسمي الكامل الآن هو ماري فرانسيس كاترين نولان.

وانتظرت فرانسي، لكن أمها لم تقل إنه اسمٌ جميل لكاتبة، وسألت سيسي: هل لديكِ أي صور لجوني يا كاتي؟

– لا، ليس لديَّ إلا صورةٌ واحدة لنا أُخذت يوم زفافنا، لماذا؟

– لا شيء، مجرد أن الأيام تمضي هكذا، أليس كذلك؟

وتنهدت كاتي: أجل، ذلك من الأشياء القليلة التي نستطيع أن نستوثق منها على سبيل الجزم.

وانتهى التثبيت، ولم تعد فرانسي تضطر إلى الذهاب لتلقي إرشادات الكنيسة، فأصبح لديها ساعة فراغ كل يوم، خصصتها للرواية التي كانت تكتبها، لتثبت للآنسة جاردنر مدرسة اللغة الإنجليزية الجديدة أنها تفهم الجمال حقًّا.

وفرانسي منذ وفاة أبيها توقفت عن الكتابة عن الطيور والأشجار وخواطرها الخاصة، وانصرفت إلى كتابة القصص القصيرة عن أبيها؛ لأنها أحسَّت إحساسًا قويًّا بفقده، وحاولت أن تعرض ذلك بالرغم من نقائصه، لقد كان أبًّا طيبًا ورجلًا عطوفًا، وكتبت ثلاث قصص من هذا النوع نالت عليها درجاتٍ متوسطة، بدلًا من درجة جيد التي اعتادتها، وردت إليها معلمتها القصة الرابعة مذيلة بسطرٍ يطلب منها أن تبقى بعد انصراف المدرسة.

وانصرف جميع الأطفال إلى بيوتهم، وبقيت الآنسة جاردنر وفرانسي وحدهما في الفصل، ومعهما القاموس الكبير، ووضعت قصص فرانسي الأربع الأخيرة على مكتب الآنسة جاردنر.

وسألت الآنسة جاردنر: ماذا أصاب كتاباتكِ يا فرانسي؟

– لا أدري.

– لقد كنتِ من خيرة تلميذاتي، وكنتِ تكتبين كتابةً غاية في الجمال، حتى إنني كنت أستمتع بقراءة موضوعاتك، ولكن هذه الموضوعات الأخيرة … وضربت عليها بازدراء.

– لقد تثبت من تهجَّي الكلمات، وجاهدت من أجل تحسين خطي و…

– إنني أشير إلى موضوع الكتابة.

– قلتِ إننا نستطيع أن نختار موضوعاتنا الخاصة.

– ولكن الفقر والجوع والحرمان والسُّكْر، كلها موضوعاتٌ قبيحة، إنا نعترف جميعًا بأن هذه الأشياء موجودة، ولكنا لا نكتب عنها.

والتقطت فرانسي دون وعي عبارة المعلمة، وقالت: ما الذي نكتب عنه إذن؟

– على المرء أن يغوص في الخيال ويكتشف فيه الجمال، إن الكاتب كالفنان عليه أن يسعى في طلب الجمال دائمًا.

وسألت الطفلة: ما هو الجمال؟

– لا أستطيع أن أهتدي إلى تعريفٍ أجمل من تعريف الشاعر كيتس: «الجمال هو الحق، والحق هو الجمال.»

واستجمعت فرانسي كل شجاعتها، وقالت: هذه القصص هي الحق.

وانفجرت الآنسة جاردنر قائلة: هراء!

ثم خففت لهجتها ومضت تقول: إنما نعني بالحق أشياء كالنجوم تكون دائمًا في السماء، والشمس تشرق دائمًا، ونبل الإنسان الحق، وحب الأم وحب المرء لوطنه.

وأنهت كلامها قبل الأوان، وقالت فرانسي: فهمت.

وبينما كانت الآنسة جاردنر تواصل كلامها، أخذت فرانسي تردُّ عليها في مرارةٍ بينها وبين نفسها: إن السُّكْر ليس من الحق أو الجمال في شيء، إنه رذيلةٌ، إن مدمني الخمر ينتمون إلى عالم السجن لا إلى عالم القصص، والفقر … ليس هناك عذر للفقر، إن العمل يتوافر لكل من يريد، والناس فقراء لأنهم كسالى لا يعملون، ليس في الكسل أي جمال (تصوروا لو كانت أمي كسولًا!).

إن الجوع ليس شيئًا جميلًا، إنه غير ضروري أيضًا؛ إذ لدينا جمعياتٌ خيريةٌ منظمة، وما من حاجةٍ تدعو أحدًا إلى أن يعيش جائعًا.

وضغطت فرانسي على أسنانها، كانت أمها تكره كلمة «صدقة» أكثر من أية كلمةٍ أخرى في اللغة، وقد نشَّأت طفلَيها على كراهية هذه الكلمة أيضًا.

وقالت الآنسة جاردنر: إنني لست مترفعةً، ولم أنحدر من أسرةٍ ثرية، كان أبي قسيسًا يتقاضى راتبًا شهريًّا صغيرًا جدًّا.

[ولكنه كان راتبًا شهريًّا يا آنسة جاردنر].

– ولم يكن يساعد أمي في البيت سوى خادمات غير متمرنات، تتعاقب الواحدة تلو الأخرى، ومعظمهن من الريف.

[إني أفهم، لقد كنتِ فقيرة يا آنسة جاردنر، فقيرة ولديك خادمة!].

– وكنا نعيش في بعض الأحيان بلا خادمة، وتضطر أمي إلى القيام بأعمال البيت جميعًا بنفسها.

[وإن أمي يا آنسة جاردنر تضطر إلى القيام بعمل بيتها وعشرة أمثاله أيضًا من أعمال التنظيف].

– وكنت أريد أن أدخل جامعة الولاية، ولكنا لم نقدر على ذلك، واضطر أبي أن يرسلني إلى كليةٍ صغيرةٍ طائفية.

[ولكن اعترفي بأنكِ لم تجدي مشقَّةً في سبيل الذهاب إلى الكلية].

– صدقيني، إنك لتعدين فقيرة حين تذهبين إلى مثل هذه الكلية، لقد خبرت الجوع أيضًا، وكان مرتب أبي يقطع بين الحين والحين، ولا نجد مالًا نشتري به زادنا، واضطررنا مرةً أن نعيش على الشاي والخبز المحمص ثلاثة أيام.

[إذن فأنت تعرفين ما هو الجوع أيضًا].

– ولكني خليقةٌ بأن أكون غبية لو لم أكتب عن شيءٍ إلا عن الفقر والجوع، أليس كذلك؟

ولم ترد فرانسي، ورددت الآنسة جاردنر مشددة: أليس كذلك؟

– نعم يا سيدتي.

– والآن نتناول مسرحيتك التي قدمتِها لنيل الشهادة.

وأخرجت من درج مكتبها مخطوطًا رفيعًا، وقالت: إن بعض أجزائها في غاية الجودة حقًّا، ولكنكِ شططت في أجزاءٍ أخرى، مثال ذلك …

وقلبت صفحة قائلة: وهنالك قال القدر «وأنت أيها الشباب ما مطمحك؟» ويجيب الصبي: «سوف أكون آسيًا للجراح، أتناول أجسام الناس العليلة فأبرئها.» هذه فكرةٌ جميلة يا فرانسي ولكنك أفسدتِها هنا: يقول القدر «هذا ما لست خليقًا بأن تكونه، ولكن انظر! هذا ما ستكونه.» (تسلط الأضواء على رجلٍ مسنٍّ يلحم قاع صفيحة من صفائح القمامة، الرجل المسن يقول: «آه، لقد فكرت مرةً في أن أكون آسيًا للناس وها أنا ذا الآن أبرئ اﻟ…».)

ورفعت الآنسة جاردنر بصرها فجأة، وقالت: أنت لا تعنين بحال أن تكوني بذلك فكهة، أم تراكِ تعنين ذلك يا فرانسي؟

– أوه! لا يا سيدتي.

– وإنك لتستطيعين أن تفهمي بعد حديثنا القصير لماذا لم نقبل مسرحيتك موضوعًا للتخرج.

وقالت فرانسي وقد تحطَّم قلبها: إني أفهم.

– أما بياتريس ويليامز فعندها فكرةٌ بارعة، تلوِّح جنية بعصًا صغيرة فيخرج بعض الصبية والبنات مرتدين حللهم، كلٌّ منهم يمثل إجازة من إجازات السنة، ويقول قصيدةً قصيرةً من الشعر عن الإجازة التي يمثلها، إنها فكرةٌ رائعة، ولكن بياتريس لسوء الحظ لا تستطيع أن تنظم الشعر، أتودِّين أن تقتبسي هذه الفكرة وتكتبي لها أبيات الشعر؟ إن بياتريس لا تعترض على ذلك، ويمكننا أن نشير بكلمةٍ في البرنامج إلى أن الفكرة فكرتها، وهذا يعطي كلًّا منكما حقها بالعدل، أليس كذلك؟

– نعم يا سيدتي، ولكني لا أريد أن أقتبس أفكارها، بل أريد أن أكتب أفكاري أنا!

– هذا شيءٌ يستحق الثناء بلا شك، حسنًا! إني لا أصمم على رأيي.

ووقفت وهي تقول: لقد أنفقت كل ذلك الوقت معكِ؛ لأني أعتقد مخلصةً أن لك موهبة يرجى منها. والآن، وبعد أن قلَّبنا وجهات النظر أصبحت على يقينٍ من أنك سوف تتوقفين عن كتابة تلك القصص الصغيرة الوضيعة.

وضيعة؟ وأدارت فرانسي الكلمة في رأسها، فوجدت أنها ليست من حصيلة مفرداتها.

– ما معنى كلمة وضيعة!

وقالت الآنسة جاردنر وهي تترنم مازحة: ماذا قلت — لك — حين — لا تفهمين — كلمة.

– آه! لقد نسيت.

وذهبت فرانسي إلى القاموس الكبير وبحثت عن كلمة «وضيعة»، فوجدتها تعني «بذيئة» … بذيئة؟

وفكَّرت في أبيها وهو يرتدي صدرية وبنيقة نظيفتَين كل يوم في حياته، ويلمِّع حذاءه البالي مرتين في اليوم، «قذر؟» كان لأبي وعاؤه الخاص عند الحلاق، «حقير؟» وتجاوزت فرانسي عن تلك الكلمة التي لا تعرف معناها بالضبط، «مبتذل» أبدًا! كان أبي راقصًا، رشيقًا سريع الحركة، ولم يكن جسده مبتذلًا، «حقيرٌ ودنيء» أيضًا، وتذكرت مئات الحالات من تصرفات أبيها الصغيرة التي تدل على الرقة والحنان والتفكير، وتذكرت أيضًا كيف أحبه الناس جميعًا كل الحب، وشعرت بالحرارة تصعد إلى وجهها، ولم تستطع أن ترى الكلمات التالية لأن الصفحة أصبحت حمراء أمام عينَيها، واستدارت إلى الآنسة جاردنر وقد اربدَّ وجهها غضبًا: هلا كففت عن رمينا بهذه الصفة بعدُ!

وسألت الآنسة جاردنر دون أن تفهم شيئًا: رمينا؟ لقد كنا نتكلم عن موضوعات الإنشاء التي كتبتِها، فماذا دهاكِ يا فرانسي؟

وغُصَّ حلقها وهي تقول: إني لأعجب لفتاةٍ مهذبة مثلك أن تقول ذلك، وما عسى أن تقول أمكِ إذا علمتْ أنكِ توقحتِ مع معلمتك؟

وارتاعت فرانسي؛ لأن الوقاحة في حق المعلمين كادت تكون جريمة في بروكلين، تقتضي إرسال الطفل إلى الإصلاحية، ورددت فرانسي في ذلةٍ: سألتك العفو، سألتك العفو … إني لم أقصد أن أسيء إليك.

وقالت الآنسة جاردنر في رقة: إني أدرك موقفك.

وأحاطت فرانسي بذراعها، وقادتها إلى الباب، وهي تقول: إن حديثنا القصير قد أثَّر فيك كما أرى، إن صفة «وضيعة» كلمةٌ قبيحة، وإني مسرورةٌ لأنكِ استنكرت استخدامي لها، وهذا يدل على أنكِ تدركين، وربما لم تعودي تحبينني، ولكن أرجوك أن تعتقدي أنني لم أكن أبغي من كلامي إلا مصلحتك الخاصة، وسوف تذكرين ما قلتُ ذات يوم وتشكرينني عليه.

وودَّت فرانسي لو كفَّ أهل النضج عن أن يرموها بهذا القول، وكان عبء الشكر الذي يتعين عليها أن تزجيه للناس في قابل أيامها يثقل كاهلها منذ الآن، وتصورت أن الأمور تقتضيها أن تنفق أجمل سني أنوثتها، ساعيةً إلى الناس لتقول لهم إنهم كانوا على الحق، وتزجي إليهم عبارات الشكر.

وناولتها الآنسة جاردنر موضوعاتها «الوضيعة» والمسرحية قائلة: أحرقي هذه الكتابات في الموقد حين تصلين إلى بيتكِ، أشعلي الثقاب فيها بنفسك، وادأبي على القول واللهب يتصاعد منها «إني أحرق القبح، إني أحرق القبح.»

