الباب الرابع

٤٣

قالت رئيسة العمل لفرانسي: لقد فهمت الفكرة الآن، سوف تصبحين صانعةً ماهرة لسيقان الزهور في حينه.

ومضت لشأنها، وانصرفت فرانسي إلى عملها، وكانت تلك هي الساعة الأولى في أول يوم تسلمت فيه عملها الأول.

والتقطت يدها اليسرى، وفقًا لإرشادات الرئيسة، سلكًا لامعًا طوله قدم، والتقطت يدها اليمنى في الوقت نفسه شريطًا رقيقًا من الورق الأخضر الداكن، ولمست طرف الشريط بإسفنجةٍ مبلَّلة، ثم لفَّت الورقة حول السلك مستخدمة إبهامها وسبابتَيها كآلةٍ من آلات اللف، ووضعت السلك المغطى بالورق جانبًا فقد أصبح الآن ساقًا.

وكان مارك، وهو صبي تعلو وجهه البثور، يخدم الجميع ويوزع السيقان بين آنٍ وآن على «صانعي أكمام الزهور»، الذين يشكلون بالسلك أكمام ورود من الورق، وثمة فتاةٌ أخرى تشبك كمًّا تحت الوردة، ثم تناولها إلى «صانع أوراق الزهور» الذي يستلُّ من كومٍ من أوراق الشجر وحدةً، تتكون من ثلاث أوراقٍ ملساء داكنة اللون تتصل بساقٍ قصيرة، ويسلك الوحدة في الساق، ثم يناول الوردة إلى العامل الذي يُتمُّ الصنعة، فيلفُّ شريطًا من الورق الأخضر الأكثر سمكًا حول الكم والساق، وتصبح الساق والكم والوردة والأوراق زهرةً واحدة، وتبدو كأنها نمت على ذلك النحو.

وشعرت فرانسي بألمٍ في ظهرها يمتد إلى كتفها، وظنت أنها لا بد قد لفَّت ألف ساق، ولا شك أن موعد الغداء كان قد حلَّ، واستدارت لتنظر إلى الساعة، فوجدت أنها لم تشتغل سوى ساعةٍ واحدة!

وقالت فتاةٌ باستهزاء: راصدة الساعة.

ورفعت فرانسي بصرها مرتاعة، ولكنها لم تقل شيئًا.

واتخذت فرانسي لنفسها نهجًا منتظمًا في العمل، فبدا أكثر سهولة، فإذا قالت «واحد» وضعت السلك المغطى جانبًا … وإذا قالت «واحد ونصف» التقطت السلك الجديد وشريطًا من الورق، وإذا قالت «اثنين» بلَّلت الورقة ثم تقول ثلاثة وأربعة وخمسة وستة وسبعة وثمانية وتسعة وعشرة، وهنالك تتم تغطية السلك، وأصبح هذا النهج المنتظم غريزةً ثانية فيها، فلم تعد بحاجةٍ إلى العدِّ أو تركيز انتباهها، وارتخت عضلات ظهرها، ولم تعد تشعر بالألم في كتفها، لقد تحرر عقلها فبدأت تفكر في الأمر، قالت بينها وبين نفسها: إن هذا يمكن أن يستغرق حياةً بأكملها، أنتِ تشتغلين ثماني ساعات في اليوم تغطين الأسلاك، لتحصلي على مالٍ تشترين به الطعام وتدفعي إيجار مكانٍ تنامين فيه، حتى تقيمي أودك لتعودي مرةً أخرى تغطين المزيد من الأسلاك، لقد ولد بعض الناس وعاشوا حياتهم لمجرد أن ينتهي بهم الأمر إلى هذه الحال، وسوف تتزوج بعض هؤلاء الفتيات بلا شك، يتزوجن رجالًا يعيشون نفس هذه الحياة، ترى ماذا يجنين من ذلك؟ سوف يظفرن بشخصٍ يبادلهن الحديث في ساعات الليل القليلة بين العمل والنوم.

ولكنها كانت تعلم أن هذا المكسب لن يبقى طويلًا، ولقد رأت كثيرًا جدًّا من الأزواج وزوجاتهم من العمال، لا يتبادلون الحديث إلا نادرًا بعد أن أنجبوا الأطفال وتراكمت عليهم الديون، فإذا تحدثوا كان حديثهم مشاحنةً مريرة، وقالت بينها وبين نفسها: هؤلاء الناس واقعون في أحبولة! لماذا؟ لأنهم … (وتذكرت آراء جدَّتها المتكررة) لأنهم لم ينالوا التعليم الكافي.

وسرى الخوف في نفس فرانسي، ربما لا تستطيع أبدًا أن تدخل المدرسة الثانوية، وربما لا تحصل أبدًا على حظٍّ من التعليم أكثر مما حصلت عليه حتى هذه اللحظة، وربما انصرفت حياتها كلها إلى تغطية الأسلاك … تغطية الأسلاك … واحد – واحد ونصف – اثنين – ثلاثة – أربعة – خمسة – ستة – سبعة – ثمانية – تسعة – عشرة.

واستولى عليها ذلك الفزع الغامض المعهود الذي أحسَّت به، حين رأت وهي طفلة في الحادية عشرة الرجل المسنَّ في مخبز لوشر بقدمه البشعة، وزادت سرعتها المنتظمة بعد أن استبدَّ بها الفزع، حتى إنها اضطرت إلى تركيز انتباهها في العمل، فلم تجد فسحةً للتفكير.

وقال العامل الذي يتم «الصنعة» في استهتار: هذه عاملة جديدة.

وقال صانع الأكمام: تحاول أن تنجح مع الرئيسة.

وما لبثت السرعة الجديدة أن أصبحت آلية، فانطلق عقل فرانسي مرةً أخرى من عقاله، وأخذت ترقب خلسةً الفتيات الجالسات إلى المائدة الطويلة، وكان عددهن يبلغ اثنتي عشرة فتاةً بين بولنديات وإيطاليات، وأصغرهن تبدو في السادسة عشرة، وأكبرهن في الثلاثين، لكنهن جميعًا كن مكتئباتٍ قانطات، يرتدين جميعًا الملابس السوداء دون سببٍ مفهوم، وقد وضح أنهن لا يقفن على مبلغ تنافر اللون الأسود مع البشرة الداكنة، وكانت فرانسي هي الفتاة الوحيدة التي ترتدي ثوبًا من القماش القطني المبرقش، وشعرت كأنها طفلةٌ بلهاء، ولحظت نظراتها السريعة عيون العاملات الحادة، فعمدن إلى الثأر منها بأسلوبهن الغريب في التأديب والانتقام، وبدأت الهجوم الفتاة التي تجلس إلى رأس المائدة، معلنة: إن بين الجالسات إلى هذه المائدة فتاةً وجهها قذر.

وأجابت الفتيات الأخريات واحدةً بعد الأخرى: «لست أنا.» ولما جاء دور فرانسي توقفت الفتيات عن العمل منتظرات، ولكن فرانسي لم تعرف ماذا تقول، فلاذت بالصمت، وأردفت رئيسة الحلقة: إن الفتاة الجديدة لا تقول شيئًا، فهي إذن صاحبة الوجه القذر، وشعرت فرانسي بالحرارة تصعد إلى وجهها، ولكنها أخذت تشتغل بمزيدٍ من السرعة، وودت لو أنهن تركن هذه اللعبة كلها.

وبدأت اللعبة مرةً أخرى: «هنا فتاةٌ رقبتها قذرة.» وأجابت الفتيات كلٌّ بدورها: «لست أنا.» ولما جاء دور فرانسي قالت هي أيضًا: «لست أنا.»، ولكنها بدلًا من أن ترضيهن، زودتهن بمادةٍ جديدة للتندر: إن الفتاة الجديدة تقول إن رقبتها ليست قذرة.

– هي التي تقول!

– كيف تعلم ذلك؟ هل تستطيع أن ترى رقبتها؟

– هل تعترف أن رقبتها قذرة؟

وتحيرت فرانسي «إنهن يردن مني أن أفعل شيئًا، ولكن أي شيء؟ أيردن مني أن أخرج عن وعيي وأسبَّهن؟ أيردن مني أن أطلِّق هذه الوظيفة؟ أم يردن رؤيتي وأنا أبكي على نحو ما فعلت تلك الفتاة الصغيرة منذ زمنٍ بعيد، حين راقبتها وهي تنظف مساحات السبورة؟ أيًّا كان ما يردن فإنني لن أفعله!» وحنت رأسها على الأسلاك، وزادت من سرعة أصابعها.

ودارت تلك اللعبة المملة طول الصباح، ولم تكن تتخلل ذلك هدنة إلا حين يدخل الصبي مارك الذي يخدم الجميع، فيتركن فرانسي فترةً ليسخرن من الصبي، وحذرنها قائلات: إن الفتاة الجديدة تتطلع إلى مارك، لقد قُبض عليه مرتين؛ الأولى كان متهمًا باغتصاب البنات، والثانية بتجارة الرقيق الأبيض.

وكانت الفتيات بذلك الاتهام يتهكمن بمارك تهكمًا مبتذلًا؛ لأنه كان مخنثًا على نحوٍ واضحٍ جلي، ورأت فرانسي حمرة الخجل الشديد الذي يعلو وجه الصبي البائس عند كل لمزةٍ تصيبه منهن، وشعرت بالأسف من أجله.

ومرت فترة الصباح بتثاقل، ودق ناقوس معلنًا عن فترة الغداء، في الوقت الذي أحست فيه فرانسي أن الصباح لن ينتهي أبدًا، وتركت الفتيات عملهن وجذبن أكياس الورق التي تحتوي على الغذاء، ونشرن الأكياس ليصنعن منها مفرشًا للمائدة، ثم بسطن شطائرهن المحلاة بالبصل وبدأن يأكلن، ورأت فرانسي أن يديها ساخنتان لزجتان، فأرادت أن تغسلهما قبل أن تأكل، فسألت جارتها عن موقع المغسل، وأجابت الفتاة في لغةٍ ركيكة مبالغ فيها: أنا لا أتكلم الإنجليزية.

وقالت فتاةٌ أخرى كانت تلمز فرانسي طول فترة الصباح بلغةٍ إنجليزية متقعرة: إنها لا تعي ولا تفهم.

وسألت فتاةٌ بدينة: وما المغسل؟

وأجابت فتاةٌ مازحة: إنها الحجرة التي يصنعون فيها الغسالات.

وكان مارك يجمع الصناديق، فوقف في ممر الباب وذراعاه محملتان، يحرك تفاحة آدم في رقبته مرتَين صاعدةً هابطة، وسمعته فرانسي يتكلم لأول مرة، وأعلن مارك في تأثرٍ: لقد مات يسوع المسيح من جراء أمثالكن، وأنتن الآن ترفضن أن ترشدن فتاةً جديدة إلى موقع الحمام؟

وحملقت فرانسي مندهشة، ثم لم تستطع أن تقاوم رغبتها في الضحك، فقد رنَّت كلماته مضحكة غاية الإضحاك، فانفجرت ضاحكةً، وازدرد مارك ريقه واستدار واختفى هابطًا إلى البهو، ثم تغير كل شيء حينئذٍ، وسرت همهمةٌ حول المائدة.

– لقد ضحكت!

– هاي! الفتاة الجديدة ضحكت!

– ضحكت!

وتأبطت فتاةٌ إيطاليةٌ صغيرة ذراع فرانسي، وقالت: هيا أيتها الصغيرة الجديدة، سأرشدك إلى الحمام.

ولما ذهبا إلى الحمام فتحت الفتاة صنبور الماء لفرانسي، وضربت على وعاء الصابون السائل الزجاجي، وأخذت تحوم حول فرانسي في حدبٍ وهي تغسل يديها، ولما أوشكت فرانسي أن تجفف يديها في المنشفة الناصعة البياض، التي بدا واضحًا أنها لم تستعمل، خطفتها مرشدتها منها: لا تستعملي هذه المنشفة أيتها الفتاة الجديدة.

– لماذا؟ إنها تبدو نظيفة.

– إنها خطرةٌ، فإن بعض الفتيات العاملات هنا مريضات بمرضٍ خبيثٍ سري، وسوف تنتقل إليك عدواه إذا استعملتِ هذه المنشفة.

– ما أفعل؟

ولوَّحت فرانسي بيدَيها المبللتَين.

– استعملي قميصك كما نفعل.

وجففت فرانسي يديها في قميصها، وهي ترقب المنشفة المميتة في فزع.

ووجدت فرانسي — حين عادت إلى حجرة العمل — أن الفتيات قد بسطن كيسها من الورق، ووضعن عليه شطيرتَي لحم «البولوني» اللتين أعدتهما لها أمها، ورأت فتاةً صغيرة قد وضعت على ورقتها ثمرة طماطم طيبةً حمراء، ورحبت الفتيات بعودتها باسمات، وأخرجت الفتاة التي تزعمت الغمز واللمز طول الصباح زجاجةً من الويسكي، وعبَّت منها جرعةً كبيرة، ثم ناولتها لفرانسي، وأمرتها قائلة: اشربي كأسًا أيتها الفتاة الجديدة، إن هذه الشطائر تكون جافة إذا ما نزلت إلى المعدة وحدها.

وتراجعت فرانسي إلى الوراء، وأمسكت عن الشراب بسرعة.

– هيا اشربي! إنه ليس إلا شايًا باردًا!

وفكرت فرانسي في منشفة الحمام، وهزت رأسها مؤكدةً: «لا»، وصرخت الفتاة قائلة: آه! أنا أعلم سبب امتناعك عن الشرب من زجاجتي، فقد بعثت أناستاسيا الرعب في قلبك في الحمام، لا تصدقيها أيتها الفتاة الجديدة، لقد أطلقت الرئيسة نفسها ذلك الحديث عن المرض السرِّي الخبيث حتى لا نستعمل المناشف، فتقتصد على هذا النحو دولارَين كل أسبوع من نفقات الغسل.

وقالت أناستاسيا: هه! إني لا أرى فتاةً منكن تستعمل المنشفة.

– تبًّا لكِ، ليس لدينا إلا نصف ساعة فحسب للغداء، أين من تضيع منا وقتًا في غسل يديها؟ اشربي أيتها الفتاة الجديدة.

وعبَّت فرانسي جرعةً كبيرة من الزجاجة، وكان الشاي البارد قويًّا منعشًا، فشكرت الفتاة، ثم أرادت أن تشكر تلك التي أعطتها ثمرة الطماطم، وأنكرت على الفور كل فتاة بدورها أنها هي التي أعطتها الثمرة.

– عم تتكلم؟

– أي طماطم؟

– إني لا أرى أي طماطم.

– لقد أحضرت الفتاة الجديدة ثمرة طماطم للغداء ولم تتذكرها.

وهكذا أخذن يعاكسنها، ولكن المعاكسة الآن كان فيها شيءٌ من دفء الألفة والصداقة، واستمتعت فرانسي بفترة الغداء، وسُرَّت إذ اكتشفت ما كنَّ يردنه منها، وكان كل ما يردن منها هو أن تضحك، ويا له من أمرٍ يسير، ولكن اكتشافه كان أمرًا عسيرًا.

ومرت ساعات اليوم الباقية على نحوٍ بهيجٍ، وأنبأت الفتيات فرانسي بألا تقتل نفسها في العمل، فهو عملٌ موسميٌّ، وسوف يفصلن جميعًا حين تعد طلبات الاستخدام في الخريف، وكلما أسرعوا في الانتهاء من إعداد الطلبات كان فصلهن أسرع، وسُرَّت فرانسي لاستحواذها على ثقة هؤلاء العاملات الأكبر سنًّا والأكثر خبرةً، فأبطأت في عملها راضيةً، وأخذن يلقين الفكاهات طول فترة العصر، وضحكت فرانسي منها جميعًا، سواء كانت مضحكةً حقًّا أم مجرد كلماتٍ نابيةٍ قذرة، وأنَّبها ضميرها بعض الشيء حين شاركت الفتيات الأخريات في تعذيب مارك الشهيد، الذي لم يكن يعلم أنه إذا ضحك مرةً واحدة فحسب، فإن متاعبه في المحل خليقة بأن تزول.

ووقفت فرانسي بضع دقائقَ قليلة من ظهر يوم السبت، تنتظر نيلي على رصيف محطة شارع فلاشينج لقطار برودواي المعلق، وهي تحمل مظروفًا يحتوي على خمسة دولارات هي أول أجر أسبوعي تقاضته، وكان نيلي يحمل إلى البيت أيضًا خمسة دولارات، وقد اتفقا على أن يصلا إلى البيت معًا، ويحتفلا احتفالًا بسيطًا بإعطاء المال لأمهما.

وكان نيلي يعمل صبيًّا مخابرًا في محل نيويورك للسمسرة في قلب المدينة، وحصل له على هذا العمل زوج سيسي جون بفضل صديق له كان يعمل هناك من قبلُ، وحسدت فرانسي نيلي؛ لأنه كان يعبر جسر ويليمسبرج العظيم كل يوم، ويذهب إلى المدينة الكبيرة العجيبة، على حين كانت فرانسي تسير إلى عملها في الجانب الشمالي من بروكلين، وكان نيلي يأكل في المطعم، وقد حمل معه غذاءه أول يوم، شأنه شأن فرانسي، ولكن الصبية سخروا منه منادين إياه بالصبي الريفي الخارج من بروكلين، فأعطته أمه من بعد خمسة عشر سنتًا لذلك كل يوم، وروى نيلي لفرانسي كيف كان يأكل في مطعمٍ يدعى المطعم الآلي، فيضع خمسة سنتات في فتحة، فتخرج القهوة والكريمة معًا بنسبٍ مضبوطة، لا تزيد ولا تنقص وتملأ القدح عن آخره، وودَّت فرانسي أن تركب مخترقة «الكوبري» لتعمل وتأكل في المطعم الآلي، بدلًا من حمل الفطائر معها من البيت.

وهبط نيلي جريًا على درجات محطة القطار المعلَّق، يحمل لفةً مستوية تحت ذراعَيه، ولاحظت فرانسي كيف أنه يهبط بقدمه بزاويةٍ حتى تطأ قدمه كلها الدرجة لا كعبه فحسب؛ مما جعل خطواته ثابتةً وثيقة، وكان أبوها يهبط السلم على هذا النحو دائمًا، ولم يخبر نيلي فرانسي بما في اللفة قائلًا إن ذلك خليقٌ بأن يفسد المفاجأة، ووقفا عند مصرف الحي الذي أوشك أن يغلق أبوابه منتهيًا من عمل اليوم، وطلبا من أحد الموظفين أن يستبدل لهما أوراقًا ماليةً جديدة من فئة الدولار بأوراقهما القديمة، وسألهما الموظف: لم تريدان الأوراق الجديدة؟

وشرحت له فرانسي الأمر قائلة: إنه أول أجرٌ لنا، ونودُّ أن نحمله إلى البيت أوراقًا ماليةً جديدة.

وقال الموظف: أول أجر؟ إن ذلك يعود بي إلى الماضي، نعم إنه يعود بي إلى الماضي بلا شك، وإنِّي لأذكر ذلك الوقت الذي حملت فيه أجري الأول إلى البيت، وكنت صبيًّا آنئذٍ، أعمل في مزرعةٍ بمانهاست في لونج أيلاند … ثم يا سيدي …

ومضى يروي نبذةً عن سيرته، وماج الناس الواقفون في الصف؛ إذ فقدوا صبرهم، واختتم حديثه قائلًا: ولما ناولت أجري الأول إلى أمي حارت الدموع في عينَيها، نعم يا سيدي حارت الدموع في عينَيها.

وفضَّ الغلاف عن رزمة من الأوراق الجديدة، واستبدل لهما أوراقًا جديدة بأخرى قديمة، ثم قال: وهذه هدية لكما.

وأعطى لكلٍّ منهما بنسًا حديث السك، يشبه الذهب، أخذه من الخزانة.

وأوضح قائلًا: إنها بنسات سنة ١٩١٦م الجديدة، أول بنسات في الحي، لا تنفقاها الآن وادخراها.

وتناول من جيبه بنسَين نحاسيَّين قديمَين ووضعهما في الخزانة بدلًا منهما، وشكرته فرانسي، وبينما هما يبتعدان سمعت فرانسي الرجل التالي في الصف يقول، وهو يسند مرفقه إلى الرف: إني أذكر ذلك الوقت الذي حملت فيه أول أجر تناولته إلى البيت لأعطيه لأمي العجوز.

وتساءلت فرانسي وهما يخرجان: هل كان كل شخص في الصف خليقًا بأن يروي قصة أول أجر تناوله، وقالت فرانسي: هناك شيءٌ واحد يجمع بين كل العمال، هو أنهم يذكرون ذلك الوقت الذي حملوا فيه أجرهم الأول إلى البيت.

وقال نيلي موافقًا: أجل.

وبينما هما يلتفان بمنعطف الشارع، قالت فرانسي متفكرة: حارت الدموع في عينَيها؟

إنها لم تسمع هذا التعبير قط، لكنه استهواها، وسأل نيلي: كيف يكون ذلك؟ كيف تحار الدموع، والدموع ليس لها عقل؟

– إنه لا يعني ذلك، وإنما يعني ما يعنيه الناس بقولهم: «تحيروا في أمرهم طول اليوم.»

– ولكن كلمة تحيَّر لا تستعمل في هذا المعنى.

وأوضحت فرانسي قائلةً: بل تستعمل، تستعمل هنا في بروكلين، إنهم يستعملون كلمة تحيَّر بمعنى تلبَّث.

وقال نيلي موافقًا: أظن أن هذا صحيح، هيا بنا نسر هابطَين شارع مانهاتان بدلًا من جراهام.

– إن عندي فكرة يا نيلي، هيا بنا نصنع حصالةً من علبة الصفيح دون أن نخبر أمنا ونثبتها بالمسامير في حجرة الكرار، ولنبدأ الادخار فيها بهذين البنسَين الجديدَين، وإذا ما أعطتنا أمنا أي مصروف، فسوف يضع كلٌّ منا عشرة سنتات كل أسبوع، ولسوف نفتحها في عيد الميلاد، ونشتري هدايا لأمنا ولوري.

واشترط نيلي قائلًا: ولنا أيضًا!

– نعم، وسوف أشتري هديةً لك، وأنت تشتري هديةً لي، وسوف أنبئك بماذا أريد عندما يحين الأوان.

واتفقا على ذلك.

وسارا بنشاطٍ وخفة يسبقان الأطفال الذين كانوا يتسكعون عائدين من محالِّ بيع النفايات إلى بيوتهم، ونظرا صوب محل كارني وهما يمران بشارع سكولز، ولاحظا الحشد الواقف خارج محل تشارلي للبيع بأثمانٍ رخيصة، وقال نيلي ساخرًا وهو يصلصل ببعض النقود في جيوبه: أطفال!

– أتذكر يا نيلي تلك الأيام التي ألفنا فيها الخروج من دارنا لبيع النفايات.

– كان ذلك منذ زمنٍ بعيد.

وقالت فرانسي موافقة: نعم.

وكان قد مضى في الحق أسبوعان منذ جرَّا آخر غنيمة لهما إلى محل كارني.

وقدم نيلي اللفة المستوية إلى أمه قائلًا: هذه لكِ ولفرانسي.

وفكَّتها أمه فوجدت صندوقًا يزن رطلًا من الفول السوداني الهش من محل لوفت، وأشار نيلي في غموضٍ: ثم إني لم أدفع ثمنه من أجري.

وتركا أمهما تخرج إلى حجرة النوم لحظة، وصفَّا الأوراق العشر الجديدة على المائدة صفًّا، صفًّا، ثم ناديا أمهما، وقالت فرانسي وهي تلوِّح بيدها في عظمة: إنها لكِ يا أمي.

وقالت الأم: يا لي، لا أكاد أصدق!

وقال نيلي: وليس هذا هو كل شيء.

وأخرج من جيبه ثمانين سنتًا ووضعها على المائدة، وشرح الأمر قائلًا: إنها النفحات التي مُنحتُها جزاء إسراعي في إبلاغ الرسائل، لقد ادَّخرتها جميعًا طوال الأسبوع، ولكني اشتريت الحلوى بما نلت من مزيد.

ودفعت الأم النقود على المائدة إلى نيلي، وقالت: احتفظ بالنفحات التي تنالها لمصروفك.

وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: إنها كأبي سواء بسواء.

– هاي! حسنًا، سأعطي فرانسي ربع دولار منها.

– لا.

وأخذت الأم قطعةً من ذات الخمسين سنتًا من القدح المشدوخ وأعطتها لفرانسي، وقالت: هذا هو مصروف فرانسي؛ خمسون سنتًا في الأسبوع.

وسُرَّت فرانسي، فقد كانت لا تتوقع أن تحصل على هذا القدر من المال لمصروفها، وأغرق الطفلان أمهما بآيات الشكر والحمد.

ونظرت كاتي إلى الحلوى والأوراق المالية الجديدة، ثم إلى طفلَيها، وعضَّت شفتها، واستدارت فجأة، ومضت إلى حجرة النوم وأغلقت الباب دونها.

وهمس نيلي قائلًا: هل من سببٍ أثار عواطفها؟

وقالت فرانسي: لا، إنها ليست ثائرةً، وإنما هي لا تريد أن نراها وهي تهم بالبكاء.

– كيف تعلمين أنها تهم بالبكاء؟

– لأنها حين نظرت إلى النقود رأيت الدموع تحار في عينَيها.

٤٤

وكانت فرانسي قد اشتغلت أسبوعَين حين حلَّ موعد تسريحها، وتبادلت الفتيات النظرات حين راحت الرئيسة تبين لهن أن تسريحهن لن يستمر إلا أيامًا قليلة، وأجابت أناستاسيا على سؤال فرانسي: أيامًا قليلة تطول إلى ستة أشهر!

وبدأت الفتيات يذهبن إلى مصنع جرينبوينت الذي كان يحتاج إلى أيدٍ عاملة؛ لسد طلبات الشتاء من صنع زهور بنت القنصل والباقات المباركة الصناعية، فإذا حلَّ موعد تسريحهن من هناك مضين إلى مصنعٍ آخر وهكذا، لقد كن عاملات بروكلين المهاجرات اللائي يتبعن مواسم العمل من جهةٍ إلى أخرى.

وحثت الفتيات فرانسي على أن تمضي معهن، ولكن فرانسي كانت تريد أن تجرب عملًا جديدًا، وفكرت في أنها ما دامت مضطرة إلى العمل فلتجرب منه أنواعًا مختلفة، بأن تغير عملها كلما سنحت لها الفرصة لذلك، فتستطيع أن تقول (كما يقال في الشراب) إنها خبرت كل نوع منه.

وقرأت كاتي إعلانًا في جريدة «العالم» عن الحاجة إلى كاتب محفوظات مبتدئ في السادسة عشرة يدين بدين الولاية، واشترت فرانسي صفحة من الورق وغلافًا ببنس، وكتبت في عناية طلبًا وأرسلته إلى صندوق بريد صاحب الإعلان، واتفق رأيها مع رأي أمها في أن الناس يمكن أن يحسبوا في يسرٍ أنها بلغت السادسة عشرة، بالرغم من أنها كانت في الرابعة عشرة فحسب، وبذلك كتبت في الطلب أنها في السادسة عشرة.

وتسلمت فرانسي بعد يومين ردًّا على طلبها في رسالةٍ مثيرة، رُسمت في قمتها صورة مقصٍّ وُضع على صحيفةٍ مطوية وإلى جوراها وعاء صمغ، وكانت الرسالة مبعوثةً من مكتب نماذج القصاصات المأخوذة من الصحف بشارع القنال بنيويورك، يطلب من الآنسة نولان الحضور لمقابلة المسئولين.

فذهبت سيسي مع فرانسي لشراء حاجاتها، وساعدتها في شراء ثوب مما تلبسه الفتيات الكبيرات، وأول حذاء ذي كعبٍ عالٍ، ولما ارتدت فرانسي ملابسها الجديدة أقسمت أمها وسيسي أنها بدت في السادسة عشرة لولا شعرها، فقد جعلتها ضفائرها تبدو صغيرةً جدًّا.

ورجت فرانسي أمها قائلة: أرجوكِ يا أمي، دعيني أقص شعري.

وقالت الأم: لقد انقضت أربعة عشر عامًا في إنماء هذا الشعر، ولن أدعك تقصينه.

– يا أماه إنكِ متخلفة عن الركب!

– لمَ تريدين أن يكون شعركِ قصيرًا كشعر الصبي؟

– إن العناية به تكون أسهل.

– العناية بالشعر ينبغي أن تكون متعة المرأة.

واعترضت سيسي قائلة: ولكن كل الفتيات يا كاتي يقصصن شعرهن في هذه الأيام.

– إذن فهن حمقاوات؛ لأن سر المرأة يكمن في شعرها، فهي ترفعه في النهار بالدبابيس، ولكنها في الليل حين تصبح وحدها مع رجلها فإنها تنزع الدبابيس من شعرها، فيسترسل على كتفيها كثوبٍ وضَّاء، فيجعل منها امرأةً تخصُّ بسحرها وسرها رجلًا واحدًا.

وقالت سيسي في خبث: إن القطط جميعًا تبدو في الليل بلونٍ واحد.

وقالت كاتي في شدة: إن تعليقاتك جميعًا لا نصيب لها من الواقع.

وقالت فرانسي مصممة: إني خليقةٌ بأن أبدو مثل إيرين كاسل لو قصصت شعري.

– إنهم يحملون النساء اليهوديات على قصِّ شعورهن حين يتزوجن حتى لا ينظر إليهن رجلٌ آخر، وتقصُّ الراهبات شعورهن ليثبتن أن علاقتهن بالرجال قد انتهت، فما الذي يحمل فتاةً صغيرة على أن تقص شعرها حين لا يضطرها الأمر إلى ذلك؟

وكانت فرانسي على وشك أن ترد حين قالت أمها: انتهت المناقشة.

وقالت فرانسي: حسنًا! ولكني حين أبلغ الثامنة عشرة سوف أكون سيدة نفسي، وحينئذٍ ترين ما أفعل.

– حين تبلغين الثامنة عشرة فإنك تستطيعين أن تحلقي رأسك، وعندئذٍ لن يعنيني من الأمر شيء، ولكن الآن …

ولفت ضفيرتَي فرانسي الغزيرتَين حول رأسها، وثبتتهما في مكانهما بدبابيسَ للشعر من العظم أخذتها من شعرها، وخطَتْ إلى الوراء، وهي ترقب ابنتها معلنةً على نحوٍ تمثيلي: هكذا يكون الأمر، إنه يبدو كالتاج السني سواء بسواء.

وسلمت سيسي قائلةً: إنه يجعلها تبدو في الثامنة عشرة على الأقل.

ونظرت فرانسي في المرآة، وسُرَّت حين رأت أنها تبدو أكبر من سنها بكثير، بعد أن ثبَّتت لها أمها شعرها على هذا النحو، ولكنها لم تسلِّم بذلك وتعترف.

وقالت شاكية: سوف أصاب بالصداع طوال حياتي وأنا أحمل هذا الحمل من الشعر فوق رأسي أينما ذهبت.

وقالت الأم: سوف يحالفك الحظ إذا أصابك هذا كله بصداعٍ طوال حياتك.

وسحب نيلي في الصباح التالي أخته إلى نيويورك، ولما سار القطار فوق جسر ويليمسبرج بعد أن غادر محطة شارع مارسي، لاحظت فرانسي أن كثيرًا من الناس الجالسين في العربة نهضوا، ثم جلسوا مرةً أخرى وكأنما بينهم اتفاق سابق.

– لمَ يفعلون ذلك يا نيلي؟

وقال نيلي: هناك مصرفٌ له ساعةٌ كبيرة يظهر بمجرد بلوغ الجسر، فيقف الناس لينظروا إلى الساعة، حتى يتبينوا أبكروا في ذهابهم إلى العمل أم أبطئوا، إني أراهن بأن مليون شخص ينظرون إلى تلك الساعة كل يوم.

وكانت فرانسي قد توقعت أن تحسَّ بنشوةٍ عندما تركب فوق ذلك الجسر للمرة الأولى، ولكن نشوتها لم تبلغ نصف فرحتها بارتدائها ملابس الفتيات الكبيرات لأول مرة.

ولم تستغرق المقابلة إلا وقتًا قصيرًا، ثم عُينت تحت الاختبار لتشتغل من الساعة التاسعة إلى الخامسة والنصف، يتخلل ذلك نصف ساعة للغداء بأجرٍ أوليٍّ قدره سبعة دولارات في الأسبوع، وأخذها الرئيس في دورةٍ تفتيشية في أنحاء مكتب قصاصات الصحف.

وكانت القارئات العشر يجلسن إلى مكاتبَ منحدرةٍ طويلة، وقد وُزِّعت بينهن صحف الولايات جميعًا، وكانت الصحف تنهمر على المكتب طوال ساعات النهار في كل مدن ولايات الاتحاد، وكانت الفتيات يؤشرن على كل الموضوعات التي بحثنها ويضعنها في الصناديق، ويسجلن مجموع ما قرأن وأرقامهن الخاصة بأعلى الصفحة الأمامية.

وتجمع الصحف المؤشر عليها وتُحمل إلى فتاة الطباعة، التي تمسك بآلة يد للطباعة تحتوي جهازًا لطبع التاريخ وضبطه وأمامها ترس من المربعات، فتضبط الفتاة تاريخ الصحيفة على آلتها، وتسقط المربع الذي يحتوي اسم الصحيفة والمدينة والولاية التي تصدرها، وتطبع عددًا من قصاصات الورق مساويًا لعدد الموضوعات المؤشَّر عليها.

ثم تحمل القصاصات والصحف إلى الفتاة التي تقطع القصاصات، وكانت تقف أمام مكتبٍ كبير منحدر وتقطع الموضوعات المؤشر عليها بسكينٍ حادةٍ مقوسة (ولم يكن في هذا المكتب مقص على الرغم من أن المقص كان شعاره)، وبينما كانت الفتاة التي تقطع القصاصات، تقطع الموضوعات، وتلقي الأوراق المهملة على الأرض، كان فيضٌ من الصحف يتجمع كل خمس عشرة دقيقة ويبلغ في ارتفاعه خصرها، وكان هناك رجلٌ يجمع الأوراق المهملة ويأخذها لتُحزَم.

وتحمل الموضوعات المقطعة وقصاصات الورق إلى اللصَّاق الذي يلصق هذه بتلك، ثم تحفظ وتجمع وتوضع في المظاريف وترسل بالبريد.

وتعلمت فرانسي طريقة الحفظ بسهولةٍ كبيرة، فحفظت في أسبوعين الأسماء أو العناوين التي على صندوق الحفظ والتي تبلغ الألفين أو نحوهما، ثم دُرِّبت على القراءة، وقضت أسبوعَين آخرَين لا تعمل شيئًا إلا دراسة بطاقات العملاء، التي كانت أكثر تفصيلًا من عناوين صندوق الحفظ، وأعطيت فرانسي صحف ولاية أوكلاهوما لتقرأها، بعد أن أثبتت في اختبارٍ غير رسمي أنها قد حفظت النظم، وراجع الرئيس صحفها قبل أن تبعث بها إلى الفتاة التي تقطع القصاصات وأشار إلى أخطائها، ولما تمرَّست بعملها حتى لم تعد هناك حاجة إلى مراجعتها، أضيفت إليها صحف ولاية بنسلفانيا، ولم تلبث أن أُعطيتْ صحف ولاية نيويورك، فأصبحت تقرأ صحف ثلاث ولايات، وما إن حلت نهاية شهر أغسطس حتى أصبحت تقرأ من الصحف، وتؤشر على مزيدٍ من الموضوعات فاق أي قارئة في المكتب، كانت حديثة العهد بالعمل، حريصة على أن ترضي رؤساءها، وعيناها صافيتان قويتا البصر (وكانت القارئة الوحيدة التي لا تلبس منظارًا)، وقد تدربت عيناها فأصبحت حساسة كعدسة آلة التصوير، تلتقط ما يقع عليه بصرها في لمحةٍ، وتدوِّن فورًا ما إذا كان يستحق التأشير أم لا، وكانت تقرأ ما بين مائة وثمانين ومائتي صحيفة في اليوم الواحد، ومتوسط ما تقرأه القارئة التي تليها في البراعة ما بين مائة ومائة صحيفة وعشر.

نعم لقد كانت فرانسي أسرع قارئة في المكتب وأقلهن أجرًا، وبالرغم من أن أجرها ارتفع إلى عشرة دولارات في الأسبوع حين واصلت القراءة، فقد كانت الفتاة التي تليها في التفوق تتقاضى خمسة وعشرين دولارًا في الأسبوع، على حين تتقاضى الفتيات الأخريات عشرين دولارًا، ولم تتوثق قط الصداقة بين فرانسي وهؤلاء الفتيات حتى يمنحنها ثقتهن، فعزَّ عليها أن تجد سبيلًا إلى معرفة ما كانت تتقاضاه من أجرٍ بخس.

ولم تشعر فرانسي بالسعادة، بالرغم من أنها أحبت قراءة الصحف، وكانت فخورًا بأنها تكسب عشرة دولارات في الأسبوع، وفرحت بالذهاب إلى نيويورك والعمل فيها، وتوقعت، وهي التي كانت تطرب لأشياءَ صغيرة كزهرة في إناء داكنٍ بالمكتبة، أن مدينة نيويورك خليقة بأن تهزَّ مشاعرها أضعافًا مضاعفة، ولكنها شعرت بخيبة أمل.

وكان الجسر هو أول شيء خيَّب أملها؛ ذلك أنها كانت قد اعتقدت حين نظرت إليه من سطح منزلها، أن اجتيازه خليقٌ بأن يجعلها تشعر كأنها جنيَّة لها جناحان شفَّافان تطير بهما في الهواء، ولكنها لما مرت فوق الجسر لم تجد في ذلك شيئًا أكثر من المرور فوق شوارع بروكلين، وكان الجسر ممهدًا بالطرق الجانبية وطرق النقل، شأنه شأن شوارع برودواي، كانت الطرق هي الطرق، ولم تشعر نحو القطار وهو يمر فوق الجسر بشعورٍ يختلف عما كانت تشعر به، نعم لقد خيبت مدينة نيويورك ظنها؛ كانت مبانيها أكثر ارتفاعًا وزحامها أشد، وما عدا ذلك فلم تكن تختلف عن بروكلين إلا قليلًا، وتساءلت فرانسي: ترى أتبدو لي في الغد كل الأشياء الجديدة مخيبةً للآمال؟

وكانت قد درست في كثيرٍ من الأحيان خريطة الولايات المتحدة، وعبرت في خيالها سهولها وجبالها وصحاريها وأنهارها، وبدا لها ذلك شيئًا عجيبًا، وقد تحيرت الآن، ترى أيخيب ظنها في ذلك أيضًا؟ وفكَّرت أنه لو حدث وعبرت هذه البلاد العظيمة، فإنها تكون خليقةً حينئذٍ أن تبدأ في السابعة صباحًا وتسير متهجةً إلى الغرب، وتضع قدمًا أمام الأخرى لتقيس المسافة التي تقطعها، ثم هي خليقة إذ تسير غربًا، أن يُشغل بالها جدًّا بقدمَيها وتتبين أن خطواتها جزءٌ من سلسلةٍ بدأت في بروكلين، وأنها خليقةٌ أيضًا بألَّا تفكر في شيء من الجبال والأنهار والسهول والصحاري التي تصادفها، وكل ما ينتظر أن تلاحظه هو أن بعض الأشياء سوف تبدو لعينها غريبة لأنها تذكِّرها ببروكلين، وسوف تبدو أشياءُ أخرى لعينها غريبة أيضًا؛ لأنها تختلف كل الاختلاف عن بروكلين، وقررت فرانسي في حزن: «إني لأحسب إذن أنه ليس في العالم جديد، وإذا كان هناك شيءٌ جديد أو مختلف فإن بعضه لا بد أن يكون ماثلًا في بروكلين، وقد ألِفْتُه بلا ريب، حتى إنني لن أستطيع أن ألحظه إذا ما صادفني في طريقي.»

وحزنت فرانسي، شأنها شأن الإسكندر الأكبر، حين اقتنع بأنه لم يعد أمامه عالمٌ جديد يغزوه.

وواءمت فرانسي بين نفسها وبين ذلك النهج الخاطف، الذي يتبعه كل مواطن في نيويورك في ذهابه وإيابه من عمله، وكان الوصول إلى المكتب محنةً ترهق أعصابها، فإذا وصلت قبل الساعة التاسعة بدقيقة، فإنها في حلٍّ من التقريع، أما إذا وصلت بعد الساعة التاسعة بدقيقة فإن القلق يعبث بها، لأنها تصبح منه بطبيعة الأحوال ضحية للرئيس، إذا اتفق أن كان منحرف المزاج في ذلك اليوم، وهكذا تعلمت كيف تحافظ على أجزاء الثانية، فكانت قبل أن يقف القطار في محطتها تشق طريقها إلى الباب، لتكون من أوائل الخارجين حين يفتح الباب، وتنزل من القطار لتجري كالغزال متفادية الزحام، لتكون أول من يصعد السلم الذي يؤدي إلى الشارع، وكانت وهي تسير إلى المكتب تظل ملاصقة للأبنية حتى تستطيع أن تلتف بالأركان سريعًا، وتعبر الشوارع من أركانها كالهرة لتتفادى نزول رصيفَين إضافيَّين أو صعودهما، وحين تصل إلى البناء تزاحم لتدخل إلى المصعد بالرغم من صياح العامل قائلًا: «إن المصعد ممتلئٌ!» وكانت تقوم بكل تلك المناورات لتصل قبل الساعة التاسعة بدقيقة وليس بعدها بدقيقة!

وغادرت بيتها مرةً مبكرة عشر دقائق ليكون لديها متسعٌ من الوقت، وبالرغم من أنها لم تكن بحاجةٍ إلى الإسراع، فقد ظلت تزاحم، شاقَّة طريقها خارج القطار، وجرت على السلم واندفعت في الشوارع تختصر المسافات، واندست في المصعد المكتظ، ووصلت قبل الموعد بخمس عشرة دقيقة، ودخلت الحجرة الفسيحة الخاوية، يرنُّ فيها الصدى فشعرت بالوحشة والضياع، ولما اندفعت العاملات الأخريات في الثواني التي تسبق التاسعة، أحسَّت فرانسي بشعورٍ يشبه الخيانة، فنامت في الصباح التالي عشر دقائق أخرى، وعادت إلى موعدها الأول.

وكانت هي الفتاة الوحيدة من بروكلين التي تعمل في المكتب، وقد جاءت الفتيات الأخريات من مانهاتان وهوبوكون وبرونكس، فيما عدا فتاةٍ واحدة كانت تسافر ذهابًا وإيابًا من بلدة بايون بنيوجرسي، وكانت اثنتان من أقدم القارئات هناك أختَين تنتميان أصلًا لأوهايو، وقالت إحدى الأختين لفرانسي في أول يوم اشتغلت فيه بالمكتب: إنك تتكلمين بلهجة بروكلين.

ورنَّت هذه الكلمات في أذن فرانسي، كأنها اتهامٌ مثير، فأخذت تحتاط لحديثها، وتعوَّدت أن تنطق الكلمات بعناية، خشية أن تقول كلمة «بت» بدلًا من «بنت» و«واد» بدلًا من «ولد».

وكان بالمكتب شخصان فحسب تستطيع أن تحادثهما دون حرج، كان أحدهما مدير مكتب الرئيس، خريج جامعة هارفارد، وكان حديثه، بالرغم من تفخيمه لحرف الألف في كل ما ينطق به واضحًا، ومفرادته أقل تكلُّفًا من جميع القارئات، ومعظمهن قد تخرجن في المدرسة الثانوية، والتقطن ذخيرةً كبيرة من الألفاظ في السنين التي قضينها في القراءة، وكان الشخص الآخر هو الآنسة آرمسترنج التي كانت خريجة الجامعة هي الأخرى.

وكانت الآنسة آرمسترنج القارئة الخاصة لصحف المدينة، يقوم مكتبها منعزلًا في الركن المختار من الحجرة، حيث توجد نافذةٌ شمالية ونافذةٌ شرقية، تزودان الركن بأقوى ضوء يصلح للقراءة، وكانت لا تقرأ إلا صحف مدن شيكاجو وبوسطن وفيلادلفيا ونيويورك، ويحمل لها رسولٌ خاص كل طبعة من صحف مدينة نيويورك بعد خروجها من المطبعة مباشرة، ولم تكن بحاجةٍ بعد أن تفرغ من قراءة صحفها أن ترهق نفسها كما تفعل القارئات الأخريات، وتساعد الفتيات المتخلفات، وكانت تشتغل بالتطريز، أو تقلم أظافرها في انتظار الطبعة التالية، وتتقاضى أكبر أجر وهو ثلاثون دولارًا في الأسبوع، لكنها إنسانةٌ عطوف؛ فرغبت في أن تساعد فرانسي، وحاولت أن تخرجها من صمتها وتتحدث معها حتى لا تشعر بالوحدة.

وذات مرة كانت فرانسي في الحمام حين سمعت عَرَضًا، إشارة إلى أن الآنسة آرمسترنج هي عشيقة الرئيس، كانت فرانسي سمعت بذلك، ولكنها لم ترَ قط شيئًا يثبت تلك الأقوال الخرافية، فذهبت على الفور وأخذت تفحص الآنسة آرمسترنج العشيقة عن كثبٍ، ورأت أن الآنسة آرمسترنج ليست جميلة، وأن وجهها يكاد يشبه وجه القردة بفمها الواسع ومنخرَيها المفرطحَين الغليظَين، وقوامها مقبول فحسب، ونظرت فرانسي إلى ساقَيها فوجدتهما طويلتَين رشيقتَين بديعتَي التكوين، وكانت ترتدي جوربًا من الحرير الخالص لا يشوبه أي عيب، وحذاءً ثمينًا ذا كعبٍ عالٍ يكشف عن قدمَيها المستديرتَين استدارةً جميلة، واستنتجت فرانسي بينها وبين نفسها قائلة: إذن فإن السيقان الجميلة هي السر الذي يجعل المرأة عشيقة!

ونظرت إلى ساقَيها الطويلتَين الرفيعتَين: أظن أنني لن أصبح عشيقة أبدًا.

وتنهدت ووهبت نفسها لحياةٍ بريئةٍ طاهرة.

وكانت العاملات في المكتب قد ساعدن على إيجاد نظامٍ طبقي بحكم اختلافهن، ما بين قاطعات للقصاصات وناسخات ولاصقات وحازمات للورق وصبية للتوزيع، وكانت هؤلاء العاملات اللائي كن أميَّات ولكن ذوات ذكاءٍ حاد، قد أطلقن على أنفسهن لسببٍ ما اسم «المنتدى»، وكن يعتقدن أن القارئات اللاتي أكثر منهن تعليمًا ينظرن إليهن في احتقار، ورغبة في الانتقام كن يثرن المتاعب بين القارئات ما وسعهن إلى ذلك سبيل.

وكان ولاء فرانسي موزعًا بين هؤلاء وهؤلاء، فهي بحكم أصلها وتعليمها تنتمي إلى طبقة المنتدى، ولكنها بحكم قدرتها وذكائها تنتمي إلى طبقة القارئات، وكان أفراد المنتدى من الفطنة والدهاء بحيث أحسسن ذلك التوزع في أعماق فرانسي، فحاولن أن يستخدمنها وسيطة، وأطلعنها على إشاعات المكتب التي تثير المتاعب، متوقعات أنها سوف تنقلها إلى القارئات وتخلق الشقاق بينهن، ولكن فرانسي لم تكن صديقة للقارئات إلى الحد الذي تتبادل معهن الثرثرة فماتت في أعماقها.

وفي يومٍ أنبأتها عاملة قطع القصاصات أن الآنسة آرمسترنج ستترك العمل في سبتمبر، وأنها أي فرانسي سوف ترقى إلى وظيفة قارئة صحف المدينة، واعتقدت فرانسي أن ذلك الخبر كان شائعةً اختلقتها العاملات، ليثرن نيران الغيرة بين القارئات اللائي كن جميعًا يتوقعن الترقي إلى وظيفة قارئة صحف المدينة، حين تستقيل الآنسة آرمسترنج من عملها، وآمنت فرانسي بأنه من المستحيل عليها وهي فتاةٌ في الرابعة عشرة لم تحصل على شيءٍ، إلا التعليم الذي تلقَّته في المدرسة الابتدائية، أن تعد أهلًا للقيام بحمل خريجة من خريجات الجامعة في الثلاثين من عمرها مثل الآنسة آرمسترنج.

وكان شهر أغسطس يقترب من نهايته، وفرانسي قلقةٌ مشغولة البال؛ لأن أمها لم تذكر شيئًا يتعلق بذهابها إلى المدرسة الثانوية، وساورتها رغبةٌ شديدة في العودة إلى المدرسة، وكانت السنوات جميعًا التي قضتها في الاستماع إلى حديث أمها وجدَّتها وخالاتها عن التعليم العالي، لم تجعلها حريصةً على الحصول على مزيدٍ من التعليم فحسب، بل أصابتها أيضًا بمركَّب نقص إزاء ما هي عليه من فقرٍ في التعليم.

وتذكرت في حنانٍ الفتيات اللائي كتبن لها في دفتر توقيعاتها، وأرادت أن تكون واحدةً منهن، لقد خرجن من نفس البيئة التي عاشتها، ولكنهن لم يمضين فيها أبعد من ذلك، إن مكانها الطبيعي أن تكون معهن في المدرسة، وليست عاملة تنافس النساء الأكبر منها سنًّا.

ولم تحب العمل في نيويورك، وكانت ترتعد من الزحام الذي يحتشد حولها دائمًا، وشعرت أنها مدفوعة إلى سبيلٍ في الحياة لم تستعد للسير فيه، لكن أكثر ما يفزعها بشأن الذهاب للعمل في نيويورك هو القطارات المعلقة المزدحمة.

وفي وقتٍ من الأوقات كانت تركب القطار وتتعلق بسير الجلد، والزحام من حولها يضغط عليها ضغطًا شديدًا، حتى إنها لم تستطع أن تخفض ذراعها، وإذا بها تشعر بيد رجلٍ فأخذت تتثنى وتتلوى، لكنها لم تستطع أن تتخلص من تلك اليد، ولما ترنحت مع الزحام حينما انحرفت العربات، شعرت بقبضة اليد تشتد، ولم تكن تستطيع أن تدير رأسها لترى من هو صاحب اليد، فوقفت عاجزةً كل العجز عن فعل أي شيءٍ، وتحملت في يأسٍ ما كان يلحقها من إهانة، وكانت تستطيع أن تصرخ وتعترض، ولكنها شعرت بالخجل الشديد من أن تلفت انتباه الناس إلى ما كانت فيه من حرج، وبدا لها الوقت طويلًا لا نهاية له قبل أن يخف الزحام، لتنتقل إلى مكانٍ آخر في العربة، وأصبح الوقوف في قطارٍ مزدحم بعد ذلك بالنسبة لفرانسي محنةً تخيفها وتفزعها.

وأنبأت فرانسي سيسي بقصة رجل القطار في يومٍ من أيام الأحد، حين كانت تحمل هي وأمها لوري في الطريق إلى جدتها، وتوقعت فرانسي أن سيسي خليقة بأن تهدئ روعها، ولكن خالتها تناولت القصة كملحةٍ رائعة، وقالت: إذن فقد قرصك رجلٌ في القطار المعلق، لو حدث لي ذلك لما ضايقني، إنه يعني أن قوامك يتخذ شكلًا جميلًا، ومن الرجال من لا يستطيع مقاومة جمال تكوين المرأة، انظري! لا بد أن السن تتقدم بي! فلقد مضت سنوات لم يقرصني خلالها رجلٌ في القطار المعلق.

وقالت في فخرٍ: وقد مرَّ بي وقت كنت لا أستطيع أن أركب في الزحام دون أن أعود إلى البيت، وقد غشي جسمي السواد والزرقة.

وسألتها كاتي: وهل ذلك شيء تتفاخرين به؟

وتجاهلت سيسي تلك الإشارة، وقالت: سوف يأتي اليوم يا فرانسي حين تصبحين في الخامسة والأربعين، ويغدو قوامك مثل كيسٍ مليء بشوفان الجياد، وقد ربط في منتصفه، وحينئذٍ سوف تعود ذاكرتك إلى الوراء، وتشتاقين إلى الأيام الغابرة حين كان الرجال يرغبون في قرصك.

وقالت كاتي: إنها إذا ما عادت بذاكرتها إلى الوراء فسوف تفعل ذلك؛ لأنكِ غرست تلك الفكرة في عقلها، ولا تفعله لأنه شيءٌ رائع يتذكره المرء.

واتجهت إلى فرانسي قائلة: أما بالنسبة لك فتعلَّمي أن تقفي في القطار دون أن تمسكي بسير الجلد، واجعلي يديك إلى جوار جسمك واحتفظي في جيبك بدبوسٍ طويلٍ حاد، فإذا ما أحسست بيد رجلٍ توضع عليك، فاغرزي الدبوس فيه بقوة.

وفعلت فرانسي ما قالته أمها، وتعلمت أن تثبت قدمَيها دون أن تمسك بسير الجلد، وجعلت يديها تمسكان في إحكامٍ بدبوس طويلٍ مؤذٍ في جيب معطفها، وودت أن يقرصها رجلٌ مرةً أخرى، ودَّت ذلك لا لشيءٍ إلا لتطعنه بالدبوس.

– إنه لشيءٌ رائع لسيسي أن تتكلم عن القوام والرجال، ولكني لا أحب أن أقرص من الخلف، ولا شك أنني آمل حين أصبح في الخامسة والأربعين، أن يكون لديَّ شيء أستعيد ذكراه أجمل من قرصةٍ ينالني بها رجل، لقد حق على سيسي أن تخجل.

ولكن ماذا دهاني؟ إنني أقف هنا وأنتقد سيسي؛ سيسي التي كانت طيبة معي غاية الطيبة، وإني غير قانعة بعملي، على حين ينبغي لي أن أشعر أن التوفيق يحالفني؛ إذ حصلت على ذلك العمل القريب إلى النفس، ولو تصورت الأمر لوجدت أنني أتقاضى أجرًا على القراءة، وأنا أحب القراءة حبًّا عظيمًا على أي حال، وكل شخص يعتقد أن نيويورك أروع مدينة في العالم، وأنا لا أستطيع أن أحمل نفسي على حب نيويورك، يبدو أنني أشدُّ الناس سخطًا في هذا العالم أوه! إني لأود لو عدت طفلةً مرةً أخرى حين كان كل شيء يبدو في عيني رائعًا كل الروعة.

وطلب الرئيس فرانسي في حجرته الخاصة قبل «يوم العمل» مباشرة، وأنبأها أن الآنسة آرمسترنج تركت العمل لتتزوج، وتنحنح مضيفًا أن الآنسة آرمسترنج ستتزوجه هو في الواقع.

وتحطمت صورة العشيقة التي كانت فرانسي قد تخيلتها عن الآنسة آرمسترنج وذهبت بددًا، وكانت تعتقد أن الرجال لا يتزوجون أبدًا من عشيقاتهم، بل يلقون بهن إلى عرض الطريق كالقفازات المستهلكة البالية، لكن الآنسة آرمسترنج ستصبح زوجةً بدلًا من قفازٍ مستهلك بالٍ، ما أجمل ذلك!

وكان الرئيس يقول: وهكذا سنحتاج إلى قارئةٍ جديدة لصحف المدينة، وقد اقترحَتِ الآنسة آرمسترنج نفسها أن … آه … أن نجربك يا آنسة نولان.

وقفز قلب فرانسي؛ تكون هي قارئة صحف المدينة! أكثر وظائف المكتب مثارًا للطمع والحسد! إذن لقد كانت الشائعات التي أطلقها أفراد المنتدى حقيقة، وتبدَّدت فكرةٌ أخرى كانت قد ارتسمت في عقلها، فقد كانت تعتقد دائمًا أن كل الشائعات لا نصيب لها من الصحة.

وفكر الرئيس في أن يمنحها خمسة عشر دولارًا في الأسبوع، معتقدًا أنه سوف يحصل على قارئةٍ جيدة في نفس مستوى زوجته المستقبلة بنصف أجرها، وكان لا بد أن تفقد الفتاة وعيها من الفرحة أيضًا، فتاةٌ صغيرة السن مثلها … تتقاضى خمسة عشر دولارًا في الأسبوع، وقالت إنها جاوزت السادسة عشرة ولكنها تبدو في الثالثة عشرة، ولم تكن سنُّها بلا ريب تخصها في شيءٍ ما دامت كفئًا لعملها، وإن القانون لا يستطيع المساس به؛ لأنه يستخدم فتاةً أصغر من السن القانونية، وكل ما عليه أن يقول هو أنها خدعته وأخفت سنها الحقيقية، وقال في وداعةٍ: وسوف يستمر أجرك في الزيادة شيئًا قليلًا مع استمرارك في العمل.

وابتسمت فرانسي في سعادة، فشعر بالقلق، وقال بينه وبين نفسه: أتراني تسرعت في قول ذلك؟ ربما هي لم تتوقع زيادة في الأجر.

وستر زلة لسانه بسرعةٍ قائلًا: … زيادةٌ صغيرة بعد أن نرى كيف تقومين بالعمل.

وبدأت فرانسي تقول في شك: لا أدري …

وقرر الرئيس: إنها جاوزت السادسة عشرة، وسوف تمتنع عن العمل مطالبة بزيادةٍ كبيرة.

وقال ليحول بينها وبين المضي في الاعتراض: سوف نعطيك خمسة عشر دولارًا في الأسبوع في البداية … وتردد، وقال بينه وبين نفسه: ما من فائدةٍ تعود عليك من وراء الإمعان في الكرم.

ثم قال بصوتٍ عال: … في البداية من شهر أكتوبر.

ومال بظهره إلى الوراء وهو يشعر أنه بلغ في كرمه مبلغ الرب نفسه: أقصد أني أعتقد أنني لن أبقى هنا طويلًا.

وقال بينه وبين نفسه: إنها تساومني لتحصل على أجرٍ أكبر.

وقال بصوتٍ عالٍ: ولمَ لا؟

– أعتقد أنني سأعود إلى المدرسة بعد ذكرى «يوم العمل»، وقد عنيت بأن أنبئك بذلك حين يتحقق تدبيري.

– إلى الجامعة؟

– كلا إلى المدرسة الثانوية.

وقال بينه وبين نفسه: سأضطر إلى أن أعيِّن بنسكي لقراءة صحف المدينة، إنها تتقاضى الآن خمسة وعشرين دولارًا، وسوف تتوقع أن تحصل على ثلاثين دولارًا، ولقد أصبت منذ البداية، إن هذه الفتاة نولان أفضل من بنسكي أيضًا، تبًّا لها إرما! ترى من أين أتت بفكرة أن المرأة ينبغي ألا تشتغل بعد أن تتزوج، كانت تستطيع أن تواصل العمل … وتدخر المال للأسرة … وتشتري به بيتًا.

وقال لفرانسي: أوه! إني آسف إذ أسمع ذلك، لا لأنني لا أوافق على التعليم العالي، ولكني أعد قراءة الصحف تعليمًا صالحًا عظيمًا، إنه تعليمٌ نابضٌ بالحياة ينمو دائمًا، وهو تعليمٌ معاصر حديث لا تبلى جدته.

وقال في سخرية: أما تعليم المدارس، فقوامه الكتب فحسب … كتبٌ جامدة لا حياة فيها.

– لأتحدثن في ذلك مع أمي.

– أرجوكِ، قولي لها بكل ما تجدين من سبل ما قاله رئيسك بشأن التعليم، وقولي لها إنني قلت إننا …

وأغمض عينيه ونطق مجازفًا: سوف ندفع لك عشرين دولارًا في الأسبوع ابتداءً من أول نوفمبر، وأسقط بذلك شهرًا.

وقالت في صدقٍ خالص: هذا مبلغٌ عظيم من المال.

– إننا نؤمن بأن نقدم لعمالنا أجرًا كبيرًا حتى يتمسكوا بنا … آه … يا آنسة نولان، أرجوكِ ألا تذكري شيئًا عن أجركِ المقبل.

وكذب قائلًا: إنه أكبر من أي أجرٍ في المكتب، وإذا ما اكتُشف ذلك …

وبسط يديه في حركةٍ تنمُّ عن القنوط قائلًا: أفهمتِ؟ لا تثرثري في الحمام.

وأحست فرانسي بالشهامة، وهي تطمئن باله، مؤكدةً له أنها لن تُفشي سرَّه أبدًا بالثرثرة في الحمام، وبدأ الرئيس يوقع الرسائل مشيرًا إلى أن المقابلة قد انتهت.

– هذا كل ما في الأمر يا آنسة نولان، وينبغي لنا أن نعرف قرارك بعد ذكرى «يوم العمل».

– نعم يا سيدي.

عشرون دولارًا في الأسبوع! لقد صعقت فرانسي، وكانت منذ شهرين سعيدة لكسبها خمسة دولارات في الأسبوع، إن خالها ويلي يتقاضى ثمانية عشر دولارًا فحسب في الأسبوع، وهو في الأربعين من عمره، وجون زوج سيسي، وهو الرجل الذكي، لا يتقاضى إلا اثنين وعشرين دولارًا ونصف دولار في الأسبوع، إن القليل من رجال حيِّها يحصلون على أجر يبلغ العشرين دولارًا في الأسبوع، وهم يعولون أسرًا أيضًا، وقالت بينها وبين نفسها: سوف تنتهي متاعبنا بهذا المال، فنستطيع أن ندفع إيجار شقة من ثلاث حجرات في مكانٍ ما، وسوف لا تضطر أمي إلى الخروج والعمل، وسوف لا تترك لوري وحدها كل ذلك الوقت، أظن أنني سوف أصبح على قدرٍ كبير من الأهمية إذا استطعت أن أدير عملًا كهذا.

ولكني أريد أن أعود إلى المدرسة.

وتذكرت دأب أسرتها على الحديث المستفيض عن التعليم، فقد كانت جدتها تقول: إنه سوف يرفعك فوق وجه الأرض.

وتذكرت قول إيفي: إن كلًّا من أولادي الثلاثة سوف يحصل على ثلاث شهاداتٍ دراسية.

وقول سيسي: وحين تموت أمي — بعد عمرٍ طويل إن شاء الله — ويشتد عود طفلتي لتدخل روضة الأطفال، فسوف أخرج للعمل مرةً أخرى، وأدَّخر أجري حتى تكبر سيسي الصغيرة، فأدخلها أرقى جامعة هناك.

وقول أمها: وأنا لا أريد لطفليَّ أن يعيشا نفس الحياة القاسية التي عشتها، وإن التعليم سوف يوفر لهما حياةً أيسر.

وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: لكنها لا تزال وظيفة جيدة، وإنها لجيدة الآن، ولكن عيني سوف تصابان بالكلال من كثرة العمل، إن كل القارئات الأكبر سنًّا يلبسن النظارات، ولقد قالت الآنسة آرمسترنج إن القارئة تجيد القراءة ما دامت لها عينان قويتان، وكانت هؤلاء الفتيات الأخريات سريعات القراءة أيضًا حين بدأن العمل، شأنهن في ذلك شأني، ولكن عيونهن الآن … يجب عليَّ أن أدخر بصري … فلا أقرأ شيئًا خارج العمل.

– إذا عرفت أمي أنني أستطيع أن أتقاضى عشرين دولارًا في الأسبوع، فربما لا تسمح لي بالعودة إلى المدرسة، وأنا لا أستطيع أن أخيِّب رجاءها لأننا عانينا الفقر طويلًا، إن أمي عادلةٌ في كل شيء، ولكن هذا المال قد يغير نظرتها للأشياء، ولن يكون الذنب ذنبها في ذلك، فإنني لن أنبئها بارتفاع أجري حتى تقرر عودتي إلى المدرسة.

وتكلمت فرانسي مع أمها بشأن المدرسة، ووافقت أمها على أنهما سوف يتحدثان في ذلك الأمر تلك الليلة بعد العشاء مباشرة.

وأعلنت كاتي بعد أن احتسوا قهوة العشاء، أن المدرسة ستفتح أبوابها في الأسبوع المقبل (ولم يكن هناك داعٍ لقولها هذا لأنهم جميعًا كانوا يعلمونه). وقالت: أريد أن يذهب كلاكما إلى المدرسة الثانوية، ولكن الأمر يقضي بأن يبدأ أحدكما فحسب هذا الخريف، وإني لأدخر كل سنت أستطيع أن أستخلصه من أجركما، حتى يعود كلاكما إلى المدرسة في السنة المقبلة.

وانتظرت، انتظرت وقتًا طويلًا ولم يردَّ عليها كلا الطفلين.

– ماذا؟ ألا ترغبان في الذهاب إلى المدرسة الثانوية؟

وكانت شفتا فرانسي جامدتَين وهي تتكلم، وكان الأمر يتوقف على أمها تمامًا، فأرادت فرانسي أن يكون لكلماتها أثرٌ طيب على أمها: أجل يا أماه، أريد أن أعود إلى المدرسة أكثر مما أريد أي شيءٍ آخر في حياتي.

وقال نيلي: أنا لا أريد أن أذهب، لا تحمليني على العودة إلى المدرسة يا أماه، فإني أحب أن أشتغل، وسوف أحصل على دولارين زيادة على أجري أول العام.

– ألا تريد أن تكون طبيبًا؟

– لا، أريد أن أكون سمسمارًا وأكسب مالًا كثيرًا مثل رؤسائي، سوف ألقي بدِلائي في سوق الماشية، وأكسب مليون دولار في يومٍ من الأيام.

– إن ابني سوف يكون طبيبًا عظيمًا.

– أنى لك أن تعلمي؟ قد ينتهي بي الحال وأصبح مثل الدكتور هيولر في شارع موجر، ويكون لي مكتب بالطابق السفلي، وأرتدي قميصًا قذرًا دائمًا مثله، وإني لأعلم ما فيه الكفاية على أي حال، ولست بحاجةٍ إلى أن أعود إلى المدرسة.

وقالت كاتي تخاطب فرانسي في لهجةٍ مستعطفة أو تكاد: أنت تعلمين يا فرانسي ما معنى ذلك؟

وعضت فرانسي شفتها، إن البكاء لن يجدي شيئًا، ويجب عليها أن تحافظ على هدوئها وتستمر في التفكير بوضوح، وقالت الأم: إن ذلك يعني أن نيلي ينبغي له أن يعود إلى المدرسة.

وصاح نيلي: لن أعود! لن أعود إلى المدرسة مهما قلتِ! فإني أعمل وأكسب مالًا وأريد أن أواصل عملي، إني شخصٌ له قيمته الآن بين الزملاء، وإذا ما عدت إلى المدرسة، فلن أكون سوى طفلٍ غرير مرةً أخرى، ثم إنكِ تحتاجين إلى أجري يا أمي، ولسنا نريد أن نعود إلى الفقر.

وأعلنت كاتي في هدوء: إنك ستعود إلى المدرسة، وسوف يكفينا مال فرانسي.

وقالت فرانسي صائحةً: لماذا تحملينه على الذهاب إلى المدرسة وهو لا يريد، وتقصينني عنها وأنا أرغب في أن أذهب إليها كل الرغبة.

وقال نيلي موافقًا: أجل!

وقالت الأم: لأنني إذا لم أحمله على الذهاب، فلن يعود إلى المدرسة أبدًا، أما أنتِ يا فرانسي فسوف تناضلين وتحاولين العودة إلى المدرسة على نحوٍ ما.

واعترضت فرانسي قائلةً: لماذا تتكلمين بثقةٍ دائمًا، سأكون بعد سنةٍ أكبر سنًّا من أن أعود إلى المدرسة، أما نيلي فهو في الثالثة عشرة فحسب، وسوف يكون في السنة المقبلة صغير السن بما يناسب عودته إلى المدرسة.

– هراء، سوف تكونين في الخريف المقبل في الخامسة عشرة فحسب، وأصرت فرانسي على رأيها قائلة: سأكون في نهاية السابعة عشرة، مشرفةً على الثامنة عشرة، أكبر من أن أبدأ الدراسة.

– ما هذا الكلام الفارغ الذي تقولينه؟

– ليس كلامًا فارغًا، إنني في العمل على أساس أنني في السادسة عشرة، وينبغي لي أن أبدو وأتصرف كفتاةٍ في السادسة عشرة، وسأكون في السنة المقبلة في الخامسة عشرة، ولكني سأكون أكبر من ذلك بعامين في الحياة التي أعيشها، أكبر من أن أغيِّر نفسي وأعود تلميذة بالمدرسة.

وقالت كاتي في عناد: سيعود نيلي إلى المدرسة في الأسبوع القادم، وستعود فرانسي إليها في السنة القادمة.

وصاح نيلي: إن أكرهكما أنتما الاثنتين، وإذا حملتِني على العودة إلى المدرسة فسوف أهرب من البيت، نعم، سوف أهرب!

وجرى خارجًا وصفق الباب من ورائه.

وتغضن وجه كاتي بخطوطٍ تنمُّ عن التعاسة والحزن، وشعرت فرانسي بالأسف لها: لا تقلقي يا أمي، إنه لن يهرب، وإنما قال ذلك لمجرد القول.

وغضبت فرانسي من لمحة الراحة والاطمئنان التي بدت على ملامح أمها: ولكني أنا التي سأهرب دون أن أصرِّح بذلك، وسوف أمضي حين يأتي الوقت الذي لا تحتاجين فيه إلى أجري.

وسألت كاتي في مرارةٍ: ماذا أصاب طفليَّ حتى خرجا عن سلوكهما الطيب المألوف؟

– لقد غيَّرتنا السنون.

وبدا على كاتي الحيرة، وأوضحت فرانسي: إننا لم نحصل قط على تراخيص العمل.

– ولكن كان من الصعب الحصول عليها، فقد طلب القس دولارًا عن كل شهادة من شهادات التعميد، واقتضى الأمر أن أذهب إلى دار البلدية معكما، ولكني كنت أرضع لوري كل ساعتين آنئذٍ، ولم أستطع أن أذهب، وفكرنا جميعًا في أنه من الأيسر لكما أن تدعيا أنكما في السادسة عشرة، وتتجنبا كل هذه المشاكل.