وحاولت فرانسي — وهي عائدةٌ إلى بيتها من المدرسة — أن تفكر في الأمر كله، إنها تعلم أن الآنسة جاردنر لم تكن امرأةً وضيعة، وأن حديثها كان في مصلحة فرانسي، وكل ما في الأمر أنها لم تتلطف معها، وبدأت تدرك أن حياتها تبدو في عين بعض المتعلمين متمردة، وتساءلت: أتراها تخجل من نشأتها حين تصبح متعلمةً؟ ترى هل تخجل من أهلها؟ أتخجل من أبيها الوسيم الذي كان طيب السريرة كريمًا مدركًا للأمور؟ أتخجل من أمها الشجاعة الصادقة التي كانت هي أيضًا جد فخور بأمها، بالرغم من أنها كانت أميَّة لا تعرف القراءة أو الكتابة؟ أتخجل من نيلي الذي كان مثالًا للصبي الأمين الصالح؟ لا! لا! إذا كان التعليم خليقًا بأن يجعلها تخجل من أصلها، فإنها لا تريد منه شيئًا، وأقسمت بينها وبين نفسها قائلة، ولكني سوف أظهر ذلك للآنسة جاردنر، سوف أظهر لها أنني أوتيت خيالًا، سوف أظهر لها ذلك بكل تأكيد.

وبدأت روايتها في ذلك اليوم، وكانت بطلتها شيري نولا فتاةً واعيةً مدركة، ولدت وترعرعت في أحضان النعيم، وكان عنوان القصة هو «هذه هي أنا»، وكانت هي قصة فرانسي غير الحقيقية.

وأتمت فرانسي كتابة عشرين صفحة، أنفقتها في الوصف الدقيق لأثاث بيت شيري الفاخر، ونظمت مختارات من الشعر والنثر، في وصف ملابس شيري البديعة الفائقة الحسن، ووصفت من حينٍ إلى حين شيئًا من الأطعمة الخيالية التي كانت تتناولها البطلة.

وفكرت فرانسي أنها حين تفرغ منها سوف تطلب من زوج سيسي جون، أن يأخذها إلى الدار التي يعمل فيها ليطبعها، وأخذت فرانسي تحلم حلمًا جميلًا عما سوف يحدث، حين تقدم كتابها إلى الآنسة جاردنر، وارتسم المنظر كله في عقلها ومضت في الحوار.

(فرانسي وهي تعطي الكتاب للآنسة جاردنر.)

– أعتقد أنكِ لن تجدي شيئًا وضيعًا في هذا، وأرجو منك أن تعديه العمل الذي أقدمه لنيل الشهادة، وإني لآمل ألا تعترضي على نشره (يسقط فك الآنسة جاردنر وتفتح فمها دهشةً، لكن فرانسي تتجاهل ذلك).

– إن طباعته تيسِّر قراءته بعض الشيء، ألا تعتقدين ذلك؟

(في حين تقرأ الآنسة جاردنر تحملق فرانسي خارج النافذة دون اهتمام.)

الآنسة جاردنر (بعد أن قرأت): عجبًا يا فرانسي! إنه لرائع!

– ماذا تقولين؟

(وقد بدأت تستذكر.)

– أوه! تعنين الرواية، لقد خططتها على عجلٍ في لحظاتٍ عابرة، إن المرء لا ينفق وقتًا طويلًا في كتابة الأشياء التي لا يعرف عنها شيئًا، ولكنه حين يكتب عن أشياءَ حقيقية، فإنه ينفق وقتًا أطول؛ لأنه يشعر بالحاجة إلى أن يعيشها أولًا.

وحذفت فرانسي ذلك القول، إنها لا تريد من الآنسة جاردنر أن تشك في أنها جرحت شعورها، وكتبت مرةً أخرى:

فرانسي : ماذا تقولين؟ (مستذكرة).
أوه! تعنين الرواية، إني مسرورةٌ لأنها أعجبتك.
الآنسة جاردنر (على استحياء) : فرانسي، هل لي … هل لي أن أطلب منكِ أن توقِّعي عليها بخطك؟
فرانسي : طبعًا.

(تنزع الآنسة جاردنر غطاء قلمها الحبر، وتمسكه بحيث يتجه طرفه المدبب ناحيتها، وتقدمه إلى فرانسي، فرانسي تكتب «مع تحيات م. فرانسيس ك. نولان».)

الآنسة جاردنر (تفحص التوقيع) : يا له من توقيعٍ ممتاز!
فرانسي : إنه ليس سوى اسمي الرسمي.
الآنسة جاردنر (على استحياء) : فرانسيس؟
فرانسي : أرجوك، تكلمي معي بحريةٍ كشأنكِ في الأيام الخالية؟
الآنسة جاردنر : هل لي أن أسألك أن تكتبي فوق توقيعك «إلى صديقتي موريل جاردنر»؟
فرانسي (بعد وقفةٍ متعمدة) : ولم لا؟

(ثم تبتسم ابتسامةً ملتوية.)

كنت أكتب دائمًا ما تطلبينه منِّي.

(تكتب الإهداء.)

الآنسة جاردنر (تهمس بصوتٍ خفيضٍ) : أشكركِ.
فرانسي : يا آنسة جاردنر … إن ذلك لا يعنيني … ولكن هل لكِ أن تضعي درجةً على هذا الموضوع … ذكرى الأيام الخالية فحسب؟

(تمسك الآنسة جاردنر القلم الأحمر، وتكتب درجة الامتياز على الكتاب.)

وكان حلمًا جميلًا ورديًّا، حتى إن فرانسي بدأت الفصل الثاني بحماسةٍ ملتهبة، إنها سوف تكتب وتنتهي منها سريعًا حتى يتحقق الحلم، وكتبت:

وسألت شيري نولان خادمتها الخاصة: باركر! ماذا يقدم الطاهي لنا الليلة في الطعام؟

– أظن أنه يا آنسة شيري سيقدم صدر طير الدراج تحت غطاءٍ من الزجاج، ومعه نبات الهليون الساخن مع عش الغراب المستورد والأناناس.

وأشارت شيري: يبدو من الأسماء أنها أصنافٌ كئيبةٌ جدًّا.

وسلمت الخادمة بذلك في احترام.

– أجل يا آنسة شيري.

– إنكِ لتعلمين يا باركر أنني أحب أن أستسلم لنزواتي.

– إن نزواتك أوامر في هذا المنزل.

– إني أودُّ أن أرى عددًا من صنوف الحلوى البسيطة لأختار منها طعامي، أرجوك أن تحضر لي عشرًا من فطائر شارلوت، وبعض كعك التوت الصغير، وقطعة من القشدة المثلجة، وعشرًا من أصابع الست وصندوقًا من الشوكولاتة الفرنسية.

– سمعًا وطاعة يا آنسة شيري.

وسقطت قطرة ماء على الصفحة، ورفعت فرانسي بصرها، إلا أن السقف لا يقطر ماء، وإنما لعابها هو الذي سال فحسب، فقد أحسَّت بالجوع؛ الجوع الشديد، وذهبت إلى الفرن ونظرت في الوعاء، ورأت قطعةً عظام شاحبة محاطة بالماء، ووجدت بعض الكسر في صندوق الخبز، وألفتها صلبة بعض الصلابة لكنها كانت خيرًا من لا شيء، وقطعت شريحةً منها وصبَّت فنجانًا من القهوة وغمست فيه الخبز ليلين، وفي أثناء تناولها الطعام أخذت تقرأ ما فرغت من كتابته، واكتشفت شيئًا عجيبًا.

وقالت بينها وبين نفسها: انتبهي يا فرانسي نولان، إنكِ في هذه القصة تكتبين ما كتبت تمامًا في القصص الأخرى التي استنكرتها الآنسة جاردنر، إنك تكتبين هنا أنك تشعرين بالجوع الشديد، ولكنك تكتبينه على نحوٍ ملتوٍ أحمق.

وغضبت وثارت على الرواية فقطعت الصفحات التي كتبتها وكدستها في الموقد، ولما بدأت ألسنة النار تلتف بها زاد غضبها وثورتها، وجرت وأحضرت صندوقها الذي تحفظ فيه مخطوطاتها من تحت سريرها، ووضعت القصص الأربع التي كتبتها عن أبيها على جانبٍ في عنايةٍ وحرص، ثم حشدت الباقي في الموقد، كانت تحرق كل موضوعات الإنشاء الجميلة التي نالت عليها درجة جيد، وكانت بعض العبارات تبرز واضحة لحظةً قبل أن تسودَّ الورقة وتتفتت رمادًا، مثل شجرة حور ضخمةٍ فارعةٍ وقورٍ باردة، تضرب في السماء، وعبارةٌ أخرى واستدارت قبة السماء الزرقاء في رفقٍ فوق الرءوس، إنه يومٌ من أيام شهر أكتوبر الفائقة الجمال، وخاتمة عبارةٍ أخرى … وكانت زهور الحنطة تشبه صفاء الشمس في غروبها، وزهور لسان العصفور كأنها السموات بعضها فوق بعض.

وقالت بينها وبين نفسها: إنني لم أرَ شجرة حور أبدًا، ولقد قرأت في كتابٍ ما عن قبة السماء، أجل إني لم أرَ تلك الزهور أبدًا إلا في قائمة بذور الزهور، ولقد نلت درجة جيد لأنني أجدت الكذب.

وحرقت الأوراق لتزداد النار فيها اشتعالًا، فلما تحولت الأوراق إلى رماد، ترنحت قائلة: إني أحرق القبح، إني أحرق القبح.

وخمد اللهب الأخير فأعلنت على نحوٍ تمثيلي مخاطبة غلَّاية الماء: في النار الموقدة يذهب مستقبلي في الكتابة.

وشعرت فجأة بالفزع والوحدة، كانت تريد أباها، نعم كانت تريد أباها، لا يمكن أن يكون قد مات، نعم لا يمكن أن يكون قد مات، ولسوف يأتي بعد برهةٍ يجري على السلم مغنيًا أغنية «مولي مالون» فتفتح له الباب، وهناك يقول: «مرحى أيتها المغنية الأولى» فتجيبه: «أبتاه لقد رأيت حلمًا مزعجًا، حلمتُ أنك متَّ.» ثم تحكي له ما قالته الآنسة جاردنر، وسوف يجد من الكلمات ما يقنعها بأن كل شيء على ما يرام، وانتظرت وهي ترهف السمع، ربما كان ذلك حلمًا ولكن لا! ليس هناك حلمٌ يمتد إلى ذلك الحد، كانت هي الحقيقة، لقد مضى الأب إلى غير عودة.

ووضعت رأسها على المائدة ونشجت، وقالت بينها وبين نفسها باكيةً: إن أمي لا تحبني كما تحب نيلي، لقد حاولتُ مرارًا أن أجعلها تحبني، إني أجلس بالقرب منها، وأذهب أينما تذهب، وأفعل كل ما تطلبه مني، ولكني لا أستطيع أن أجعلها تحبني كما أحبني أبي، ثم تذكرت منظر وجه أمها في عربة التروللي، حين جلست تسند رأسها على ظهر المقعد، وعيناها مغمضتان، وتذكرت كيف بدت أمها شاحبةً متعبة. إن أمها تحبها فعلًا، إنها تحبها بلا شك، ولكنها لا تستطيع أن تظهر حبها على نحو ما كان أبوها يفعل. وكانت أمها مكافحةً، فهي تتوقع وضع الطفل في أية دقيقة، ولا تزال تخرج للعمل، لنفرض أن أمي ماتت وهي تضع الطفل! وتجمد الدم في عروق فرانسي لهذا الخاطر، ماذا عساها هي ونيلي أن يفعلا بدون أمهما؟ إلى أين يذهبان؟ إن إيفي وسيسي أشد فقرًا من أن تؤوياهما، إنهما لن يجدا مكانًا يعيشان فيه، فليس لهما في هذا العالم سوى أمهما.

وابتهلت فرانسي: يا إلهي الرحيم! لا تجعل أمي تموت، أنا أعلم أنني قلت لنيلي إنني لا أومن بك، ولكني أومن بك! أومن بك! لقد قلت ذلك لمجرد القول، لا تعاقب أمي، إنها لم تفعل سوءًا، لا تنتزعها منا لأنني قلت إنني لا أومن بك، إنني سوف أهب لك كتاباتي إذا أبقيتَ على حياتها، بل ولن أكتب أبدًا قصةً أخرى إذا أبقيت على حياتها فحسب، أيتها العذراء مريم! ناشدتك أن تطلبي من ابنك المسيح أن يسأل الله الإبقاء على حياة أمي.

ولكنها شعرت أن دعاءها ضاع سدًى، وأن الله كان يذكر قولها بأنها لم تكن تؤمن به، وسوف يعاقبها بأن يأخذ منها أمها، كما أخذ أباها، وانتابتها نوبةٌ جنونية من الفزع، وظنت أن أمها قد ماتت حقًّا، واندفعت خارجةً من المسكن تبحث عنها، ولم تكن كاتي تقوم بالتنظيف في منزلهم، وذهبت إلى المنزل الثاني وجرت صاعدةً قلبات السلام الثلاث وهي تصيح «أمي!» ولم تكن أمها في ذلك المنزل، وذهبت فرانسي إلى المنزل الثالث والأخير، ولم تجد أمها في الطابق الأول، وكذلك لم تجدها في الطابق الثاني، لم يبقَ إلا طابقٌ واحد، فإذا لم تكن أمها هناك، فإنها تكون قد ماتت وقُضي الأمر، وصرخت: أمي! أمي!

وجاء صوت كاتي الهادئ من الطابق الثالث: إنني هنا فوق، لا تصيحي هكذا.