– هذا الجزء من قولك صحيحٌ، ولكن ما دمنا قد قلنا إننا في السادسة عشرة، فينبغي لنا أن نكون في السادسة عشرة، ولكنكِ تعامليننا معاملة أطفال في الثالثة عشرة.

– كنت أودُّ أن يكون أبوكِ حيًّا الآن، فإنه يفهم عنكِ ما لا أستطيع أن أفهمه.

وحزَّ الألم في قلب فرانسي، وأنبأت أمها بعد أن خف عنها الألم، أن راتبها سوف يتضاعف في أول نوفمبر.

وفتحت كاتي فمها في دهشةٍ: عشرون دولارًا! أوه! يا لي!

وكان ذلك هو تعبيرها المعتاد حينما تدهش لشيء: متى علمتِ بذلك؟

– يوم السبت.

– ولم تنبئيني حتى الآن؟

– نعم.

– ظننتِ أنني إذا علمت فسوف أصمم على استمراركِ في العمل؟

– نعم.

– ولكني لم أكن أعلم حينما قلت إنه من الصواب أن يعود نيلي إلى المدرسة، وإنكِ لترين أنني فعلت ما كنت أراه صوابًا، ولم يكن للمال دخل فيما فعلت.

وسألت مستعطفة: ألا ترين ذلك؟

– لا، أنا لا أرى ذلك، وإنما أرى أنك تؤثرين نيلي علي فحسب، إنك ترتبين كل شيء له، ولكن تقولين لي إنني أستطيع أن أشق طريقي بنفسي، سوف أخدعك يا أمي في يومٍ من الأيام، وسوف أفعل ما أراه أصلح لشأني، وقد لا يكون ذلك في نظركِ صوابًا.

وتكلمت كاتي في اعتدادٍ بسيط كل البساطة، حتى خجلت فرانسي من نفسها: لست قلقة لعلمي أنني أستطيع أن أثق بابنتي، وأن أثق بابني أيضًا، إنه ثائرٌ الآن على فعل ما لا يريد أن يفعله، ولكنه سوف يتغلب على تلك الثورة ويمضي قدمًا إلى المدرسة، إن نيلي ولدٌ صالح.

وسلمت فرانسي: نعم، إنه ولدٌ صالح، بل لو لم يكن صالحًا لما أدركتِ ذلك، أما فيما يخصني …

وتمزَّق صوتها في نشيج، وتنهدت كاتي في حدةٍ ولم تقل شيئًا، ونهضت وبدأت تنظف المائدة، وامتدت يدها لتمسك قدحًا، ورأت فرانسي لأول مرةٍ في حياتها يد أمها تضطرب، فقد ارتعشت، ولم تستطع أن تمسك بالقدح، ووضعت فرانسي القدح في يد أمها ولاحظت شدخًا كبيرًا فيه.

وقالت فرانسي بينها وبين نفسها:

لقد أثر على أسرتنا أنها تشبه قدحًا متينًا، وكانت الأسرة متماسكةً سليمة البنيان تنظر إلى الأمور نظرةً صائبة، وقد أصابها الصدع الأول حين مات أبي، ثم أصابها هذا النزاع الذي حدث الليلة بالصدع الثاني، ولا تلبث أن تتوالى عليها الصدوع، حتى يتحطم القدح كسرًا، بعد أن كان متماسكًا مجتمع الأجزاء، ولست أريد أن يحدث ذلك، ولكني أنا بنفسي أصيب الأسرة عمدًا بصدعٍ عميق!

وتنهدت في حدةٍ على نحو ما فعلت كاتي تمامًا.

وذهبت الأم إلى سلة الغسيل حيث ترقد الطفلة في سلامٍ بالرغم من المناقشة المريرة، ورأت فرانسي أمها تحمل الطفلة النائمة في السلة، ويداها لا تزالان تضطربان، وجلست في كرسيها الهزاز بجوار النافذة، تضم الطفلة بقوةٍ إلى صدرها وتهتز في كرسيها.

وعشي بصر فرانسي أو كاد أسفًا وحسرة، وقالت بينها وبين نفسها: كان ينبغي لي ألا أسلك هذا السلوك الوضيع معها، فما الذي جنته طوال حياتها إلا العمل الشاق والمتاعب؟ والآن يجب أن تنصرف إلى طفلتها التماسًا للعزاء والراحة، ربما هي تفكر في أن لوري التي تحبها كل الحب، والتي تعتمد عليها الآن كل الاعتماد، سوف يشتد عودها لتنقلب عليها كما أفعل الآن.

ووضعت يدها على خد أمها في حرجٍ، وقالت: إن كل شيء على ما يرام يا أمي، لم أقصد ما قلت، وإنك لعلى صواب، وسأعمل بقولك، يجب على نيلي أن يذهب إلى المدرسة، وسوف أسعى أنا وأنت لنهيئ له ذلك.

ووضعت كاتي يدها فوق فرانسي، وقالت: هذه هي ابنتي المطيعة.

– لا تغضبي منِّي يا أماه لأني خالفتك، أنتِ نفسك علمتني أن أناضل في سبيل ما أراه صوابًا، وأنا … وأنا أعتقد أنني كنت على صواب.

– أعلم ذلك، وإني لمسرورة أنك تستطيعين في الحاضر والمستقبل أن تناضلي في سبيل حقك، وسوف تخرجين من النضال دائمًا سليمة مهما يكن، إنك تشبهينني في ذلك.

وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: وهنا تكمن المشكلة كلها، فإننا يشبه بعضنا بعضًا شبهًا كبيرًا حتى ليعزُّ علينا أن يفهم بعضنا بعضًا، بل إننا لا نفهم أنفسنا، ولقد كنت أنا وأبي مختلفين؛ ولذلك فهم كلٌّ منَّا الآخر، وإن أمي لتفهم نيلي لأنه يختلف عنها، كنت أودُّ أن أكون مختلفةً عنها مثل نيلي.

وسألت كاتي باسمةً: إذن فقد أصبح كل شيء على ما يرام بيننا الآن؟

وابتسمت لها فرانسي وقبَّلت وجنتها، وقالت: لا شك في ذلك.

ولكنهما كانا يعلمان في أعماق قلبيهما أن الحال لم تكن على ما يرام بينهما، ولن تكون على ما يرام بعد ذلك أبدًا.

٤٥

وأقبل عيد الميلاد مرةً أخرى، ولكن المال كان متوافرًا هذا العام لشراء الهدايا والأطعمة الكثيرة التي وضعت في الثلاجة، وغدت الشقة دافئة دائما، وأحست فرانسي، وهي تدخل البيت من الشارع البارد، أن الدفء يشبه ذراعَي حبيب تلتفَّان حولها وتجذبانها داخل الحجرة، وتساءلت عرضًا أي شعور حقًّا يحسُّه المرء بين ذراعَي الحبيب!

وتعزت فرانسي عن عدم عودتها إلى المدرسة، حين تحققت أن المال الذي تكسبه قد يسَّر لهم الحياة، ولقد أنصفتها أمها جدًّا، إذ عندما زاد أجر فرانسي إلى عشرين دولارًا في الأسبوع، أعطتها خمسة دولارات كل أسبوع لسداد نفقاتها في المواصلات والأكل والملابس، كما وضعت كاتي خمسة دولارات كل أسبوع باسم فرانسي في مصرف الادخار في ويليمسبرج، موضحةً أنها تدخر هذا المال من أجل ذهابها إلى الجامعة، ودبَّرت كاتي الأمور تدبيرًا حسنًا بالدولارات العشرة الباقية، مضافًا إليها دولار كان نيلي يسهم به، ولم يكن هذا المال ثروة، ولكن الأشياء كانت رخيصة في سنة ١٩١٦م، وعاشت أسرة نولان حياةً طيبة.

وألف نيلي العودة إلى المدرسة في سرورٍ، حين وجد أن زمرته القديمة كانت ستدخل مدرسة الحي الشرقي الثانوية، وكان يحتفظ بعمله الذي يقوم به عند ماكجريتي بعد خروجه من المدرسة، وأعطته أمه دولارًا من الدولارين، فقد كان يمتلك مالًا لمصروفه أكثر مما يمتلك معظم الصبية، وأحاط بكل شيءٍ في مسرحية «يوليوس قيصر» وحفظها عن ظهر قلب.

وحينما فتحوا الحصَّالة وجدوا بها أربعة دولارات أو نحوها، وأضاف نيلي إليها دولارًا، وأضافت فرانسي خمسة دولارات فأصبح لديهم عشرة دولارات، يشترون بها هدايا عيد الميلاد، وذهب ثلاثتهم مصطحبين لوري بعد ظهيرة اليوم السابق لعيد الميلاد ليشتروا الهدايا.

وذهبوا إلى محل القبعات، ووقف الصبي والفتاة خلف كرسي أمهما، على حين جلست كاتي تحمل لوري في حجرها وترتدي القبعات لتجرِّبها … وابتغت فرانسي لأمها قبعةً من المخمل الأخضر بلون اليشب، ولكن لم تكن في ويليمسبرج قبعة بهذا اللون، ولكن الأم آثرت أن تشتري قبعةً سوداء، وقالت لها فرانسي: نحن الذين نشتري القبعة ولستِ أنت، ونحن نقول إننا لن نشتري قبعات حداد بعد الآن!

واقترح نيلي قائلًا: أماه! جرِّبي هذه القبعة الحمراء.

– لا، إني سأجرب تلك القبعة الخضراء القاتمة المعروضة في نافذة العرض.

وقالت البائعة وهي تخرج القبعة من النافذة: إنه لونٌ جديد، نحن نسمِّيه الأخضر الطحلبي.

ووضعت القبعة أفقية على حاجب كاتي، لكن كاتي أمالتها على عينٍ من عينيها بحركةٍ نافذة الصبر، وأعلن نيلي: هذه هي القبعة المثلى!

وقررت فرانسي: أمَّاه! إنك تبدين جميلة.

وقررت الأم: إني معجبةٌ بها.

وسألت البائعة: كم ثمنها؟

وجذبت المرأة نفسًا طويلًا، وأحاطت بها أسرة نولان استعدادًا للمساومة.

وبدأت المرأة قائلة: إن ثمنها لا يزيد على …

ورددت كاتي في ثبات: كم ثمنها؟

– لو أنكِ في نيويورك لدفعت في مثلها عشرة دولارات ولكن …

– لو أنني كنت أريد أن أدفع عشرة دولارات لذهبت إلى نيويورك لشراء القبعة.

– هل هذه طريقة للحديث؟ إن قبعة مثل هذه القبعة ذاتها تباع في محل «وانا ميكر» بسبعة دولارات ونصف دولار.

ومرت لحظة سكون مطبق …

– أما أنا فسأبيع لك نفس القبعة بخمسة دولارات.

– ليس معي إلا دولاران فقط لأشتري بهما قبعة.

وصاحت البائعة على نحوٍ تمثيلي: اخرجوا من محلي!

– وهو كذلك.

وحملت كاتي الطفلة ونهضت واقفةً على قدمَيها: ما الداعي لكل هذه العجلة؟

ودفعتها البائعة إلى الكرسي مرةً أخرى، وألقت القبعة في كيسٍ من الورق.

– سأبيعها لك بأربعة دولارات ونصف دولار، صدقيني أنني لا أبيعها لحماتي بهذا الثمن!

وقالت كاتي بينها وبين نفسها: إني أصدقكِ وخاصة إذا كانت حماتك مثل حماتي.

ثم قالت لها بصوتٍ عال: إن القبعة جميلة، ولكني لا أستطيع أن أدفع فيها سوى دولارين، هناك الكثير من محالِّ القبعات، وإني أستطيع أن أشتري قبعةً أخرى بهذا الثمن … ليست جيدة الصنع كهذه القبعة، ولكنها من الجودة بحيث تحمي رأسي من الريح.

وتكلمت البائعة في صوتٍ أضفت عليه الحرارة والصدق: هلَّا أنصت إلى ما يقولونه من أن المال عند اليهود هو كل شيء، ولكن الأمر يختلف معي، فحين أجد قبعةً جميلة تتناغم مع مشتريةٍ جميلة، فإن شيئًا يحدث لي حينئذٍ.

ووضعت يدها على قلبها: إني لأحسُّ أن … أن الربح لا يعني في نظري شيئًا فأعطيها دون ثمن.

ودفعت الكيس في يد كاتي: خذي القبعة بأربعة دولارات.

وتنهدت: إنه الثمن الذي اشتريتها به بسعر الجملة، صدقيني أنه ما كان ينبغي لي أن أكون امرأة أعمال، وكان خيرًا لي أن أكون رسَّامة.

واستمرت المساومة، وعلمت كاتي حين وصل الثمن أخيرًا إلى دولارين ونصف دولار، أن المرأة لن تخفضه إلى أقل من ذلك، واختبرتها بالتظاهر بمغادرة المحل، ولكن البائعة هذه المرة لم تحاول أن تستوقفها، وأشارت فرانسي لنيلي فأعطى المرأة دولارين وخمسين سنتًا، وقالت المرأة محذرةً: لا تنبئوا أحدًا بالثمن البخس الذي اشتريتم به القبعة.

ووعدت فرانسي قائلةً: لن نفعل ذلك، ضعي القبعة في صندوق.

– ادفعي عشرة سنتات أخرى للصندوق، إنه الثمن الذي اشتريته به في الجملة.

واعترضت كاتي.

– إن الكيس يكفي.

وقالت فرانسي: إنها هديتك في عيد الميلاد، ويجب أن توضع في صندوق.

وأخرج نيلي عشرة سنتات أخرى، ولفَّت المرأة القبعة في الورق ووضعتها في الصندوق.

– إني أبيعها لك رخيصةً كل هذا الرخص حتى تعودي المرة القادمة لتشتري قبعة، ولكن لا تتوقعي مثل تلك المساومة في المرة المقبلة.

وضحكت كاتي، وقالت البائعة وهم يغادرون المحل: أرجو أن تستمتعي بها في كامل عافيتك.

– أشكركِ.

وبينما الباب يغلق دونهم، همست المرأة في مرارةٍ قائلة: يا لهم من يهود!

وبصقت خلفهم، وقال نيلي حين أصبحوا في الشارع: لا عجب أن تنتظر أمي خمس سنوات حتى تشتري قبعةً جديدة، إذا كانت ستكلفها كل هذا العناء.

وقالت فرانسي: عناء؟ كيف ذلك؟ إنها تسليةٌ فكهة.

وذهبوا بعد ذلك إلى محل «سيجلر» ليشتروا حلة للوري لعيد الميلاد، ولما رأى سيجلر فرانسي انفجر في سيلٍ من التأنيب: ها أنت ذي تأتين أخيرًا إلى محلي! لعلكِ تريدين شراء شيء لم تجديه في محالِّ الملابس الأخرى فجئتِ إليَّ؟ أو ربما اشتريت من محلٍ آخر صديرة رخيصة، لكنها تالفة … أليس كذلك؟

والتفت إلى كاتي وقال موضحًا: لقد ظلت هذه الفتاة سنين كثيرة تأتي إلى محلي لتشتري صدريات وبنيقات الورق لأبيها، ولكنها لم تعد تأتي منذ عامٍ كامل.

وأوضحت كاتي قائلة: لقد مات أبوها منذ عام.

وضرب السيد سيجلر جبينه براحته ضربةً قوية، واعتذر قائلًا: أوه! إن لي فمًّا واسعًا؛ ولذلك فإن لساني يزلُّ دائمًا.

وقالت كاتي مهدئةً: لا عليك!

– هذا شأني، إن أحدًا لا ينبئني بشيء، فلم أعلم بما حدث لكم حتى الآن.

وقالت كاتي: إن ذلك هو ما يحدث دائمًا.

وسألها فجأة منخرطًا في العمل: والآن ماذا أقدم لكِ؟

– أريد حلةً لطفلة لها من العمر سبعة أشهر.

– لديَّ هنا الحجم المضبوط.

وأخرج من صندوقٍ حلةً زرقاء من الصوف، ولكنهم حين ألبسوها للوري لم تبلغ السترة إلا وسطها، وبلغ السروال تحت ركبتَيها مباشرة، وجربوا لها أحجامًا مختلفة، حتى ناسبتها بالضبط حلةٌ لطفلٍ في السنة الثانية من عمره، وانفجر السيد سيجلر مندهشًا: إنني أبيع الملابس منذ عشرين عامًا، خمسة عشر عامًا في شارع جراند وخمسة أعوام في شارع جراهام، ولم أرَ قط في حياتي طفلًا في الشهر السابع بهذا الحجم الكبير.

وزهت أسرة نولان فخرًا بلوري، ولم تكن هناك مساومة لأن محل سيجلر كانت أسعاره محددةً، وأخرج نيلي ثلاثة دولارات، وألبسوا الطفلة الحلة الجديدة حينئذٍ فبدت أنيقة، وقد جذبت القلنسوة لتغطي أذنيها، وأظهر اللون الأزرق الزاهي لون بشرتها الوردي، وإنك لتحسب أنها أدركت ذلك من حركتها التي نمت عن السرور العظيم، وهي تشرق بابتسامةٍ غير واعيةٍ كشفت عن سنَّيها الاثنتين.

وابتهل سيجلر ويداه متشابكتان على نحو ما يفعل المصلون: آن يا حبيبتي، أرجو أن تنعم بها في كامل عافيتها.

ولم تبطل الأمنية هذه المرة بصقة تلقى من خلفهم.

وعادت الأم حاملةً لوري وقبعتها الجديدة إلى البيت، في حين واصل نيلي وفرانسي تجوالهما لشراء هدايا عيد الميلاد، واشتريا هدايا صغيرة لأولاد العم فليتمان وهدية لطفلة سيسي، ثم حان الوقت ليشتريا الهدايا الخاصة بهما، وقال نيلي: سأقول لك ما أريد فتشترينه لي.

– حسنًا، ما هو؟

– جرموق.

– جرموق؟

وارتفع صوت فرانسي قائلة: جرموق؟

وقال في حزم: له لونٌ رماديٌّ برَّاق.

وبدأت تقول في شك: إذن كان ذلك هو ما تريد …

– أريد الحجم المتوسط.

– كيف عرفتَ الحجم؟

– لقد جئت بالأمس وارتديته لأجرِّبه.

وأعطى فرانسي دولارًا ونصف دولار، واشترت الجرموق، وجعلت الرجل يلفه في صندوقٍ من صناديق الهدايا، وقدمت — وهما في الشارع — اللفة إلى نيلي، على حين عبس كلٌّ منهما للآخر في رصانة، وقالت فرانسي: إني أهديها لك، عيد ميلاد سعيد.

وأجاب نيلي في تكلف: أشكركِ، والآن ماذا تريدين.

– أريد حلة الرقص السوداء ذات المخرمات التي في نافذة العرض بذلك المحل الكائن قرب شارع يونيون.

وسأل نيلي متحرجًا: هل هذه من حاجات السيدات؟

– أوه! أوه! أربعة وعشرون مقاس الوسط، واثنان وثلاثون مقاس الصدر وثمنها دولاران.

– أنت تشترينها لأني لا أحب أن أشتري شيئًا من هذا القبيل.

واشترت فرانسي حلة الرقص التي تشتهيها، وهي تتكون من سروالٍ وصدار صنعا من قطعٍ من المخرمات السوداء، شبكت بعضها ببعض بشريطٍ رفيع من الساتان الأسود، واعترض نيلي على ذلك وتمتم في خشونةٍ مجيبًا على شكرها: عفوًا.

ومرَّا بسوق شجر عيد الميلاد القائم على الجسر، فقال نيلي: أتذكرين الوقت الذي جعلنا فيه الرجل يقذفنا بأضخم شجرة.

– أذكره ولن أنساه، وإني كلما أُصبتُ بصداعٍ أشعر بالألم في الموضع الذي خبطتني فيه الشجرة.

وتذكر نيلي قائلًا: وكيف كان أبي يغني حين يساعدنا في حمل الشجرة فوق السلم!

وكان اسم أبيها أو ذكراه قد طافت بمخيلتها في ذلك اليوم مراتٍ كثيرة، وكانت فرانسي تشعر في كل مرة بطائفةٍ من الحنان والرحمة بدلًا من وخزة الألم المعهودة، وقالت بينها وبين نفسها: أتراني أنساه؟ هل سيكون من العسير عليَّ في المستقبل أن أتذكر شيئًا عنه؟ إني لأظن أن الأمر ينطبق عليه قول جدتي ماري روملي «إن كل شيء يُنسى بمرور الزمن.» كانت السنة الأولى قاسية لأننا كنا نستطيع أن نتكلم عن آخر انتخابات أدلى فيها بصوته، وعن آخر «عيد شكر» أكل فيه معنا، ولكن في السنة التالية يكون قد مضى عامان منذ فعل ذلك … وكلما مرت الأيام عزَّت علينا الذكرى أكثر وأكثر، وعزَّ علينا تتبعها.

– انظري!

وأمسك نيلي ذراعها وأشار إلى شجرةٍ من أشجار الشربين طولها قدمان وضعت في وعاءٍ خشبي، وصاحت فرانسي: إنها تنمو!

– ماذا كنتِ تظنين؟ إنها جميعًا تنمو في البداية.

– أعلم ذلك، ولكنك تراها دائمًا مقطوعة فتفكر في أنها تموت بعد أن اجتثت، هيا بنا لنشتريها يا نيلي.

– إنها صغيرةٌ جدًّا.

– ولكن لها جذورًا!

فلما حملا الشجرة إلى البيت فحصتها كاتي، وازداد الخط الذي بين عينَيها عمقًا، وهي تفكر في شيء، وقالت: أجل، سوف نضعها بعد عيد الميلاد على سلم الطوارئ، ونحرص على أن تصلها أشعة الشمس، ونرويها بالماء، ونزودها بروث الجياد مرةً في الشهر.

واعترضت فرانسي: لا يا أماه! إنك لن تثقلي كاهلنا بجمع ذلك الروث.

وكانا، وهما طفلان صغيران، يرهبان جمع روث الجياد أكثر مما يرهبان أي عملٍ آخر، وكانت جدتهما ماري روملي تستنبت صنفًا من زهور الجرونيه الحمراء على عتبة نافذتها، وهي زهورٌ قويةٌ مشرقةٌ زاهية اللون، وكانت تحمل فرانسي أو نيلي على الخروج إلى الشوارع كل شهر ومعهما صندوق من صناديق السجاير، ليملآه بصفين منتظمين من بعر الجياد، وتدفع لهما الجدة عند تسلم الروث سنتَين، وكانت فرانسي تشعر بالخزي من جمع روث الجياد، واعترضت مرةً على أمر جدتها التي أجابتها قائلة: وي! إن الدماء التي تجري في عروق الجيل الثالث دماءٌ واهنة، لقد كان إخوتي الطيبون منذ عهدٍ بعيد في النمسا يحملون عرباتٍ كبيرة زاخرة بالروث، وكانوا رجالًا أقوياء شرفاء.

وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: إنهم خليقون بأن يكونوا كذلك إذ يشتغلون بشيءٍ من هذا القبيل.

وكانت كاتي تقول: والآن وقد أصبحنا نمتلك شجرةً، فإن الأمر يقتضينا أن نتعهدها ونحرص على إنمائها، وإنكما تستطيعان الحصول على الروث في ظلام الليل، إذا كنتما تشعران بالخزي بالنهار.

وجادلها نيلي قائلًا: لقد قلَّ عدد الجياد الآن قلةً شديدة، وأصبحت السيارات هي الغالبة؛ ولذلك فإن من العسير علينا أن نحصل على الروث.

– اذهبا إلى شارعٍ من الشوارع التي تغطيها الحصباء، حيث لا ترتاده السيارات، وإذا لم تجدا أي روث فانتظرا حتى يأتي جواد، واتبعاه حتى تحصلا على روثه.

واعترض نيلي: وي! إني آسفٌ على شرائنا الشجرة العتيقة.

وقالت فرانسي: ما خطبنا! إننا لم نعد نعيش في الأيام الخالية؛ فقد أصبحنا نملك المال، وكل ما علينا أن نعمله هو أن نعطي طفلًا من أطفال الحي المعهودين خمسة سنتات ليجمع لنا الروث.

ووافق نيلي وقد سُرِّي عنه: نعم.

وقالت الأم: أظن أنكما ترغبان في أن تتعهدا شجرتكما بأيديكما؟

وقالت فرانسي: إن الفرق بين الأغنياء والفقراء، هو أن الفقراء يفعلون كل شيء بأيديهم، والأغنياء يؤجِّرون من يقوم عنهم بذلك، إننا لم نعد فقراء، وفي مقدورنا أن ندفع أجر من يقوم لنا ببعض الأعمال.

وقالت كاتي: إذن فأنا أريد أن أظل فقيرة؛ لأنني أحب أن أستعمل يدي.

وشعر نيلي بالملل كعهده دائمًا كلما بدأت أمه وفرانسي مناقشةً من مناقشاتهما، التي تستنبطان منها الأمور، وقال ليغير الموضوع: أراهن على أن لوري في طول هذه الشجرة.

وحملا الطفلة من سلَّتها، وقاسا طولها بالنسبة للشجرة، وقالت فرانسي مقلدة السيد سيجلر: نفس الطول بالضبط.

وقال نيلي: لا أدري أيهما ستنمو أسرع من الأخرى.

– إننا يا نيلي لم يكن لنا قط جرو أو هريرة، فلنتخذ من الشجرة أليفنا المدلَّل.

– وي! إن الشجرة لا يمكن أن تكون أليفًا مدلَّلًا!

– ولم لا؟ إنها تعيش وتتنفس، أليس كذلك؟ سوف نطلق عليها اسمًا: آني! الشجرة آني والطفلة لوري، وهما معًا أغنيتنا.

وسألها نيلي: ألا تعلمين؟

– ماذا؟

– إنك مجنونةٌ، هذا ما يجب أن تعلميه.

– أنا أعلم، ولكن أليس ذلك شيئًا رائعًا؟ إني اليوم لا أشعر أنني الآنسة نولان التي كان مفروضًا أن تكون في السابعة عشرة من عمرها، ورئيسة القراء في مكتب قصاصات الصحف، ولكني أشعر كأنني أعود إلى الأيام الخالية، حين كان الأمر يقتضيني أن أجعلك تحمل النقود التي حصلنا عليها من بيع النفايات، أشعر كأنني طفلةٌ صغيرة.

وقالت كاتي: وإنكِ لطفلة، طفلة بلغت لتوِّها الخامسة عشرة.

– نعم، إنك لن تعتقدي ذلك حين ترين ما الذي اشتراه نيلي لي في عيد الميلاد.

وصحح نيلي قائلًا: ما حملتِني أنت على شرائه لكِ.

وحثَّته فرانسي قائلةً: اكشف لأمي ما الذي حملتني على شرائه لك في عيد الميلاد أيها اللبيب، هيَّا أطلعها عليه.

وحينما كشف لأمه عما اشتراه، ارتفع صوتها كما فعلت فرانسي حين قالت: جرموق؟

وأوضح نيلي قائلًا: إنما اشتريته ليدفئ كاحلي.

وكشفت فرانسي لأمها عن حُلَّة الرقص، فأطلقت الأم عبارتها المعهودة التي تنم عن الدهشة: «أوه، يا لي!»، وسألت فرانسي في أمل: أتعتقدين أن ذلك ما ترتديه النساء الرشيقات؟

– إنهن لو فعلن فإني على يقينٍ من أنهن جميعًا سوف يصبن بالتهاب الرئة، والآن هيا بنا نفكر: ما الذي نعده من الطعام للعشاء؟

– ألن تعترضي على ارتدائي لها؟

وشعرت فرانسي بخيبة أمل؛ لأن أمها لم تتحمس لها: لا، إن كل النساء يرتدين في فترةٍ من حياتهن السراويل السوداء ذات المخرمات، وقد أدركتِ هذه الفترة مبكرة عن معظم النساء، وسوف تنتهين منها أسرع منهن، أظن أننا جديرون بأن نسخن الحساء، ونتناوله مع حساء اللحم والبطاطس …

وقالت فرانسي بينها وبين نفسها في تبرمٍ: إن أمي تعتقد أنها تعرف كل شيء.

وأدَّوا معًا القداس صباح يوم عيد الميلاد، وجعلتهما كاتي يصليان معها على روح جوني، طالبين لها الراحة والاطمئنان.

وبدت كاتي جميلةً جدًّا في قبعتها الجديدة، وبدت الطفلة جميلة أيضًا في حلتها الجديدة، وصمم نيلي في رجولةٍ، وقد ارتدى جرموقه الجديد، على أن يحمل الطفلة، وبينما هم يمرون في شارع ستاج، أخذ بعض الصبية المتسكعين أمام محل الحلوى، يصفرون ساخرين من نيلي، واحمر وجه نيلي خجلًا، وعرفت فرانسي أنهم يسخرون من جرموقه، فتظاهرت بأنها فهمت أنهم يسخرون من حمله الطفلة، حتى لا تجرح شعوره، وعرضت عليه أن تحمل عنه لوري فرفض، وكان قد علم مثلما علمت هي أنهم يسخرون من جرموقه، وامتلأ قلبه مرارةً من ضيق الأفق، الذي يتصف به صبية ويليمسبرج، وقرر أن يحفظ الجرموق في الصندوق حين يعود إلى البيت، ولا يرتديه مرةً أخرى، حتى ينتقلوا إلى حيٍّ آخر أكثر تهذيبًا من ويليمسبرج.

وكانت فرانسي ترتدي سروالها ذا المخرمات، وتشعر أن أطرافها ستتجمد من البرد، وكلما هبت ريحٌ باردة وفتحت معطفها، وتسربت إليها خلال ثوبها الخفيف، تشعر كأنها لا ترتدي ملابس داخلية على الإطلاق، وحزنت بينها وبين نفسها قائلةً: إني أودُّ … آه، كم أود لو أنني قد ارتديت سروالي من الفانلة، لقد كانت أمي على صواب، فمن الممكن أن أُصاب بالتهاب الرئة، ولكني لن أرضيها وأجعلها تعرف ذلك، على أنني أظن أن الأمر يقتضيني أن أحفظ هذه الأشياء، ذات المخرمات حتى يحل الصيف.

وفي الكنيسة أخلت أسرة نولان قبل الصلاة صفًّا أماميًّا كاملًا من المقاعد وأرقدت عليه لوري بطولها، وكان بعض القادمين المتأخرين يظنون أن المقعد خالٍ، فيجثون عند مدخل الصف ويستعدون للدخول، ولكنهم حين يرون الطفلة ممددة فوق المقعدين، يعبثون في حدة في وجه كاتي، التي جلست في صرامةٍ ترد إليهم العبوس مضاعفًا.

واعتقدت فرانسي أنها كانت أجمل كنيسة في بروكلين، وكانت مبنيةً من الحجر الرمادي القديم، ولها منارتان ترتفعان زاهيتَين في السماء، وتفوقان في ارتفاعهما أطول بيوت السكن، وكانت من الداخل، بسقوفها المقبَّبة العالية، ونوافذها الضيقة الملوَّنة بالألوان الزاهية، ومحرابها المنحوت بإتقانٍ تبدو كأنها كاتدرائيةً مصغَّرة، وشعرت فرانسي بالاعتزاز بالمحراب الرئيسي؛ لأن جانبه الأيسر نقشه جدُّها روملي منذ أكثر من نصف قرن، حين كان شابًّا أتى حديثًا من النمسا، وأدى لكنيسته على مضضٍ هذا العمل ضريبة العشور.

وكان ذلك الرجل المقتصد قد جمع بقايا الخشب المقطع وحملها إلى البيت، وأخذ يسويها في دأبٍ وإصرار ويلصقها بعضها ببعض، ونحت ثلاثة صلبانٍ صغيرة من ذلك الخشب المبارك، وأعطت ماري صليبًا من هذه الصلبان لكل بنتٍ من بناتها في ليلة زفافها، وأمرت كلًّا منهن بأن تسلم الصليب إلى الابنة الكبرى جيلًا بعد جيل.

وظل صليب كاتي معلقًا على الجدار فوق رف المدفأة في البيت، وهو الصليب الذي سوف يصبح صليب فرانسي حين تتزوج، وشعرت كاتي بالفخر لأن الصليب صُنع من خشب ذلك المحراب البديع.

وبدا المحراب اليوم جميلًا، وقد حُلِّي بزهور بنت القنصل الحمراء وغصون شجرة الشربين، التي تتألق وسط أوراقها شموعٌ رفيعة بيضاء لها أطرافٌ ذهبية، وكان المهد المصنوع من السبل (ضربٌ من النخيل) قد وُضع داخل سياج المحراب، وعلمت فرانسي أن التماثيل الصغيرة التي نُمِّقت بالأيدي — وهي تمثل مريم ويوسف والملوك ورعاة الغنم — قد جمعت حول الطفل المقدس في المذود، كما جمعت أول مرة منذ مائة عام، حين حملها القوم من مقرها بالوطن القديم.

ودخل القسيس يتبعه صبي المحراب، مرتديًا فوق ملابسه الأخرى عباءةً من الساتان الأبيض، رُسم عليها صليبٌ ذهبي من الأمام ومن الخلف، وعلمت فرانسي أن العباءة ترمز إلى الثوب غير المدرز، الذي كان يُظَنُّ أن مريم هي التي نسجته للمسيح بيدها.

واستغرقت فرانسي في أفكارها حتى فاتتها بداية القداس، لكنها التقطت كلماته الآن وتتبعتها.

وأنشد القسيس بصوته العامر العميق: يا إلهي بحمدك أشدو على القيثارة، لا تحزني يا روحي ولا تقنطي من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعًا، إنه هو التواب الرحيم.

وأجاب صبي المحراب: وسعت رحمته كل شيء وله الحمد.

وجاء الجواب: المجد لله في الأعالي.

كما كان منذ الأزل، فهو الآن وإلى الأبد، ملكوته لن يزول، آمين.

وأنشد القسيس: سآتي إلى المحراب.

وجاء الجواب: إلى الله، الذي أنعم عليَّ، وهداني الصراط المستقيم.

إلى الله خالق السموات والأرض.

في هذه اللحظات تمثلت فرانسي المسيح حاضرًا بجسده وروحه ودمه جميعًا، وأن البركة قد حلَّت في الشراب الذي يملأ كأس القداس الذهبية، وفي الخبز الموضوع في «الصحن» المصنوع من الذهب.

وقالت بينها وبين نفسها متفكرةً: إن الإيمان جميل، وبودِّي أن أفهم عن ديني المزيد، إنني أومن بالله؛ نعم أومن به وبالمسيح وبمريم، إنني كاثوليكية طالحة لأن القداس يفوتني من حينٍ إلى حين، وإني لأتذمر حين أذهب إلى الاعتراف، وأنال عقابًا شديدًا على شيء فعلتُه دون إرادتي، ولكن سواء أكنت صالحةٌ أم طالحة، فأنا كاثوليكية، ولن أكون غير ذلك أبدًا.

ومما لا شك فيه أنه لم يكن لي خيارٌ في أن أولد كاثوليكية، أو أن أولد أمريكية، ولكنني سعيدة؛ لأن الظروف جعلت مني كاثوليكيةً وأمريكيةً معًا.

وهبط القس السلم المقوَّس متجهًا إلى المنبر، ورتَّل بصوته الرائع: صلُّوا من أجل راحة نفس جوني نولان.

ورنَّ صدى الهمسات في السقف المقبب «نولان … نولان …».