وانهارت فرانسي انهيارًا تامًّا من فرط شعورها بالخلاص، ولم تكن تريد أن تعلم أمها أنها كانت تبكي، فبحثت عن منديل يدها فلم تجده، وجففت دموعها في معطفها الصغير، وصعدت الطابق الأخير في بطءٍ: أهلًا أمي.

– هل حدث شيء لنيلي؟

– لا يا أمي (إنها تفكر دائمًا في نيلي أولًا).

وقالت كاتي باسمةً: حسنًا! أهلًا إذن.

وظنت أن خطأً ما وقع في المدرسة، وأثار فرانسي: حسنًا … فها أنا ذا … فماذا دهاك؟

– هل تحبينني يا أمي؟

– إنني أكون امرأةً تافهةً مدعاة للسخرية إذا لم أحب أولادي، أليس كذلك؟

– أتظنين أنني حسنة المنظر مثل نيلي؟

وانتظرت في قلقٍ جواب أمها لأنها كانت تعلم أن أمها لا تكذب أبدًا، وجاء جواب أمها بعد وقتٍ طويل: إن لكِ يدَين جميلتَين وشعرًا طويلًا غزيرًا جميلًا.

وأصرَّت فرانسي على سؤالها، تريد من أمها أن تكذب، وقالت: ولكن أتظنين أنني حسنة المنظر مثل نيلي؟

– اسمعي يا فرانسي، أنا أعرف أنكِ تهدفين إلى شيءٍ بطريقةٍ ملتوية، ولقد برح بي التعب، حتى لا أستطيع أن أدرك ما ترمين إليه، فاصبري قليلًا حتى أضع الطفل، إني أحبك أنت ونيلي، وأعتقد أنكما طفلان قد بلغتما من حسن المنظر ما يروق في عين الناس، ولا تحاولي إزعاجي.

وشعرت فرانسي بالندم فجأة، واعتصرت الشفقة قلبها وهي ترى أمها التي توشك أن تضع طفلها تزحف بمشقةٍ على يديها وركبتيها، فركعت بجوار أمها.

– انهضي يا أمي ودعيني أفرغ من تنظيف هذه القاعة، إن لديَّ وقتًا كافيًا.

وغمست يدها في دلو الماء، وصاحت كاتي في شدة: لا!

وأخرجت يد فرانسي من الماء، وجففتها في «مريلتها» وقالت: لا تضعي يديك في ذلك الماء، إنه يحتوي على الصودا والمحلول القلوي، انظري ماذا فعل بيدي؟

ومدت لها يدَيها الجميلتَين ولكنهما كانتا مقروحتَين من أثر العمل.

– إني لا أريد أن تصبح يداك مثل يدَيَّ، وإنما أريد أن تكون يداكِ جميلتَين دائمًا، ثم إنني كدت أنتهي.

– إذا لم أستطع أن أساعدكِ فهل لي أن أجلس على السلم وأراقبك؟

– إذا لم يكن لديكِ عملٌ آخر أفضل من ذلك.

وجلست فرانسي تراقب أمها، وشعرت براحةٍ كبرى وهي ماثلة أمامها، مدركةً أن أمها ما زالت على قيد الحياة قريبةً منها، بل شعرت بأن صوت مسح الأرض كان له وقعٌ يطمئن قلبها ويُرضيه، ومضت الفرشاة تخشخش، وخرقة المسح تطرقع، وهكذا انبعثت أصوات الفرشاة والخرقة، وزاد عليها صوتان آخران وأمها تغمسهما في الدلو، بل أخذت الدلو تُحدث صوتًا غير هذه الأصوات جميعًا حين كانت أمها تنقلها من مكانٍ إلى مكان.

– أليس لكِ صديقات من البنات تتحدثين إليهن يا فرانسي؟

– لا، إني أكره النساء.

– إن ذلك ليس طبيعيًّا، فإن من الخير لك أن تتجاذبي أطراف الحديث مع بنات من سنك.

– هل لكِ صديقات من النساء يا أمي؟

وقالت كاتي: لا، إني أكره النساء.

– أرأيتِ؟ إنكِ مثلي سواء بسواء.

– ولكن كانت لي صديقةٌ ذات يوم وظفرت بأبيك عن طريقها، هكذا ترين أن الصديقة تسعفك في بعض الأحيان.

كانت تتكلم مازحة، لكن فرشاة المسح بدت كأنما تقرقع في يدها قائلة: «أنت تمضين في طريقك، وأنا أمضي في طريقي.» وسعت جاهدةً أن ترد الدموع إلى عينيها وواصلت كلامها: نعم، أنت في حاجةٍ إلى الصديقات، إنكِ لا تكلمين أحدًا سوى نيلي وأنا، وتقرئين كتبك وتكتبين قصصك.

– لقد هجرت الكتابة.

وعرفت كاتي حينئذٍ أن ما كان يشغل تفكير فرانسي شيء يتصل بموضوعات الإنشاء، وسألتها: هل نلتِ درجةً سيئة على موضوعك اليوم؟

وكذبت فرانسي، وقد ذهلت كشأنها دائمًا حين يصحُّ تخمين أمها، وقالت: لا، أظن أن الوقت قد حان لأذهب إلى ماكجريتي.

وقالت كاتي وهي تضع فرشاتها وخرقة التنظيف في الدلو: انتظري، لقد أنهيت عمل اليوم.

ومدت لها يدَيها قائلة: ساعديني على النهوض.

وأمسكت فرانسي بيدَي أمها، وشدت كاتي بقوةٍ وهي تقف على قدميها في مشقة، وقالت لها: عودي إلى البيت معي يا فرانسي.

وحملت فرانسي الدلو، ووضعت كاتي يدًا على حاجز السلم واليد الأخرى حول كتف فرانسي، واستندت في تثاقلٍ على الفتاة، وهي تهبط السلم في بطء، وإلى جوارها فرانسي تضبط خطواتها مع خطوات أمها المضطربة.

– فرانسي! إني أتوقع الوضع في أي يوم، وسوف أشعر بمزيدٍ من الاطمئنان إذا لم تنأَيْ عني أبدًا، ابقي بالقرب مني، وابحثي عنِّي من حينٍ إلى حين وأنا أعمل لتطمئني عليَّ، أنا لا أستطيع أن أخبرك بمدى اعتمادي عليكِ، لا أستطيع أن أعتمد على نيلي لأنه صبيٌّ لا يفيد في مثل ذلك الوقت، أجل إني في أشد الحاجة إليكِ، وأشعر بطمأنينةٍ أكثر حين أعرف أنك بالقرب مني، لهذا ابقي إلى جانبي فترة.

وأحست فرانسي بحنانٍ عظيم يغمر قلبها حيال أمها، وقالت: لن أنأى أبدًا عنك يا أمي.

وضغطت كاتي على كتفها: يا لكِ من ابنةٍ مطيعة!

وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: قد لا تكون تحبني مثل حبها لنيلي، ولكنها تحتاج إليَّ أكثر مما تحتاج إليه، وإني لأظن أن شعور المرء بحاجة الآخرين إليه شعورٌ جميل، يكاد يبلغ في جماله شعوره بأنهم يحبونه، وقد يكون أكثر جمالًا.

٤٠

وعادت فرانسي إلى البيت بعد يومَين لتتناول الغداء، ولم تعد إلى المدرسة بعد الظهيرة، فقد كانت أمها ترقد في الفراش، وأرادت فرانسي بعد أن أمرت نيلي بالعودة إلى المدرسة، أن تستدعي سيسي أو إيفي، لكن أمها قالت: إن الوقت لم يحن بعدُ.

وشعرت فرانسي بأهميتها وهي تدبر الأمر وحدها، ونظفت المسكن، وتفقدت الطعام الذي في المنزل وفكرت في عشائهم، وكانت كل عشر دقائق ترفع وسادة أمها، وتسألها هل تريد كوبًا من الماء.

واندفع نيلي لاهثًا بعد الساعة الثالثة مباشرة، وألقى كتبه في ركن، وسأل أحان الوقت ليجري في طلب العون، وابتسمت كاتي لاهتمامه، وقالت إنه لا جدوى من انتزاع إيفي أو سيسي من مشاغلهما الخاصة قبل أن تقضي الضرورة بذلك، وانطلق نيلي إلى عمله وطلبت منه أمه أن يسأل ماكجريتي هل من المستطاع أن يقوم بعمله وعمل فرانسي جميعًا؛ لأن فرانسي مضطرةٌ إلى البقاء في البيت مع أمها، ولم يكتف ماكجريتي بالموافقة على ذلك فحسب، بل ساعد الصبي أيضًا في عمله حتى إن نيلي انتهى منه كله في الساعة الرابعة والنصف، وتناولوا عشاءهم مبكرًا، وكان نيلي كلما بدأ عمله في بيع الصحف مبكرًا فرغ منه مبكرًا. وقالت الأم إنها لا تريد سوى قدح من الشاي الساخن.

ولم ترغب الأم في الشاي بعد أن قلبته فرانسي، وقلقت فرانسي لأن أمها لا تريد أن تأكل شيئًا، وأحضرت فرانسي بعد أن ذهب نيلي إلى بيع الصحف وعاء يحتوي على اليخنة، وحاولت أن تحمل أمها على أن تأكل، ولكن كاتي نهرتها وطلبت منها أن تتركها وحدها، قائلة إنها حين تريد شيئًا تأكله فسوف تطلبه، وأفرغت فرانسي الطعام مرةً أخرى في الإناء، محاولة أن تحبس دموع الجرح الذي أصاب شعورها؛ ذلك أنها إنما كانت تقصد العون، ونادتها أمها مرةً أخرى، ولم يبدُ عليها أي أثر للغضب، وسألت كاتي: كم الساعة؟

– السادسة إلا خمس دقائق.

– أمتأكدةٌ أنتِ أن الساعة ليست مبطئة؟

– لا يا أمي!

– قد تكون مسرعةً إذن؟

وبدا عليها القلق الشديد حتى إن فرانسي نظرت خارج النافذة الأمامية إلى الساعة الكبيرة، التي علقها محل الجواهرجي فورونوف على قارعة الطريق، وقالت فرانسي: إن ساعتنا مضبوطة.

– هل حلَّ الظلام بالخارج؟

ولم تكن لدى كاتي وسيلة لتبيُّن ذلك؛ لأن الضوء كان حتى في رابعة النهار لا ينفذ منه خلال بئر التهوية إلا نورٌ أغبر.

– لا، إن النهار لا يزال ماثلًا بالخارج.

وقالت كاتي جزعة: لقد حلَّ الظلام هنا.

– سوف أضيء شمعة الليل.

وكان الجدار يحتضن رفًّا صغيرًا يحمل تمثالًا من الجبس لمريم العذراء، وهي ترتدي ثوبًا أزرق وتبسط يدَيها إلى الأمام في ابتهال، وفي أسفل الصورة زجاجةٌ سميكةٌ حمراء ملئت بالشمع الأصفر واشتملت على ذبالة، ووضعت إلى جوارها زهرية تحمل زهورًا حمراء من الورق، وعالجت فرانسي الذبالة بثقابٍ مشتعل، وتوهج ضوء الشمعة من خلال الزجاج السميك الأحمر قاتمًا في لون الياقوت.

وسألت كاتي بعد برهة: كم الساعة؟

– السادسة وعشر دقائق.

– أمتأكدةٌ أنت أن الساعة ليست مسرعة ولا مبطئة؟

– إنها مضبوطةٌ تمامًا.

وبدا أن كاتي قد ارتاحت وهدأت هواجسها، ولكنها عادت إلى السؤال عن الساعة بعد خمس دقائق، كأنما كانت على موعدٍ هام تحرص على الوفاء به، وتخشى كل الخشية أن تتأخر عنه.

وفي الساعة السادسة والنصف أخبرتها فرانسي بالوقت مرةً أخرى، وأضافت قولها بأن نيلي سيعود إلى البيت بعد ساعة، وقالت كاتي: ابعثي به في اللحظة التي يصل فيها إلى الخالة إيفي، وأخبريه بألا يضيع الوقت في السير على الأقدام، ابحثي له عن خمسة سنتات ليركب بها، وقولي له أن يذهب إلى إيفي لأنها أقرب سكنًا من سيسي.

– افرضي يا أمي أن الطفل وُلد فجأة، وأنا لا أدري ماذا أفعل.

– أنا لست سعيدة الحظ إلى ذلك الحد حتى ألد الطفل فجأة، كم الساعة؟

– الساعة السابعة إلا خمسًا وعشرين دقيقة.

– هل أنت متأكدة؟

– إني متأكدة، وبالرغم من أن نيلي صبي يا أمي، فإنه من الأفضل أن يبقى معك بدلًا مني.

– لماذا؟

– لأنك تحسين دائمًا براحةٍ عظيمة في وجوده.

قالت ذلك دون أي حقدٍ أو غيرة، كان تصريحًا حقيقيًّا بسيطًا.

– أما أنا … أنا … فلا أكاد أعرف ما الذي ينبغي أن أقوله لأشعرك بمزيدٍ من الرضا.

– كم الساعة؟

– دقيقةٌ واحدة بعد السابعة إلا خمسًا وعشرين دقيقة.