وركع ما يقرب من ألف شخص ليصلوا صلاةً مقتضبة، على روح رجل لم يكن يعرفه منهم إلا عشرة أو نحوهم، وسرت همهمتهم كأنها أنَّاتٍ هامسة، وبدأت فرانسي صلاتها على الأرواح التي في المطهر: يا يسوع الذي كان يضطرب قلبك المحب دائمًا لآلام الآخرين، بارك بشفاعتك روح عزيزنا الذي في المطهر، أنت الذي أحببت الناس كافةً، اسمع تضرعاتنا.

٤٦

وأعلنت فرانسي قائلةً: بعد عشر دقائق تحل سنة ١٩١٧م.

وكانت فرانسي وأخوها يجلسان متجاورَين، وقد أدخلا أقدامهما المغطاة بالجوارب داخل فوهة موقد المطبخ، وكانت الأم تستريح في فراشها، بعد أن نبَّهت عليهما بشدة أن ينادياها قبل منتصف الليل بخمس دقائق.

وواصلت فرانسي حديثها قائلة: أحسُّ أن سنة ١٩١٧م سيكون لها شأنٌ أكثر من أي سنةٍ أخرى مرت بنا.

واحتج نيلي قائلًا: إنك تقولين ذلك عن كل سنة، كانت سنة ١٩١٥م هي أول سنة قلتِ عنها إنها ستكون أعظم السنين شأنًا، ثم سنة ١٩١٦م، والآن تصفين سنة ١٩١٧م بهذا الوصف.

– سوف يكون لها شأن لسببٍ واحد، هو أنني سأبلغ في سنة ١٩١٧م السادسة عشرة حقًّا، بدلًا من بلوغي إياها في المكتب، كما أن هناك أشياءَ هامةً أخرى قد بدأت تحدث فعلًا، إن صاحب البيت يركب الأسلاك، وسوف نستخدم في أسابيعَ قليلة الكهربا بدلًا من الغاز.

– هذا شيءٌ يروقني.

– ثم إنه سوف ينزع تلك المواقد ويركب سخانات البخار.

– وي! سوف أفتقد هنا الموقد العتيق، أتذكرين كيف اعتدت أن أجلس على الموقد في الأيام الخالية؟ (كان ذلك منذ سنتين فقط!)

– واعتدت أن أخاف عليكَ خشية أن تشتعل فيكَ النار.

– إني أشعر برغبةٍ في الجلوس على الموقد الآن.

– هيا تقدم.

وجلس على سطح الموقد، مبتعدًا عن النار بأقصى ما يستطيع، وأحسَّ به دافئًا ممتعًا، ولكنه لم يكن ساخنًا، وواصلت فرانسي حديثها: أتذكر كيف رسمنا نماذجنا على حجر الموقد هذا، وحين أحضر لنا أبونا مساحةً حقيقية للسبورة، ثم أصبح الحجر كأنه سبورة المدرسة، لا يختلف عنها إلا في كونه ملقًى على الأرض؟

– نعم، كان ذلك منذ زمنٍ بعيد، ولكن انظري! إنكِ لا تستطيعين أن تدَّعي أن سنة ١٩١٧م سوف تكون سنةً هامة لأننا سنستخدم الكهربا، وسخانات البخار، فهما قد دخلا المساكن الأخرى منذ سنين، وليس في ذلك شيءٌ هام.

– أهمية هذه السنة ستكون في أنَّا سندخل الحرب.

– متى؟

– قريبًا … الأسبوع المقبل … الشهر المقبل!

– كيف عرفتِ ذلك؟

– إني أقرأ الصحف كل يوم يا أخي، أقرأ مائتي صحيفة.

– مرحى مرحى! إني لآمل أن تستمر حتى أبلغ من العمر ما يؤهلني للالتحاق بالأسطول.

– مَن الذي سيلتحق بالأسطول؟

واستدارا مذعورين، كانت أمهما تقف في ممر باب حجرة النوم.

وأوضحت فرانسي: إنما كنا نتحدث يا أمي لمجرد الحديث.

وقالت الأم عاتبةً: لقد نسيتما أن تنادياني، وأظن أنني سمعت صوت صفارة، لا بد أن السنة الجديدة قد حلَّت الآن.

وفتحت فرانسي النافذة، وكانت ليلةً شديدة البرد من كثرة هطول الصقيع لكن الريح كانت ساكنةً، والهدوء شاملًا عمَّ كل شيء، وبدت مؤخرات البيوت من وراء الأفنية مظلمةً مستكنَّة واجمة، وبينما هم يقفون وراء النافذة سمعوا ناقوس الكنيسة، يدق دقاتٍ رتيبةً بهيجة، لها وقع مطرب على النفس، ثم غشت أصوات الأجراس الأخرى الرنين الأول، وانطلقت الصفارات، ورنَّت صفارة الإنذار ففتحت النوافذ المعتمة مُصفِقة، وانطلقت الأبواق المصنوعة من القصدير، تضيف إلى الأصوات الناشزة صوتًا آخر، وأطلق شخصٌ قذيفةً في الفضاء، وعمَّ الجوَّ الصيحاتُ وصفيرُ الاستهجان.

١٩١٧م!

ثم خمدت الأصوات وساد الجوَّ سكونُ الانتظار، وبدأ شخصٌ يغني:

هل يمكن للصداقة القديمة أن تُنسى،
ولا يستعيد ذكراها العقل أبدًا …

والتقطت أسرة نولان الأغنية وانخرط الجيران في الغناء واحدًا إثر الآخر، وواصل الجميع الغناء، ولكن صوتًا مزعجًا اقتحم أصواتهم؛ ذلك أن فريقًا من الألمان كانوا يغنون أغنيةً من أغنياتهم، وتداخلت كلمات الألمان في أغنية «الأيام الخالية الجميلة»:

نعم هذا منزل له حديقةٌ؛
منزل ذو حديقة؛
منزل ذو حديقة،
آه أيها الجميل!
آه أيها الجميل!
آه أيها المنزل الجميل ذو الحديقة!

وصاح شخصٌ قائلًا: «اصمتوا أيها القذرون الممقوتون»، وعلت الأغنية الألمانية ردًّا على ذلك، واستفاضت حتى طغت على أغنية «الأيام الخالية الجميلة».

وأراد الأيرلنديون الانتقام من الألمان فصاحوا مغنِّين أغنيةً متهكمةً، تردد صداها عبر مؤخرات الأفنية المظلمة:

وي! إن أغنية «أيها المنزل» أغنيةٌ ملعونة.
أغنية ملعونة!
آه أغنية قذرة!
آه أغنية قذرة!
آه أغنية قذرة ممقوتة!

وسُمع صوت النوافذ وهي تُغلَق، وقد انسحب اليهود والإيطاليون تاركين المعركة للألمان والأيرلنديين، وغنَّى الألمان رافعين أصواتهم بالغناء أكثر من ذي قبل، وتزايدت الأصوات حتى قضت على الأغنية التهكمية، كما قضت على أغنية «الأيام الخالية الجميلة»، وفاز الألمان وختموا أغانيهم المطوَّلة بصيحات النصر.

وارتعشت فرانسي وقالت: أنا لا أحب الألمان؛ لأنهم يصرُّون جدًّا على ما يريدون، فيهم عنادٌ يدفعهم دائمًا إلى أن تكون لهم الكلمة العليا.

وعاد الليل إلى السكون مرةً أخرى، وأمسكت فرانسي بكلٍّ من أمها ونيلي، وأصدرت تعليماتها قائلة: هلمَّ … الآن … في صوتٍ واحد.

ومال ثلاثتهم خارج النافذة، وصاحوا: عامٌ جديدٌ سعيدٌ للجميع!

ومرت لحظة سكون، ثم انطلق في الظلام صوتٌ أيرلنديٌّ أجشُّ يصيح: عامٌ سعيدٌ جديدٌ يا آل نولان.

وتحيرت كاتي قائلة: ترى مَن يكون هذا؟

وردَّ عليه نيلي صائحًا: عامٌ جديدٌ سعيد أيها الأيرلندي الوغد.

ولطمته أمه على فمه، وجرَّته بعيدًا عن النافذة وأغلقتها فرانسي، واستبدَّت بثلاثتهم نوبةٌ هستيرية من الضحك، وقالت فرانسي وهي تلهث ضاحكةً من أعماقها، حتى طفرت الدموع من عينَيها: وبعدُ! لقد فعلتها!

وقرقرت كاتي، وقد تهالكت من الضحك، حتى اضطرت إلى أن تستند إلى المائدة: إنه يعرف من نحن، وسوف يأتي إلى هنا و… و… ويتعارك، من … من … من هو؟

– إنه رجلٌ مسنٌّ يدعى أوبرين، لقد سبَّني في الأسبوع الماضي من فنائه، ذلك الأيرلندي … الوغد!

وقالت الأم: صه! إنك تعلم أن ما تفعله في مستهل العام الجديد أيًّا كان، سوف تفعله طوال السنة.

وسألته فرانسي: ولا يليق بك أن تمضي قائلًا أيها الأيرلندي الوغد كالأسطوانة المشدوخة، أليس كذلك؟ كما أنك أنت نفسك أيرلندي.

واتهمها نيلي قائلًا: وأنتِ أيضًا.

– إننا جميعًا أيرلنديون ما عدا أمي.

وقالت الأم: وإنِّي لأيرلندية بالزواج.

وطلبت فرانسي قائلةً: إذن، فأعدي لنا شرابًا أيرلنديًّا نشربه نخب ليلة السنة الجديدة، فما رأيك؟

وقالت الأم: سأعدُّ لنا شرابًا بلا شك.

وكان ماكجريتي قد أهدى أسرة نولان زجاجةً من البراندي المعتَّق الخالص ليوم عيد الميلاد، فأفرغت كاتي من الزجاجة جرعةً صغيرة في ثلاث كئوسٍ طويلة، وملأت بقية كل كأس بمزيجٍ من البيض المضروب واللبن الممزوج بقليلٍ من السكر، وبَشَرَتْ جوزة من جوزات الطيب، ورشَّتها على سطح الشراب.

وكانت يداها تعملان في ثبات، بالرغم من أنها تعتبر هذا الشراب الليلة شيئًا دقيقًا بالغ الدقة، وكان القلق يساورها دائمًا خشيةً أن يكون الطفلان، قد ورثا عن أسرة نولان حب الشراب، وحاولت أن تتخذ موقفًا بشأن الشراب في الأسرة، وشعرت أنها إذا حثت الطفلَين على كره الشراب، فقد يعدَّانه شيئًا محرمًا خلَّابًا لما تنطوي عليه نفساهما من فرديةٍ مكنونة لم تتكشف بعدُ، على أنها إذا استهانت بالشراب، فقد يعدَّانه شيئًا طبيعيًّا، وقررت كاتي ألا تهون من شأن الشراب وألا تبالغ في خطره، وأن تتصرف كما لو أن الشراب لا يزيد ولا ينقص عن كونه شرابًا يُحتسَى في اعتدالٍ في المناسبات … نعم، لقد كانت ليلة رأس السنة الجديدة مناسبة من هذه المناسبات، وناولت كلًّا منهما كأسًا، وكان الكثير يتوقف على استجابتهما للشراب.

وسألت فرانسي: ترى لأي نخبٍ نشرب؟

وقالت كاتي: نشرب نخب الأمل، الأمل في أن تظل أسرتنا دائمًا مجتمعة على نحو ما هي عليه الليلة.

وقالت فرانسي: صبرًا! أحضري لوري حتى تكون معنا أيضًا.

وأخرجت كاتي الطفلة الغارقة في النوم من مهدها، وحملتها إلى المطبخ الدافئ، وفتحت لوري عينَيها ورفعت رأسها، وكشفت عن سنَّين في ابتسامةٍ هائمة، ثم سقط رأسها على كتف كاتي، واستغرقت في النوم مرةً أخرى.

وقالت فرانسي رافعة كأسها: والآن نشرب نخب وجودنا معًا دائمًا.

وقرعوا الكئوس وشربوا.

وتذوق نيلي شرابه فعبس، وقال إنه يؤثر عليه اللبن الخالص، وأفرغ كأسه في البالوعة، وملأ كوبًا آخر باللبن البارد، وراقبت كاتي فرانسي وهي تشرب كأسها، فانتابها شعور بالقلق.

وقالت فرانسي: إنه شرابٌ طيب، لا بأس به، ولكنه لا يبلغ في طيبه مبلغ شراب الكريمة المثلجة المعالجة بالصودا والفانيليا.

وترنَّمت كاتي بينها وبين نفسها: لمَ أشعر بالقل؟ ليس ثمة ما يدعو لأن أخاف عليهما مغبة الشراب.

إن فيهما رغم كل شيء عرقًا من أسرة روملي، مثلما فيهما عرق من أسرة نولان، ونحن آل روملي لسنا قومًا نحب الخمر.

وقالت فرانسي تدفع نيلي دفعًا: هيا يا نيلي نصعد إلى السطح، ونرى كيف يبدو العالم في مستهل العام الجديد.

ووافق نيلي قائلًا: وهو كذلك.

وأمرتهما أمهما قائلةً: ارتديا حذاءَيكما أولًا، ثم معطفَيكما.

وصعدا السلم الخشبي المهتزَّ، ودفع نيلي الباب فأصبحا فوق السطح، كان الليل شديد البرد زاخرًا بالصقيع، والريح نائمةً، والهواء باردًا ساكنًا، والنجوم تتألق في السماء بحيث بدت السماء على ضوئها عميقة الزرقة داكنةً، وكان القمر غائبًا، لكن ضوء النجوم أضفى على الليل مزيدًا من السحر.

ووقفت فرانسي على أطراف أصابعها وفتحت ذراعَيها مبسوطتَين، وصاحت: آه! إني لأرغب في أن أعانقها جميعًا! أعانق الليل البارد الساكن بلا ريح، وأعانق النجوم المتألقة القريبة منا كل القرب، أجل أرغب في أن أضمَّها إليَّ بقوةٍ، حتى تصرخ قائلة: «أطلقي سراحي! أطلقي سراحي!».

وقال نيلي قلقًا: لا تقفي قريبةً من حافة السطح كل هذا القرب، فقد تسقطين من فوقه.

وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: إني بحاجةٍ إلى شخص، إني بحاجةٍ إلى شخص، إني بحاجةٍ إلى أن أضمَّ شخصًا إليَّ، وإني بحاجةٍ لما هو أكثر من هذا العناق، أريد شخصًا يفهم ما أشعر به في لحظةٍ كهذه، ولا بد للفهم أن يكون جزءًا من الانتماء.

– إني أحب أمي ونيلي ولوري، ولكني أريد شخصًا أحبه حبًّا يختلف عن حبي لهم.

– وإذا ما حدثتُ أمي عن هذا فإنها خليقة بأن تقول: «حقًّا؟ إذن لا تتمهلي في الممرات المظلمة مع الفتيان حين ينتابك هذا الشعور!» وإنها خليقةٌ أيضًا بأن تشعر بالقلق، ظانَّةً أنني سأصبح على شاكلة سيسي، ولكنه شعورٌ آخر غير شعور سيسي؛ لأنه ينطوي على الفهم الذي أنشده أكثر مما أنشد العناق، أو يكاد يكون أكثر، وإذا ما أنبأت سيسي أو إيفي فإنهما خليقتان بأن تتحدثا عنه على نحو ما فعلت أمي، بالرغم من أن سيسي تزوجت وهي في الرابعة عشرة، وتزوجت إيفي وهي في السادسة عشرة، وكانت أمي مجرد طفلة حين تزوجت، ولكنهن نسين … وإنهن خليقات بأن يقلن لي إنني أصغر من أن تنتابني مثل هذه الأفكار، ولعلي صغيرةٌ لأنني في الخامسة عشرة فحسب، ولكني أكبر من عمري هذا في بعض الأمور، على أنه ليس لي أحد أضمُّه، وليس لي أحد يفهمني، لعلني في يومٍ من الأيام … في يومٍ من الأيام …

– نيلي، إذا كان الأمر يقتضيكَ أن تموت، أفلا يكون الموت رائعًا الآن، وأنت تؤمن بأن كل شيء بديعٌ، على نحو ما يكون هذا الليل بديعًا؟

وسألها نيلي: أتعلمين؟

– ماذا؟

– لقد سكرتِ من ذلك الشراب الممزوج باللبن، هذا هو السر.

وسددت قبضة يدها إليه وتقدمت نحوه مهددة: لا تقل ذلك! لا تقل ذلك أبدًا!

وتراجع خائفًا من صرامتها، وقال متلعثمًا: أ … أ … أجل، لقد سكرتُ أنا نفسي مرةً.

وقضت رغبتها في الاستطلاع على غضبها: أوَفعلتَ ذلك يا نيلي؟ أحقًّا تقول؟

– أجل، أحضر لنا أحد الرفاق بعض زجاجات من الجعة، وهبطنا إلى الطابق السفلي وشربناها، لقد شربت منها زجاجتَين وسكرت.

– وماذا كان شعورك؟

– شعوري؟ انقلب العالم رأسًا على عقب أول الأمر … وهنالك غدا كل شيء يشبه … أتعرفين تلك الأبواق المصنوعة من الكرتون التي تشترينها ببنس، وتنظرين في الطرف الصغير وتلقين الطرف الكبير فتتساقط قطع من الكرتون الملون أمام عينيك، ولكنها لا تتساقط على نحوٍ واحد أبدًا مرتين؟ لقد كنت أشعر بدوارٍ شديد رغم ذلك، ثم تقيأتُ وأفرغتُ كل ما في جوفي.

واعترفت فرانسي: إذن فلا مانع من أن أبوح لك بأنني سكرتُ مرة أيضًا.

– من الجعة؟

– لا، حدث ذلك في الربيع الماضي بمتنزه ماكارين حين رأيت زهرة السنبل (التوليب) لأول مرة في حياتي.

– كيف عرفتِ أنها زهرة السنبل، إذا كنتِ لم تري واحدةً منها قبل ذلك؟!

– لقد رأيتها في الصور، وحين نظرت إليها وتدبرت كيف تنمو، وكيف كانت أوراقها وأكمامها تكتسي بحمرةٍ صافية وتبدو من الداخل صفراء، دار العالم أمام عيني، وأخذ كل شيء يلفُّ كما تلفُّ الألوان من خلال عدسة المبدع؛ على نحو ما قلت، وشعرت بدوارٍ شديد حتى اضطررت إلى الجلوس على دكةٍ في المتنزه.

– هل تقيأتِ أيضًا؟

– لا، وإني لأحس بالشعور نفسه الليلة هنا، فوق هذا السطح، وأنا أعلم أنه ليس بفعل الشراب الممزوج باللبن.

– لا تكابري!

وتذكرت شيئًا: لقد اختبرتنا أمنا حين أعطتنا ذلك الشراب الممزوج باللبن، أنا أعلم ذلك.

وقال نيلي: مسكينة أمُّنا! ولكن لا ينبغي لها أن تشعر بالقلق بشأني، فإني لن أسكر مرةً أخرى أبدًا؛ لأني لا أحب أن أتقيأ.

– ولا ينبغي لها أن تشعر بالقلق بشأني أيضًا، فأنا لست بحاجةٍ إلى الشراب لأسكر، إنني أستطيع أن أسكر من أشياء كزهرة السنبل وهذا الليل.

ووافق نيلي.

– أظنه أنه ليلٌ جليل.

– إنه ساكنٌ كل السكون … مشرقٌ عظيم الإشراق … يكاد يكون … مقدسًا …

وانتظرت، لو كان أبوها معها هنا الآن …

وغنى نيلي:

الليل الساكن … الليل المقدس،
كل ما فيه هادئٌ، وكل ما فيه مشرقٌ.

وقالت بينها وبين نفسها في سعادة: إنه مثل أبي تمامًا.

ومدت بصرها إلى بروكلين، وكان ضوء النجوم يتراوح بين الظهور والخفاء، وامتدت نظراتها إلى الأسطح المستوية، بعضها مرتفعٌ، وبعضها منخفض، يعترضها من حينٍ إلى حين سقفٌ منحدر لبيتٍ عتيق من الأيام الخالية، والمداخن فوق الأسطح … تلوح على بعضها أشباح أعشاش الحمام … ويسري في الليل في بعض الأحيان همسٌ خافت هو هديل الحمام الناعس … ومنارتا الكنيسة التوءمان تحتضنان المساكن المظلمة على بعد … والجسر العظيم هناك عند نهاية شارعهم يلقي بنفسه كالزفرة عبر نهر إيست، ثم يغيب … يغيب … عند الشاطئ الآخر … ونهر إيست المظلم يجري من تحت الجسر … وهناك تلوح من بعيدٍ في الأفق معالم نيويورك يغشاها الضباب الرمادي، كأنها مدينة صنعت من الورق المقوَّى.

وقالت فرانسي: ما من مكانٍ مثلها.

– مثل ماذا؟

– بروكلين، إنها لمدينةٌ مسحورة.

– إنها مثل أي مكانٍ آخر تمامًا.

– إنها ليست كذلك! إني أذهب كل يوم إلى نيويورك، ونيويورك ليست مثل بروكلين، ولقد ذهبتُ مرةً إلى بايون لأزور زميلةً مريضة من زميلاتي في المكتب في بيتها، وبايون أيضًا ليست مثل بروكلين، إن بروكلين يكتنفها السحر والغموض كأنما هي … نعم كأنما هي حلم، إن البيوت والشوارع لا تبدو بيوتًا وشوارع حقًّا، وكذلك الناس أيضًا.

– إنهم أناسٌ حقيقيون، في عراكهم وصياحهم بعضهم في وجه بعض، وفي فقرهم وقذارتهم أيضًا.

– ولكن فقرهم وعراكهم يبدوان كالحلم، إنهم لا يشعرون حقًّا بهذه الأشياء، كأنما كل شيء يحدث في حلم.

وقال نيلي في حزم: إن بروكلين لا تختلف عن أي مكانٍ آخر، ولكن خيالكِ يجعل منها شيئًا فريدًا.

وأضاف في شهامةٍ: ولكن لا بأس من هذا الخيال، ما دام يملأ قلبك بالسعادة.

نيلي فيه الكثير من أمي، وفيه الكثير من أبي! أخذ من كلٍّ منهما أفضل ما فيه، وأحبت أخاها، وأرادت أن تحيطه بذراعَيها وتقبله، ولكنه كأمها يكره أن يستعرض الناس مشاعرهم، وإذا حاولت أن تقبله، فإنه خليقٌ بأن يثور غضبًا، ويدفعها بعيدًا عنه، فمدت له يدها بدلًا من ذلك: عامٌ جديدٌ سعيد يا نيلي.

– وسعيد عليكِ أيضًا.

وصافح كلٌّ منهما الآخر في وقار.

٤٧

وكانت إجازة عيد الميلاد القصيرة تكاد تشبه الأيام الخالية في نظر أسرة نولان، ولكن الأمور بعد عيد السنة الجديدة عادت إلى النظام الرتيب الجديد، الذي اعتادوه منذ وفاة جوني.

ولم تعد هناك دروس البيانو لسببٍ واحد، هو أن فرانسي كانت لم تمارس العزف منذ شهور، أما نيلي فكان في أمسياته يعزف على البيانو في حانات الحي التي تبيع المثلجات، وقد أصبح بارعًا في عزف موسيقى «الرجتيم»، بل كان في طريقه إلى أن يكون أكثر براعة في عزف موسيقى «الجاز»، وكان في مقدوره — كما كان يقول الناس — أن يجعل البيانو ينطق، وهو محبوبٌ كل الحب من الناس، ويعزف نظير كئوس من الصودا تعطى له بلا مقابل، وفي بعض الأحيان يعطيه شيفلي دولارًا نظير عزفه طول أمسية ليلة السبت، ولم تحب فرانسي له ذلك، وتحدثت مع أمها بشأنه، وقالت: إني لا أرضى له بذلك يا أمي.

– ولكن أي ضرٍّ في ذلك؟

– أتحبين له أن يعتاد العزف نظير ما يلقى من مرطبات بلا مقابل، شأنه في ذلك شأن …!

وترددت فالتقطت كاتي العبارة: شأن أبيك؟ لا، إنه لن يكون مثله أبدًا، إن أباك لم يغنِّ قط الأغاني التي أحبها مثل «آني لوري» أو «آخر ورود الصيف»، وإنما كان يغني ما يريده الناس مثل «آدلين الجميلة» و«هنالك عند غدير أولدهيل»، لكن نيلي ليس كذلك، فإنه سوف يعزف دائمًا ما يحبه غير عابئ مطلقًا أأحب غيره ذلك أم لم يحب.

– إنك تقولين إذن إن أبي كان مسليًا للناس فحسب، وإن نيلي فنان.

واعترفت كاتي في تحدٍّ: نعم … نعم …

– أظن أن حب الأم جعلك تبالغين بعض الشيء.

وعبست كاتي وتغاضت فرانسي عن الأمر.

وكانوا قد توقفوا عن قراءة الإنجيل وشكسبير منذ دخل نيلي المدرسة الثانوية، وقد أنبأهم بأنهم يدرسون قصة يوليوس قيصر وأن ناظر المدرسة يقرأ لهم جزءًا من الإنجيل في كل اجتماع، وكان ذلك كافيًا لنيلي، ورجت فرانسي أمها أن تعفيها من القراءة ليلًا؛ لأن عينَيها متعبتان من القراءة طول النهار، ولم تصر كاتي على القراءة، وقد شعرت أنهما قد بلغا من العمر ما يؤهلهما للقراءة أو العزوف عنها حسبما يريدان.

وكانت فرانسي تمضي أمسياتها وحيدة، وأسرة نولان تجتمع ساعة العشاء فحسب، بل إن لوري أيضًا تجلس إلى المائدة في كرسيها العالي، ويخرج نيلي بعد العشاء لينضم إلى زمرته، أو ليعزف في بعض الحانات التي تبيع المثلجات، وتقرأ الأم الصحيفة، ثم تمضي إلى فراشها هي ولوري في الساعة الثامنة. (وكانت كاتي لا تزال تستيقظ في الخامسة صباحًا، لتنتهي من معظم أعمال التنظيف في الوقت الذي تكون فيه فرانسي ونيلي في المسكن مع الطفلة، قبل أن يغادراها إلى عملهما.)

ويندر أن تذهب فرانسي إلى دار الصور المتحركة؛ لأن الصور كانت تقفز على نحوٍ يؤلم عينَيها، ولم تكن هناك مسارح لتغشاها، ومعظم الشركات المساهمة اختفت من الوجود، ثم إنها رأت باريمور يمثل في مسرحية العدالة ﻟ «جالسورذي» على مسرح برودواي، وفسدت في نظرها الشركات المساهمة بعد ذلك، وكانت قد رأت إبان الخريف الماضي فليمًا سينمائيًّا أعجبها هو «عرائس الحرب» الذي مثلته نازيموفا، وأملت في أن تراه مرةً أخرى، ولكنها قرأت في الصحف أن الفيلم منع عرضه لقرب وقوع الحرب، وهي تحتفظ بذكرى رائعة حين سافرت إلى مكانٍ لا عهد لها به في بروكلين، لترى سارة برنارد العظيمة في مسرحيةٍ من فصلٍ واحد مُثِّلت على مسرحٍ من مسارح كيث الفكاهية، وكانت الممثلة العظيمة قد جاوزت السبعين من عمرها، ولكنها بدت في نصف ذلك العمر من فوق خشبة المسرح، ولم تستطع فرانسي أن تفهم اللغة الفرنسية، ولكنها أدركت أن المسرحية تدور حول ساق الممثلة المبتورة، ومثَّلت سارة برنارد دور جنديٍّ فرنسي فقد ساقه في الحرب، والتقطت فرانسي كلمة «ألماني» من حينٍ إلى حين، ولم تكن فرانسي خليقةً أبدًا بأن تنسى شَعر سارة برنارد المتوهج الأحمر وصوتها الذهبي، واحتفظت بالبرنامج في سجل الصور الخاص بها كأنما هو كنزٌ، ولكنها لم تنعم بذلك إلا ثلاث أمسيات، اقتطعت من شهورٍ وشهور من الأمسيات.

وأقبل الربيع مبكرًا ذلك العام، وأثارتها لياليه الجميلة الدافئة، فأخذت تسير في الشوارع وتخترق المتنزهات صاعدةً هابطة، وأينما تذهب ترَ فتًى وفتاة معًا، يسيران متشابكَي الأذرع، ويجلسان على أريكةٍ بالمتنزه، وتحيط ذراع كلٍّ منهما بالآخر، ويقفان متلاصقَين في صمتٍ في الممرات. إن كل شخص في العالم له حبيب أو صديق ما عدا فرانسي، والظاهر أنها كانت الفتاة الوحيدة في بروكلين التي كانت تعيش في وحدة.

مارس ١٩١٧م، كان كل ما يفكر فيه أهل الحي أو يتحدثون عنه، هو أن الحرب واقعةٌ لا محالة، وكانت تسكن في أحد طوابق المنزل أرملة لها ابنٌ وحيد، خشيت أن يضطره الأمر إلى الذهاب إلى الحرب ويُقتَل، واشترت له بوقًا وحملته على أن يتلقَّى دروسًا في النفخ، وقد اعتقدت أنه سوف يلحق بفرقةٍ موسيقية من فرق الجيش، ويعزف في الاستعراضات والنوبات العسكرية فحسب، فيبقى بعيدًا عن جبهة القتال، وعاش سكان البيت في عذابٍ يكاد يبلغ الموت، من جراء عزفه النشاز الذي لا ينقطع، وأزعج العزف رجلًا ودفعه اليأس إلى اصطناع الحيلة، فأنبأ الأم أن لديه معلوماتٍ سريَّة تشير إلى أن الفرق العسكرية الموسيقية تقود الجنود إلى القتال، فتكون في جميع الأحوال أول من يُقتَل، ورهنت الأم المذعورة البوق فورًا ثم مزقت تذكرة الرهن، وانقطع من بعد العزف المفزع.

وكانت كاتي تسأل فرانسي كل ليلة: هل بدأت الحرب؟

– لا، لم تبدأ بعدُ، ولكنها قد تشتعل في أي وقت.

– نعم، إني لأود أن تبدأ سريعًا.

– أتريدين الحرب!

– لا، لا أريدها، ولكن إذا كان لا بد من وقوعها، فمن الخير أن تعجل، وكلما بدأت سريعًا انتهت سريعًا.

ثم خلقت سيسي قصةً مثيرة طغت على حديث الحرب إلى حين.

وكانت سيسي التي ودعت ماضيها الجامح، وأخذت ثائرتها تهدأ منتهية إلى السكينة، التي تسبق منتصف العمر حيث يشعر المرء بالرضا، قد رمت بالأسرة في أتونٍ من الاضطراب بتدلُّهها في حب جون، الذي كانت قد تزوجته منذ أكثر من خمس سنوات، ولم يقتصر الأمل على ذلك، بل إنها ترملت وطلقت وتزوجت وحملت، كل ذلك في عشرة أيام.

وكانت صحيفة ستاندرد يونيون، وهي أحب الصحف عند أهل ويليمسبرج قد سُلَّمت كالمعتاد عصر يوم إلى مكتب فرانسي في وقت الانتهاء من العمل، وحملتها فرانسي معها إلى البيت كالعادة لتقرأها كاتي بعد العشاء، وكانت فرانسي تعيدها إلى المكتب في الصباح التالي وتقرؤها وتؤشر عليها، ولم تكن فرانسي تقرأ الصحف في غير ساعات العمل أبدًا؛ لذلك لم تعلم ما يحتوي هذا العدد من الصحيفة بالذات.

وجلست كاتي بعد العشاء بجوار النافذة لتقرأ الصحيفة، ولم تلبث بعد أن قلبت الصفحة الثالثة، أن أطلقت عبارتها المألوفة التي تنمُّ عن أشد العجب: أوه! يا لي!

وجرت فرانسي ونيلي لينظرا إلى الصحيفة من فوق كتفها، وأشارت كاتي إلى العنوان:

«بطل من رجال الحريق فقد حياته في حريق اشتعل بسوق بولابوت.»

وكُتب تحت هذا العنوان عنوانٌ آخرُ فرعيٌّ ببنطٍ أصغر:

«كان قد اعتزم أن يعتزل الخدمة في الشهر التالي.»

واكتشفت فرانسي حين قرأت الموضوع أن بطل الحريق كان زوج سيسي الأول، وقد نشرت الصحيفة صورة لسيسي منذ عشرين عامًا، سيسي بثوبها المنقوش ذي الثنيات من طراز بومبادور، بأكمامه الكبيرة التي تضيق عند الرسغ، سيسي التي كانت في ربيعها السادس عشر، وكتب تحت صورة سيسي هذا العنوان:

«أرملة مكافح الحريق البطل.»

ورددت كاتي: أوه! يا لي! إذن فهو لم يتزوج مرةً أخرى قط، ولا بد أنه قد احتفظ بصورة سيسي كل هذا الزمن، فلما مات بحث بعض الناس عن حاجاته فعثروا على سيسي!

– ينبغي لي أن أذهب إلى هناك فورًا.

وخلعت كاتي «مريلتها» وذهبت لتأتي بقبعتها موضحةً: إن جورج زوج سيسي يقرأ الصحف، ولقد أنبأته بأنها طلقت، والآن وقد عرف الحقيقة فسوف يقتلها أو يسرحها على الأقل.

واستأنفت: إنها لن تجد مكانًا تذهب إليه هي وطفلتها وأمها.

وقالت فرانسي: يبدو عليه أنه رجلٌ طيب، ولا أظن أنه خليقٌ بأن يفعل ذلك.

– إنا لا نعلم كل ما ليس خليقًا بأن يفعله، بل إنَّا لا نعلم عنه شيئًا على الإطلاق، فهو رجلٌ غريب في الأسرة، وذلك شأنه دائمًا، أدعو الله ألا أصل إلى هناك بعد فوات الأوان.

وصممت فرانسي على أن تذهب معها، ووافق نيلي على أن يبقى بالبيت مع الطفلة، بشرط أن يخبراه بكل ما حدث.

ووجدتا سيسي حين وصلتا إلى بيتها مضطربةً كل الاضطراب، وكانت الجدة ماري روملي قد حملت الطفلة واعتزلت في الحجرة الأمامية، حيث جلست في الظلام تصلي، داعية الله أن ينتهي الأمر بخير.

وحكى لهما زوج سيسي؛ جون، روايته هو للقصة: تصوروا أنني كنت خارج البيت أعمل بالمحل، ثم جاء رجالٌ إلى البيت وقالوا لسيسي: إن زوجك قُتل الآن، تصوروا ذلك، لقد ظنت سيسي أنهم يقصدونني.

واستدار إلى سيسي فجأة وسألها: هل بكيت؟

وأكدت له سيسي: كان يمكنك أن تسمع بكائي من العمارة المجاورة.

وبدا عليه الرضا والامتنان.

– وتصوروا أنهم سألوا سيسي ما الذي ينبغي لهم أن يفعلوا بالجثة، وسألتهم سيسي: هل هناك أي تأمين؟ نعم، لقد اتضح أن هناك تأمينًا بخمسمائة دولار سُدِّد جميعًا منذ عشر سنين، ولا يزال قائمًا باسم سيسي، إذن فما الذي فعلته سيسي؟ لقد أوصتهم بأن يرقدوه في بهو سبخت الجنائزي، تصوروا ذلك، وأمرت بأن تعد له جنازة بخمسمائة دولار.