وصمتت كاتي فترةً طويلة، ولما تكلمت قالت كلماتها في هدوء كأنما تكلم نفسها: إن الرجال لا ينبغي لهم أن يحضروا في مثل هذا الوقت، ومع ذلك فإن النساء يستبقينهم إلى جوارهن، ويطلبن منهن أن يسمعوا كل أنَّة وكل زفرة، وأن يروا كل قطرة من الدماء، وأن ينصتوا إلى كل مزقة تصيب جسد المرأة، ما سر تلك السعادة الملتوية التي يتلمَّسنها في جعل الرجل يشاركهن في شقائهن؟ يبدو أنهن ينتقمن لأن الله خلقهن نساء، كم الساعة؟

وواصلت كلامها دون أن تنتظر الإجابة: وإنهن قبل أن يتزوجن يمتن خجلًا لو أن رجلًا رآهن مشعثات الشعر أو أبصرهن وقد نفضن عنهن المشدات، ولكنهن حين يلدن فإنهن يردن من الرجل أن يراهن في أقبح منظر يمكن أن تبدو عليه المرأة، ولست أدري لذلك سببًا … أجل لا أدري له سببًا، إن الرجل يفكر في الألم والعذاب اللذين أصابا المرأة من اجتماعهما … فهو لا يجد متعةً في هذا الاجتماع من بعدُ، إن هذا هو السبب في أن كثيرًا من الرجال يبدءون بخيانة زوجاتهم بعد ولادة الطفل.

وكانت كاتي لا تكاد تدرك ما تقول لأنها كانت تفتقد جوني افتقادًا عظيمًا، وتفكر على هذا النحو لتفلسف غيابه عنها.

– ثم هناك قولٌ مأثور: إذا أحببتِ شخصًا فخير لكِ أن تقاسي الألم وحدكِ حتى تجنبيه ذلك؛ لهذا أبعدي رَجُلك خارج المنزل حين يحل موعد ولادتك.

– نعم يا أمي، إنها السابعة وخمس دقائق.

– انظري، هل نيلي مقبل؟

ونظرت فرانسي وأخبرتها بأن نيلي لم يظهر في الطريق بعدُ، وعاد تفكير كاتي إلى ما قالته فرانسي، من أن نيلي يبعث في قلبها الراحة: لا يا فرانسي، إنكِ أنتِ التي تبعثين في قلبي الراحة الآن.

وتنهدت.

– لو كان صبيًّا فسوف نسميه جوني.

– سوف يكون من الخير يا أمي أن نصبح أربعة مرةً أخرى.

– أجل، ليكونن ذلك خيرًا.

وظلت كاتي حينًا لا تقول شيئًا، وأخبرتها فرانسي — حين سألت عن الساعة في المرة التالية — أنها السابعة والربع، وأن نيلي أوشك أن يعود إلى البيت، وأرشدت كاتي فرانسي طالبة منها أن تلفَّ منامةً لنيلي وفرشة أسنان، ومنشفةً نظيفة وقطعة من الصابون في ورقةٍ من ورق الصحف؛ لأن الأمر يقتضي أن يقضي نيلي الليلة في بيت إيفي، ونزلت فرانسي مرتين في الشارع ولفَّة الملابس تحت ذراعَيها قبل أن ترى نيلي مقبلًا، كان يجري هابطًا الشارع، وجرت هي لتلقاه وأعطته اللفة، وأجر الركوب، وأبلغته أوامر الأم، وطلبت منه أن يسرع، وسألها: كيف حال أمي؟

– بخير.

– هل أنت متأكدة؟

– نعم متأكدة، إني أسمع عربة التروللي قادمة، خيرٌ لك أن تجري.

وجرى نيلي، ورأت فرانسي حين عادت أن وجه أمها غارقٌ في العرق، وعلى شفتها السفلى دم كأنما قد عضتها.

– أوه! أمي، أمي!

وهزَّت يد أمها ورفعتها إلى خدها، وهمست الأم: خذي قطعة قماش مبللة بالماء البارد وامسحي وجهي.

واستأنفت كاتي — بعد أن فعلت فرانسي — ذلك الحديث الذي لم يكتمل في عقلها.

– إنك بلا شك تبعثين الراحة في قلبي.

وشطَّ عقلها في شيءٍ بدا غير مرتبط بسابقه، وإن كان في الحقيقة مكملًا له: كنت أنوي دائمًا أن أقرأ موضوعاتك التي نلتِ عليها درجة جيد، ولكن لم يتسع وقتي لذلك قط، وليس لديَّ متسع منه الآن إلا القليل، فهل لكِ أن تقرئي عليَّ موضوعًا من موضوعات إنشائك؟

– لا أستطيع، فقد حرقتها جميعًا.

– لقد فكرتِ فيها، وكتبتِها، وقدمتِها، ونلتِ عليها درجات، وفكرتِ فيها بعضًا آخر من الوقت، ثم حرقتِها، فعلتِ كل ذلك دون أن أقرأ منها موضوعًا واحدًا.

– لا عليك يا أمي، إنها لم تكن جيدة.

– إن ذلك عبء ينوء به ضميري.

– إنها لم تكن جيدة يا أمي، وأنا أعلم أن الوقت لم يتوافر لكِ أبدًا.

وقالت كاتي بينها وبين نفسها: ولكن الوقت كان يتوافر لي دائمًا لأي شيءٍ يفعله الصبي، لقد كنت أخلق له الوقت خلقًا.

ومضت تقول أفكارها بصوتٍ عالٍ: ولكن نيلي يحتاج إلى مزيدٍ من التشجيع، أنت تستطيعين أن تشقي طريقك في الحياة بما في أعماقك من زاد، شأنك في ذلك شأني … ولكنه يحتاج إلى زادٍ كثير من خارج نفسه.

ورددت فرانسي: لا عليك يا أمي.

وقالت كاتي: إنني لم أستطع أن أفعل غير ما فعلت، ولكنه سوف يكون عبئًا ينوء به ضميري سواء بسواء، كم الساعة؟

– إنها السابعة والنصف تقريبًا.

– هات المنشفة مرةً أخرى يا فرانسي.

وبدا أن عقل كاتي يحاول أن يتعلق بشيء.

– ألم يبق موضوعٌ واحد تستطيعين قراءته عليَّ؟

وفكرت فرانسي في القصص الأربع التي كتبتها عن أبيها، وما قالته الآنسة جاردنر عنها، وأجابت: لا.

– إذن اقرئي شيئًا من آثار شكسبير.

وأحضرت فرانسي الكتاب.

– اقرئي الفقرة التي تبدأ: ولقد كانت ليلة مثل هذه، أود أن أزود عقلي بشيءٍ جميل قبل أن ألد الطفل.

وكانت الكلمات المطبوعة صغيرة إلى حد أن فرانسي اضطرت إلى أن تضيء مصباح الغاز لتقرأ، ورأت وجه أمها بوضوحٍ حين سطع الضوء، كان وجهها أغبر مربدًّا، إن أمها لم تكن تشبه أمها، وإنما كانت تشبه في ألمها جدتها ماري روملي، وأجفلت كاتي من الضوء فأطفأته فرانسي بسرعة.

– أمي! لقد قرأنا هذه المسرحيات مرات ومرات، حتى إنني كدت أحفظها عن ظهر قلب، إني لا أحتاج إلى الضوء أو الكتاب، أمي! استمعي.

ثم تلت:

وأشرق القمر زاهيًا في ليلةٍ كهذه،
حين قبَّلت الريح الحنون الأشجار في رفق،
وهي ساكنة لا يُسمَع لها حفيف،
وفي مثل هذه الليلة …
يا ترويلاس …

وسألت: كم الساعة؟

وأجابتها فرانسي: السابعة وأربعون دقيقة، ثم أستأنفت القراءة:

… أظن أنه قد ارتقى أسوار طروادة.
وطارت نفسه شعاعًا إلى خيام الإغريق.
حيث رقدت كريسيدا في أحضان الليل.

وسألت كاتي: وهل قُيِّض لك يا فرانسي بحالٍ أن تكتشفي من يكون ترويلاس، ومن تكون كريسيدا؟

– نعم يا أمي.

– عليك أن تنبئيني بنبأهما يومًا حين أجد الوقت للإصغاء.

– لأفعلن يا أماه.

وأنَّتْ كاتي، ومسحت فرانسي العرق مرةً أخرى، وبسطت كاتي يديها الاثنتين كما فعلت في ذلك اليوم المعهود في القاعة، وأمسكت فرانسي باليدين وطوقت قدميها، وشدَّت كاتي عضلاتها حتى ظنت فرانسي أن ذراعيها سوف تخرجان من مفصليهما، ثم أرخت أمها عضلاتها وأطلقت سراحها.

ومرت الساعة التالية، وتلت فرانسي الفقرات التي تحفظها عن ظهر قلب مثل: خطاب بورشيا، ومرثية مارك أنتوني: «وغدًا غدًا»، وهي المعالم الواضحة التي ذكرتها من آثار شكسبير، وكانت كاتي أحيانًا تسأل سؤالًا، وتضع يديها على وجهها وتئن أحيانًا، وظلت تسأل عن الساعة دون أن تدري أنها تفعل ذلك، ودون أن تنتبه إلى الإجابة، وكانت فرانسي تمسح وجهها على فترات، وبسطت كاتي ذراعيها لفرانسي ثلاث مرات أو أربعًا في تلك الساعة.

وشعرت فرانسي براحةٍ خاصة كادت تفقدها وعيها، حين وصلت إيفي في الساعة الثامنة والنصف، وأعلنت إيفي وهي تندفع إلى حجرة النوم: إن الخالة سيسي تصل بعد نصف ساعة.

وشدت إيفي، بعد أن نظرت إلى كاتي، ملاءة من فوق سرير فرانسي، وعقدت طرفًا منها في عمود سرير كاتي، ووضعت الطرف الآخر في يد كاتي، وقالت: حاولي أن تشدي عليها على سبيل التغيير.

وهمست كاتي بعد أن شدت الملاءة بعنفٍ جعل العرق يتصبب من وجهها مرةً أخرى، قائلة: كم الساعة؟

وأجابت إيفي في مرح: ماذا يعنيك من الساعة؟ إنك لست ذاهبةً إلى مكانٍ بعيد.

ولاحت ابتسامةٌ على وجه كاتي، لكن انقباضة ألم جمدتها على شفتَيها، وقررت إيفي: إننا نستطيع أن نباشر عملنا في ضوءٍ قوي.

واعترضت فرانسي: ولكن ضوء مصباح الغاز يؤذي عينَيها!

وأخذت إيفي المصباح الزجاجي من توصيلة الردهة، وطلت خارجه بالصابون ووصلته بتوصيلة حجرة النوم، ولما أشعلت الغاز انبعث ضوء منتشر هادئ لا وهج فيه، وأشعلت إيفي النار في المدفأة، بالرغم من أن الليلة كانت إحدى ليالي شهر مايو الدافئة، وأخذت تصدر الأوامر لفرانسي في سرعة، وانطلقت فرانسي تملأ الغلَّاية بالماء وتضعها على النار، وبحثت عن حوض الغسيل المطلي «بالمينا»، وصبَّت فيه زجاجة من الزيت الحلو ووضعته في مؤخرة الموقد، وأفرغت الملابس القذرة من سلة الغسيل، ولفَّتها في ملاءةٍ بالية، ولكنها نظيفة، ووضعتها على كرسيَّين بالقرب من الموقد، ووضعت إيفي كل «صحون» الغداء في الفرن لتسخن، وطلبت من فرانسي أن تضع «الصحون» الساخنة في السلة حتى تبرد، ثم تستبدل بها «صحونًا» ساخنةً أخرى.

وسألت: هل لدى أمك أي ملابس من ملابس المواليد؟

وسألت فرانسي ساخرة، وهي تعرض متواضعة مجموعةً من لوازم الطفل المولود حديثًا، تتكون من أربعة أثواب فضفاضة (كيمونو) صُنعت باليد من الفانلة وأربعة أربطة، واثني عشر قماطًا كففت باليد، وأربعة قمصان رثة لبستها هي ونيلي بالتناوب، وهما حديثا الولادة: إلى أيِّ طبقةٍ من الناس ننتمي في ظنك؟

ثم أضافت فرانسي بفخر: ولقد صنعت كل شيء بنفسي فيما عدا القمصان.

وقالت إيفي وهي تفحص الريشة الزرقاء المطرزة على الأثواب الفضفاضة: إني أرى أن أمك تتوقع صبيًّا، حسنًا سنرى.

ولما جاءت سيسي دخلت الأختان حجرة النوم، وأمرتا فرانسي بالانتظار في الخارج، واستمعت فرانسي لهما وهما تتكلمان.

قالت سيسي: لقد حان موعد استحضار القابلة، هل تعرف فرانسي أين تسكن؟

قالت كاتي: إنني لم أدبِّر الأمر، فلا يوجد بالبيت خمسة دولارات للقابلة.

وقالت إيفي: حسنًا، قد أستطيع أنا وسيسي أن ندفع الأجر إذن …

وقالت سيسي: اسمعي، لقد وضعت عشرةً … لا … أحد عشر طفلًا، وأنت أنجبت ثلاثة وكاتي اثنين، أي إننا أنجبنا ستة عشر طفلًا، إذن ينبغي لنا أن نعلم الكثير عن طريقة ولادة الطفل.

وقررت إيفي: حسنًا، سوف نتولى نحن ولادة الطفل.

ثم أغلقتا باب حجرة النوم، فاستطاعت فرانسي أن تسمع أصواتهما دون أن تسمع ما تقولان، وكرهت من خالتَيها أن تطرداها خارج الغرفة على ذلك النحو، وخاصةً أنها كانت تتولَّى الأمر كله حتى جاءتا، وأخرجت «الصحون» الباردة من السلة ووضعتها في الفرن، وأخرجت منه «صحنًا» ساخنًا، وشعرت بأنها وحيدة تمامًا في هذا العالم، وودَّت لو أن نيلي كان بالبيت حتى تتحدث معه عن الأيام الخالية.

وفتحت فرانسي عينيها فزعة، وظنت أنها لا يمكن أن تكون قد نعست، نعم لا يمكن أن تكون قد نعست، وتحسست «الصحون» التي في السلة، فوجدتها باردة، واستبدلت بها «صحونًا» ساخنةً بسرعة، كان ينبغي أن تبقى السلة ساخنة لينام فيها الطفل، وأنصتت إلى الأصوات التي تنبعث من حجرة النوم، كانت قد تغيرت منذ أطرقت برأسها، لم تعد هناك حركات تروح وتجيء في تراخٍ، ولم يعد هناك حديثٌ هادئ، وبدا كأن خالتيها تجريان روحةً وجيئةً بخطواتٍ سريعةٍ قصيرة، وجاءت أصواتهما في عباراتٍ قصيرة، ونظرت إلى الساعة، كانت التاسعة والنصف، وخرجت إيفي من حجرة النوم وأغلقت خلفها الباب.

– هذه خمسون سنتًا يا فرانسي، اذهبي واشتري ربع رطل من الزبد الحلو، وصندوقًا من القراقيش المعالجة بالصودا، وبرتقالتين، أخبري البائع أنك تريدين برتقالًا بصُرَّة، قولي له إنه لامرأةٍ مريضة.

– ولكن كل المحالِّ أغلقت أبوابها.

– اهبطي إلى مدينة اليهود، إن المحال مفتوحة فيها دائمًا.

– سأذهب في الصباح.

وقالت إيفي في حدة: افعلي ما آمركِ به.

وذهبت فرانسي غير راضية، وسمعت وهي تهبط الطابق الأخير صرخةً خشنة صادرة من الحلق، ووقفت مترددة: أتعود مسرعة أم تمضي في طريقها، وتذكرت أمر إيفي الحازم فواصلت هبوط السلم، وسمعت حين وصلت إلى الباب صرخةً أخرى أشد ألمًا، وشعرت بالراحة وهي تخرج إلى الشارع.

وفي إحدى الشقق، سمع سائق الخيل الشبيه بالقرود، صرخة كاتي الأولى، وكان يأمر زوجته بأن تتأهب للنوم، فصاح قائلًا: أيها المسيح!

ولما سمع الصرخة الثانية قال: إني آمل أيها المسيح ألا تقلقني هذه المرأة طول الليل.

وبكت زوجته القريبة الشبه بالطفلة، وهي تحل رداءها.

وكانت فلوسي جاديس وأمها تجلسان في مطبخهما، وكانت فلوسي تخيط ثوبًا آخر من الساتان الأبيض لترتديه عند زواجها المؤجل من فرانك، وكنت السيدة جاديس تدرز٥ جوربًا رماديًّا لهني، وكان هني قد مات بالطبع، ولكن أمه كانت طول حياته تدرز الجورب له، ولم تستطع أن تقل عن عادتها، وأفلتت غرزةً من إبرة السيدة جاديس حين سمعت الصرخة الأولى.

وقالت فلوسي: إن الرجال يحظون بكل المتعة، ويبقى للنساء الألم.

ولم تقل الأم شيئًا، لكنها ارتعدت حين صرخت كاتي الصرخة الثانية، وقالت فلوسي: يبدو أن من المضحك أن أصنع ثوبًا له كُمَّان.

– أجل.

واشتغلتا لحظة في صمت قبل أن تقول فلوسي مرةً أخرى: إنني لا أدري أيستحقون ذلك؟ أعني الأطفال.

وفكرت السيدة جاديس في ابنها الراحل وفي ابنتها التي ذوى ذراعها ولم تقل شيئًا، وأمالت رأسها على شغلها، وعثرت على المكان الذي أفلتت منه الغرزة، وركزت انتباهها في التقاطها.

ورقدت فتاتا تنمور العانسان المهجورتان في سريرهما العذري الخشن، وتلمست كل منهما يد الأخرى، وسألت الآنسة ماجي: أسمعتِها يا أختاه؟

وقالت الآنسة ليزي: لقد حل موعد ولادتها.

– هذا هو السبب الذي جعلني لم أتزوج هارفي منذ وقتٍ بعيد حين طلب يدي، لقد كنت خائفةً من هذه الساعة، خائفةٌ جدًّا.

وقالت الآنسة ليزي: لا أدري، أظن أحيانًا أنه من الخير أن أقاسي مرارة الشقاء، وأن أناضل وأصرخ، بل أعاني ذلك الألم الفظيع من أن أكون آمنة بمنجاةٍ من الألم فحسب … وانتظرت حتى غابت الصرخة الثانية، وقالت: إنها تعلم على الأقل أنها تعيش.

ولم تُحِر الآنسة ماجي جوابًا.

وكانت الشقة المقابلة لردهة أسرة نولان خالية، وشغل الشقة الباقية من البيت رجلٌ بولندي، يعمل في الميناء وزوجته وأطفاله الأربعة، وكان يملأ كوبًا بالجعة من قنينةٍ على المائدة حين سمع صرخة كاتي، وعبس قائلًا في تهكم: يا للنساء!

وزجرته زوجته قائلةً: اسكت يا هذا.

وكانت كل النساء في البيت تتوتر أعصابهن مع كل صرخة تطلقها كاتي، مشاركاتٍ إياها في شقائها، وهذا هو الشيء الوحيد الذي يجمع بين النساء وهو الإحساس بألم الولادة.

واضطرت فرانسي إلى أن تقطع طريقًا طويلًا صاعدةً في شارع مانهاتان، قبل أن تصل إلى محل ألبانٍ يهودي فاتح أبوابه، ولم تجد مناصًا من أن تذهب إلى محلٍّ آخر لتشتري «القراقيش»، ثم وجدت مظلَّةً من مظلات الفاكهة فيها برتقال بصُرَّة، وألقت نظرةً سريعة وهي عائدةٌ إلى الساعة المعلقة في محل كنيب لبيع الأدوية، ولاحظت أنها العاشرة والنصف تقريبًا … ولم يكن يهمها كم كانت الساعة، إلا أن ذلك بدا شيئًا هامًّا كل الأهمية في نظر أمها.

ووجدت حين دخلت المطبخ أن الحال قد تغيرت، فقد أحسَّت بشعورٍ مطمئنٍ جديد، واستروحت عبيرًا هادئًا جديدًا لا يمكن وصفه، وكانت سيسي تقف وظهرها ناحية السلة.

وقالت: ماذا تظنين، لقد رزقتٍ بأخت.

– وكيف حال أمي؟

– إنها بخير.

– لهذا أرسلتموني إلى المحل؟

وقالت إيفي، وهي تخرج من حجرة النوم: لقد فكرنا في أنك تعرفين أكثر مما ينبغي لفتاةٍ في الرابعة عشرة أن تعرف.

وقالت فرانسي في شدة: إنني لا أريد سوى أن أعرف شيئًا واحدًا: هل أمي هي التي أرسلتني إلى الخارج؟

وقالت سيسي في رقة: أجل يا فرانسي، لقد قالت شيئًا فحواه أنها تضن بالألم على من تحبهم.

وقالت فرانسي وقد هدأ روعها: حسنًا إذن!

– ألا تريدين أن تري الطفلة؟

وانتحت سيسي جانبًا، ورفعت فرانسي الملاءة من فوق رأس الطفلة، ورأت مولودةً صغيرةً جميلةً بيضاء البشرة، تنمو خصلات من الشعر سوداء ناعمة هابطة إلى جزءٍ من جبينها مثل أمها، وفتحت الطفلة عينَيها لحظةً، ولاحظت فرانسي أنهما زرقاوان فاتحتان، وبينت سيسي قائلة إن كل الأطفال حديثي الولادة تكون عيونهم زرقاء، والراجح أنها تتغير حين يشتد عودهم فتصبح سوداء بلون حبوب البن.

وقررت فرانسي: إنها تشبه أمي.

وقالت سيسي: هذا ما اعتقدناه.

– هل هي على ما يرام؟

وأخبرتها إيفي: على أحسن ما يرام.

– أليست مشوهة أو شيئًا من هذا القبيل؟

– بالطبع لا، من أين أتيت بمثل هذه الأفكار؟

ولم تخبر فرانسي إيفي كيف كانت تخشى أن يولد الطفل مشوهًا؛ لأن أمها كانت تشتغل على يديها وركبتيها لآخر لحظة.

وسألت في تواضع وهي تشعر بالغربة في بيتها: هل لي أن أدخل وأرى أمي؟

– يمكنك أن تحضري «الصحن» لها.

وأخذت فرانسي «الصحن» يحمل كسرتين من «القراقيش» وفوقهما الزبد، وقالت لأمها: أهلًا يا أمي.

– أهلًا يا فرانسي.

ورأت أمها تشبه أمها مرةً أخرى ولكنها كانت متعبة غاية التعب، ولم تستطع أن ترفع رأسها فحملت لها فرانسي «القراقيش» وهي تأكل.

ووقفت فرانسي تحمل «الصحن» الخالي بعد أن فرغت أمها من الأكل، ولم تقل أمها شيئًا، وبدا لها أنها هي وأمها قد أصبحتا غريبتَين مرةً أخرى، لقد ضاع ذلك القرب الذي نشأ بينهما في الأيام الأخيرة القليلة.

– كنت قد انتقيت اسم صبي يا أمي.

– أجل، ولكني لا أعترض على البنت حقًّا.

– إنها جميلة.

– سوف يكون لها شعرٌ أسودُ مجعَّد، وإن نيلي له شعرٌ مجعدٌ أشقر، مسكينة أنت يا فرانسي، فإن شعرك مستقيم بُنِّي اللون.

وقالت فرانسي في تحدٍّ: أنا أحب الشعر البني المستقيم.

وكانت فرانسي مشوقة كل الشوق لأن تعرف اسم الطفلة، ولكن أمها بدت غريبة عنها الآن، حتى إنها رغبت عن أن تسأل السؤال مباشرًا.

– هل أكتب الإخطار الخاص لأرسله إلى مكتب الصحة؟

– لا، سوف يرسله القسيس إليه حين تعمد الطفلة.

– أوه!

وتبينت كاتي خيبة الأمل في لهجة فرانسي.

– ولكن أحضري المداد والقرطاس، وسوف أملي عليك اسم الطفلة.

وأخذت فرانسي الإنجيل من فوق رف المدفأة، وهو إنجيل جديون الذي كانت سيسي قد سرقته منذ خمسة عشرة عامًا تقريبًا، ونظرت إلى اليوميات الأربع المكتوبة على الورقة الغفل في صدر الكتاب، وكانت الثلاث الأولى بخط يد جوني الجميل المنمق:
  • ١ يناير ١٩٠١م: تزوجت كاترين روملي وجون نولان.
  • ١٥ ديسمبر ١٩٠١م: ولدت فرانسي نولان.
  • ٢٣ ديسمبر: ولد كورنيليوس نولان.

    وكانت اليومية الرابعة بخط كاتي المائل الثابت:

  • ٢٥ ديسمبر ١٩١٥م: مات جوني نولان في الرابعة والثلاثين من عمره.

وتبعت إيفي وسيسي فرانسي إلى حجرة النوم، وكانتا هما الاثنتان أيضًا مشوقتين إلى معرفة الاسم الذي ستختاره كاتي للطفلة، ترى هل يكون سارة؟ أو إيفا؟ أو روث؟ أو إليزابيث؟

وأملتها كاتي قائلة: اكتبي هذا؛ ٢٨ مايو ١٩١٦م ولدت … وغمست فرانسي قلمها في زجاجة المداد «آني لوري نولان».

واحتجت سيسي قائلةً: آني! إنه اسمٌ عادي جدًّا؟

وسألت كاتي في حلم: لماذا يا كاتي؟ لماذا؟

وبينت كاتي الأمر قائلة: إنها أغنية غناها جوني مرة.

وبينما كانت فرانسي تكتب الاسم سمعت صوت أنغام، وسمعت صوت أبيها يغني: «وهنالك آني لوري …» أبتاه … أبتاه …

وأردفت كاتي: لقد قال إنها أغنية تنتمي إلى عالمٍ أفضل من هذا العالم، لقد كان خليقًا بأن يحب أن تسمى الطفلة بإحدى أغنياته.

وقالت فرانسي: آني لوري اسمٌ جميل.

وأصبح اسم لوري هو اسم الطفلة.

٤١

وكانت لوري طفلةً هادئة، تنام راضيةً معظم الوقت، وحين تستيقظ تنفق الوقت راقدةً في هدوء، تحاول أن تركز عينَيها البُنِّيتين بلون التوت على قبضة يدها المتناهية في الصغر.

وكانت كاتي ترضع الطفلة، لا بدافع الغريزة، بل بدافع الحاجة إلى المال، تشتري به لبنًا طازجًا، وبدأت كاتي تقوم بعملها في الخامسة صباحًا لأنها لم تكن تستطيع أن تترك الطفلة وحدها، ومضت تشتغل في البيتين الآخرين أولًا حتى الساعة التاسعة تقريبًا، حين يذهب نيلي وفرانسي إلى المدرسة، ثم تنظف بيتها تاركةً الباب مواربًا، لتسمع صوت لوري إذا بكت، وقد تعودت كاتي أن تذهب إلى فراشها بعد العشاء مباشرة كل ليلة، وكانت فرانسي ترى أمها قليلًا جدًّا، حتى بدا لها أنها ذهبت بعيدًا.