واعتذرت سيسي قائلةً: كان ذلك يقتضيني أن أدبر الأمر، فأنا الوحيدة التي على قيد الحياة من أقاربه.

ومضى يقول: وليس هذا كل ما في الأمر، فإنهم سيقبلون الآن، ويعطون سيسي معاشًا، وصاح فجأة: إنها أنبأتني حين تزوجتها أنها امرأةٌ مطلقة، وقد اتضح الآن أنها ليست مطلقة.

وصممت سيسي قائلة: ولكن الكنيسة الكاثوليكية لا تعترف بالطلاق.

– إنكِ لم تتزوجي في الكنيسة الكاثوليكية.

– أعلم ذلك؛ ولهذا لم أعد نفسي قط متزوجةً، ولم أظن أن الأمر يقتصيني أن أحصل على الطلاق.

وألقى بيديه في الفضاء وأنَّ قليلًا: لقد فرغت حيلتي.

وكانت قولته هذي تعبر عن تلك الصيحة المعهودة من اليأس اليائس، التي أطلقها حين أصرت سيسي على أنها ولدت طفلة، وقال: تصوروا، لقد تزوجتها وأنا خالص النية؟

ثم تساءل في لهجةٍ خطابية: فماذا فعلت؟ لقد أدارت ظهرها للأمر، وجعلتنا نعيش في الحرام.

وقالت سيسي في حدة: لا تقل ذلك! إننا لم نعش في الحرام، وإنما كنت متزوجةً من اثنين.

– وسوف تنتهي هذه الحال الآن، أفهمتِ؟ لقد ترملتِ من الزوج الأول، وسوف تطلقين من الزوج الثاني، ثم تتزوجين منِّي مرةً أخرى، أفهمتِ؟

وقالت في وداعة: نعم يا جون.

وصاح قائلًا: وإن اسمي ليس جون! إنه ستيف! ستيف! ستيف!

وكان في كل مرةٍ يردد فيها اسمه يدق المائدة بعنف، فيصلصل كوب السكر الزجاجي الأزرق صاعدًا هابطًا، وقد تعلقت الملاعق حول حافته، ودفع إصبعه في وجه فرانسي: وأنتِ! من الآن فصاعدًا أنا الخال ستيف، أفهمتِ؟

وحملقت فرانسي في الرجل المتغير في دهشةٍ عقدت لسانها وعوى قائلًا: نعم! نعم ما رأيك؟

– مر … مر … مرحى أيها الخال ستيف.

– هذا شيءٌ معقول.

وهدأت ثائرته، وأخذ قبعته من فوق مسمارٍ خلف الباب، ووضعها على رأسه، وسألت كاتي قلقة: إلى أين أنت ذاهب يا جون … أقصد يا ستيف؟

– اسمعي! حينما كنت صبيًّا كان أبي الكهل يخرج دائمًا ويشتري الكريمة المثلجة حين يكون بالبيت ضيوف، نعم، هذا هو بيتي، أفهمتِ؟ وأنا لديَّ ضيوف؛ ولذلك سأخرج وأشتري بربع دولار كريمة التوت المثلجة، أفهمتِ؟

ومضى، وتنهدت سيسي: أليس رجلًا رائعًا؟ إن المرأة قمينة أن تقع في حب رجلٍ من هذا الطراز.

وقالت كاتي في هدوء: الظاهر أن أسرة روملي قد أصبح لها رجلٌ في النهاية.

وذهبت فرانسي إلى الحجرة الأمامية المظلمة، ورأت في ضوء مصباح الشارع جدتها تجلس إلى النافذة، وفي حجرها طفلة سيسي نائمة، وحبات السبحة الكهرمانية تتدلى من بين أصابعها المرتعشة، وقالت: يمكنكِ أن تتوقفي عن الصلاة الآن يا جدتي، لقد انتهى الأمر بخير، فقد خرج ليشتري الكريمة المثلجة، أفهمتِ؟

وقالت ماري روملي مسبحةً: المجد للأب والابن والروح القدس.

وكتب ستيف باسم سيسي رسالةً إلى زوجها الثاني بعنوانه الأخير المعروف، وكتب على المظروف «أرجو الرد»، وطلبت منه سيسي في رسالتها أن يوافق على طلاقها حتى يمكنها أن تتزوج ثانيةً، وجاءتها رسالة سميكة بعد أسبوعٍ من مكانٍ بعيد في ويسكونسن، ينبئها فيها زوجها الثاني أنه على ما يرام، وقد حصل على الطلاق في ويسكونسن منذ سبع سنين، ثم تزوج مرةً أخرى بعد حصوله على الطلاق مباشرة، واستقر في ويسكونسن، حيث حصل على وظيفةٍ طيبة وأصبح أبًّا لثلاثة أطفال، وأخبرها بأنه سعيدٌ كل السعادة، وهدد بكلمات وضع تحتها خط ينم عن التحذير، أنه ينوي البقاء على الحال التي استقر عليها، وطوى داخل المظروف قصاصةً قديمة من الصحيفة، ليثبت أنها قد أنبئت رسميًّا بالطلاق عن طريق النشر في الصحيفة، كما ضمن المظروف نسخةً طبق الأصل من الحكم (حيثياته وهجرها له)، وصورة شمسية لثلاثة أطفال ممتلئين صحةً وعافية.

وسعدت سيسي كل السعادة لطلاقها بمثل تلك السرعة، حتى إنها أرسلت إليه «صحنًا» مفضَّضًا من صحون المخللات، كهدية زفاف بعد فوات الأوان، وشعرت أن الأمر يقتضيها أن ترسل إليه رسالة تهنئة أيضًا، ورفض ستيف أن يكتبها لها فطلبت من فرانسي أن تكتبها، وأملتها سيسي: اكتبي أنني أتمنى له السعادة كل السعادة.

– ولكنه يا خالة سيسي تزوج منذ سبع سنوات، واستقرت حياته الآن، سواء أكان سعيدًا أم لم يكن.

– حينما تسمعين لأول مرة أن شخصًا قد تزوج، فإن من اللياقة أن تتمني له السعادة؛ اكتبيها.

– وهو كذلك.

وكتبتها.

– وماذا بعد؟

– اكتبي شيئًا عن أطفاله … مبلغ ما هم عليه من ذكاءٍ وفطنة … شيئًا مثل.

وغصت الكلمات في حلقها، وعرفت أنه أرسل الصورة ليثبت أن العيب لم يكن عيبه، حين كانت سيسي تلد أطفالها منه موتى، وتألمت سيسي لذلك.

– اكتبي أنني أم لطفلةٍ جميلة تتمتع بصحةٍ جيدة، وضعي خطًا تحت تتمتع بصحةٍ جيدة.

– ولكن رسالة ستيف حوت أنكِ تفكرين في الزواج، وقد يظن هذا الرجل أنه من السخف أن تنجبي طفلًا بكل هذه السرعة.

وأمرتها سيسي: اكتبي ما أقول، واكتبي أنني سألد طفلًا آخر في الأسبوع المقبل.

– سيسي! هل ستلدين حقًّا؟

– بالطبع لا، ولكن اكتبي ذلك على أي حال.

وكتبت فرانسي ذلك.

– وماذا بعد؟

– قولي له أشكرك على ورقة الطلاق، ثم قولي إنني حصلت على الطلاق قبل حصوله هو عليه بعام.

واختتمت في عجز: ولكني نسيت فحسب.

– ولكن هذا كذب.

– لقد حصلت على الطلاق قبل أن يحصل عليه، حصلت عليه في تفكيري.

واستسلمت فرانسي قائلةً: لا بأس، لا بأس.

– اكتبي أنني سعيدةٌ كل السعادة، وأنني أنوي البقاء على هذه الحال، وضَعِي خطًّا تحت هذه الكلمات على نحو ما فعل.

– وي يا سيسي! هل لا بد من أن تكون لكِ الكلمة الأخيرة؟

– أجل، كما لا بد لأمك أن تفعل تمامًا وإيفي وأنتِ أيضًا.

ولم يكن لدى فرانسي مزيد من الاعتراض.

واستخرج ستيف تصريحًا، وتزوج سيسي من جديد مرةً أخرى، وقام بإجراءات الزواج هذه المرة قسيس على المذهب الميثودي، وكان أول زواج لسيسي في الكنيسة، وآمنت أخيرًا أنها تزوجت حقًّا حتى يفرق الموت بينهما، وكان ستيف سعيدًا كل السعادة، فلقد كان يحب سيسي ويخشى دائمًا أن يفقدها، ذلك أنها تركت أزواجها السابقين بلا سببٍ وبلا أسف، ويخشى أن تتركه هو أيضًا وتأخذ معها الطفلة التي أصبح يحبها كل الحب، وعلم أن سيسي تؤمن بالكنيسة … أية كنيسة كاثوليكية كانت أو بروتستانتية، حتى إنها لن تخرج أبدًا على زواج الكنيسة، ولأول مرة في علاقتهما شعر ستيف بالسعادة والاطمئنان والسيطرة، واكتشفت سيسي أنها كانت مدلَّهة في حبه.

وأقبلت سيسي ذات ليلة بعد أن كانت كاتي قد أوت إلى فراشها، فطلبت منها ألا تنهض، وأنها سوف تجلس في حجرة النوم وتتحدث معها، وكانت فرانسي تجلس إلى مائدة المطبخ، تلصق قصاصات الشعر في دفاترَ قديمة، واحتفظت بموسى في المكتب تقص بها الأشعار والقصص التي تعجب بها لتجمعها في سجل صورها، وكان لديها مجموعة منها، وقد كُتب على دفترٍ منها هذا العنوان: ديوان نولان للشعر القديم، وكُتب على آخر: «مجلد نولان للشعر المعاصر»، وكُتب على ثالث: «كتاب آني لوري»، حيث جمعت فيه فرانسي أشعار هدهدة الأطفال، وقصص الحيوانات لتقرأها للوري حين تبلغ من العمر ما يؤهلها للفهم.

وكان للأصوات التي تنبعث من حجرة النوم المظلمة وقعٌ رتيب تهدأ له النفس، وأنصتت فرانسي وهي تلصق القصاصات، وسمعت سيسي تقول: … ستيف، رجلٌ مهذب غاية التهذيب، رقيق الشعور كل الرقة، ولما أدركت ذلك كرهتُ نفسي، لما كان من علاقتي بالرجال الآخرين، أقصد من غير أزواجي.

وسألت كاتي بذعر: هل أنبأتِه بالآخرين؟

– أتظنينني بلهاء؟ ولكني أتمنى من كل قلبي لو كان هو الرجل الأول والوحيد.

وقالت كاتي: حين تتكلم المرأة على هذا النحو، فمعنى ذلك أنها تجتاز مرحلة التحول في الحياة.

– كيف تكتشفين ذلك؟

– إذا لم يكن للمرأة أي حبيب فإنها تنحى على نفسها باللائمة حين يدركها التحول، وهي تفكر في كل المتعة التي كانت تستطيع أن تنالها، ولكنها لم تنلها، ولا تستطيع أن تنالها الآن، وإذا كان لها محبون كثيرون فإنها تناقش نفسها وقد اعتقدت أنها أخطأت، وتشعر بالأسف الآن، ولكنها تمضي في طريقها هذا لأنها تعلم أنها سرعان ما تفقد أنوثتها … أجل تفقدها، وإذا ما اعتقدت أن علاقتها بالرجل لم تكن قط مجدية في المحل الأول، فإنها تستطيع أن تجد السلوى في التحول الذي يصيبها.

وقالت سيسي في سخط: إنني لا أمر بأية فترة من فترات التحول في الحياة؛ لأنني أولًا لا أزال في ريعان شبابي، ثم إنني ثانيًا لا أستطيع أن أتحمل التحول.

وتنهدت كاتي: إنه يدركنا جميعًا حتمًا في يومٍ من الأيام.

وظهر الرعب على صوت سيسي: أأعجز عن إنجاب الأطفال … وأصبح نصف امرأة … وتصيبني البدانة … وينمو الشعر على ذقني؟

ثم صاحت وقد جاشت عواطفها: لأقتلن نفسي قبل أن يحدث ذلك!

ثم أضافت في انشراح: إنني لم أقترب بحالٍ من ذلك التحول؛ لأنني حملت مرةً أخرى.

وانبعث من الحجرة المظلمة صوتٌ كالحفيف، واستطاعت فرانسي أن تتصور أمها، وهي تنهض على مرفقها: لا يا سيسي! لا! إنكِ لا تستطيعين احتمال ذلك مرةً أخرى، لقد حملتِ عشر مرات، وأنجبتِ عشرة أطفال ولدوا موتى، وسوف يكون الأمر أكثر صعوبة هذه المرأة؛ لأنك أوشكت على بلوغ السابعة والثلاثين.

– إن المرأة في هذا العمر ليست أكبر سنًّا من أن تنجب أطفالًا.

– لا، ولكنها أكبر سنًّا من أن تتحمل في يسرٍ خيبة أمل كبرى.

– لا تقلقي يا كاتي، هذا الطفل سيعيش.

– لقد قلتِ ذلك في كل مرة.

وقالت سيسي في توكيدٍ رصين: إني على يقين هذه المرة؛ لأني أشعر أن الله معي.

وقالت بعد لحظةٍ: لقد أنبأت ستيف كيف حصلت على سيسي الصغيرة.

– وماذا قال؟

– كان يعلم طول الوقت أنني لم ألد الطفلة، ولكن الأسلوب الذي اتبعته في الادعاء أنني فعلت، جعل الأمر يلتبس عليه، وقال إنه لا أهمية للأمر ما دمت لم أنجبها من رجلٍ آخر، وما دمنا قد ربينا الطفلة من يوم ولادتها، فهو يكاد يشعر حقًّا أنها ابنته، وإنه لمن المضحك أن تشبهه الطفلة إلى ذلك الحد، فإن لها عينَيه الداكنتَين وذقنه المستدير، كما أن أذنَيها الصغيرتَين تلتصقان برأسها كأذنَيه.

– لقد ورثت هاتين العينَين الداكنتَين من لوسيا، وإن ملايين الناس في العالم لهم ذقونٌ مستديرة، وآذانٌ صغيرة، ولكن إذا كان ستيف يشعر بالسعادة، حين يعتقد أن الطفلة تشبهه، فهذا شيءٌ جميل!

وانقضت لحظة صمت طويلة ثم استأنفت كاتي حديثها: سيسي! ألم تعطك الأسرة الإيطالية أية فكرة عن شخصية والد الطفلة الحقيقي؟

– لا.

وصمتت سيسي أيضًا لحظةً طويلة ثم مضت تقول: أتعلمين من الذي أنبأني بأن الفتاة وقعت في مشكلة، وأين تسكن؟ وكل شيء؟

– من؟

– ستيف!

– يا للهول!

وصمتت المرأتان لحظةً طويلة، ثم قالت كاتي: كان ذلك مصادفةً بلا شك.

ووافقت سيسي: بلا شك، فقد قال لي إن أحد زملائه في المحل هو الذي أخبره بالقصة، وهو زميلٌ له يسكن في منطقة لوسيا السكنية.

ورددت كاتي: بلا شك، أتعلمين أن أشياءَ مضحكة ليس لها معنًى على الإطلاق تقع هنا في بروكلين، مثال ذلك أنني في بعض الأحيان، وأنا سائرةٌ في الشارع، يخطر ببالي شخصٌ ربما لم أره منذ خمس سنين، ثم ألتفت بمنعطفٍ، فإذا بهذا الشخص يسير متجهًا نحوي.

وأجابت سيسي: أعلم ذلك، وأحيانًا أقوم بعملٍ لم أقم به من قبلُ قط في حياتي، وإذا بي أشعر فجأة أنني فعلت هذا الشيء نفسه من قبلُ، ربما في حياةٍ أخرى!

وخبا صوتها وتلاشى، ثم قالت بعد لحظةٍ: لقد كان ستيف يقول دائمًا: إنه لن يأخذ طفل رجلٍ آخر أبدًا.

ومضت كاتي تقول: كل الرجال يقولون ذلك، إن الحياة مضحكةٌ، فقد يتصادف أن يحدث شيئان في وقتٍ واحد، وفي وسع الشخص أن يصنع منهما الكثير، لقد كان مجرد مصادفة أنكِ علمت بتلك الفتاة، ولا شك أن ذلك الزميل نفسه قد أنبأ عشرات الرجال في المحل بالقصة، ولقد ذكرها لكِ ستيف بمحض المصادفة، وكان اتصالك بالأسرة مجرد مصادفة، وكذلك من محض المصادفة أن يكون للطفلة ذقنٌ مستدير بدلًا من ذقنٍ مربع، بل إن ذلك لا يبلغ مبلغ المصادفة إنه …

وتوقفت كاتي باحثةً عن كلمة.

وكانت فرانسي في المطبخ، وقد استهواها الحديث إلى حد أنها نسيت أنه يجمل بها ألا تسترق السمع إليهما، فلما عرفت أن أمها تتلمس كلمة زودتها بها دون تفكير، وصاحت: أتقصدين «توافق» يا أمي؟

وساد حجرة النوم صمتٌ ينمُّ عن صدمة، ثم استؤنفت المناقشة، ولكن بهمسٍ هذه المرة.

٤٨

كان على مكتب فرانسي صحيفة، وهي صحيفةٌ إضافية كانت قد أُرسلت مباشرة من دار النشر، ولم يكن المداد قد جفَّ بعدُ على عناوينها، وظلت الصحيفة على المكتب خمس دقائق، ولم تكن فرانسي قد التقطت قلمها بعد لتؤشر عليها، فبدأت بقراءة التاريخ: ٦ أبريل سنة ١٩١٧م.

وكان ارتفاع الكلمة الواحدة التي يتألف منها العنوان ست بوصات، وحروفها الثلاثة ملطخة عند أطرافها، ووجدت فرانسي كلمة «الحرب» كأنها ترتعش.

وهبط على فرانسي إلهامٌ بأنها بعد خمسين سنة من هذه اللحظة، سوف تحكي لحفيدتها كيف أنها جاءت إلى محل عملها، وجلست على مكتبها للقراءة، وقرأت أثناء عملها الرتيب أن الحرب قد أُعلنت، وعلمت فرانسي من الاستماع إلى جدتها أن الشيخوخة قوامها ذكريات الشباب.

ولكنها لم تُرد أن تتذكر الأشياء، وإنما أرادت أن تعيشها، أو آثرت كنوعٍ من التوفيق بين الحالتَين أن تعيشها مرةً أخرى على أن تتذكرها.

وقررت أن تثبت هذا الوقت في حياتها على نحو ما كانت عليه هذه اللحظة تمامًا، ولعلها بذلك قد استطاعت أن تستمسك بها كلحظةٍ حية فلا تستحيل شيئًا اسمه ذكرى.

واستقرت عيناها على سطح المكتب تتفحصان شكل تعريق الخشب، وجرت أصابعها على الثغرة التي وضعت فيها أقلامها الرصاص، تثبت ملمس الثغرة في عقلها، وحزَّت بالموسى النقطة التالية على قلمٍ من أقلامها، وفكَّت الصحيفة ووضعتها في راحتها ولمستها بسبابتها ولاحظت أنها حلزونية، وأسقطتها في صندوق المهملات المعدني، وهي تعد الثواني التي استغرقتها لتسقط فيه، وأرهفت السمع حتى لا يفوتها سماع الرطمة التي تكاد تكون بلا صوت، وهي ترتطم بقاع الصنودق، وضغطت بأناملها على العنوان الذي لم يجف، وفحصت أناملها التي غشاها المداد ثم طبعتها على ورقةٍ بيضاء.

وانتزعت من الصحيفة الورقة الأولى غير عابئةٍ بما قد يذكر من العملاء في الصفحتَين الأولى والثانية، وطوت الورقة بعنايةٍ لتصنع مستطيلًا وهي ترقب الثنيات تحت إبهامها، ثم أدخلتها في مظروفٍ متين من ورق المانيلا، وهو من المظاريف التي يستخدمها المكتب في إرسال القصاصات بالبريد.

وسمعت فرانسي — كأنما لأول مرةٍ في حياتها — صوت درج المكتب، حين فتحته لتأخد كيس نقودها، ولاحظت شكل مقبض الكيس وصوت إقفاله، ولمست الجلد ووعت في ذاكرتها رائحته، ودرست الدوائر التي في بطانته المصنوعة بالحرير الأسود، وقرأت التواريخ على عملات النقود التي في كيسها، ورأت بنسًا جديدًا ضُرب سنة ١٩١٧م ووضعته في المظروف، وكشفت غطاء إصبع الشفاه الأحمر الخاص بها، ورسمت به خطًّا تحت صورة أناملها المطبوعة، وسُرَّت فرانسي من اللون الأحمر الصافي وقوامه وما ينبعث منه من رائحة، وفحصت مسحوق الذرور في حقيبتها، وأطراف مبرد أظافرها ومشط شعرها الذي كان لا ينثني، وخيوط منديل يدها، وكانت في كيسها قصاصةٌ بالية، وهي قصيدة شعر قصَّتها من صحيفة من صحف أوكلاهوما، نظمها شاعرٌ كان يعيش في بروكلين، ودرس في مدارس بروكلين الابتدائية، وألف في ميعة الصبا قصيدة «نسر بروكلين»، وأعادت قراءة القصيدة للمرة العشرين، لكي تثبت كل كلمة في عقلها:

في بردي شيخوخة وشباب،
وحمق وحكمة.
لا أحفل بالآخرين، وأحفل دائمًا بالآخرين.
وسواء كنت أمًّا أو أبًا، طفلًا أو رجلًا،
فقد جمعت في كياني بين الخشونة والرقة.

وأعادت القصيدة المهلهلة إلى المظروف، ونظرت في مرآتها الصغيرة إلى الطريقة التي ضُفر بها شعرها، وكيف التفَّت الضفائر حول رأسها، ولاحظت كيف كانت رموشها السوداء المستقيمة تختلف بين القصر والطول، ثم فحصت حذاءها وجرت يدها هابطة على جوربها، ولاحظة لأول مرةٍ أن ملمس الحرير خشن وليس ناعمًا، وكان قماش ثوبها قد صنع من خيوطٍ رقيقة، وقلبت ذيل الثوب، ولاحظت أن طرف مئزرها الحريري الرفيع على شكل ألماسة.

وقالت بينها وبين نفسها: لو أنني أستطيع أن أعي كل تفصيلات هذا الوقت في عقلي، لاحتفظت بهذه اللحظة دائمًا.

وقصَّت خصلةً من شعرها بالموسى، ولفتها في قطعة الورق المربعة التي طبعت عليها أناملها، وخطَّت عليها بإصبع الشفاه الأحمر، ثم طوت الورقة ووضعتها داخل المظروف وألصقت المظروف، وكتبت عليه من الخارج:

«فرانسي نولان، عمرها ١٥ سنة وأربعة أشهر، ٦ أبريل ١٩١٧م.»

وقالت بينها وبين نفسها: لو أنني فتحت هذا المظروف بعد خمسين سنة منذ اليوم، فسوف تكون حالي كحالي الآن، ولن تدركني الشيخوخة، ولكن هناك وقتًا طويلًا طويلًا، قبل أن تمر خمسون سنة … ملايين من الساعات، على أنه قد انقضت ساعة منذ جلست هنا … فنقصت الساعات التي سأعيشها ساعة … لقد ضاعت ساعةٌ من ساعات عمري هنا.

وابتهلت قائلة: يا إلهي! دعني أكن شيئًا كل دقيقة من كل ساعة في حياتي، دعني أشعر بالسعادة، وبالحزن، دعني أحس البرد، والدف، دعني أتضور جوعًا، وأُتخم شبعًا، دعني أتعرَّ أو أرفل في الحرير، دعني أكن مخلصة، ومخادعة، دعني أكن صادقة، وكاذبة، دعني أكن شيئًا كل دقيقة مباركة فحسب، وحينما أنام دعني أحلم طول الوقت، حتى لا تضيع مني لحظةٌ من الحياة.

ومرَّ الصبي الذي يوزع الصحف، وألقى بصحيفة مدينة أخرى على مكتبها، وكانت تشتمل هذه الصحيفة على عنوانٍ من كلمتين:

أُعلنت الحرب!

وبدت الأرض كأنها تميل إلى أعلى، وومضت أمام عينَيها ألوانٌ كالبرق، ووضعت رأسها على الصحيفة التي لم يجف مدادها وبكت في صمت.

وتوقفت إحدى القارئات الأكبر سنًّا عند مكتب فرانسي وهي عائدةٌ من الحمام، ولاحظت العنوان والفتاة الباكية، وظنت أنها فهمت الأمر، وتنهدت قائلة: آه! الحرب؟

وسألتها بلهجتها التي تضغط فيها على مخارج الألفاظ، كأنها تقرأ: أظن أن لك حبيبًا أو أخًا؟

وأجابتها فرانسي في بعض الصدق: نعم، لي أخٌ.

– إن قلبي معكِ يا آنسة نولان.

وعادت القارئة إلى مكتبها.

وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: لقد ثملت مرةً أخرى بسبب عنوان صحيفة هذه المرة، وإنها لسكرةٌ سيئة؛ لأنني فزعت إلى البكاء.

ولمست إصبع الحرب مكتب نماذج قصاصات الصحف وجعلته ينهار، وكان أول حدث هو أن العميل الذي كان عماد المكتب، ذلك الرجل الذي كان يدفع آلاف الجنيهات في السنة، ليحصل على قصاصات الصحف حول قناة بنما، وما إلى ذلك، جاء إلى المكتب في اليوم الذي تلا إعلان الحرب، وقال: سوف لا يكون له مقرٌّ ثابت إلى حين، وسوف يؤجر شخصًا كل يوم ليجمع له القصاصات.

وبعد أيامٍ قلائل جاء رجلان بطيئا الحركة ثقيلا الخطوة لمقابلة الرئيس، ودفع أحدهما راحته تحت أنف الرئيس، الذي شحب لونه حينما رأى ما كان في تلك الراحة، لقد أحضر رزمةً سميكة من القصاصات من سجل أكثر العملاء أهمية، وتفرس فيها الرجلان ثقيلا الخطو هنيهة، ثم أعاداها للرئيس الذي وضعها داخل مظروف، ووضع المظروف في مكتبه، وذهب الرجلان إلى دورة مياه الرئيس تاركين الباب مواربًا، وانتظرا هناك طول اليوم، وبعثا وقت الظهيرة بالصبي المخبر ليشتري لهما كيسًا من الشطائر، وقدرًا من القهوة، وتناولا غداءهما في دورة المياه.

وأقبل عميل قناة بنما في الرابعة والنصف، وناوله الرئيس المظروف المنتفخ بحركةٍ بطيئة، وما إن وضعه العميل في جيب معطفه الداخلي، حتى خطا الرجلان خطواتٍ ثقيلة خارج دورة المياه، وأمسك أحدهما بكتف العميل، فتنهد وأخرج المظروف من جيبه وسلمه لهما، وأمسكه الرجل الثاني ثقيل الخطو من كتفه، وقرع العميل كعبَيه معًا، وانحنى في جمودٍ وخرج من بين الرجلين، وعاد الرئيس إلى بيته يشعر بنوبةٍ حادة من سوء الهضم.

وأنبأت فرانسي أمها ونيلي تلك الليلة، كيف تم القبض على جاسوسٍ ألماني في عقر المكتب …

وأقبل في اليوم التالي رجلٌ يبدو عليه النشاط والخفة ومعه حقيبةٌ صغيرة، واقتضى الأمر أن يجيب الرئيس عن أسئلةٍ كثيرة، ودوَّن الرجل النشيط الإجابات في الفراغ المتروك على استمارةٍ مطبوعة، ثم حدث الشيء المحزن، فقد اضطر الرئيس إلى كتابة شيك بمبلغ أربعمائة دولار تقريبًا، وهي القيمة المستحقة لتسوية حساب الصفقة التي ألغاها رغم إرادته.

وانطلق الرئيس خارج المكتب بعد أن انصرف الرجل النشيط، ليستدين مالًا يسدد به الشيك.

وتبدد كل شيء من بعدُ، وخشي الرئيس أن يعقد صفقاتٍ جديدة مهما تبلغ براءة مظهرها، وكان موسم المسرح يولِّي أدباره وهبطت صفقات الممثلين، وغاض الفيض الذي كان على المكتب من الكتب التي تنشر في الربيع، وتجلب مئات العملاء من المؤلفين الموسميين الذين يدفعون خمسة دولارات، وعشرات العملاء من الناشرين الذين يدفعون مائة دولار، وغدا رذاذًا شحيحًا، وتجنبت دور النشر طبع المطبوعات الهامة حتى تستقر الأمور بعض الشيء، وألغى الكثيرون من الباحثين حساباتهم المفتوحة، متوقعين أن يُجنَّدوا في الحرب، بل إن المكتب لو سارت الأمور في مجراها الطبيعي، فسوف يكون خليقًا بأن يعجز عن تصريفها؛ لأن العمال بدءوا ينصرفون عن المكتب.

كانت الحكومة قد توقعت قلة في الرجال، ففتحت باب اختبارات الخدمة المدنية للنساء العاملات، في مكتب البريد الكبير القائم بشارع ٣٤.

وتقدمت معظم القارئات للاختبار ونجحن فيه وطُلبن للعمل فورًا، وهجر العمال اليدويون أو أعضاء المنتدى المكتب في حشد، ليعملوا في مصانع المشروعات الحربية، ولم يحصلوا على ثلاثة أضعاف أجورهم فحسب، بل حصلوا على تقريظٍ كبير من أجل وطنيتهم التي تقوم على إنكار الذات، وعادت زوجة الرئيس لتقرأ بالمكتب، وفصل الرئيس بقية القارئات جميعًا ما عدا فرانسي.

ورن صدى الخواء في الطبقة العليا الواسعة، حين حاول ثلاثتهم أن يقوموا بالعمل وحدهم، وراح الرئيس يقص الصحف في عجزٍ وقصور، ويطبع الحواشي طبعًا غير واضح، ويلصق الموضوعات في اعوجاج.

وسلم بالأمر في منتصف يونيو، وأجرى الترتيبات لبيع أدوات مكتبه وفسخ عقد الإيجار، وسوَّى أمر سداد ما عليه من مالٍ للعملاء ببساطةٍ بالغة قائلًا: فليقاضوني!

وطلبت فرانسي تليفونيًّا مكتب القصاصات الآخر الوحيد الذي تعرفه في نيويورك، وسألت هل يحتاجون إلى قارئةٍ، وأنبئوها أنهم لا يؤجرون أبدًا قارئاتٍ جديدات، وقال لها صوتٌ في لهجةٍ قاطعة: إننا نعامل قارئاتنا معاملةً طيبة، ولا يضطرنا الأمر أبدًا إلى استبدالهن.

وظنت فرانسي أن ذلك شيءٌ رائع، وقالت ذلك، ثم وضعت السماعة.

وقضت صباح يومها الأخير في المكتب تؤشر على الإعلانات التي تطلب المساعدة وأهملت وظائف المكاتب، وقد علمت أن الأمر سيضطرها إلى أن تبدأ كاتبة سجل مرةً أخرى، وكان من العسير على المرء أن يجد فرصة العمل في مكتب، إلا إذا كان كاتب اختزال أو كاتبًا على الآلة الكاتبة، وقد آثرت فرانسي على أية حال العمل في المصنع؛ لأنها كانت تحب جمهور المصنع أكثر من غيرهم، وكانت تؤثر أيضًا أن تترك عقلها حرًّا، وهي تشتغل بيديها، ولكن أمها بطبيعة الحال لم تكن خليقة بأن تسمح لها بالعودة إلى العمل في المصنع.

ووجدت إعلانًا بدا لها أنه يجمع لحسن التوفيق بين المصنع والمكتب، وهو الاشتغال على آلةٍ في مكتب، وقد عرض اتحاد المراسلة على الفتيات أن يعلمهن تشغيل آلة الكتابة البرقية، ويدفع لهن اثنى عشر دولارًا ونصف دولار في الأسبوع أثناء التعليم، على أن تكون ساعات العمل من الخامسة مساء إلى الواحدة صباحا، وكان ذلك خليقًا بأن يشغل أمسيات فرانسي على الأقل، إذا حصلت على هذه الوظيفة.

ولما ذهبت لتودع الرئيس قال لها: إن الواجب يقتضيه أن يعترف بأن لها في ذمته أجر الأسبوع الأخير، وقال إن لديه عنوانها وسوف يرسله لها، وودعت فرانسي الرئيس وزوجته، وطلبت من الله أن يعوضها في أجرها عن الأسبوع الأخير.

وكان لاتحاد المراسلة مكتب في أعلى ناطحة من ناطحات السحاب، يطلُّ على نهر إيست في مدينة نيويورك، وملأت فرانسي ضمن عشرات الفتيات الأخريات طلب العمل، بعد أن قدمت خطاب التوصية الذي كتبه رئيسها السابق وامتدحها فيه بحماسة، وأدت اختبار الذكاء الذي أجابت فيه عن أسئلةٍ بدت لها تافهة مثل: أيهما أثقل وزنًا؛ رطل من الرصاص أم رطل من الريش؟ والواضح أنها اجتازت الاختبار بنجاحٍ لأنهم سلموها رقمًا، ومفتاح قفل اقتضاها الأمر أن تدفع فيه ربع دولار، وطلبوا منها أن تعود في اليوم التالي في الساعة الخامسة مساءً.

ولم تكن الساعة قد بلغت الرابعة تمامًا حين عادت فرانسي إلى البيت، وكانت كاتي منهمكة في تنظيف مسكنهم، وبدا عليها الانزعاج حين رأت فرانسي تصعد السلم: لا تنزعجي هكذا يا أمي، إنني لست مريضةً، ولم يصبني شيء.

وقالت كاتي وقد هدأت نفسها: أوه! لقد ظننت لحظةً أنك فقدت وظيفتك.

– لقد فقدتها.

– واكرباه!

– ولن أحصل على أجر أسبوعي الأخير أيضًا، ولكني حصلت على وظيفةٍ أخرى، تبدأ غدًا … اثنا عشر دولارًا ونصف دولار في الأسبوع، وإني أتوقع أن أحصل على زيادةٍ في أجري بمرور الوقت.

وطفقت كاتي تلاحقها بالأسئلة.

– أمي! إني متعبةٌ، أمي لا رغبة لي في الحديث، وسوف نتكلم عن ذلك غدًا، كما أنني لا أريد أن أتناول عشائي، وإنما أرغب في الذهاب إلى فراشي فحسب.

وصعدت السلم، وجلست كاتي على درجات السلم وبدأت تشعر بالقلق، إن أسعار الطعام وغيره من الأشياء جميعًا قد ارتفعت ارتفاعًا هائلًا منذ قيام الحرب، وعجزت كاتي في الشهر الماضي أن تضيف شيئًا إلى حساب فرانسي بالبنك؛ إذ لم تكفهم عشرة دولارات في الأسبوع، وكان لا بد من أن تشرب رطلًا من اللبن الطازج كل يوم، وقد كان بديل اللبن مرتفع الثمن، ثم كان الأمر يقتضي أن يتوافر لديهم عصير البرتقال، والآن سوف يتبقى لهم من الاثنى عشر دولارًا ونصف دولار في الأسبوع، بعد إسقاط نفقات فرانسي، مبلغٌ قليل، ولسوف تحل الإجازة سريعًا فيستطيع نيلي أن يشتغل في الصيف، ولكن ماذا يكون الأمر في الخريف؟ يسوف يعود نيلي إلى المدرسة الثانوية، ويقتضيهم ذلك أن تذهب فرانسي إلى المدرسة الثانوية ذلك الخريف، كيف يكون ذلك؟ كيف؟ وجلست هناك وقد استبدَّ بها القلق.