ولم يستغنِ ماكجريتي عنهما بعد ولادة الطفلة كما كان قد دبَّر؛ لأنه أصبح يحتاج إليهما حقًّا بعد أن ازدهر عمله فجأة في ربيع سنة ١٩١٦م، فأصبحت حانته تزدحم بالزبائن طول الوقت، وأخذت التغيرات الكبرى تجتاح البلاد، واقتضى الأمر أن يجتمع زبائنه، شأنهم شأن الأمريكيين في كل مكان، وكان ركن الحانة هو مكان اجتماعهم الوحيد؛ منتدى الفقراء.

وسمعت فرانسي، وهي تعمل في المسكن فوق الحانة، أصواتهم العالية من خلال ألواح الأرض الرفيعة، وكانت تتوقف كثيرًا وتُنصت إليهم، نعم كان العالم يتغير بسرعة، وعرفت هذه المرة أن العالم هو الذي يتغير وليست هي، وسمعت أن العالم يتغير وهي تنصت إلى الأصوات.

إنها حقيقة، فهم سيتوقفون عن صنع الشراب فتصبح البلاد في سنواتٍ قلائل ظمأى لا يُبلُّ لها صدى، إن الرجل الذي يشقى في عمله من حقه أن يشرب الجعة، أنبئوا الرئيس بذلك وانظروا ماذا يكون من الأمر، إن هذا البلد للشعب، وإذا شئنا ألا يصيبنا الظمأ، فلن يصيبنا الظمأ.

إن البلد بلد الشعب بلا شك، ولكنهم يدفعون التحريم دفعًا حتى يبلغ حلوقكم، أقسم بالله لأصنعن نبيذي بيدي، إن أبي الكهل قد اعتاد أن يصنعه في وطننا القديم، فعليك بكيلةٍ من العنب.

وي! إنهم لن يمنحوا المرأة حق الانتخاب، لا تراهن على ذلك!

لو تحقق ما تقول فإن زوجتي سوف تنتخب من أنتخب، وإلا دققت عنقها.

إن أمي العجوز لن تذهب إلى مركز الانتخاب، وتختلط بالغرباء والصعاليك.

… امرأة رئيسة للجمهورية، قد يحدث ذلك.

إنهم لن يسمحوا لامرأةٍ أبدًا أن ترأس الحكومة، فإن واحدة ترأسها الآن، كالجحيم!

إن ويلسون لا يستطيع أن يستدير ويذهب إلى الحمام إلا بعد أن يستأذن السيدة ويلسون وتمنحه الإذن، إن السيدة ويلسون نفسها امرأةٌ عجوز.

إنه يجنبنا الحرب.

ذلك الأستاذ الجامعي!

إن ما نريده في البيت الأبيض هو سياسيٌّ محنك، وليس معلمًا في مدرسة.

… السيارات، ليصبح الجواد، قريبًا، أثرًا من آثار الماضي، وإن ذلك الرجل القائم هناك في ديترويت يصنع سيارات في غاية الرخص، فلا يلبث كل عامل أن تكون له سيارة.

عامل يقود سيارته الخاصة! يجب أن تعيش طويلًا حتى تراه!

الطيارات! … إنها بدعةٌ مجنونة ولن تبقى طويلًا.

إن الصور المتحركة ستبقى هنا، والمسارح ستغلق أبوابها في بروكلين واحدًا بعد الآخر، خذوني مثلًا: إنني أوثر أن أرى هنا شارلي شابلن في أي يومٍ عن أن أرى كورست بايتون.

… اللاسلكي، إنه أعظم شيء اختُرع بعدُ، انظر! إن الكلمات تسير على متن الهواء من غير سلك، وإنك لتحتاج إلى آلةٍ خاصة تلتقطها، وسماعات تسمع بها.

… إنهم يسموُّنه المخدر، وبفضله لا تحس المرأة ألمًا حين تلد طفلها، وحين ينبئ هذا الصديق زوجتي بذلك، فإنها تقول له إنهم اخترعوا مثل هذا الشيء في وقته.

عمَّ تتكلمون! إن ضوء مصباح الغاز قد عفى عليه الزمن، فإنهم يدخلون الكهرباء إلى أرخص المساكن.

ألا تعلم ماذا دهى الجيل الجديد في هذه الأيام؟ إنهم جميعًا قد جنوا بالرقص، الرقص … الرقص … الرقص …

لهذا غيرت اسمي من شولتز إلى سكوت، وقال لي القاضي: إلى أي غايةٍ تمضي ولمَ تفعل ذلك؟ إن شولتز اسمٌ جميل، لقد كان هو نفسه ألمانيًّا، ألا ترى؟ قلت: اسمع يا ماك … هذا ما قلته له تمامًا سواء أكان قاضيًا أم غير قاضٍ: فإني أقول إنني ضقت ذرعًا بالوطن القديم، وإني لأقول — وقد رأيت ما فعلوه بأطفال بلجيكا — إنني لا أريد أن أنتمي إلى ألمانيا، إنني أمريكيٌّ الآن وأريد اسمًا أمريكيًّا.

وإننا لنسير قدمًا نحو الحرب، اسمع يا رجل! إني أرى الحرب قادمةً، وما علينا إلا أن نعيد انتخاب ويلسون هذا الخريف فيجنبنا الحرب.

لا تراهن على ما يبذلونه في الحملة الانتخابية من وعود، فإذا قُيض لنا رئيس للجمهورية من الحزب الديمقراطي فسوف يكون رئيسًا ينادي بالحرب.

إن لينكولن كان جمهوريًّا.

ولكن أهل الجنوب كان لهم رئيسٌ ديمقراطي، وكانوا هم الذين بدءوا الحرب الأهلية.

إني أسألك إلى متى سنظل نصبر على هذا؟ إن الأوغاد قد أغرقوا سفينةً أخرى من سفننا، كم سفينة سوف يغرقونها قبل أن تَتاح لنا القوة لنذهب إليهم ونشعل فيهم النار؟

إن علينا ان نظل بمنجاةٍ من هذه الحرب، فإن هذا البلد يعيش حياةً هادئة، دعهم يخوضوا حروبهم دون أن يجرُّونا إليها.

إننا لا نريد الحرب.

لقد أُعلنت الحرب، وسأقيد اسمي في المتطوعين اليوم التالي.

ماذا تقول؟ إنك جاوزت الخمسين ولن يقبلوك، وإني لأوثر أن أذهب سريعًا إلى السجن، علي أن أذهب إلى الحرب.

يجب على الرجل أن يحارب من أجل ما يعتقد أنه الحق، وإنه ليسرني أن أذهب.

ليس هناك ما يقلقني، إنني مصابٌ بضيقٍ مضاعف.

دع الحرب تنشب، فإنهم سوف يحتاجون إلينا كعمالٍ لبناء سفنهم وصنع بنادقهم، سوف يحتاجون إلى الفلاح ليستنبت لهم زادهم، انتظر يوم يقدمون إلينا يريدون أن يعتصروا دماءنا …

… إننا نحن العمال سوف نمسك بنادق هؤلاء الرأسماليين الذين حلَّت بهم لعنة الله، إنهم لن يملوا إرادتهم علينا، وإنما نحن الذين سنملي عليهم، قسمًا بالمسيح لنجعلنهم يتصببون عرقًا، إني أتعجل الحرب.

لقد أصبحت الآلات هي كل شيء أقول لك، وقد سمعت نكتةً بالأمس تقول إن رجلًا وزوجته حصلا على الغذاء والكساء وكل شيء من الآلات، وطفقا يتنقلان من آلةٍ لأخرى إلى أن وصلا إلى تلك الآلة التي تصنع الأطفال، ووضع الرجل المال في الآلة وخرج منها الطفل، واستدار الرجل وقال: ردَّ إليَّ الأيام الخالية الهنيئة فما أحلى الرجوع إليها!

الأيام الخالية الهنيئة! وي! إني لأحسب أنها قد ولَّت ولن تعود.

انزع كأسي بها مرةً أخرى يا جيم.

وحاولت فرانسي، وهي تنصت وقد توقفت عن الكنس، أن تربط الأشياء بعضها ببعض، ثم حاولت أن تفهم أن العالم يلف في دوامة، وبدا لها أن العالم كله قد تغير في الفترة ما بين يوم ولادة لوري ويوم حصولها على شهادة التخرج في المدرسة.

٤٢

ولم يكد يتسع الوقت لفرانسي لتألف لوري حتى أقبلت ليلة حفل التخرج، ولم تستطع كاتي أن تذهب إلى حفلتَي التخرج لكلٍّ من فرانسي ونيلي، فقررت أن تذهب إلى احتفال نيلي، وكان ذلك هو الصواب؛ إذ ينبغي عدم حرمان نيلي، أما فرانسي فقد كان تغيير المدارس بالنسبة لها شيئًا محببًا، وفهمت فرانسي ذلك لكنها شعرت ببعض الألم ما في ذلك ريبٍ، وقد كان أبوها خليقًا بأن يذهب ليرى احتفال تخرجها لو كان حيًّا، ورتبوا الأمر بحيث تذهب سيسي مع فرانسي وتبقى إيفي مع لوري.

وسارت فرانسي في آخر ليلة من ليالي شهر يونيو سنة ١٩١٦م، ذاهبة للمرة الأخيرة إلى المدرسة التي أحبَّتها كل الحب، وسارت سيسي صامتةً إلى جوارها بيد أنْ هدأت وتغيرت بعد أن أصبح لها طفلة، ومرَّ رجلان من رجال المطافئ ولم تلحظهما سيسي التي كانت في وقتٍ من الأوقات لا تستطيع أن تقاوم سحر الزي الرسمي، وودَّت فرانسي لو أن سيسي لم تتغير، لقد أصبحت تشعرها بالوحدة، وزحفت يدها إلى يد سيسي التي ضغطت عليها بشدة، وشعرت فرانسي بالراحة، إن سيسي كانت لا تزال هي سيسي في أعماقها.

وجلست المتخرجات في المقاعد الأمامية من قاعة الاستماع، وجلس المدعوون في المقاعد الخلفية، ووجه العميد كلمةً حماسية للطلاب بيَّن فيها كيف كانوا مقبلين على عالمٍ قلق، وكيف أن مقاليد الأمور سوف توضع في يدهم لإقامة عالمٍ جديد، بعد الحرب التي كانت زاحفةً إلى أمريكا لا محالة، وحثهم على مواصلة التعليم العالي حتى يتزوَّدوا بزادٍ أفضل لإقامة هذا العالم، وتأثرت فرانسي بقوله وأقسمت من كل قلبها بأنها سوف تحمل المشعل كما قال.

ثم بدأ عرض مسرحية التخرج، واحتقنت عينا فرانسي بدموعٍ حبيسة، وقالت بينها وبين نفسها، وهي تستمع إلى الحوار المسترسل يطنُّ في أذنَيها: كانت مسرحيتي خليقة بأن تكون أفضل من هذه، كنت مستعدة لأن أفعل أي شيء تقوله المعلمة، لو أنها سمحت لي أن أكتب المسرحية فحسب.

وبعد انتهاء المسرحية سار الطلاب صاعدين وتسلموا شهاداتهم، وأصبحوا أخيرًا في زمرة المتخرجين، وأكدت لهم ذلك يمين الولاء للعلم، وإنشادهم لأغنية «العلم المرصَّع بالنجوم».

ثم جاء الوقت الذي حلَّت فيه محنة فرانسي.

وكانت العادة المتَّبَعة تقضي بأن يهدي الآباء باقات الزهور لبناتهم الخريجات، ولما كانت الزهور ممنوعة في قاعة الاستماع، فقد وزعت في الفصول حيث وضعتها المعلمات على مكاتب المتخرجات.

واضطرت فرانسي أن تعود إلى فصلها لتحضر من مكتبها بطاقتها التي تشتمل على تقاريرها، وكذلك صندوق أقلامها ودفتر التوقيعات، ووقفت خارج الفصل تشحذ قوتها لمواجهة المحنة التي ستلقاها، وهي تعلم أن قمطرها سوف يكون القمطر الوحيد الذي خلا من الزهور، كانت على يقينٍ من ذلك لأنها لم تكن أخبرت أمها بذلك التقليد، فقد كانت تعلم أنها لا تملك مالًا لقضاء هذه الحاجات.

وقررت أن تتغلب على تلك المحنة، ودخلت الفصل، وسارت مباشرةً إلى مكتب المعلمة لا تجرؤ على النظر إلى قمطرها، وكان الجو مشحونًا برائحة الزهور، وسمعت البنات يثرثرن ويصرخن فرحات بزهورهن، وسمعت أصواتهن وهن يتبادلن كلمات الإعجاب والفوز.

وحصلت على بطاقتها التي تشتمل على تقاريرها، وكانت كالآتي: درجة جيد لأربع موادَّ دراسية، وتحت المتوسط لمادةٍ دراسيةٍ واحدة هي اللغة الإنجليزية، وكانت قد ألفت أن تكون أبرع كاتبة في المدرسة، لكنها الآن انتهت إلى الحصول على درجة النجاح فحسب في اللغة الإنجليزية، وشعرت فجأة بأنها تكره المدرسة والمعلمات جميعًا، وخاصة الآنسة جاردنر، ولم يعد يهمها أن تحصل على الزهور، نعم، لم يعد يهمها ذلك، لقد كانت عادةً سخيفة على أي حال، وقررت: لأذهبن إلى قمطر أدواتي، وإذا تكلم معي أحد فسوف أخبره بأن يغلق فمه، ثم أخرج من المدرسة إلى الأبد، دون أن أقول كلمة وداع لأحد.