وخلعت فرانسي ملابسها بعد أن ألقت نظرةً عابرة على الطفلة النائمة وذهبت إلى فراشها، وثنت يديها تحت رأسها، وحملقت في الرقعة الرمادية التي على نافذة بئر التهوية.

وقالت بينها وبين نفسها: لقد بلغت الآن الخامسة عشرة، وها أنا ذي أسبح في لجة الحياة على غير هدًى، لقد اشتغلت منذ أقل من عام، وحصلت على ثلاث وظائف إلى الآن، ودرجت على التفكير بأن من الطريف أن أنتقل من وظيفةٍ إلى أخرى، ولكني الآن أشعر بالخوف، وفُصلت من وظيفتَين دون ذنبٍ اقترفته، وكنت أبذل في كل وظيفة غاية جهدي، وضحَّيت بكل ما أستطيع، وإنني الآن أعود وأبدأ من جديدٍ في مكانٍ آخر، وها أنا ذي أشعر الآن فحسب بالفزع، وأنا خليقةٌ في هذه المرة بأن أقفز مرتين، إذا قال الرئيس الجديد اقفزي مرة؛ لأنني أخشى أن أفقد وظيفتي، نعم، إني مرتاعةٌ لأنهم يعتمدون عليَّ هنا في الحصول على المال، وإني لأتساءل كيف كنا نشق طريقنا في الحياة قبل أن أعمل؟ لم تكن لوري موجودة آنذاك، وكنت أنا ونيلي أصغر سنًّا، ونستطيع أن ندبر أمورنا بنفقاتٍ أقل، وكان أبي بلا شك يبذل لنا بعض العون.

– إذن … وداعًا أيتها الكلية، وداعًا يا كل شيء، من أجل هذا …

وأشاحت بوجهها عن الضوء الرمادي وأغمضت عينَيها.

وفي صبيحة اليوم التالي جلست فرانسي إلى آلةٍ كاتبة في حجرة، وقد غُطي سطح الآلة بغطاءٍ معدنيٍّ محكم، حتى إنها لم تستطع أن ترى دساتينها، ورأت لوحةً كبيرة رسم عليها شكل هندسي للدساتين علقت في واجهة الحجرة، واستعانت فرانسي باللوحة، وتلمست الحروف تحت الغطاء المعدني، كان ذلك هو يومها الأول.

وفي اليوم الثاني تسلمت فرانسي رزمةً من البرقيات القديمة لنسخها، وراحت عيناها تنتقلان من النسخة إلى اللوحة، بينما كانت يداها تتلمسان الحروف، وفي نهاية اليوم الثاني كانت قد حفظت مواضع الحروف على الآلة، ولم تعد بحاجةٍ إلى أن تستعين باللوحة، ونزعوا الغطاء المعدني بعد أسبوع، ولم تجد فرانسي فارقًا بين الحالتين الآن؛ فقد أصبحت تكتب على الآلة الكاتبة بطريقة اللمس.

وشرح لها معلمٌ طريقة عمل آلة الكتابة البرقية، وقضت فرانسي يومًا في التمرن على إرسال الرسائل واستقبالها، ثم عُينت في قسم البرقيات من نيويورك إلى كليفلاند.

واعتقدت فرانسي أنها لعجيبةٌ أن تستطيع الجلوس إلى تلك الآلة وتكتب، فتخرج الكلمات على بعد مئات الأميال على قطعة ورق تدور على بكرة آلة في كليفلاند بولاية أوهايو، وكان هناك شيءٌ آخر لا يقل عجبًا عن سابقه؛ ذلك أن فتاةً أخرى كانت تكتب على الآلة الكاتبة في كليفلاند تتحمل مطارق آلة فرانسي على أن تضرب الكلمات على الورق.

وكان عملًا سهلًا، ترسل فرانسي البرقيات ساعة، ثم تستقبلها ساعةً، وتستريح بين هذا وذاك ربع ساعة مرتين، وتحصل على نصف ساعة للعشاء في الساعة التاسعة، وزاد أجرها إلى خمسة عشر دولارًا في الأسبوع حين اشتغلت في البرق، ومع كلٍّ فإن الوظيفة كانت لا بأس بها.

وعُدِّلت أعمال البيت وفقًا لنظام فرانسي الجديد، وكانت فرانسي تغادر البيت بعد الرابعة مساءً مباشرة، وتعود إليه قبل الثانية صباحًا بقليل، وتضغط زر الجرس ثلاث مرات قبل أن تدخل الردهة، حتى تتنبه أمها وتتأكد من عدم تعرض فرانسي لهجوم رجل يقف في الردهات.

وكانت فرانسي تنام حتى الحادية عشرة صباحًا، ولم تعد الأم مضطرةً إلى أن تستيقظ في باكورة الصباح؛ لأن فرانسي كانت مع لوري في المسكن، وبدأت عملها في بيتها أولًا، وما إن يحل الوقت الذي تستعد فيه للعمل في البيتَين الآخرَين، حتى تكون فرانسي قد استيقظت وتعهدت لوري، وكان الأمر يقتضي فرانسي أن تعمل ليلة السبت، ولكنها كانت تستريح ليلة الأربعاء.

وأحبت فرانسي النظام الجديد، فقد شغل أمسياتها الموحشة وساعد أمها، ومنح فرانسي ساعاتٍ قلائل كل يوم، تجلس خلالها مع لوري في المتنزه، وأفادت حرارة الشمس كلتيهما فائدةً كبيرة.

وتبلورت فكرة في رأس كاتي فحدثت فرانسي بها، وسألتها: هل سيكلفونك بعمل الليل دائمًا؟

– أو يفعلون! إن وقتهم مزدحمٌ بالعمل إلى حد التخمة، وما من فتاةٍ تريد أن تعمل بالليل؛ ولذلك فهم يفرضونه على الفتيات الجديدات.

– كنت أتصور أنكِ تستطيعين في الخريف أن تواصلي عمل الليل، وتذهبي إلى المدرسة الثانوية نهارًا، وإني لأعلم أنه سوف يكون أمرًا شاقًّا، ولكن يمكنك أن تقومي به على نحوٍ ما.

– أمي! إنني لن أذهب إلى المدرسة الثانوية مهما قلتِ.

– ولكنكِ ناضلت لتذهبي إليها في العام الماضي.

– حدث ذلك في العام الماضي، وكان ذلك هو الوقت المناسب للذهاب، ولكن فات الأوان الآن.

– لم يفت الأوان، فلا تكوني عنيدة.

– ولكن أي شيء في العالم يمكنني أن أتعلمه في المدرسة الثانوية الآن؟ أوه! أنا لست مغرورةً أو أتصف بأي شيءٍ من هذا القبيل، فقد ظللت أقرأ ثماني ساعات في اليوم مدة تقرب من عام، وتعلمت أشياء وكوَّنت أفكاري الخاصة عن التاريخ والحكم والجغرافيا والكتابة والشعر، وقرأت الكثير عن الناس؛ ماذا يفعلون وكيف يعيشون، وقرأت عن الجرائم وعن البطولات، أمي! لقد قرأت عن كل شيء، ولا يمكنني الآن أن أجلس ساكنةً في فصلٍ بين حشدٍ من الأطفال، وأستمع إلى معلمةٍ عانس يسيل لعابها على هذا وذاك، ولو فعلت لكنت خليقةً بأن أقفز من مقعدي، وأصحح لها خطأها طول الوقت، أو أجلس هادئةً وأبتلع ذلك كله في صمتٍ، وحينئذٍ أكره نفسي … أجل … آكل الذرة المسلوقة بدلًا من الخبز؛ ولذلك فإني لن أذهب إلى المدرسة الثانوية، ولكني سأذهب إلى الكلية في يومٍ من الأيام.

– ولكن الأمر يقتضيك أن تنتهي من صفوف الدراسة الثانوية، قبل أن يسمحوا لك بدخول الكلية.

– أربع سنوات في المدرسة الثانوية … لا خمس سنوات؛ لأن هناك شيئًا خليقًا بأن يحدث ويؤخرني، ثم أربع سنوات في الكلية، إنني سوف أصبح عانسًا ذابلة في الخامسة والعشرين قبل أن أنتهي من الدراسة.

– سوف تبلغين الخامسة والعشرين في حينه، أردتِ أم لم تريدي، وبصرف النظر عما تفعلين، وقد يمكنك أيضًا أن تتعلمي، وأنت في طريقك إلى بلوغ هذه السن.

– أقولها للمرة الأخيرة يا أمي: إنني لن أذهب إلى المدرسة الثانوية.

وقالت كاتي وفكها يتخذ شكلًا مربعًا: سوف نرى.

ولم تزد فرانسي، ولكن فكها اتخذ شكل فك أمها.

على أن المناقشة هَدَتْ فرانسي إلى فكرة، إذا كانت أمها قد فكرت في أنها تستطيع العمل ليلًا، والذهاب إلى المدرسة الثانوية نهارًا، فلم لا يمكنها أن تذهب إلى الكلية على هذا النحو؟ وفحصت إعلانًا في صحيفةٍ يقول: إن أعرق كليات بروكلين وأوسعها شهرة تعلن عن دراساتٍ صيفية لطلاب الكليات، الذين يرغبون في أداء دراسات عليا أو تعويض ما فاتهم من دراسات، ولطلاب المدارس الثانوية الذين يرغبون في تحصيل الدراسات العالية في الكلية، وظنت فرانسي أنها يمكن أن تدخل ضمن المجموعة الأخيرة، ولم تكن هي بالمعنى الدقيق طالبة بالمدارس الثانوية، ولكنها كانت أهلًا لأن تكون كذلك، وأرسلت في طلب منهاج الدراسة.

وانتقت من القائمة ثلاث دراسات تجتمع فصولها بعد الظهيرة، فيمكنها أن تنام كالعادة حتى الحادية عشرة وتحضر الدروس، ثم تذهب إلى عملها من الكلية مباشرة، واختارت مبادئ اللغة الفرنسية، ومبادئ الكيميا، ودراسة تسمى المسرحية في عهد عودة الملكية، وفكرت في أجر التعليم، وكان يزيد على ستين دولارًا بقليل، بما في ذلك نفقات المعمل، وكانت فرانسي تمتلك مائة وخمسة دولارات رصيدها المدخر، فذهبت إلى كاتي: أمي! أيمكنني أن أسحب خمسة وستين دولارًا من المال الذي تدخرينه لي للكلية؟

– لماذا؟

– للكلية بطبيعة الحال؟

وكانت فرانسي تعي المأساة التي ستعقب ذلك، وقد جوزيت على ذلك بصوت الأم، الذي ارتفع عاليًا وهي تردد وراء فرانسي: الكلية؟

– الكلية الصيفية.

وسال لعاب كاتي قائلة: ولكن، ولكن … ولكن …

– أعلم أنني لم أذهب إلى المدرسة الثانوية، ولكن قد أستطيع أن أُقبل لو أنبأتهم، بأنني لا أريد الحصول على الدبلوم أو أية درجةٍ عالية، وإنما أريد تحصيل الدروس فحسب.

وأخذت كاتي قبعتها الخضراء من فوق رف الصوان: إلى أين أنت ذاهبة يا أمي؟

– إلى المصرف لأحضر المال.

وضحكت فرانسي من لهفة أمها: لقد انقضت ساعات على إغلاق المصرف، ثم إنه ليس هناك ما يدعو إلى العجلة، فلا يزال أمامنا أسبوع لتسجيل اسمي.

وكانت الكلية في مرتفعات بروكلين، وهو حيٌّ آخر غريب عن بروكلين العظيمة، ينتظر فرانسي أن تستكشفه، وبينما هي تملأ ورقة التسجيل حوم قلمها حول السؤال الخاص بالتعليم السابق والذي يليه، وكان ثلاثة عناوين هي: المدارس الابتدائية، المدارس الثانوية، الكليات، وبعد لحظة تفكير حذفت فرانسي هذه الكلمات، وكتبت في الفراغ الذي يعلوها «تعليمٌ خاص».

وطمأنت نفسها قائلة: وإنك حينما تسألين عنه فسوف، لا يكون ما كتبته كذبًا.

ولم ترفضها الكلية بأي حال؛ مما أثار دهشتها الشديدة، وطمأن نفسها كل الاطمئنان، وتسلم الصرَّاف المصروفات وسلمها إيصالًا عن أجر التعليم، وأعطيت رقم تسجيل وترخيص بدخول المكتبة، وجدولًا لدروسها، وقائمة بالكتب الدراسية التي تحتاج إليها.

وتبعت فرانسي حشدًا ذاهبًا إلى محل بيع كتب الكلية القائم في مكانٍ بعيد أسفل المنطقة، ونظرت في قائمتها، وطلبت كتابَي «مبادئ اللغة الفرنسية ومبادئ الكيمياء».

وسألها البائع: جديدًا أم مستعملًا؟

– لا أدري، ماذا يجب عليَّ أن أختاره؟

وقال البائع: جديدًا.

وشعرت بيدٍ تلمس كتفها فاستدارت ورأت فتى وسيمًا أنيقًا، وقال: اشتري الكتاب المستعمل، فإنه يؤدي ما يؤديه الكتاب الجديد، ولكنه بنصف الثمن.

– أشكرك.

والتفتت إلى البائع وقالت في حزم: مستعمل.

وبدأت تطلب الكتابَين اللازمَين لدراسة المسرحية، وعادت تشعر باليد تلمس كتفها.

وقال الفتى نافيًا: لا، لا، يمكنك أن تقرئيهما في المكتبة قبل الدراسة وبعدها وفي أثناء الفواصل.

وقالت: أشكرك مرةً أخرى.

وأجابها: لا عليك.

واستدار مبتعدًا، وتبعته عيناها وهو يمضي خارج المحل، وقالت بينها وبين نفسها: أوه! إنه طويل القامة، وسيم، إن الكلية لشيءٌ رائع بلا شك.

وجلست في القطار المعلق في طريقها إلى المكتب، تمسك الكتابَين بقوة، وخُيِّل إليها أن صرير القطار فوق قضبانه الحديدية يقول في رتابة: الكلية الكلية الكلية، وبدأت فرانسي تشعر بالدوار، وأحست بإعياءٍ شديد حتى إن الأمر اقتضاها أن تهبط من القطار في المحطة التالية، بالرغم من أنها تعلم أنها خليقةٌ بأن تتأخر عن عملها، واتكأت على ميزان يزن الشخص نظير بنس، وقد تحيرت ما الذي ألمَّ بها، ولم يكن من الممكن أن يكون السبب طعامًا أكلته؛ لأنها نسيت أن تتناول غداءها، ثم داهمتها فكرةٌ مفزعة: إن جدَّيَّ لم يعرفا قط القراءة أو الكتابة، وهؤلاء الذين عاشوا قبلهما لم يستطيعوا القراءة أو الكتابة، وإن شقيقة أمي لا تستطيع أن تقرأ أو تكتب، وإن أبويَّ لم يتخرجا حتى في المدرسة الابتدائية، وإني لم أذهب قط إلى المدرسة الثانوية، ولكني أنا م. فرانسيس نولان ملتحقة الآن بالكلية، أتسمعين ذلك يا فرانسي؟ أنت في الكلية! أوه، إنني أشعر بالدوار.

٤٩

وعادت فرانسي من أول محاضرةٍ لها في الكيميا تغمرها السعادة، لقد اكتشفت في ساعةٍ أن كل شيء صنع من ذراتٍ في حركةٍ دائمة، واستوعبت الفكرة بأنه ما من شيءٍ يتلاشى أبدًا أو يتحطم، بل إنه إذا حرق شيء أو ترك ليفسد، فإنه لا يتلاشى من فوق ظهر الأرض، وإنما يتحول إلى شيءٍ آخر من الغازات أو السوائل أو المساحيق، وقررت فرانسي بعد المحاضرة الأولى أن كل شيء ينبض بالحياة، وأنه ليس هناك موت في عالم الكيميا، وتحيرت لم لا يتخذ المتعلمون من الكيميا دينًا.

وكانت المسرحية في عهد عودة الملكية، بصرف النظر عما تتطلبه من وقتٍ للقراءة، سهلة التناول بعد دراسة فرانسي لشكسبير في البيت، ولم تقلق بشأن هذه الدراسة، ولا بشأن دراسة الكيميا، ولكنها شعرت بالضياع حين بدأت تتعلم مبادئ اللغة الفرنسية، ولم تكن حقًّا مبادئ اللغة الفرنسية؛ ذلك أن المدرس اعتقد أن الطلاب درسوا هذه المبادئ من قبلُ ورسبوا فيها، أو أنهم درسوها من قبل في المدرسة الثانوية، فمر مرورًا سريعًا على الأجزاء الأولية ثم دخل في الترجمة، ولم تستطع فرانسي — وهي ضعيفةٌ في علم النحو والهجاء والترقيم في اللغة الإنجليزية — أن تفهم اللغة الفرنسية، ولم تكن خليقة بأن تجتاز امتحانها أبدًا، وكل ما تستطيعه هو أن تحفظ المفردات كل يوم محاولة أن تساير زملاءها.

وراحت تدرس في ذهابها وعودتها بالقطار المعلق، وتدرس في أوقات راحتها، وتتناول طعامها وقد برز أمامها كتاب على المائدة، وتكتب واجباتها على الآلة الكاتبة في حجرة التعلم لاتحاد المراسلة، ولم تتأخر عن عملها قط أو تتخلف، ولم تطلب شيئًا أكثر من أن تجتاز امتحانَين على الأقل من دراساتها.

وأصبح الفتى الذي عاونها في محل الكتب ملاكها الحارس، وكان اسمه بن بليك، وهو فتًى عجيب كل العجب، طالب بالصف النهائي في مدرسة ماسبث الثانوية، ومحرر مجلة المدرسة، ورئيس فصله، يلعب ظهيرًا مساعدًا في فريق كرة القدم، وكان طالبًا حائزًا على مرتبة الشرف، وكان يتلقى دراسات في الكلية في فصول الصيف الثلاثة الماضية، وخليقًا بأن ينتهي من دراسة المدرسة الثانوية، حين يكون قد اجتاز من دراسة الكلية ما يزيد على عام.

وكان إلى جانب دراساته يقضي وقته بعد الظهيرة في العمل بمكتبٍ من المكاتب القانونية، يعد الدعاوى، ويتولى أمر الحضور، ويفحص العقود والسجلات، ويبحث عن السوابق، وكان قد ألف قوانين الولاية وأصبح قادرًا على تناول قضية في محكمة، ويكتسب خمسة وعشرين دولارًا في الأسبوع إلى جانب تفوقه في الدراسة، وقد أراد له المكتب أن يشتغل فيه كل الوقت بعد تخرجه في المدرسة الثانوية، ويقرأ القانون معهم، ثم يمر أخيرًا بامتحان شهادة التأهيل للمحاماة، ولكن بن كان يهزأ بالمحامين غير الجامعيين، واختار كليةً عظيمة في الغرب الأوسط، وصمَّم على أن يكمل دراسته ليحصل على درجة البكالوريوس، ثم يلتحق بمدرسة القانون.

وكان هو في التاسعة عشرة من عمره قد رسم لحياته طريقًا مستقيمًا لا يحيد، وبعد أن حصل على شهادة التأهيل للمحاماة تهيأ ليشتغل بالمحاماة في الريف، واعتقد أن المحامي الناشئ يجد في العمل بالبلدة الصغيرة فرصًا سياسية أكثر، بل إنه قد اختار العمل بالفعل، فقد كان عليه أن يخلف قريبًا له من بعيد، وهو محامٍ مسن في الريف رسخت أقدامه في ممارسة المهنة، وكان على اتصالٍ دائم بسلفه المقبل، يتلقى منه كل أسبوع رسائل إرشاد وتوجيه.

ودبر بن أن يمارس هذه المهنة وينتظر دوره في تولي منصب مدعي القرية (وكان المحامون قد اتفقوا على تبادل هذه الوظيفة في هذه المقاطعة الصغيرة فيما بينهم على التوالي)، إن ذلك خليقٌ بأن يكون بداية حياته السياسية، وسوف يكد في العمل، ويسعى إلى أن يكون مشهورًا أهلًا للثقة، ثم ينتخب أخيرًا عضوًا لمجلس نواب الولاية، وسوف يخدم الناس مخلصًا فيعاد انتخابه، ثم يعود إلى المدينة ويعمل من أجل أن يصبح حاكم ولايته، تلك كانت خطته.

والعجيب في هذه القصة كلها أن هؤلاء الذين عرفوا بن بليك، كانوا على يقين من أن كل شيء سوف يتحقق على نحو ما دبر هو.

وفي أثناء ذلك الصيف لسنة ١٩١٧م، كانت ولاية الغرب الأوسط المترامية الأطراف، والتي هي هدف وأطماع بن وآماله، ترقد حالمةً تحت شمس البرية الدافئة، ترقد حالمة وسط حقول قمحها الفسيحة، وبساتين كرومها الممتدة إلى ما لا نهاية تنبت فيها الأعناب والتفاح، ترقد حالمةً لا تدري أن الرجل الذي يدبر خطته ليشغل كرسيًّا في بيتها الأبيض كأحدث حاكم لها، كان في تلك اللحظة فتًى في بروكلين.

كان ذلك هو بن بليك، الأنيق، المرح، الوسيم، اللماح، الواثق بنفسه، المحبوب من زملائه الفتيان، والذي تهيم به الفتيات جميعًا، ويخفق له قلب فرانسي نولان بالحب.

وكانت تراه كل يوم، ويبرق قلمه وهو يجوس خلال واجباتها في اللغة الفرنسية، ويراجع عملها في الكيميا ويشرح لها ما يتعذر عليها فهمه في مسرحيات عهد عودة الملكية، وساعدها في رسم خطة دراساتها للصيف المقبل، وحاول في كرمٍ أيضًا أن يرسم لها بقية خطة حياتها.

وأحزن فرانسي شيئان حين أوشك الصيف على الانتهاء، ذلك أنها سرعان ما تعجز عن رؤية بن كل يوم، وأنها لن تجتاز امتحان اللغة الفرنسية، وباحت لبن بسبب حزنها الأخير.

وقال لها في خفة: لا تكوني بلهاء، لقد دفعتِ أجر الدراسة، وحضرتِ الدروس كل الصيف، إنك لستِ ضعيفة العقل، وسوف تجتازين الامتحان بجدارة.

وضحكت قائلة: لا، سوف أرسب في الامتحان بجدارة.

– إذن أظن الأمر يقتضينا أن نحشد ذهنك بالمعلومات لاجتياز الامتحان الأخير، وسوف نحتاج إلى يومٍ كامل. وبعدُ، إلى أين نستطيع أن نذهب؟

واقترحت فرانسي في تهيب: إلى بيتي؟

– لا، سوف يكون هناك أناس.

وفكر لحظةً وقال: أنا أعرف مكانًا مناسبًا، قابليني صباح الأحد في الساعة التاسعة عند منعطف شارعي جيتس وبرودواي.

وكان في انتظارها حين هبطت من عربة التروللي، وتساءلت فرانسي: ترى إلى أي مكانٍ في العالم يأخذها في ذلك الحي، وصحبها إلى الباب الخلفي لمسرحٍ في برودواي قائم عند أول ثنية في الطريق، ودخل من الباب السحري لمجرد قوله للرجل ذي الشعر الأبيض، الجالس في الشمس على كرسيٍّ منحرف بجوار الباب المفتوح: «صباح الخير يا بوب.»

ولم تكن قد دخلت إلى المسرح الخلفي من قبلُ، وبلغت بها النشوة حدًّا كادت تشعر فيه بارتفاعٍ في حرارتها، وبدا المسرح فسيح الأرجاء، وبدا سقفه بعيدًا جدًّا كأنما هو مفقود، وبينما هي تعبر خشبة المسرح غيرت خطوتها، وسارت في بطءٍ بقدمٍ متصلبة، إذ تذكرت خطوات هارولد كلارنس، وحينما تكلم بن استدارت ببطءٍ في مبالغةٍ تمثيلية، وقالت بصوتٍ يخرج من حلقها: هل (وسكتت لحظةً لها مغزاها) تكلمت؟

وسألها: أتريدين أن تري شيئًا؟

وجذب الستار فرأت الستار المصنوع من الحرير الصخري، يلتف صاعدًا كأنه ظل ماردٍ ضخم، واستدار متجهًا إلى درجات مقدمة خشبة المسرح وسارت هي على هذه المقدمة، وتطلعت إلى آلاف المقاعد الشاغرة المكدسة تنتظر من يجلس عليها، وأمالت رأسها، وأطلقت صوتها إلى أعلى صف من صفوف الشرفة صائحة: مرحى، يا من هناك!

وبدا صوتها كأنما زادت قوته مئات المرات، وهو يتردد في الفراغ المظلم الذي يقبع منتظرًا، وسألها بروحٍ طيبة: استمعي إليَّ، هل أنت أكثر شغفًا بالمسرح، أو بدروسك في اللغة الفرنسية؟

– بالمسرح بلا شك!

وكانت تلك هي الحقيقة، وهنالك طلقت كل طموحها الآخر، وعادت إلى حبها الأول، ألا وهو المسرح.

وضحك بن وهو يقطع الدرجات، وأنزل الستار ووضع كرسيين متقابلين، وكان قد حصل — بطريقةٍ ما — على أسئلة الامتحانات في السنوات الخمس الماضية، ووضع لها أسئلة امتحان مثالية، مستعينًا بالأسئلة التي تكررت أكثر من غيرها، وتلك التي لم ترد إلا نادرًا، وقضى معظم اليوم يدرب فرانسي على تلك الأسئلة وإجاباتها، ثم حملها على أن تحفظ صفحةً من مسرحية موليير «طارطوف»، وترجمتها الإنجليزية، وقال مبينًا: سوف يوافيك في الامتحان غدًا سؤال يبدو لك كالطلسم، فلا تحاولي أن تجيبي عنه، وإنما افعلي هذا: اكتبي بصراحة أنك لا تستطيعين أن تجيبي عن السؤال، ولكنك تقدمين بدلًا منه مختارات من مسرحية موليير مع ترجمتها، ثم اكتبي ما حفظتِه، وسوف تخرجين بذلك من المأزق.

– ولكن افرض أنهم طلبوا تلك الفقرة بالذات في سؤالٍ من الأسئلة؟

– لن يفعلوا، لقد اخترت فقرةً غامضة كل الغموض.

والظاهر أنها خرجت من المأزق لأنها اجتازت امتحان اللغة الفرنسية، والحق أنها اجتازته بأقل الدرجات، ولكنها واست نفسها بفكرة أن اجتياز الامتحان هو اجتياز الامتحان، وأجادت كل الإجادة في امتحانَي الكيميا والمسرحية.

وعادت إلى الكلية بعد أسبوع، مراعية لإرشادات بن، طالبة نسخة طبق الأصل من درجاتها، ولقيت بن كما اتفقا من قبلُ، وصحبها إلى محل هيولر ليتناولا شراب الشوكولاتة المعالجة بالصودا، وسألها وهما يشربان الصودا: كم عمرك يا فرانسي؟

وحسبت عمرها بسرعة، كانت في الخامسة عشرة في البيت، وفي السابعة عشرة في العمل، وبن في التاسعة عشرة، ولم يكن خليقًا بأن يحدثها مرةً أخرى قط، إذا عرف أنها في الخامسة عشرة فحسب، ورأى ترددها فقال: إن أي شيء تقولينه قد يستخدم ضدك.

ووضعت شجاعتها فوق كفها، وارتجف صوتها، وقالت في جرأة: إنني … في الخامسة عشرة.

وأطرقت في خزيٍ.

– إني أميل إليك يا فرانسي.

وقالت بينها وبين نفسها: وأنا أحبك.

– إنني أميل إليكِ أكثر من أية فتاةٍ أخرى عرفتها في حياتي، ولكني بلا شك لا أجد وقتًا للفتيات.

وتجرأت على القول: إلى حد أنك لا تستطيع أن تدبر نصف ساعة يوم الأحد؟

– إن ساعات فراغي القليلة من نصيب أمي، فإني كل شيء في حياتها.

ولم تكن فرانسي قد سمعت عن السيدة ليك حتى تلك اللحظة، ولكنها كرهتها؛ لأنها استحوذت على ساعات فراغه كلها، وكان القليل منها خليقًا بأن يضفي على فرانسي السعادة، ومضى يقول: ولكني سوف أفكر فيكِ، وأراسلك لو ملكت لحظةً من الوقت. (وكان يسكن في منطقةٍ تبعد عن فرانسي نصف ساعة)، على أنك إذا شعرت بالحاجة إليَّ في أي وقت — على ألا يكون ذلك بطبيعة الحال لأي سببٍ تافه — فاتركي لي كلمة، وسوف أحاول أن أراكِ.

وأعطاها بطاقةً من بطاقات المكتب تحمل اسمه كاملًا في طرفها، وهو بنيامين فرانكلين بليك، وافترقا خارج محل هيولر بعد أن تصافحا في حرارة، واستدار صائحًا وهو يمضي مبتعدًا: سأراكِ في الصيف المقبل.

ووقفت فرانسي تنظر خلفه حتى التفت بالمنعطف، الصيف المقبل! إنها في شهر سبتمبر فحسب، وبدا لها الصيف المقبل كأنه بعيدٌ آلاف الآلاف من السنين.

واستمتعت فرانسي بالمدرسة الصيفية كل الاستمتاع، حتى أرادت أن تحصل على الشهادة الثانوية من الكلية نفسها في ذلك الخريف، ولكنها لم تجد وسيلة ما تدفع بها مصروفات الدراسة المطلوبة التي تزيد على ثلاثمائة دولار، وفي صباح يوم قضته في فحص قوائم الكليات بمكتبة نيويورك في الشارع الثاني والأربعين، اكتشفت كلية للنساء، التعليم فيها بالمجان لسكان نيويورك.

ومضت تسجل اسمها متسلحةً بصورةٍ طبق الأصل من درجاتها، وأنبئوها أنها لا تستطيع أن تحصل على الشهادة الثانوية وهي تفتقد الدراسة الثانوية، وبينت لهم كيف سُمح لها بدخول المدرسة الصيفية … آه! كان ذلك مختلفًا، فإن الدراسات تعطى هناك للعلم فحسب، ولا تمنح الدرجات في الدراسات الصيفية، وسألت هل تستطيع أن تحضر الدراسات الآن دون أن تنتظر شهادة؟ لا، إلا إذا كانت قد جاوزت الخامسة والعشرين، فإنه يسمح لها أن تلتحق بالكلية كطالبةٍ خاصة، وتتلقى الدروس دون أن ترشح للشهادة، واعترفت فرانسي آسفة أنها لم تبلغ الخامسة والعشرين بعدُ، وكان هناك حلٌّ آخر لذلك على أي حال، فإذا استطاعت أن تجتاز امتحان القبول أو المعادلة، فإنها خليقة بأن تُقبَل، بصرف النظر عن شهادة المدرسة الثانوية.

وحضرت فرانسي الامتحان، ورسبت في كل المواد ما عدا الكيميا.

وقالت لأمها: كان يجب عليَّ أن أعلم أنه إذا كان الناس يستطيعون أن يدخلوا الكلية بذلك اليسر، لما اهتم أحدٌ بدخول المدرسة الثانوية، ولكن لا تشغلي بالك يا أمي، لقد عرفت ما هي امتحانات القبول الآن، وسوف أشتري الكتب وأدرس، وأدخل هذه الامتحانات في العام المقبل، وأنجح في العام المقبل، وهو عملٌ يمكن للمرء أن يفعله، ولأفعلنه، وسوف ترين.

ولكنها لم تكن خليقة بأن تفعل، حتى ولو استطاعت أن تدخل الكلية؛ لأنها عُينت في عمل النهار بالرغم من كل شيء، وأصبحت كاتبة برقيات سريعةً خبيرة، فاحتاجوا إليها في النهار حين يزدحم العمل، وأكدوا لها أنها تستطيع أن تعود إلى عمل الليل في الصيف إن شاءت، وحصلت على الزيادة التالية في أجرها، وأصبحت تكتسب سبعة عشر دولارًا ونصف دولار في الأسبوع.

وعادت الوحدة إلى أمسياتها، وراحت فرانسي تطوف بشوارع بروكلين في ليالي الخريف البديعة، وتفكر في بن.

(إذا شعرتِ بالحاجة إليَّ في أي وقت فاتركي لي كلمة، وسوف أحاول أن أراكِ.)

نعم، لقد كانت تحتاج إليه، ولكنها على يقين من أنه لن يأتي إذا كتبت له: إنني أشعر بالوحدة، تعالَ إليَّ أرجوك لتسير معي وتتحدث إليَّ؛ فلم يكن في جدول حياته الصارم أي عنوان يسمى «الوحدة».

وبدا لها الحي هو نفس الحي، بالرغم من أنه كان مختلفًا، فقد ظهرت نجومٌ ذهبية في بعض نوافذ المساكن، وكان الصبية لا يزالون يتجمعون في المساء عند المنعطف، أو أمام محل يبيع الحلوى ببنس، ولكن كان من المنتظر الآن على غير العادة أن يكون صبي من الصبيان مرتديًا الزي العسكري.

ووقف الصبية يترنمون، وغنوا أغنية «كوخ في بلدةٍ من الأكواخ القديمة»، وأغنية «حين تتحلين بزهرة السنبل»، وأغنية «عزيزتي الفتاة الحميمة»، وأغنية «إني آسف، لأني أبكيتك» وغيرها من الأغاني.

وكان الصبي المجند يقودهم أحيانًا إلى أغاني الحرب: أغنية «هنالك» وأغنية «كا – كا – كا – كاتي»، وأغنية «وردةٌ تنمو في الشقة الحرام».

ولكن بصرف النظر عن الأغنية التي يغنونها، فقد كانوا يختمون دائمًا بأغنيةٍ من أغاني بروكلين الشعبية، مثل أغنية «الأم ماكري»، وأغنية «حينما تبتسم العيون الأيرلندية»، وأغنية «دعيني أناديك يا حبيبتي»، وأغنية «لقد واصلت الفرقة الموسيقية العزف».

ومرت بهم فرانسي في الأمسيات، وتحيَّرت لم ترنُّ هذه الأغاني جميعًا في أذنها حزينةً كل الحزن!

٥٠

توقعت سيسي أن تلد طفلها في أواخر شهر نوفمبر، وعانت كاتي وإيفي مشكلاتٍ كثيرة لتتفاديا مناقشة الأمر مع سيسي، وكانتا على يقينٍ من أن الطفل لا بد أن يولد ميتًا أيضًا، وذهبتا إلى أنه كلما قل الحديث عنه قلت ذكراه عند سيسي من بعدُ، ولكن سيسي قامت بعملٍ ثوريٍّ، حتى إن الأمر اقتضاهما أن تتحدثا عنه؛ لأنها أعلنت أنها سوف تستدعي طبيبًا حين ولادة الطفل، وستذهب إلى المستشفى.