ورفعت بصرها وقالت لنفسها: إن القمطر الذي يخلو من الزهور سوف يكون قمطري.

ولكن لم يكن هناك قمطر خالٍ من الزهور، كانت الزهور على كل قمطر!

ويممت فرانسي شطر قمطرها معتقدة أن إحدى زميلاتها قد وضعت باقة من زهورها عليه مؤقتًا، وحزمت فرانسي أمرها على أن تلتقطها وتناولها لصاحبتها قائلةً في برود: هل تسمحين؟ إني أريد أن أخرج شيئًا من قمطري.

والتقطت الزهور … كانت عشرين وردةً حمراء داكنة أو أكثر قليلًا فوق حزمةٍ من السرخس، واحتضنتها بين ذراعيها كما تفعل الفتيات الأخريات، وتظاهرت لحظةً أنها كانت ملكها، ونظرت إلى اسم صاحبتها على البطاقة، ولكن اسمها هو الذي كان فوق البطاقة، اسمها هي! كانت البطاقة التي قد كُتب عليها: «إلى فرانسي في يوم تخرجها، تقبلي الحب من أبيك.»

أبي!

وكانت الكتابة هي خط يده الجميل المنمق بالمداد الأسود، الذي يوجد في الزجاجة التي في الصوان بالبيت، إذن فقد كان كل ذلك حلمًا … حلمًا طويلًا مضطربًا … لوري كانت حلمًا … والعمل عند ماكجريتي كان حلمًا، ومسرحية التخرج كانت حلمًا، والدرجة الضعيفة في اللغة الإنجليزية كانت حلمًا، وإنها لتستيقظ الآن، وسوف يكون كل شيء على ما يرام، وإن أباها سوف يكون واقفًا في انتظارها في الردهة.

ولكن لم يكن هناك غير سيسي في الردهة.

وقالت: إذن فإن أبي قد مات.

وقالت سيسي: نعم، كان ذلك منذ خمسة أشهر.

– ولكن لا يمكن أن يكون قد مات يا خالتي سيسي، لقد أرسل الزهور …

– اسمعي يا فرانسي، منذ عام تقريبًا، أعطاني أبوك هذه البطاقة، وقد أتمَّ كتابتها، هي ودولارَين وقال: «حين تتخرج فرانسي أرسلي لها بعض الزهور نيابةً عني … إذا قدِّر لي أن أنسى …»

وبدأت فرانسي تبكي، لا لأنها أصبحت على يقينٍ من أن كل شيء لم يكن حلمًا فحسب، ولكن لأنها أيضًا كانت ضعيفة القوى مما عانت من عملٍ مرهق، وقاست من قلقٍ شديد على أمها؛ ولأنها لم تكتب مسرحية التخرج؛ ولأنها نالت درجةً ضعيفة في اللغة الإنجليزية؛ ولأنها هيأت نفسها تمامًا لعدم تسلم الزهور.

وأخذتها سيسي إلى حمام البنات، ودفعتها إلى داخل الحمام، وأمرتها قائلةً: ابكي بحرقة وانطلقي في النشيج وأسرعي، فإن أمك سوف تتساءل عما أخرنا.

ووقفت فرانسي في داخل الحمام تمسك بزهورها وتنشج، وكانت فرانسي في كل مرة يفتح فيها باب الحمام، ويعلن صوت الثرثرة عن قدوم بعض الفتيات، تشد «السيفون» ليُغرق ضجيج الماء صوتَ نحيبها، ولم تلبث أن اجتازت محنتها، وأعدت لها سيسي حين خرجت منديل يد مبللًا بالماء البارد وناولته لها، وبينما كانت فرانسي تجفف عينَيها سألتها سيسي هل تمالكت نفسها، وأطرقت فرانسي رأسها بالإيجاب، ورجتها أن تنتظر لحظةً حتى تودع زميلاتها ومعلماتها.

وذهبت إلى مكتب العميد وصافحته وقال لها: لا تنسي المدرسة العتيقة يا فرانسي، تعالي وزورينا من حينٍ إلى حين.

ووعدت فرانسي مؤكدةً: سوف آتي.

وعادت لتودع معلمة فصلها، وقالت المعلمة: سوف نفتقدك يا فرانسي.

وأخذت فرانسي صندوق أقلامها ودفتر التوقيعات من قمطرها، وبدأت تودع الفتيات اللائي تزاحمن حولها، وقد وضعت فتاةٌ ذراعها حول خصرها، وأخذت تقبِّلها من خدها فتاتان أخريان، وهن يتبادلن كلمات الوداع: تعالي إلى بيتي لتزوريني يا فرانسي.

– اكتبي لي يا فرانسي وأخبريني عن أحوالك.

– فرانسي، لقد ركَّبنا تليفونًا، كلميني من حينٍ إلى حين، كلميني غدًا.

– اكتبي لي شيئًا في دفتر التوقيعات يا فرانسي، حتى أستطيع أن أبيعه حين تصبحين مشهورة.

– إنني ذاهبةٌ إلى مخيمٍ صيفي، سأكتب لك بعنواني، اكتبي لي يا فرانسي، أسمعتِ؟

– إنني ذاهبةٌ إلى المدرسة الثانوية للبنات في سبتمبر، أتأتين إليها أيضًا يا فرانسي؟

– لا، تعالي معي أنتِ إلى مدرسة البنات الثانوية للإقليم الشرقي.

– المدرسة الثانوية للبنات!

– مدرسة البنات الثانوية للإقليم الشرقي!

– إن أفضلها هي مدرسة إرازمس هول الثانوية، تعالي إليها يا فرانسي معي، وسوف نكون صديقتَين طوال مرحلة الدراسة الثانوية، ولن أتخذ لي صديقةً غيرك إذا جئت.

– فرانسي! أنت لم تسمحي لي أبدًا أن أكتب في دفتر توقيعاتك.

– ولا أنا.

– أعطيني! أعطيني!

وكتبن في دفتر فرانسي الذي خلا من التوقيعات تمامًا، وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: إنهن طيباتٌ، لقد كنت أستطيع أن أكون صديقةً لهن طول الوقت، لكني ظننت أنهن لا يردن صداقتي، لا بد أن الخطأ كان خطئي.

وكتبن في الدفتر، بعضهن كتب بخطٍّ صغيرٍ متزاحم، والبعض الآخر كتب بخطٍّ متفرقٍ متعرج، ولكن الكتابة جميعًا كانت معبرة عن خطوط أطفال، وقرأت فرانسي وهن يكتبن:
أتمنى لكِ حظًّا سعيدًا، أتمنى لكِ السرور.
أتمنى لكِ أن تنجبي أول ما تنجبين صبيًّا.
وحين يبدأ شعره في التجعد.
أتمنى لكِ أن تنجبي بنتًا.
فلورانس فيتز جيرالد
حين تتزوجين
ويتشاجر معكِ زوجك
ناوليه لكزة
واحصلي على الطلاق.
جيني لي
حين ينحسر ستار الظلمة عن الليل
ويبزغ النجم
تذكري أنني ما زلت صديقتك
بالرغم من بعدكِ البعيد.
نورين أوليري
وبحثت بياتريس ويليمز عن الصفحة الأخيرة، وكتبت فيها:
هنا في النهاية وبعيدًا عن العيون
أوقع اسمي بدافعٍ ملعون.

ووقعت: زميلتك الكاتبة بياتريس ويليمز. وقالت فرانسي بينها وبين نفسها، وهي لا تزال تشعر بالغيرة منها من أجل المسرحية: إنها كانت خليقةً بأن تقول «زميلتكِ الكاتبة.»

وتخلصت منهن فرانسي أخيرًا، وقالت لسيسي التي كانت تنتظرها بالخارج في الردهة: بقيت كلمة وداع واحدة فحسب.

واعترضت سيسي بروحٍ طيبة: إنكِ تنفقين في سبيل التخرج أطول وقت.

وكانت الآنسة جاردنر تجلس إلى مكتبها في حجرتها القوية الإضاءة، وحيدة، لم تكن معلمةً محبوبة، فلم يأتِ أحدٌ بعدُ ليودعها، ورفعت بصرها في شغفٍ حين دخلت فرانسي.

وقالت في سرور: إذن فقد جئتِ لتودعي معلمتكِ القديمة للغة الإنجليزية؟

– نعم يا سيدتي.

ولم تستطع الآنسة جاردنر أن تكتفي بذلك؛ إذ لم تستطع أن تخرج عن طبيعة المهنة، فقالت: أما عن درجتكِ فإنكِ لم تقدمي أعمالًا في هذه الفترة الدراسية، كان ينبغي لي أن أجعلك ترسبين، ولكني قررت في اللحظة الأخيرة أن أنجحك حتى تتخرجي مع زميلات فصلك.

وانتظرت، ولم تقل فرانسي شيئًا، فقالت: حسنًا! ألا تشكرينني على ذلك؟

– أشكرك يا آنسة جاردنر.

– أتذكرين حديثنا القصير؟

– نعم يا سيدتي.

– لماذا إذن عاندتِ وتوقفتِ عن تقديم أعمالك؟

ولم تجد فرانسي ما تقوله، فقد كان شيئًا لا تستطيع أن تشرحه للآنسة جاردنر، ومدت يدها قائلة: وداعًا يا آنسة جاردنر.

وأسقط في يد الآنسة جاردنر، وقالت: حسنًا! وداعًا إذن.

وتصافحتا بالأيدي، وقالت الآنسة جاردنر: سوف تعرفين في حينه أنني كنت على صواب.

ولم ترد فرانسي، وسألتها الآنسة جاردنر في حدة: أليس كذلك؟

– نعم يا سيدتي.

وخرجت فرانسي من الحجرة، إنها لم تعد تكره الآنسة جاردنر، ولم تعد تحبها، ولكنها شعرت بالأسف من أجلها، فلم يكن لديها شيء في العالم سوى التوكيد بأنها كانت على صواب.

وكان السيد جينسون يقف على سلم المدرسة، ويأخذ يد كل طفلةٍ في يديه الاثنتين، ويقول: «وداعًا، باركك الله!» وزاد بعض كلماتٍ خاصة وجهها إلى فرانسي: «كوني فتاةً طيبة، وجدِّي في العمل واذكري فضل مدرستك عليك.» ووعدت فرانسي بأن تفعل.

وقالت سيسي في طريق العودة إلى البيت: اسمعي! فلتُخفي عن أمك اسم من بعث إليك بالزهور؛ فإن ذلك سيثير أشجانها، وقد أوشكت أن تعود إلى حالتها الطبيعية بعد ولادة لوري، واتفقتا على أن تقولا إن سيسي هي التي اشترت الزهور، وخلعت فرانسي البطاقة ووضعتها في صندوق أقلامها.

وقالت الأم حين سمعت الكذبة: سيسي! ما كان ينبغي لكِ أن تنفقي مالكِ.

ولكن فرانسي استطاعت أن تستبين أن أمها سُرَّت بالزهور.

وأعجب الجميع بالشهادتين، واتفقوا على أن شهادة فرانسي كانت أجملها من أجل خط السيد جينسون الجميل، وقالت كاتي: إنها أول شهادتَين في أسرة نولان.

وقالت سيسي: ولكن أرجو ألا تكونا الأخيرتَين.

وقالت إيفي: سوف أسعى لكي يحصل كلٌّ من أطفالي على ثلاث شهادات: الإعدادية والثانوية والجامعة.

وقالت سيسي: سوف تكون لأسرتنا بعد خمسة وعشرين عامًا مجموعة من الشهادات تبلغ هذا الارتفاع.

ووقفت على أطراف أصابعها، وقاست ست أقدام من الأرض.

وفحصت الأم البطاقات التي تشتمل على التقارير للمرة الأخيرة، ورأت أن نيلي حصل على درجة جيد في السلوك، ومثلها في الرياضة البدنية، ثم حصل على درجة متوسط في المواد الأخرى كلها، وقالت الأم: هذا ابنٌ مجتهد.

وأغفلت الأم المواد التي حصلت فيها فرانسي على درجة ممتاز، وركزت انتباهها على المادة التي نالت درجة تحت المتوسط.

– فرانسي! إني مندهشةٌ، كيف حدث ذلك؟

– أمي! أنا لا أريد أن أتحدث في هذا الأمر.

– وفي اللغة الإنجليزية أيضًا، مادتكِ المفضلة؟

واحتدَّ صوت فرانسي وهي ترد: أمي! لا أريد أن أتحدث في هذا الأمر.

وشرحت كاتي لأختيها ما ترمي إليه قائلة: لقد كانت تكتب دائمًا أحسن موضوعات الإنشاء في المدرسة.

وصاحت فرانسي بما يشبه الصراخ: أمي!

وأمرتها سيسي في حدة: كاتي! كفِّى عن ذلك.

وأذعنت كاتي وقد تنبهت فجأة إلى أنها كانت تلحُّ على فرانسي في السؤال، وخجلت من نفسها قائلة: ليكن.

وغيرت إيفي مجرى الحديث، فسألت: هل سنحظى بتلك الحفلة أولًا؟

وقالت كاتي: إنني ألبس قبعتي.

وبقيت سيسي مع لوري في حين ذهبت إيفي والأم والخريجات للاحتفال بتلك المناسبة في صالة شيفلي للمثلجات، وكانت صالة شيفلي مزدحمة بحفلات الخريجين، وأحضر الصبية معهم شهاداتهم، وأحضرت البنات باقات زهورهن، وكان يجلس إلى كل مائدة أم أو أب أو كلاهما في بعض الأحيان، ووجدت عائلة نولان منضدةً خاوية في نهاية الحجرة.

وكان المكان يموج بالأطفال الصائحين والآباء الفرحين والخدم المندفعين، وبعض الأطفال في الثالثة عشرة من عمرهم، وقليلٌ في الخامسة عشرة، لكن أغلبهم في عمر فرانسي، أي في الرابعة عشرة، ومعظم الصبية من زملاء نيلي في الفصل، وأنفق نيلي وقتًا كبيرًا وهو يصيح مُحيِّيًا إيَّاهم عبر الحجرة، ولم تكد فرانسي تعرف البنات، لكنها بالرغم من ذلك ظلت تلوِّح وتصيح لهنَّ في مرحٍ وغبطة، كأنما كانت صديقةً حميمة لهن منذ سنين.

وكانت فرانسي فخورًا بأمها، وقد رأت الأمهات الأخريات بشعرهن الأشيب، ومعظمهن ممتلئات الجسم، حتى إن أردافهن تنحدر على حوافي الكراسي، أما أمها فكانت رشيقة القوام، ولم يبدُ على الإطلاق أنها تستقبل عامها الثالث والثلاثين، ببشرتها الناعمة الصافية وشعرها الأسود المجعد كشأنه دائمًا.

وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: إذا ارتدت أمي ثوبًا أبيض وحملت باقةً من الزهور بين ذراعَيها، فسوف تشبه خريجةً من الفتيات في الرابعة عشرة من عمرها، فيما عدا ذلك الخط بين عينيها الذي زاد عمقًا منذ وفاة أبي.

وأمروا النادل بإحضار المثلجات، وكانت فرانسي تحتفظ في ذهنها بقائمةٍ من كل مشروبات الصودا المحلَّاة، وأخذت تستعرض القائمة كأنها ذاقت كل ألوان الصودا التي في العالم، وكان الأناناس هو النوع التالي فطلبته، وطلب نيلي مشروبه القديم المفضل الشوكولاتة بالصودا، واختارت كاتي وإيفي الكريمة المثلجة البسيطة المطيبة بالفانيليا.

وأخذت إيفي تتندر بزبائن الصالة في قصصٍ قصيرة؛ مما حمل فرانسي ونيلي على الضحك طول الوقت، وكانت فرانسي ترنو إلى أمها من حينٍ إلى حين، ولم ترَ أمها تضحك على فكاهات إيفي، وإنما كانت تتناول الكريمة المثلجة على مهلٍ، والخط الذي بين عينيها يزداد عمقًا، وعلمت فرانسي أن أمها تفكر في شيء.

وكانت كاتي تقول بينها وبين نفسها: لقد حصل طفلاي على حظٍّ من التعليم، وهما في الثالثة عشرة والرابعة عشرة، أكثر مما حصلت عليه أنا في الثانية والثلاثين، ولكن ليس ذلك كافيًا، وإنِّي حين أذكر كيف كنتُ جاهلةً وأنا في مثل سنهما بل وأنا زوجةٌ وأم، كيف كنت أومن بتعاويذ الساحرة، ثم ما كان من حديث القابلة إليَّ عن المرأة التي كانت في سوق السمك أشعر بالفارق الكبير بيني وبينهما، لقد سبقاني منذ نقطة البداية ولم يكونا قط في جهلي، إنني سعيت إلى أن يتخرجا في المدرسة الابتدائية، ولست أستطيع أن أقدم لهما أكثر من ذلك، وإن كل ما دبرت جميعًا لكي يصبح نيلي طبيبًا وتلتحق فرانسي بالجامعة لا يمكن تحقيقه الآن، أما عن الطفلة … ترى هل يكفيهما ما حصلاه للمضي في الحياة وحدهما؟ لست أدري، لقد قرآ آثار شكسبير … والإنجيل … وتعلما العزف على البيانو، ولكنهما توقفا عن التمرن الآن، ولقد علمتهما النظافة والصدق وألا يقبلا الصدقة، ولكن ترى هل في ذلك الكفاية؟

– سوف يكون لهما سريعًا رئيس يجب عليهما إرضاؤه، وسوف يتعاملان مع أناسٍ جدد، ويسلكان في حياتهما سبلًا أخرى، ترى أتكون سبلًا إلى الخير أم إلى الشر؟ إنهما لن يجلسا في الليل معي بالبيت إذا كان يشتغلان طول اليوم، سوف ينطلق نيلي مع أصدقائه، أما فرانسي … ترى ماذا تفعل؟ أتقرأ؟ أم تمضي إلى المكتبة؟ أم إلى المسرح؟ إم إلى سماع محاضرةٍ عامة؟ أم حضور حفلةٍ موسيقية؟ وسوف تكون الطفلة معي بلا شك، أجل الطفلة! وسوف تحظى ببدايةٍ أفضل، وقد يرعيانها حين تتخرج طول فترة دراستها بالمدرسة الثانوية، يجب عليَّ أن أهيئ للوري حياةً أفضل مما هيأته لهما، فلم يتوافر لهما قط ما يكفيهما من الطعام أو الملابس، لقد كنت أبذل كل ما في طاقتي لكنه كان دون الكفاية، وهما الآن مضطران إلى الخروج للعمل مع أنهما طفلان صغيران. آه لو كنت أستطيع أن أدخلهما المدرسة الثانوية هذا الخريف فحسب! رباه! إني سوف أبذل من عمري عشرين عامًا، أشتغل بالليل وبالنهار، ولكني لا أستطيع بلا شك؛ إذ ليس لي أحد يبقى مع الطفلة.

وقطعت سلسلةَ أفكارها موجةٌ من الغناء اجتاحت الحجرة، وبدأ أحدهم يغني أغنيةً شائعة من الأغاني المناهضة للحرب، وردد الآخرون الغناء:

إني لم أنشئ ابني ليكون جنديًّا،
بل ربيته ليكون موضع فخري وسعادتي.

واستأنفت كاتي أفكارها في دخيلة نفسها: ما من أحدٍ يبذل لنا يد العون! ما من أحد.

وفكرت لحظةً في الشاويش ماكشين، وكان قد أرسل سلةً كبيرة من الفاكهة حين ولدت لوري، كانت كاتي تعلم أنه سيعتزل خدمة الشرطة في سبتمبر؛ لأنه سيرشح نفسه في الانتخابات التالية عن كوينز؛ دائرته الانتخابية التي يسكن فيها، والجميع على يقين من أنه سيفوز، وكاتي سمعت أن زوجته مريضة جدًّا، وأنها قد لا تعيش إلى اليوم الذي يُنتخب فيه زوجها.

وقالت كاتي بينها وبين نفسها: إنه سوف يتزوج مرةً أخرى بلا شك، وإن المرأة التي تعرف كل شيء عن الحياة الاجتماعية، سوف تساعده على نحو ما ينبغي أن تكون عليه زوجة الرجل السياسي.

وحملقت في يدَيها اللتين أبلاهما العمل وقتًا طويلًا، ثم وضعتهما تحت المائدة كأنها كانت تشعر بالخجل منهما.

وخمنت فرانسي ما يدور في نفس أمها، وتذكرت كيف لبست أمها قفازها القطني في تلك الرحلة منذ عهدٍ بعيد حين نظر ماكشين إليها، وقالت بينها وبين نفسها: إنها تفكر في الشاويش ماكشين، فهو يحبها، ترى هل تعرف ذلك؟ لا بد أنها تعرف، يبدو أنها تعرف كل شيء، وإني لأراهن بأنها تستطيع أن تتزوجه إذا أرادت، ولكن يجب عليه ألا يظن أنني سأقول له يا أبي، فلقد مات أبي، وسواء تزوجت أمي هذا أم ذاك، فإنه لن يكون بالنسبة لي سوى السيد فلان.

وكانوا ينشدون الجزء الأخير من الأغنية:

لن تكون هناك حروب هذه الأيام،
لو أن الأمهات جميعًا قلن:
إننا لن ننشئ أبناءنا ليكونوا جنودًا.

وقالت كاتي بينها وبين نفسها: إن نيلي في الثالثة عشرة، فإذا ما نشبت الحرب هنا، فسوف تنتهي قبل أن يبلغ سن التجنيد؛ أحمدك يا رب.

وكانت الخالة إيفي تغني لهما في صوتٍ عذب، وهي تحاكي كلمات الأغنية في سخرية: من ذا الذي يجرؤ أن يضع شاربًا على كتفه.

وقالت فرانسي وقد انفجرت هي ونيلي ضاحكَين: إنك فظيعة يا خالة إيفي!

وخرجت كاتي من أفكارها وتطلَّعت إليهم وابتسمت، ثم وضع النادل ورقة الحساب على المائدة، وصمت الجميع يراقبون كاتي، وقالت إيفي بينها وبين نفسها: إني أود ألا تبلغ من البلاهة ما يدفعها إلى أن تنفح النادل حلوانًا.

وقال نيلي بينه وبين نفسه: هل تعلم أمي أنه يجب عيلها أن تنفحه بخمسة سنتات، إني أود ذلك.

وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: إن ما تفعله أمي أيًّا كان سوف يكون صوابًا.

ولم تكن هناك عادةٌ بنفح النادل في محالِّ بيع المثلجات إلا في الحفلات الخاصة، حيث يُنتظر منك أن تنفح النادل بخمسة سنتات، ورأت كاتي أن الحساب ثلاثون سنتًا، ومعها في كيسها العتيق قطعةٌ واحدة من ذات الخمسين سنتًا، وضعتها على ورقة الحساب، وأخذها النادل وأعاد أربع قطع من فئة البنسات الخمس، وضعها متراصةً في صف، وأخذ يحوم بالقرب من المائدة، منتظرًا أن تلتقط كاتي ثلاثةً منها، ونظرت كاتي إلى القطع الأربع وقالت بينها وبين نفسها: أربعة أرغفة من الخبز.

وكانت ثماني عيون ترقب يد كاتي، ولم تتردد كاتي قط حين وضعت يدها على النقود، ودفعت بيدٍ ثابتة القطع الأربع إلى النادل، وقالت في عظمة: دع باقي الحساب لك.

وبذلت فرانسي ما في وسعها حتى لا تقف على كرسيها وتهتف محيِّيةً، وظلت تقول بينها وبين نفسها: إن أمي عظيمة الشأن.

واختطف النادل الحلوان في سعادةٍ، واندفع ماضيًا إلى شأنه.

وقال نيلي متوجعًا: ثمن شرابين من الصودا.

واعترضت إيفي: كاتي! كاتي! ما أحمقك! أراهن أنها آخر ما معك من النقود.

– نعم إنها آخر ما عندي، ولكنها قد تكون آخر حفلة تخرُّج لنا أيضًا.

وقالت فرانسي مدافعةً عن أمها: سوف يدفع ماكجريتي لنا غدًا أربعة دولارات.

وأضاف نيلي: ثم هو يستغني عنا غدًا أيضًا.

واختتمت إيفي قائلةً: ولن تتوافر لكم نقودٌ بعد هذه الدولارات الأربعة حتى يحصل الطفلان على العمل.

وقالت كاتي: إنني لا أعبأ بذلك، لقد وددت أن نشعر مرةً واحدة كأننا من أصحاب الملايين، وإذا كانت عشرون سنتًا خليقةً بأن تمنحنا هذا الشعور فإنها لثمنٌ بخس.

وتذكرت إيفي كيف كانت كاتي تدع فرانسي تسكب قهوتها في البالوعة ولم تقل شيئًا آخر، كانت هناك أشياءُ كثيرة لا تفهمها في أختها.

وبدأت الحفلة تنفضُّ، وجاء إلى مائدتهم ألبي سيدمور، وهو غليظ الساقين وابن بقالٍ غني، وسأل فرانسي في نَفَسٍ واحد: أتأتين معي يا فرانسي إلى السينما غدًا؟

وأضاف بسرعةٍ: أنا الذي سأدفع.

(وكانت دار السينما تسمح للخريجين بأن يشاهدوا العرض في حفلة يوم السبت الصباحية نظير خمسة سنتات للشخصَين، على شرط أن يحضرا معهما شهادةً تدل على تخرجهما.)

ونظرت فرانسي إلى أمها، وأطرقت الأم معلنةً عن موافقتها.

ووافقت فرانسي قائلةً: أجل يا ألبي بكل تأكيد.

– سآراكِ غدًا الساعة الثانية.

وأسرع ماضيًا، وقالت إيفي: إنه موعدك الأول، تمنِّي أمنية.

ورفعت إصبعها الصغيرة وثنتها، وشبكت فرانسي إصبعها الصغيرة في إصبع خالتها إيفي.

وتمنت فرانسي أمنيتها قائلةً: إني لأتمنى أن يتاح لي دائمًا أن أرتدي ثوبًا أبيض، وأحمل زهورًا حمراء وأن نستطيع دائمًا أن نبعثر المال من حولنا على نحو ما فعلنا الليلة.

١  عيد جميع القديسين، وهو العيد المعروف بالهالووين Halloween. (المترجمة)
٢  ألجير هو هوراشيو ألجير، وقد كتب عدة قصص في مستهل القرن العشرين في أمريكا تناول فيها الفقراء ورجالًا ونساءً وكيف يصبحون أغنياء، ويحققون كل ما يصبون إليه في الحياة. (المترجمة)
٣  أناشيد لجورج م. كوهان.
٤  القرطمة: حديدة توضع في فم الجواد يُقاد بها، وهي غير اللجام. (المترجمة)
٥  شغل التريكو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