وذُهلت أمها وأخواتها لهذا النبأ، فلم يسبق قط لامرأة من آل روملي أن استدعت طبيبًا عند الولادة، ولم يبدُ ذلك لهن صوابًا؛ فالمرأة منهن كانت تستدعي قابلة أو جارة من الجارات أو أمها، وتنتهي من الأمر سرًّا خلف الأبواب المغلقة دون الرجال، فإن إنجاب الأطفال كان من شأن النساء، أما المستشفيات فالجميع يدركون أن من يذهب إليها إنما يذهب إلى الموت فحسب.

وأخبرتهما سيسي أنهما متخلفتان عن الزمن، وأن القابلات أصبحن أثرًا من آثار الماضي، ثم أنبأتهما في فخرٍ أنها لا رأي لها في الأمر، فقد صمم زوجها ستيف على استدعاء الطبيب والذهاب إلى المستشفى، ولم يكن ذلك كل ما في الأمر.

كانت سيسي تنوي استدعاء طبيب من غير دينها، وعللت ذلك لأختَيها المندهشتَين قائلةً: إن الأطباء من غير ديننا يكونون أحنى علينا من أطباء ملَّتنا في مثل هذا الوقت.

وقالت كاتي: ولكن أظن أنكِ خليقةٌ بأن تحتاجي إلى وجود طبيب من ملتكِ في وقت … (وهمَّت كاتي بأن تقول الموت لكنها أمسكت في الوقت المناسب) … في وقت الميلاد.

وقالت سيسي: عجبًا لكِ!

وقالت إيفي وهي تظن أنها تدلي بالحكمة: إن الطيور على أشكالها تقع.

وكانت هذه الولادة كالولادات الأخرى جميعًا، ولادة سيسي السهلة المعهودة، التي زادت مهارة الطبيب من سهولتها، وأغمضت سيسي عينَيها بقوةٍ حين ولد الطفل، كانت ترهب النظر إليه، وفي يقينها أن هذا الطفل سيعيش، ولكنها الآن، وقد حلَّ الوقت، شعرت من أعماقها أن الأمر سيكون على خلاف ذلك، وفتحت عينَيها أخيرًا، ورأت الطفل راقدًا على منضدةٍ قريبة، ساكنًا أزرق وأشاحت بوجهها عنه.

وقالت بينها وبين نفسها: مرةً أخرى وأخرى وأخرى، إحدى عشرة مرة، آه! يا إلهي، لم لا تشاء أن تهبني طفلًا؟ طفلًا واحدًا من أحد عشر؟ ولسوف تنقضي بعد سنواتٍ قلائل سنوات خصوبتي، كم هو مؤلم لامرأة تموت آخر الأمر، وهي تعلم أنها لم تنجب طفلًا حيًّا قط! آه يا إلهي! لمَ أنزلت عليَّ لعنتك؟!

ثم سمعت كلمة، سمعت كلمة لم تعرفها قط، كلمة «الأوكسيجين»! وسمعت الطبيب يقول: أسرعي! «الأوكسيجين»!

وراقبته وهو يسعف طفلها، ورأت كرامة تفوق كرامات القديسين التي كانت أمها حكت لها عنها، رأت الطفل الميت الأزرق يغدو حيًّا أبيض، رأت طفلًا ليست عليه سمة الحياة يتنفس، ولأول مرة في حياتها سمعت صراخ طفل ولدته، وسألت وهي تخشى أن تصدق ما وقع: هل هو … هل هو حي؟

وهزَّ الطبيب كتفيه، وقال في بلاغة: وما الذي يكونه غير ذلك؟ لقد أنجبتِ أجمل طفل رأيته في حياتي.

– أمتأكدٌ أنت أنه سيعيش؟

– ولمَ لا؟

وهزَّ كتفَيه مرةً أخرى: إلا إذا وقع منك من نافذةٍ في الطابق الثالث!

وأمسكت سيسي يديه وغمرتهما بالقبلات، ولم يشعر الدكتور أرون أرونشتين إزاء عاطفتها الجيَّاشة بالحرج، الذي كان خليقًا أن يشعر به طبيب من غير ملَّتها، وسمعت سيسي الطفل ستيفن أرون، وقالت كاتي: إنني لم أرَ لها صنيعًا يخيب قط، فما على المرأة العقيم إلا أن تتبنى طفلًا ثم تطوي صفحة ذلك، ثم تصمم أن تكون لها بعد سنة أو سنتين طفل من دمها، وكأنما يستجيب الله أخيرًا لنواياها الطيبة، إنه لشيءٌ جميل أن تربِّي سيسي طفلَين؛ لأنه ليس من الخير أن ينشأ طفل وحيدًا.

وقالت فرانسي: إن الفرق بين الصغيرة سيسي وستيفن سنتان فحسب، وهو يكاد يكون الفرق بيني وبين نيلي.

– نعم، سوف يكون كلٌّ منهما أنيسًا للآخر.

وظل ابن سيسي الحي موضع عجب الأسرة العظيم حتى زودهم العم ويلي فليتمان بمادةٍ أخرى يتحدثون عنها، فقد حاول ويلي أن يتطوع في الجيش لكن رفض طلبه، وعندئذٍ طلق وظيفته في شركة اللبن وعاد إلى البيت، وأعلن فشله وذهب إلى فراشه، ولم يغادر الفراش في الصباح التالي ولا الذي بعده، وقال إنه سيبقى بالفراش لا يغادره ما دام حيًّا، وإنه قد عاش حياته كلها فاشلًا، وهو الآن في طريقه إلى أن يموت فاشلًا، وكلما عجل به الموت كان ذلك أفضل.

وبعثت إيفي في طلب أخواتها.

ووقفت إيفي وسيسي وكاتي وفرانسي حول السرير النحاسي الكبير الذي احتمى به الرجل الفاشل، وألقى ويلي نظرةً واحدة على دائرة نساء روملي ذوات العزيمة القوية، وصرخ: «إنني فاشلٌ!» وشد الملاءة فوق رأسه.

وعرفت إيفي زوجها على سيسي، وراحت فرانسي ترقب سيسي وهي تسعفه، إذا أحاطته بذراعيها، وضمت الرجل الضئيل التافه إلى صدرها، وأقنعته بأن الرجال الشجعان ليسوا جميعًا في الخنادق، وأن الكثيرين من الأبطال يخاطرون بحياتهم كل يوم في سبيل وطنهم في مصانع الذخائر الحربية، وراحت تتحدث وتتحدث حتى اشتدت حماسة ويلي في أن يساعد وطنه على الفوز بالنصر في الحرب، فقفز من السرير وحمل إيفي على أن تبادر وتحضر له سرواله وحذاءه.

وكان ستيف قد أصبح مراقبًا للعمال في مصنع للذخائر بشارع مورجان، فحصل لويلي على وظيفةٍ هناك، يتقاضى عنها أجرًا طيبًا في أوقات العمل الرسمية ونصف أجر في أوقات العمل الإضافية.

وكانت أسرة روملي قد جرت على سنة احتفاظ الرجال لأنفسهم بما يتلقونه من نفحات، أو ما يتقاضونه من أجرٍ إضافي، واشترى ويلي لنفسه طبلة جهيرة وصنجَين وراح ينفق كل أمسياته (حين كان الأمر لا يقتضيه أن يقوم بعملٍ إضافي) يدق الطبلة والصنجين في الحجرة الأمامية، وأهدت إليه فرانسي في عيد الميلاد بوقًا صغيرًا، ربطه في عصًا، وأوصل العصا بحزامه حتى يستطيع أن ينفخ في البوق، كما لو كان يركب دراجة دون الاستعانة بيديه، وحاول أن يعزف على القيثارة، ويدق الطبلة والصنجين، وينفخ في البوق في آنٍ واحد، وكان يمرن نفسه ليكون فرقةً موسيقية من رجلٍ واحد.

وهكذا كان يقضي أمسياته في الحجرة الأمامية، ينفخ البوق ويعزف على القيثارة، ويضرب الطبلة الكبيرة، ويقرع الصنجَين النحاسيَّين، ثم يندب حظه لأنه كان فاشلًا.

٥١

ولما غدا الجو باردًا شديد البرودة، ولم تستطع فرانسي أن تمارس جولاتها سيرًا على الأقدام، التحقت بمدرستَين مسائيتَين؛ إحداهما للحياكة، والأخرى للرقص.

وتعلمت أن تحل رموز نماذج الثياب المرسومة على الورق، وتدير آلة الحياكة، وأملت في أن تستطيع بمرور الوقت أن تصنع أثوابها بنفسها.

وتعلمت كيف ترقص في صالة حفلات الرقص، بالرغم من أنها لم تتوقع هي ولا زملاؤها في الرقص أن يضعوا أقدامهم فيما يسمى «صالة حفلات الرقص»، وكان مراقصها في بعض الأحيان فتًى من فتيان الحي الفاتنين ذوي الشعر الذي يتألق بدهان «البريانتين»، ويكون راقصًا سريعًا رشيقًا، يحملها على أن تنتبه لخطواتها، وفي أحيانٍ أخرى يراقصها صبيٌّ صغير في الرابعة عشرة، يرتدي سروالًا قصيرًا يبلغ ركبتَيه فتحمله على أن ينتبه لخطواته، وأحبت فرانسي الرقص وأجادته بغريزتها.

وبدأت تلك السنة تقترب من نهايتها.

•••

– ما هذا الكتاب الذي تدرسينه يا فرانسي؟

– إنه كتاب نيلي للهندسة.

– ما هي الهندسة؟

– إنها يا أماه مادةٌ لا بد من النجاح فيها لدخول الكلية.

– حسنًا! لا تسهري إلى وقتٍ متأخر بالليل.

•••

وسألت كاتي صراف شركة التأمين: ماذا في جعبتك من أخبارٍ عن أمي وأخواتي؟

– إن أول خبر هو أنني أمنت على حياة سارة وستيفن طفلَي أختك.

– ولكنها أمنت على حياتهما منذ ولادتهما، وكانت تدفع خمسة سنتات في الأسبوع.

– هذا تأمينٌ مختلف، إنه الهبة.

– ما معنى ذلك؟

– دفع قيمة التأمين في هذه الحالة ليس مشروطًا بموت المؤمِّن، بل إن كلًّا منهما يتسلم ألف دولار حين يبلغ الثامنة عشرة، إنه تأمينٌ يساعدهما على دخول الجامعة.

– عجبًا! عجبًا! كان أول شيء هو الولادة في المستشفى على يد طبيب، ثم تأمين الجامعة، ترى ماذا بعد؟

•••

وسألت فرانسي كعادتها حين تعود إلى البيت من عملها: هل جاءت أية رسالات يا أمَّاه؟

– لا، وإنما بطاقةٌ من إيفي.

– ما الذي تقوله فيها؟

– لا شيء، سوى أنهم ينتقلون من بيتهم مرةً أخرى من أجل دق ويلي على الطبلة.

– إلى أين ينتقلون الآن؟

– لقد وجدت إيفي بيتًا لأسرة واحدة في سايبرس هيلز، ولست أدري هل يقع هذا الحي في بروكلين أم لا.

– إنه يقع إلى الشرق من نيويورك حيث يتغير اسم بروكلين إلى كوينز، وهو في شارع كريسنت الذي هو آخر محطة في طريق برودواي بالقطار المعلق، وأنا أقصد أنه كان آخر محطة حتى امتد طريق القطار المعلق إلى جامايكا.

•••

ورقدت ماري روملي في سريرها الأبيض الضيق، وقد عُلِّق صليبٌ على الحائط العاري فوق رأسها، تحيط بسريرها بناتها الثلاث وفرانسي كبرى حفيداتها.

– آه! لقد بلغت الآن الخامسة والثمانين، وإني لأشعر أن هذا هو آخر عهد لي بالمرض، وإني لأنتظر الموت بالشجاعة التي أكسبتني الحياة إياها، إنني لن أعمد إلى الزيف وأقول لكُنَّ «لا تحزنَّ عليَّ حين أرحل»؛ فقد أحببت بناتي وحاولت أن أكون أمًّا صالحة، ومن الصواب أن يحزنَّ من أجلي، ولكن فليكن حزنكنَّ رفيقًا وقصيرًا، وافتحن قلوبكن للسلوى لتسري إليها، واعلمن أنني سأكون سعيدة؛ لأنني سأواجه أئمة القديسين الذين أحببتهم طوال حياتي.

•••

وأخرجت فرانسي الصور الشمسية لتريها لمجموعةٍ من الفتيات في حجرة الراحة.

– هذه هي آني لوري أختي الطفلة، لقد بلغت من العمر ثمانية عشر شهرًا فحسب، ولكنها تجري في البيت كله، وينبغي لكُنَّ أن تسمعنها وهي تتكلم!

– إنها لطيفةٌ!

– وهذا هو أخي كورنيليوس، سيصبح طبيبًا.

– إنه ظريفٌ.

– وهذه هي أمي.

– إنها لطيفةٌ، وتبدو في ريعان الشباب.

– وهذه أنا فوق السطح.

– إن السطح لطيف.

وقالت فرانسي مشتركة في السخرية: إنني لطيفة.

– كلنا ظريفات.

وضحكت الفتيات: إن مشرفتنا لطيفة، تلك الدبة العجوز! وإني لآمل أن تصاب بغصةٍ في حلقها.

وراحت الفتيات يضحكن ويضحكن، وسألت فرانسي: علامَ نضحك جميعًا؟

– على لا شيء.

واشتد ضحكهن.

•••

واشتكى نيلي قائلًا: ابعثي بفرانسي بدلًا مني، لقد طردني البائع من المحل في المرة الأخيرة التي طلبت فيها منه الكرنب المخمر.

وقالت فرانسي: إن الأمر يقتضيك الآن أن تطلب «كرنب الحرية» أيها الأحمق.

وأنَّبتهما كاتي بلا وعيٍ: لا تتنابزا بالألقاب.

وسألتها فرانسي: هل علمت أنهم غيَّروا اسم شارع هامبورغ إلى شارع ويلسون؟

وتنهدت كاتي: إن الحرب تجعل الناس يفعلون أشياءَ سخيفة.

•••

وسأل نيلي مذعورًا: هل ستُنبئين أمي؟

وقالت فرانسي: لا، ولكنك أصغر من أن تخرج مع مثل تلك الفتاة، إنهم يقولون إنها جامحةٌ.

– ومن ذا الذي يريد فتاةً وديعة؟

– أنا لا يهمني سوى أنك لا تعرف شيئًا عن … عن الجنس.

– إنني أعلم أكثر مما تعلمين على أي حال.

ووضع يده على خاصرته وصاح في صوتٍ مصطنعٍ تشوبه لثغة: أوه يا أماه! أتراني أنجب طفلًا لو أن رجلًا قبَّلني فحسب؟ أتراني أفعل يا أماه؟ أتراني أفعل؟

– نيلي! إذن لقد كنت تسترق السمع وتتجسس علينا خلسة في ذلك اليوم!

– بالطبع! لقد كنت وراء الحجرة تمامًا في الردهة وسمعت كل كلمة.

– إنه لمن أحط الأمور أن …

– أنت تنصتين أيضًا، وقد ضبطتك مراتٍ كثيرة وأنت تسترقين السمع إلى حديث أمي مع سيسي أو الخالة إيفي، وكان المفروض أن تكوني نائمةً في الفراش.

– هذا شيء مختلف، وإن الأمر يقتضيني أن أكتشف الأمور.

– هراء!

•••

– فرانسي! فرانسي! قد بلغت الساعة السابعة! انهضي!

– لماذا؟

– ينبغي لكِ أن تكوني في عملك في الساعة الثامنة والنصف.

– قولي لي شيئًا جديدًا يا أماه.

– لقد بلغتِ اليوم السادسة عشرة من عمرك.

– قولي لي شيئًا جديدًا، لقد بلغتُ السادسة عشرة منذ سنتين.

– إذن فإن الأمر يقتضيكِ أن تظلي في السادسة عشرة عامًا آخر.

– الراجح أنني سأظل في السادسة عشرة طوال حياتي.

– سوف لا أدهش لذلك.

•••

وقالت كاتي في سخطٍ: إنني لم أكن أتجسس، وإنما احتجت لخمسة سنتاتٍ أخرى لبائع الغاز وحسبت أن ذلك لا يضيرك، وإنكِ لتبحثين في جيبي عن «الفكة» مراتٍ كثيرة.

وقالت فرانسي: هذا شيءٌ آخر.

وأمسكت كاتي في يدها صندوقًا صغيرًا بلون البفنسج، يحتوي على سجائر معطرة لها طرفٌ ذهبي، وكان الصندوق مليئًا بالسجائر إلا من واحدة …

وقالت فرانسي: نعم، إنكِ تعلمين الآن أسوأ ما في الأمر، لقد دخنت سيجارةً من سجائر ميلو.

وقالت كاتي: إن لها رائحةٌ طيبة على أي حال.

– هيا يا أماه، هيا ألقي بموعظتكِ وانتهي.

– إن هذا العالم الذي يموت فيه حشودٌ من الجنود في فرنسا وغيرها لن تنطبق سماؤه على أرضه إذا أنتِ دخنتِ سيجارةً بين الحين والحين.

– وي يا أماه! إنكِ تأخذين الأمور كلها مأخذ الهزل، مثلما فعلتِ في العام الماضي، ولم تعترضي على سروالي الحريري الأسود، حسنًا! ألقي بالسجائر بعيدًا.

– لن أفعل ذلك! بل إنني سأنثرها في درج صواني لتعطر قمصان نومي.

•••

وقالت كاتي: إني لأحسب أنه من الخير لنا أن ننصرف عن أن نهدي بعضنا بعضًا الهدايا في عيد الميلاد هذا، ونجمع المال ونشتري به دجاجة للتحمير، وكعكةً كبيرة من المخبز ورطلًا من البن الجيد و…

واعترضت فرانسي: إن لدينا ما يكفينا من المال للطعام، ولسنا بحاجةٍ إلى أن نستخدم المال المخصص لعيد الميلاد.

– أقصد أن نعطي ذلك لفتاتي تنمور في عيد الميلاد، فلقد انصرف الجميع عن تلقي دروس البيانو عليهما الآن، ويقول الناس إنها متخلفتان عن الزمن، إنهما لا تجدان كفايتهما من الطعام، ولقد كانت الآنسة ليزي طيبة معنا كل الطيبة.

ووافقت فرانسي دون حماسةٍ كبيرة.

– نعم، ليكن …

ورفس نيلي رجل المائدة في حقدٍ: وي!

وضحكت فرانسي: لا تحزن يا نيلي، سوف أعطيك هدية، سأشتري لك جرموقًا من الجلد الفضي في هذا العام.

– وي! اخرسي!

وأنَّبتهما كاتي بلا وعي.

– لا تتبادلا هذه الكلمة.

– إني أسألكِ النصيحة يا أماه، هناك ذلك الفتى الذي لقيته في المدرسة الصيفية، وقال إنه قد يراسلني، ولكنه لم يفعل، وأريد أن أعلم هل يعدُّ ذلك تسرعًا مني، لو أنني أرسلت له بطاقة في عيد الميلاد؟

– تسرعًا! هراء! ابعثي إليه بالبطاقة إذا شعرت برغبةٍ في ذلك، إني أكره التمنُّع والتصنُّع اللذين تتخذهما النساء حيال الرجال، إن العمر قصير كل القصر، وإذا ما قدر لكِ أن تجدي رجلًا تحبينه، فلا تضيعي الوقت في إدلاء رأسك والابتسام في تكلف، اذهبي إليه مباشرة وقولي له: «أنا أحبك، ما رأيك في أن نتزوج؟».

ثم أردفت بسرعة وهي تنظر إلى ابنتها نظرة ذعر: هذا حين تبلغين من العمر ما يسمح لك بأن تفهمي شعورك.

وقررت فرانسي: سأرسل البطاقة.

•••

– لقد استقر رأيي أنا ونيلي يا أمَّاه على أننا نؤثر القهوة على ذلك الشراب الممزوج باللبن.

– ليكن.

وأعادت كاتي زجاجة البراندي إلى الصوان.

– واجعلي القهوة سوداء جدًّا وساخنة، واملئي نصف الأقداح بالقهوة، ونصفها باللبن الساخن، وسوف نشرب نخب سنة ١٩١٨م قهوة باللبن.

وقال نيلي بالفرنسية: من فضلك.

وقالت الأم: وي! وي! وي! إني أعلم بعض الكلمات الفرنسية أيضًا.

وأمسكت كاتي بوعاء القهوة بيد، وبإبريق اللبن الساخن بيد، وأفرغت الاثنين معًا في الأقداح، وقالت: إني لأذكر أن أباكما حين يخلو البيت من اللبن يقطع قطعةً من الزبد في قهوته، إذا كان بالبيت زبد، وكان يقول إن الزبد كان في أول أمره قشدة، وهو يحل محل اللبن إذا أضيف إلى القهوة سواء بسواء.

– أبتاه!

٥٢

وفي يوم أحد من أيام الربيع، خرجت فرانسي من المكتب في الساعة الخامسة، وكانت في السادسة عشرة من عمرها، ورأت أنيتا، وهي فتاةٌ كانت تدير آلة في الصف الذي تجلس فيه فرانسي، تقف في مدخل مبنى المواصلات ومعها جنديان، وكان أحدهما قصير القامة بدينًا مشرق الطلعة، يمسك ذراع أنيتا في استحواذٍ، والآخر طويل القامة نحيل البنية يقف هناك في حرجٍ، وانتزعت أنيتا نفسها من الجنديَّين، وانتحت جانبًا بفرانسي: هلا أخرجتني يا فرانسي من هذا المأزق؟ إن جوي يقضي إجازته الأخيرة قبل أن يمضي مع وحدته فيما وراء البحار، ونحن خطيبان.

وقالت فرانسي مازحة: إذا كنتما خطيبين حقًّا فإنكما تفعلان الصواب، ولستما بحاجةٍ إلى عونٍ من أحد.

– أقصد معاونتي على إيجاد رفيقة لذلك الزميل الآخر، لقد اضطر جوي لأن يحضره معه فأسعفيني، والظاهر أنهما روحان في جسد واحد، إن ذهب أحدهما إلى مكانٍ ذهب إليه الآخر، إن هذا الزميل الآخر قد أقبل من بلدةٍ في بنسلفانيا، ولا يعرف أحدًا في نيويورك، وأنا أعلم أنه سوف يلازمنا، ولا أستطيع أبدًا أن أنفرد بجوي، فساعديني يا فرانسي على الخروج من هذا المأزق، فقد خذلتني ثلاث فتيات من قبلُ.

وألقت فرانسي نظرةً متفحصة على ذلك الرفيق من بنسلفانيا، الواقف على بعد عشرة أقدام، لم يكن وسيمًا، فلا عجب أن رفضت الفتيات الثلاث مساعدة أنيتا، ثم التقت عيناه بعينَيها، فابتسم ابتسامةً بطيئة خجولًا، وبدا أنه على الرغم من عدم وسامته ينطوي على شيء أجمل من الوسامة، وقررت فرانسي أن سر ذلك كان في ابتسامته الخجول، وقالت لأنيتا: أصغي إليَّ … إذا استطعتُ أن أدرك أخي في مكان عمله فسوف أحمله رسالة لأمي، وإذا لم أجده فسأكون مضطرةً إلى العودة إلى البيت؛ لأن أمي سوف يساورها القلق عليَّ إذا لم أعد إليه في وقت العشاء.

وحثَّتها أنيتا قائلةً: أسرعي إذن واطلبيه في التليفون.

ودست يدها في جيبها: انتظري! سوف أعطيك خمسة سنتات أجر المكالمة.

وطلبت فرانسي نيلي من محل السجائر القائم بالمنعطف، وتصادف أن كان نيلي لا يزال عند ماكجريتي فبلغته الرسالة، ولما عادت وجدت أن أنيتا وخطيبها جوي قد رحلا، والجندي ذا الابتسامة الخجول يقف وحيدًا تمامًا، وسألت: أين أنيتا؟

– إني لأحسب أنها هربت منكِ، فقد مضت هي وجوي …

وأُسقط في يد فرانسي؛ إذ كانت تتوقع أنهم سيكونون اثنين اثنين، ترى أي شيء في العالم يمكن أن تفعله الآن بهذا الرجل الغريب الطويل؟

وقال: أنا لا ألومهما لأنهما يريدان أن يختليا، فأنا نفسي خطيب أعلم كيف يكون الأمر في الإجازة الأخيرة، مع الفتاة الوحيدة.

وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: خطيب؟ حسنًا! إنه لن يطارحني الغرام على أي حال.

ومضى يقول: ولكن ما من سببٍ يجبركِ على ملازمتي، وإذا أرشدتني إلى طريق النفق الذي يقودني إلى الشارع الرابع والثلاثين — وأنا غريبٌ في هذه المدينة — فسوف أعود إلى حجرتي بالفندق، وإني لأحسب أن المرء يستطيع دائمًا أن يكتب الرسائل حين لا يجد شيئًا آخر يفعله.

وابتسم ابتسامته الخجول التي تنمُّ عن الوحدة.

– لقد أنبأت أسرتي بالتليفون أنني لن أعود إلى البيت، فإذا رغبت في أن …

– رغبت! وي! إن هذا من حسن حظي، حسنًا، أشكركِ يا آنسة …

– نولان. فرانسيس نولان.

– إن اسمي هولي راينور، وإنه في الحق ليو، ولكن الجميع ينادونني لي … إنني جد سعيد بلقائك يا آنسة نولان.

ومدَّ لها يده.

– وإني لسعيدةٌ بلقائك يا أيها العريف راينور.

وتصافحا، وابتسم في سعادةٍ قائلًا: لا بد أنكِ لاحظت الأشرطة التي على كتفي، إذ علمت أنني عريفٌ، أظن أنكِ تشعرين بالجوع بعد العمل طول اليوم، هل هناك أي مكانٍ خاص تودِّين الذهاب إليه للعشاء؟

– لا، ليس هناك مكانٌ خاص، وأنت؟

– إني أودُّ أن أجرب بعضًا من «التورلي» بشطائر اللحم على الطريقة الصينية، وهو صنفٌ سمعت به.

– هناك محلٌّ جميل في الشارع الثاني والأربعين، تُعزف فيه الموسيقى.

– هيا نذهب إليه.

وقال وهما متجهان إلى طريق النفق: يا آنسة نولان! أيضيرك أن أناديك فرانسيس؟

– لا يضيرني، فإن الجميع ينادونني فرانسي.

وردد اسمها: فرانسي! فرانسي! هناك شيءٌ آخر، أيضيرك أن أتوهم أنك فتاتي الحبيبة هذا المساء فحسب؟

وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: إنه سريع الغزل.

وأدرك ما يدور في رأسها فقال: إني لأحسب أنكِ تظنين أنني سريع الغزل، ولكن الأمر هو أنني لم أخرج مع فتاةٍ منذ سنة تقريبًا، ثم إنني بعد أيامٍ قلائل سوف أركب مركبًا متجهًا إلى فرنسا، وبعد ذلك لا أدري ماذا يكون من أمري؛ لذلك فإني سوف أعدُّ تلك الساعات القليلة التي سأقضيها معكِ فضلًا عظيمًا منكِ، إذا لم تجدي في الأمر ما يضيرك.

– لا أجد فيه ما يضيرني.

– أشكرك.

ومد ذراعه وقال: تعلقي بذراعي يا فتاتي الحبيبة.

وتوقف حين أوشكا على دخول طريق النفق، وقال آمرًا متوسلًا في آن: قولي «لي».

وقالت: لي.

– قولي «مرحى يا لي أنا سعيدةٌ كل السعادة؛ إذ ألقاك ثانيةً يا عزيزي.»

وقالت في خجل: مرحى لي، أنا سعيدةٌ كل السعادة إذ ألقاك ثانية.

وضغط بذراعه على يدها.

ووضع النادل في محل روبي وعاءين من التورلي بشطائر اللحم على الطريقة الصينية، يتوسطهما إبريقٌ كبير من الشاي، وقال لي: صبِّي لي الشاي حتى أشعر كأنني في بيتي.

– كم قطعة من السكر تريد؟

– أنا لا أريد سكرًا.

– وأنا كذلك.

وقال: انظري! إن أذواقنا تتفق تمامًا، أليس كذلك؟

وكان كلاهما جائعًا كل الجوع فتوقفا عن الحديث، ليركزا انتباههما في الطعام اللين الهين، وكان يبتسم في كل مرة تنظر إليه فيها فرانسي، وكانت هي في كل مرة ينظر إليها تبتسم في سعادة، وبعد أن فرغا من التورلي والأرز والشاي، أسند ظهره إلى الخلف وأخرج علبة سجائر.

– أتدخنين؟

وهزت رأسها بالنفي: لقد جربت التدخين مرةً ولم يرق لي.

– حسنًا، فإني لا أحب الفتاة التي تدخن.

ثم بدأ يتكلم، وحكى لها كل ما يذكره عن نفسه، حكى لها عن صباه في بلدةٍ صغيرة بولاية بنسلفانيا (وتذكرت المدينة من قراءتها لصحيفتها الأسبوعية في مكتب قصاصات الصحف)، وحكى لها عن أبويه وإخوته وأخواته، وتحدث عن أيامه التي قضاها في المدرسة والحفلات التي حضرها، والوظائف التي شغلها، ثم قال إنه في الثانية والعشرين من عمره، وروى كيف اضطر إلى التطوع وهو في الحادية والعشرين، وأنبأها بقصة حياته في معسكرات الجيش وكيف نال رتبة العريف، أنبأها بكل شيءٍ وقع له، وأنه ينتظر عودة الفتاة التي تمت خطبتها له.

وحدثته فرانسي عن حياتها، لم تخبره إلا بالنواحي السعيدة منها، وكيف أن أباها كان وسيمًا، وأمها عاقلةٌ حكيمة، وأخاها نيلي مزهو معجب نفسه، ومبلغ ما عليه أختها الطفلة من ذكاء، وحدثته عن الإناء البُنِّي الذي كان قائمًا على درج المكتبة، وعن ليلة رأس السنة التي قضتها هي ونيلي يتجاذبان أطراف الحديث على سطح البيت، ولم تذكر له شيئًا عن بن بليك لأنه لم يكن قد دخل في نطاق تفكيرها قط، فلما فرغت من حديثها قال: لقد قضيت كل حياتي وحيدًا، لا يؤنس وحشتي أحد، وحيدًا في المحافل المزدحمة بالناس، أستشعر الوحدة وأنا مستغرقٌ في تقبيل فتاة من الفتيات، وأحس بنفس الوحدة في المعسكر، وأنا بين مئات من الزملاء، ولكنني الآن لم أعد أستشعر الوحدة.

وابتسم ابتسامته الخجول المعهودة، واعترفت له فرانسي قائلة: كان هذا شأني أيضًا، مع اختلافٍ واحد، هو أنني لم أقُبِّل أي فتًى قط، وها أنا ذي الآن لأول مرة في حياتي لا أشعر بالوحدة.

وعاد النادل وملأ لهما قدحَي الماء اللذين كانا مترعَين أو يكادان، وأدركت فرانسي أن ذلك تلميح منه بأنهما قد لبثا بالمحل أكثر مما ينبغي، فقد كان الناس ينتظرون خلو المناضد من شاغليها، وسألت فرانسي لي عن الوقت، وكانت الساعة قد أشرفت على العاشرة! وأنفقا في الحديث ما يقرب من أربع ساعات.

وقالت في أسف: لقد آن أوان عودتي إلى المنزل.

– سأصحبكِ إليه، أتسكنين قرب جسر بروكلين؟

– لا، جسر ويليمسبرج.

– وددت أن يكون جسر بروكلين، فإني لأحسب أن الظروف لو اقتضتني ذات مرة أن أبلغ نيويورك، لآثرت أن أجتاز جسر بروكلين سيرًا على قدميَّ.

واقترحت عليه فرانسي قائلةً: لم لا؟ إني أستطيع أن أركب التروللي المار بشارع جراهام من نهاية بروكلين، فيؤدي بي ذلك مباشرة إلى المنعطف الذي فيه بيتي.

وركبا قطار النفق السريع الذي يصل بين الأحياء حتى جسر بروكلين، ثم خرجا من النفق وبدآ يعبران الجسر سيرًا على الأقدام، وتوقفا عند منتصف الجسر، وأخذا يطلان من فوقه على نهر إيست، وقفا متلاصقَين وقد أمسك هو بيدها، ومدا بصرهما إلى الأفق عند شاطئ مانهاتان: نيويورك! لقد كنت دائمًا مشوقًا إلى رؤيتها، وأنا الآن قد رأيتها، وتحقق ما يقوله الناس، إنها أعجب مدينة في العالم.

– إن بروكلين أفضل منها.

– ترى هل فيها ناطحات سحاب مثل نيويورك؟

– لا، ولكنها نابضةٌ بضربٍ من الإحساس لا أستطيع تأويله، ولست بمستطيع أن تدركه وتستشعره إلا إذا عشتَ فيها.

وقال في هدوء: سنعيش في بروكلين يومًا ما.

وقفز لذلك قلب فرانسي، ورأت أحد رجال الشرطة يعسُّ على الجسر قادمًا نحوهما، وقالت في قلق: خيرٌ لنا أن نمضي، فإن حوض سفن بروكلين يقع قريبًا، وذلك المركب المستخفي الذي ألقى مراسيه هناك يشحن الآن، ويقيم رجال الشرطة دائمًا على الحراسة خشية الجواسيس.

وما إن أدركهما الشرطي حتى قال له لي: لا نقصد أن ننسف أي شيء، وإنما نحن نمتع النظر بنهر إيست.

وقال الشرطي: صدقت، صدقت، أتراني أغفل عن المتعة التي تصيب المرء في مثل هذه الليلة من ليالي الربيع؟ ألم أكن أنا نفسي شابًّا في يومٍ من الأيام؟ ولعلكما تدركان أن ذلك كان من عهد ليس ببعيد؟

وابتسم لهما، وردَّ لي ابتسامته بابتسامة، وابتسمت فرانسي للرجلين، ونظر الشرطي خلسةً إلى كُمِّ لي، وقال: حسنًا! إلى اللقاء يا جنرال، وأصلهم نار الجحيم حين تصل إلى هناك.

ووعده لي قائلًا: لأفعلن.

ومضى الشرطي في طريقه، وقال لي معلقًا: إنه رجلٌ لطيفٌ مرح.

وقالت فرانسي سعيدة: إن كل إنسان بهذا اللطف.

فلما بلغا جانب بروكلين قالت إن من الأنسب ألا يصحبها بقية الطريق إلى المنزل، فإنها اعتادت في كثيرٍ من الأحيان أن تعود إلى منزلها وحيدة، وقد تأخر الليل حين كانت تؤدي نوبتها الليلية في العمل، ثم إنه خليقٌ بأن يضل الطريق في عودته إلى نيويورك من الحي الذي تسكن هي فيه؛ لأن طرق بروكلين في هذا الحي خليقةٌ أن تضل الناس، وقالت إن الأمر يقتضيه أن يعيش فيها، حتى يستطيع أن يهتدي إلى الطريق بمفرده.

والحق أنها لم تكن تريد أن يعلم أين تسكن، فقد كانت تحب حيها ولا تخجل منه، ولكنها أحسَّت بأن الغريب الذي لا يعلم عن هذا الحي ما علمت، قد يرى فيه أنه حيٌّ وضيعٌ قذر.

وهدته أول الأمر إلى الطريق الذي يبلغ به القطار المعلق، حتى يعود إلى نيويورك، ثم سارا إلى حيث يمكنها أن تركب التروللي، ومرَّا بمحلٍّ من محالِّ الوشم له نافذةٌ واحدة، وكان يجلس في داخله بحارٌ شاب شمَّر عن كمه، وجلس صانع الوشم أمامه على مقعد، وإلى جانبه إناء به محابر، وراح يَشِمُ على ذراع الفتى البحار قلبًا ينفذ فيه سهم، ووقفت فرانسي ولي يحملقان في نافذة المحل، وأخذ البحار يلوح لهما بذراعه الطليقة، فردَّا عليه تحيته بتلويح أيديهما، ورفع صانع الوشم بصره إليهما، وأشار لهما بما يدل على أنهما سيلقيان منه الترحيب إذا دخلا محله، وعبست فرانسي وهزت رأسها علامة على رفضها الدخول.

وابتعدا عن المحل، وقال لي في صوتٍ يغشاه العجب: تصوري أن ذلك الفتى كان يشِمُ ذراعه بالفعل.

وقالت له فرانسي في جدٍّ يمازجه العبث: إياك أبدًا أن أضبطك مرةً متلبسًا بفعلة الوشم.

وقال في استسلام: سمعًا وطاعة يا أماه!

ثم ضحكا ووقفا عند منعطف الطريق ينتظران التروللي، وساد بينهما سكوتٌ محرج، وقفا منفصلَين، ومضى هو يشعل السجائر، ثم يلقي بها قبل أن يأتي على نصفها، ثم لاحت لهما أخيرًا عربة تروللي قادمة، وقالت فرانسي: ها هي ذي العربة التي سأركبها قد أقبلت.

ومدَّت له يدها اليمنى قائلة: سعدتَ مساءً يا لي.

وقذف بالسيجارة التي كان أشعلها وشيكًا، وفتح لها ذراعَيه وقال: فرانسي؟

فمضت إليه وقبَّلها؟

وفي صبيحة اليوم التالي ارتدت فرانسي حُلَّتها الجديدة من الحرير الأزرق السماوي بلون سترات البحارة، وهي تشتمل على صدار من الحرير الأبيض الرقيق، ولبست حذاءها المصنوع من الجلد اللامع الذي اعتادت أن ترتديه في أيام الآحاد، ولم يكن بينها وبين لي موعد؛ لأنها لم تكن قد دبرت أن تلقاه مرةً أخرى، ولكنها تعلم أنه سوف يكون في انتظارها في الساعة الخامسة، وغادر نيلي فراشه وهي توشك على الخروج، وطلبت منه أن يخبر أمها بأنها لن تعود إلى البيت لتدرك العشاء معهم.

وراح نيلي ينشد ويغني: لقد أصبح لفرانسي حبيبٌ آخِرَ الأمر! لقد أصبح لفرانسي حبيب آخر الأمر!

ومضى إلى لوري التي كانت جالسةً بجوار النافذة في كرسيها المرتفع، وكان على رف الكرسي إناء يحتوي على عصيدة الشوفان، والطفلة مستغرقةٌ في تناول العصيدة، مسقطة إياها على الأرض، وغمزها نيلي تحت ذقنها، وقال: إيه أيتها الحمقاء! لقد أصبح لفرانسي حبيبٌ آخِرَ الأمر!

وارتسم خطٌ باهت على الحافة الداخلية لحاجب الطفلة (وهو ما كانت تسميه كاتي خط آل روملي)، وهي تحاول وقد بلغت الثانية من عمرها فحسب، أن تفهم ما يقول:

وقالت في لهجةٍ متحيرة: فراﻧ … ﻲ …

وقالت له فرانسي: اسمع يا نيلي، لقد أخرجتها من الفراش، وزودتها بطعامها من الشوفان، وعليك الآن أن تطعمها، ولا تسمِّها حمقاء.

وخرجت فرانسي من الردهة منطلقةً إلى الشارع، فسمعت من يناديها باسمها فرفعت رأسها، ووجدت نيلي متدليًا من النافذة بمنامته، وانبعث ينشد بأعلى صوته:

ها هي ذي تسير هناك
على أطراف أصابعها،
وقد تحلَّت
بكامل زينتها،
مرتدية ملابس يوم الأحد.

وصاحت فرانسي وهي رافعةٌ بصرها إليه: نيلي! إنك لفظيعٌ! نعم فظيع!

وتظاهر بأنه لم يفهم قولها، وقال: هل قلتِ إنه فظيعٌ؟ هل قلتِ إن له شاربًا صغيرًا ورأسًا أصلع؟

فصاحت فرانسي مجيبة إياه: خيرٌ لك أن تطعم الطفلة.

– هل قلتِ إنك سوف تنجبين طفلة يا فرانسي؟ هل قلتِ إنك سوف تنجبين طفلة؟

وكان هناك رجلٌ يسير عندئذٍ في الطريق، فغمز لفرانسي بعينه، وأقبلت فتاتان وقد تشابكت ذراعاهما وانطلقتا تقهقهان قهقهةً مجنونة، وصاحت فرانسي في غضبٍ مكبوت: يا لك من صبيٍّ ملعون!

فرد عليها نيلي مترنمًا: أنت تسبِّين! لأخبرن أمي، نعم لأخبرن أمي أنك تسبين!

وسمعت فرانسي التروللي قادمًا فلم تجد بدًّا من العدو للِّحاق به.

وكان لي ينتظرها عندما خرجت من عملها، ولقيها بابتسامته المعهودة، ووضع ذراعها في ذراعه وقال: مرحى يا فتاتي الحبيبة.

– مرحى يا لي، أنا سعيدةٌ برؤيتك مرةً أخرى.

فقال مسرعًا: … حبيبتي.

ورددت هي: حبيبي.

وأكلا في المطعم الآلي، وهو مكانٌ آخر كان يودُّ أن يراه، وكان التدخين ممنوعًا داخل المحل، ولم يكن لي ليصبر طويلًا على الجلوس من غير تدخين، فلم يمكثا في المحل يتجاذبان أطراف الحديث مدةً طويلة، بعد تناول القهوة والحلوى، واستقر رأيهما على المضي للرقص، ووجدا مكانًا كائنًا بعد برودواي مباشرة، الرقصة فيه بعشرة سنتات، ويتقاضى النُّدُل فيه نصف ما يستحقون، واشترى لي شريطًا من عشرين تذكرة بدولار وبدآ يرقصان.

وما إن بلغا منتصف الطريق إلى الطابق الذي تقع فيه صالة الرقص، حتى اكتشفت فرانسي أن نحوله وتهافته لم يكونا إلا مظهرًا خادعًا كل الخديعة؛ ذلك أنه كان راقصًا بارعًا خفيف الحركة، وراحا يرقصان وقد التصق كلٌّ منهما بالآخر، فلم يعد ثمة حاجة إلى الحديث.

وكانت فرقة الموسيقى تعزف أغنيةً من الأغاني الحبيبة إلى نفس فرانسي، وهي «في صبيحة يومٍ من أيام الأحد».

… في صبيحة يوم من أيام أيام الأحد،
والجو صافٍ جميل.

وأخذت فرانسي تترنم بالمقطع الأخير للأغنية، والمغني يردده:

… وأنا مرتديةٌ ثوبي
من القطن المزركش،
أية عروس حسناء
سوف أغدو …

وأحست بذراع لي يزداد ضغطًا حول خصرها.

ومضت الأغنية تقول:

… إني لأدرك
أن صديقاتي من الفتيات
سيأكل قلوبَهن الحسدُ مني.

وكانت فرانسي سعيدة كل السعادة، ودارا دورةً أخرى في الصالة، وهناك راح المغني ينشد المرجع مرةً أخرى، وقد أدخل عليه بعض التغيير إكرامًا للجنود الحاضرين.

أي عريس مليح
سوف أغدو
وأنا مرتدٍ الزي العسكري!

وازداد ضغط ذراعها على كتفَيه، وأسندت خدها على صدره، وراودتها نفس الفكرة التي راودت كاتي منذ سبعة عشرة عامًا وهي تراقص جوني؛ إذ أحست بأنها ترحب ببذل أية تضحية، وتحمل أي إصر لو أتيح لها بقاء هذا الرجل قريبًا منها دائمًا أبدًا، ولم تفكر فرانسي في الأطفال الذين قد يساعدونها في تحمل هذا الشقاء، ومكابدة هذه التضحية.

وكانت طائفةٌ من الجنود تغادر الصالة، فقطعت فرقة الموسيقى، جريًا على العرف السائر، الأغنية التي كانت تعزفها، ومضت تعزف أغنية «حتى نلتقي مرةً أخرى»، وتوقف الجميع عن الرقص، وراحوا ينشدون مودِّعين الجنود، وتشابكت يدا فرانسي ولي، وانطلقا يغنيان وإن كان كلاهما لا يدركان تمام الإدراك كلمات الأغنية:

سأعود إليك
حين يولي السحاب،
وهنالك تصفو السماء،
وتشرق بالزرقة …

وتعالت الصيحات مرددةً: «وداعًا أيها الجندي!»، «أتمنى لك حظًّا سعيدًا أيها الجندي!»، «حتى نلتقي ثانية أيها الجندي!» وعندئذٍ وقف الجنود الراحلون جماعةً وانبعثوا يغنون الأغنية، وجذب لي فرانسي ماضيًا بها نحو الباب وقال: لنغادرن الصالة الآن، فإن هذه لهي اللحظة التي سوف تبقى حيةً في ذاكرتنا.

وأخذا يتحدثان وهما يهبطان السلم في بطءٍ، والأغنية تلحق بهما، فلما بلغا الطريق انتظرا حتى غابت الأغنية عن الأسماع:

… صلي من أجلي كل ليلة،
حتى نلتقي ثانية.

ثم همس لها: فلتكن هذه أغنيتنا، واذكريني كلما سمعتِها.

وأمطرت السماء وهما يسيران، واضطرا إلى العدو حتى يجدا حمًى يحتميان به من المطر، فلاذا بمدخل محلٍّ خالٍ، ووقفا في المدخل المظلم في حمًى من المطر، وأمسك كلٌّ منهما بيد الآخر، وراحا يرقبان المطر وهو يسقط.

وفكرت فرانسي بينها وبين نفسها: إن الناس يحسبون دائمًا أن السعادة هدفٌ بعيد، هدفٌ معقدٌ صعب المنال، لكن ما أصغر الأشياء التي تتوقف عليها السعادة … مكان يأوي إليه الإنسان حين تمطر السماء … قدحٌ من القهوة المركزة الساخنة حين ينال منك البرد … لفافةٌ يدخنها الرجل فترضى بها نفسه … كتابٌ يُقرأ حين يحس المرء بالوحشة … لقاءٌ يجمعك بشخصٍ تحبه! إن هذه الأشياء هي التي تصنع السعادة.

وقال لي: إني لراحلٌ في باكورة الصباح.

وغادرتها سعادتها فجأة، وقالت: أظن أنك لست راحلًا إلى فرنسا توًّا؟

– لا، لست راحلًا إلى فرنسا، بل سأعود إلى داري، فإن أمي تريد أن أبقى معها يومًا أو يومين قبل أن …

– أواه!

– إني أحبكِ يا فرانسي.

– ولكنك خطيب فتاةٍ أخرى، وهذا هو أول شيء قلتَه لي؟

فقال في مرارة: خطيب، إن كل إنسان خطيب، كل إنسان في بلدٍ صغير خطيبٌ أو متزوج أو واقع في ورطة، وما من شيءٍ آخر يستطيع أن يفعله الإنسان في بلدٍ صغير، فالفتى منا يذهب إلى المدرسة، ويشرع في السير عائدًا إلى بيته في صحبة فتاة، ولعله لا يفعل ذلك إلا لأمرٍ واحد هو أنها تسكن بالقرب منه، ثم يشتد عوده فتدعوه الفتاة إلى حفلاتٍ تقيمها في منزلها، ويذهب هو إلى حفلاتٍ أخرى، فيطلب منه الناس أن يصحبها معه، ثم ينتظرون منه أن يوصلها إلى بيتها، ثم لا تلبث الفتاة ألا تجد غيره يخرج بها من البيت، فيظن كل الناس أنها أصبحت فتاته وهنالك يحس بالحرج إذا لم يخرج بها، ثم يتزوج لأنه لا يجد شيئًا آخر يفعله، ثم تحسن عاقبته إذا كانت الفتاة مهذبة (وهي كذلك في معظم الحالات)، وكان الفتى على شيءٍ من التهذيب، وعند ذلك لا يحس بعاطفةٍ كبيرة، وإنما يحس بنوعٍ من الرضا الحاني، ثم يأتي الأطفال فيبذل لهم حبه الكبير الذي يفتقده الزوجان، ويكون الأطفال هم الرابحين آخر الأمر.

نعم، أنا خطيبٌ حقًّا، ولكن ما بيني وبينها ليس هو ما بيني وبينك.

– ولكنك ستتزوجها؟

وسكت لي فترةً طويلة قبل أن يجيب: لا!

وأحست فرانسي بالسعادة ترتد إليها، وهمس: قوليها يا فرانسي، قوليها …

فقالت فرانسي: أنا أحبك يا لي.

وقال لي وفي صوته لهفة: فرانسي! قد لا أعود من رحلتي الطويلة هنالك، وإني لخائفٌ … خائف، فقد أموت … أموت، ولم أظفر في حياتي بشيءٍ قط … فرانسي، ألا يمكننا أن نبقى معًا لحظةً قصيرة؟

وقالت فرانسي في براءة: نحن الآن معًا!

– أقصد في غرفة … وحيدَين … إلى الصباح فحسب، حين يحل أوان الرحيل؟

– أنا … لا أستطيع.

– ألا تريدين ذلك؟

فأجابت في صدق: أجل أريده.

– إذن لماذا …؟

فاعترفت في شجاعة: أنا في السادسة عشرة من عمري فحسب، ولم أختلِ قط … بأحد، ولست أدري لذلك سببًا.

– يستوي الأمر.

– ولم أغب عن بيتي قط طول الليل، لسوف تقلق أمي.

– ألا تستطيعين أن تقولي لها إنك أنفقت الليلة مع فتاةٍ من صديقاتك؟

– إنها تعلم أن ليس لي صديقة.

– ألا تستطيعين أن تلتمسي عذرًا … غدًا.

– ما من حاجةٍ تدعوني إلى التفكير في عذر، وإني لخليقةٌ بأن أخبرها بالحقيقة.

فسألها في دهشة: خليقة؟

– إني أحبكَ، ولستُ خليقة بأن أخجل … من بعد إذا بقيت معك، ولسوف أكون فخورًا وسعيدة، وما من داعٍ يدعوني إلى الكذب في ذلك.

وهمس كأنما يهمس إلى نفسه: ما كان في وسعي أن أعلم … ما كان في وسعي أن أعلم …

– أظنك لست تريد أن يكون ذلك شيئًا … حرامًا، أليس كذلك؟

– فرانسي، سامحيني، لقد كان الواجب يقتضيني ألا أطلب منك ذلك، ولكن أنى لي أن أعلم.

وسألته فرانسي متحيرة: تعلم؟

وطوقها بذراعيه، وضمها إليه ضمًّا قويًّا، ثم رأت فرانسي أنه كان يبكي …

– فرانسي، إني لخائف … خائف كل الخوف، خائفٌ أن أرحل فأفقدك، ولا أراك مرةً أخرى أبدًا، مريني بألا أعود إلى داري، فأبقى معك، وأمامنا الغد وبعد الغد نأكل فيه معًا، ونسير معًا ونجلس في متنزه، أو نركب في الدور العلوي لسيارةٍ من السيارات العامة، ونتحدث فحسب، ونكون معًا، مريني بألا أذهب.

– أظن أن الواجب يقتضيك أن تذهب، وإني لأحسب أنه من الصواب أن ترى أمك مرةً أخرى قبل …

– لست أدري، ولكني أظن أن ذلك هو الصواب.

– فرانسي! هل تتزوجينني عندما تنتهي الحرب، ويقدر لي أن أعود؟

– لأتزوجنك حين تعود.

– أصحيحٌ يا فرانسي …؟ قولي لي من فضلك أصحيح؟

– نعم.

– قوليها مرةً أخرى.

– لأتزوجنَّكَ حين تعود يا لي.

– وسنعيش في بروكلين يا فرانسي؟

– سنعيش أينما تحب.

– إذن سنعيش في بروكلين.

– إنما يكون ذلك إذا رغبتَ يا لي.

– وهل ستكتبين إليَّ كل يوم؟ كل يوم؟

ووعدت قائلة: كل يوم.

– أتكتبين إليَّ هذه الليلة حين تعودين إلى دارك، وتنبئينني عن مبلغ حبكِ لي، حتى تكون رسالتكِ في انتظاري حين أعود إلى داري؟

فوعدته بذلك، وقال: أتعدينني بألا تسمحي لأحدٍ أن يقبِّلك أبدًا؟ وألا تخرجي مع أحدٍ أبدًا؟ وأن تنتظريني مهما يطل الانتظار، فإذا لم تكتب لي العودة، أمسكتِ طول حياتك عن الزواج بأي رجل؟

ووعدته.

وطلب منها أن تقف حياتها كلها عليه بنفس البساطة التي يطلب بها موعدًا، ووعدته أن تقف حياتها عليه بنفس البساطة التي تمد بها يدها للتحية أو الوداع.

ثم انقطع المطر بعد لحظةٍ، وأشرقت السماء بالنجوم.

٥٣

وكتبت له تلك الليلة — كما وعدته — رسالةً طويلة بثَّتها ذوب حبها كله، ورددت الوعود التي بذلتها له.

وغادرت بيتها إلى عملها مبكرة عما ألفت، ليتسع لها الوقت لتسجيل الرسالة من مكتب البريد القائم بالشارع الرابع والثلاثين، وأكد لها الكاتب الذي يجلس خلف النافذة أن الرسالة ستصل إلى الجهة المرسلَة إليها في عصر نفس اليوم، وكان اليوم يوم الأربعاء، وتمنت أن يصلها الرد ليلة الخميس، ولكنها لم تحاول أن تتوقع وصوله.

ولم يكن الوقت ليتسع له حتى يكتب إليها إلا إذا كان قد كتب لها بعد افتراقهما مباشرة أيضًا، ولعل الأمر كان يقتضيه بطبيعة الحال أن يحزم أمتعته ويستيقظ مبكرًا حتى يلحق القطار (ولم يكن قد خطر لها قط أنها هي أفلحت في تدبير الوقت) رغم كل مشاغلها، ولم تصلها رسالة في ليلة الخميس.

وفي يوم الجمعة اضطرت إلى مواصلة العمل بلا انقطاع في نوبة قدرها ست عشرة ساعة؛ لأن الشركة التي تعمل بها ينقصها الموظفون لتفشي وباء الإنفلونزا، وعادت إلى منزلها قبل الساعة الثانية صباحًا، فوجدت رسالةً بارزة مسندة إلى إناء السكر على مائدة المطبخ، وفضتها بلهفةٍ:

«عزيزتي الآنسة نولان.»

وتبددت سعادتها؛ لأن هذه الرسالة لا يمكن أن تكون من لي، ولو كانت منه لكتب عزيزتي فرانسي، وقلبت الصفحة، ونظرت إلى التوقيع فوجدته السيدة إليزابيث راينور.

… آه، إنها أمه، أو لعلها زوجة شقيقه، وربما كان مريضًا لا يستطيع الكتابة، أو ربما كانت قوانين الجيش تقضي ألا يكتب الجنود المقدمون على السفر فيما وراء البحار أي رسائل لأحد، فلم يجد بدًّا من أن يطلب من شخصٍ آخر أن يكتب الرسالة نيابة عنه، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ، بل هذا هو الذي وقع.

وبدأت تقرأ الرسالة.

لقد حدثني بكل شيءٍ عنكِ، وإني لأودُّ أن أشكركِ على معاملتك التي تدل على عظيم طيبتكِ وصدق مودتكِ له حين كان في نيويورك، لقد وصل إلى داره عصر يوم الأربعاء، واضطر إلى الرحيل للمعسكر في الليلة التالية، ولم يمكث بالدار إلا يومًا ونصف يوم، وكانت حفلة الزفاف هادئةً كل الهدوء، لم يحضرها إلا أسر الزوجَين وقليلٌ من الأصدقاء …

وألقت فرانسي بالرسالة، وقالت بينها وبين نفسها: لقد ظللت أعمل ست عشرة ساعة في الصف، وأنا الآن متعبةٌ، ولقد قرأت اليوم آلاف الرسائل، وما من كلماتٍ يمكن أن تحمل لي الآن أي معنًى، ومع كلٍّ ألفت عادات سيئة في القراءة بالمكتب، أقرأ نهرًا في لمحةٍ فلا أرى فيه إلا كلمةً واحدة، ولأبدأ الآن بطرد النوم من عيني وتناول شيء من القهوة، ثم أقرأ الرسالة ثانية، ولسوف أقرؤها هذه المرة قراءةً صحيحة.

وأخذت فرانسي، والقهوة تسخن على النار، تنضح وجهها بالماء البارد مؤمنة بأنها حين تبلغ الموضع الذي تتحدث فيه الرسالة عن «الزفاف»، فإنها خليقةٌ بأن تواصل القراءة، فتتكشف لها الكلمات التالية لذلك عن: «لقد كان لي هو شاهد زواجي، وقد تزوجت شقيقه …» ذلك ما تصورت فرانسي أنها ستقرؤه في الرسالة.

وكانت كاتي راقدةٌ في سريرها مستيقظة، وسمعت فرانسي تتحرك من المطبخ، فظلت راقدةً مشدودة الأعصاب … تنتظر، وتساءلت من الذي تنتظره فرانسي؟

وقرأت فرانسي الرسالة مرةً أخرى:

… الزفاف ولم يحضرها إلا أُسر الزوجَين وقليلٌ من الأصدقاء، وقد طلب مني لي أن أكتب إليكِ، وأبيِّن السبب الذي دعاه إلى عدم الرد على رسالتك، وإني لأعود فأشكركِ على مبلغ ما بذلت في الترفيه عنه حين كان في مدينتكم.

المخلصة إليزابث راينور
وكان في ذيل الرسالة حاشية:

لقد قرأت الرسالة التي بعثتِ بها إلى لي، وكان من الخسة أن يتظاهر بأنه يحبكِ، وقد قلت له ذلك، وطلب مني أن أخبرك بأنه آسف كل الأسف على ما فعل.

إ. ر

وراحت فرانسي تنتفض في شدةٍ وعنف، وانطلقت من بين أسنانها أصواتٌ يغشاها ألمٌ ممضٌّ. وأنت: «أماه، أماه».

وسمعت كاتي القصة، وقالت بينها وبين نفسها: لقد حان أخيرًا الوقت الذي لا تستطيعين فيه أن تدفعي عن أطفالك ما تنفطر له قلوبهم، وكنتِ حين يشحُّ الطعام في البيت، تتظاهرين بأنك لا تستشعرين الجوع حتى تستطيعي أن تعطيهم المزيد، فإذا جاءت ليالي الشتاء ببردها نهضتِ من فراشكِ، وطرحتِ غطاءكِ على فراشهم، حتى لا يشعروا ببرد، وكنتِ تقتلين كل من يسعى أن يمسَّهم بضر. نعم، بذلتُ ما في وسعي لقتل ذلك الرجل في الردهة … ثم يجيء يومٌ مشرقٌ يخرجون فيه من الدار، ولا يحملون في قلوبهم إلا البراءة الطاهرة في أكمل معانيها، وإذا بهم يوغلون في غاشية حزن، وددتُ لو تبذلين حياتك ثمنًا لتجنيبهم شر التردي فيها.

وأعطت فرانسي الرسالة لأمها، فراحت تقرؤها في بطء، وخُيل إليها وهي تقرؤها أنها تعلم كيف وقعت القصة، فهاك رجلًا في الثانية والعشرين من عمره، من البين (إذا استعرنا تعبير سيسي) أنه شخصٌ مُحنَّك، وهاك فتاة في السادسة عشرة من عمرها تصغره بست سنين؛ فتاةٌ كانت لا تزال تشع في أوصالها طهارة البراءة، على الرغم من قلم الأحمر المشرق الذي تطلي به شفتَيها، وثيابها التي لا تلبسها إلا النساء الناضجات، وقدر من المعرفة التقطته من هنا ومن هناك، فتاةٌ صادفت وجهًا لوجه بعض شرور هذا العالم، وكثيرًا من محنه المريرة القاسية، ولكنها ظلت على نحوٍ عجيب بمنجاةٍ من أن يمسها هذا العالم بشر، نعم لقد أدركت السر الذي جعل فرانسي تستهوي هذا الفتى.

إيه: ماذا عساها أن تقول؟ أتقول إن ذلك الفتى لم يكن فتًى صالحًا، أو أنه على أحسن الأحوال ليس إلا رجلًا ضعيفًا، يستجيب بسهولة لكل موقفٍ يجد نفسه فيه! لا، إنها لا يمكن أن تبلغ من القسوة ما يبيح لها أن تقول هذا القول، ثم إن الفتاة خليقة بألا تصدقها على أي حال.

وابتهلت فرانسي إليها: قولي أي شيء، ما بالكِ لا تقولين شيئًا؟

– ماذا عساي أن أقول؟

– قولي إنني فتاةٌ صغيرةٌ غريرة، وسأتغلب على محنتي، هيا قولي ذلك، هيا اكذبي!

– إني أعلم ما يقوله الناس، إنك ستتغلبين على هذه المحنة، وإني لخليقةٌ بأن أقول ذلك أيضًا، ولكني أعلم أن هذا القول ليس هو الحق … آه! إنك ستنالين السعادة مرةً أخرى، فلا تخافي أبدًا، ولكن لن تنسي، فما من مرةٍ تقعين فيها في الحب إلا يكون سبب ذلك هو أن شيئًا في الرجل يذكركِ «به».

– أماه …

– أماه؟

وتذكرت كاتي، تذكرت أمها هي، حتى بلغت في تذكرها اليوم الذي أخبرتها فيه أنها ستتزوج جوني، فقد قالت لأمها آنئذٍ: «أماه! إني سأتزوج …» ولم تلفظ بعد ذلك بكلمة أماه قط؛ لأنها أتمت مرحلة النمو والنضج فكفَّت عن أن تنادي أمها بيا أماه، وها هي ذي فرانسي تقول …

– أماه! لقد طلب مني أن أبقى معه طول تلك الليلة، أترين أن الأمر كان يقتضيني أن أبقى معه؟

وحار عقل كاتي يلتمس كلمات ترد بها على ابنتها.

وقالت فرانسي: لا تحاولي الكذب يا أماه، بل قولي لي الحق.

وعزَّ على كاتي أن تجد الكلمات الصائبة التي تقال: إني لأعدك بأني لن أمضي مع رجلٍ إلا إذا تزوجته أولًا … إذا قُدِّر لي أن أتزوج أبدًا، وإذا احسست أنه يجب عليَّ أن أفعل ذلك دون أن أتزوج، فسوف أخبركِ أولًا، وهذا عهدٌ أعاهدكِ عليه، ولن أحنث به، فقولي لي الحق إذن، ولا تخشي عليَّ أن أضلَّ إذا عرفتُ الحق.

وقالت كاتي آخر الأمر: إن هناك حقيقتَين؛ فإني كأمٍ أقول لكِ إنه لشيءٌ رهيب أن تنام فتاة مع رجلٍ غريب عنها، رجلٌ لم يمضِ على معرفتها به إلا أقل من ثمانٍ وأربعين ساعة، لقد كنتِ خليقةً بأن تحدث لك أمورٌ فظيعة، بل لقد كنتِ خليقةٌ بأن تدمري حياتكِ كلها، وأنا أمكِ أقول لك الحق.

وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: لقد كنتُ أريد أن أذهب، ولكنني لم أذهب، وأنا الآن لا أريده كما كنتُ أريده؛ لأن فتاةً أخرى قد امتلكته، ولكنني أردته ولم أذهب معه، وقد فات الأوان الآن.

وألقت برأسها على المنضدة وبكت.

وقالت كاتي بعد لحظةٍ: لقد جاءتني رسالةٌ أنا أيضًا.

وكانت هذه الرسالة قد وصلتها منذ عدة أيام، ولكنها كانت تنتظر الوقت المناسب للإفضاء بها، واستقر رأيها على أن هذا الوقت كان هو الوقت المناسب.

ورددت قولها: لقد جاءتني رسالة.

وقالت فرانسي وهي تنشج: مَن … مَن أرسلها؟

– السيد ماكشين.

فازداد نشيج فرانسي.

وقالت أمها: ألا يهمك هذا الأمر؟

وحاولت فرانسي أن تكفَّ عن البكاء.

وسألت في غير اكتراث: حسنًا! وماذا يقول؟

– لا شيء، إلا أنه قادمٌ لرؤيتنا في الأسبوع المقبل.

وانتظرت، ولم تظهر فرانسي بعدُ أية علامة من علامات الاهتمام.

– إلى أي حدٍّ تودين أن يكون السيد ماكشين بمثابة أبيكِ؟

وانتفضت فرانسي رافعة رأسها: أماه! إن رجلًا يكتب أنه قادمٌ إلى بيتنا، فترتبين من فوركِ أمورًا على ذلك، ما الذي يدعوكِ إلى الاعتقاد أنكِ تعلمين كل شيء دائمًا؟

– إني لا أعلم، لا أعلم شيئًا قط حقًّا، وإنما أحسُّ، وحين يكون إحساسي قويًّا، فإنما أقول إنني أعلم، ولكني لا أعلم، فما قولكِ في أن يكون لكِ بمثابة الأب؟

وقالت فرانسي في مرارة (ولم تبتسم كاتي): إني بعد الجرح الذي أصاب حياتي، أعتبر نفسي آخر شخص يستطيع أن يُدلي بالنصح …

– إني لا أسألكِ النصح، وكل ما أريده هو أن أزداد معرفةً بموقفي، إذا علمتِ شعور أبنائي نحوه.

وشكَّت فرانسي في أن أمها تتحدث عن ماكشين، متخذةً من ذلك الحديث حيلة تصرف فرانسي عن تفكيرها، وأنها غضبت لأن الحيلة أوشكت أن تجوز عليها.

– لا أعلم يا أماه، لا أعلم شيئًا … ولست أريد أن أتحدث عن أي شيء، فاتركيني من فضلك، اتركيني، اتركيني وحدي.

وعادت كاتي إلى فراشها.

حقًّا إن المرء يستطيع أن يبكي وحيدًا وقتًا طويلًا، ثم لا يجد مناصًا من أن يشغل وقته بشيءٍ آخر غير البكاء، لقد كانت الساعة قد بلغت الخامسة، ورأت فرانسي أنه ما من فائدةٍ تُرجى من إيوائها إلى الفراش، فقد كان لا مناص لها من أن تستيقظ مرةً أخرى في الساعة السابعة، وأحسَّت بالجوع الشديد، ولم تكن قد أصابت طعامًا منذ ظهيرة الأمس، اللهمَّ إلا شطيرة تبلغت بها بين نوبتَي النهار والليل، وأعدَّت لنفسها قدحًا من القهوة الطازجة وبعض الخبز المحمص، ومزجت بيضتين، وعجبت لأنها استطابت أصناف هذا الطعام جميعًا، ولكن عينيها اتجهتا وهي تأكل إلى الرسالة، فطفرت الدموع منهما مرةً أخرى، ووضعت الرسالة في الحوض وأشعلتها بعودٍ من الثقاب، ثم فتحت الصنبور وراقبت رماد الرسالة المتفحم، وهو ينساب إلى البالوعة، وهنالك استأنفت إفطارها، ثم تناولت الصندوق الذي يحوي أوراق الكتابة من فوق الصوان، وجلست تكتب رسالة، كتبت تقول:

عزيزي بن … لقد قلت لي أن أكتب إليك إذا أحسست بالحاجة إلى ذلك، وها أنا ذي أكتب إليك …

ثم قطعت الورقة نصفَين وقالت: لا، لست أريد أن أكون بحاجةٍ إلى أي إنسان، وإنما أريد إنسانًا يحتاج إليَّ … أريد إنسانًا يحتاج إليَّ.

ثم بكت مرةً أخرى، ولكن بكاءها لم يبلغ من المرارة ما بلغه من قبلُ.

٥٤

وكانت هذه هي المرة الأولى التي رأت فيها فرانسي ماكشين بدون زيه الرسمي، ورأت أن منظره يؤثر في النفس أبلغ الأثر بحُلَّته الرمادية ذات القلابتَين التي خيطت في بذخ، ولا شك أنه لم يكن يبلغ في حسن الطلعة مبلغ أبيها، مع أنه أطول منه قامة، وأضخم بنيانًا، ولكنه في رأي فرانسي وسيم على طريقته الخاصة، ولو أن شعره كلَّله المشيب، ومع ذلك فإنه كان أكبر سنًّا بكثيرٍ من أن يناسب أمها، حقًّا إن أمها ليست صغيرة السن أيضًا، فإنها مشرفةٌ على الخامسة والثلاثين، ولكنها مع ذلك أصغر كثيرًا من سن الخمسين، ومهما يكن من شيءٍ فما من امرأة تخجل من أن تتخذ ماكشين زوجًا لها، كان صوته عذبًا حين يتكلم، على حين كان منظره منظر السياسي الأريب الذي كان عليه حقًّا.

وكانوا قد أعدوا القهوة والكعك، ولاحظت فرانسي، والألم يحزُّ في قلبها، أن ماكشين جالسٌ إلى المائدة في مقعد أبيها، وكانت كاتي قد فرغت وشيكًا من إنبائه بما حدث لهم منذ وفاة جوني، وبدا على ماكشين أنه قد عجب لما أصابوه من نجاحٍ في الحياة، ونظر إلى فرانسي: «أوهكذا استطاعت هذه الطفلة أن تلحق نفسها بالكلية في الصيف الماضي!»

وقالت كاتي في فخر: وستعود إلى الكلية هذا الصيف.

– هذا شيءٌ رائع بالنسبة لكم.

– وقد دخلت في معترك العمل، وهي تكسب الآن عشرين دولارًا في الأسبوع.

وسأل في دهشةٍ صادقًا: كل ذلك مع الصحة السابغة أيضًا؟

– وقد بلغ الصبي منتصف الطريق في دراسته الثانوية.

– صحيح؟

– وهو يعمل هنا وهناك في المساء، ويكسب أحيانًا مبلغًا يصل إلى خمسة دولارات في الأسبوع خارج وقت الدراسة.

– إنه لصبيٌّ ماهر، بل من خيرة الصبيان، انظروا إلى علائم الصحة البادية عليه، أليس كذلك؟

وعجبت فرانسي لحديثه المستفيض عن الصحة، التي هي في نظرهم دائمًا شيءٌ طبيعيٌّ مُسلَّم به، ثم تذكرت حال أطفاله وكيف كان معظمهم يولدون وقد كُتب عليهم أن يمرضوا ويموتوا قبل أن يشتدَّ عودهم، فلا عجب أن يرى العافية شيئًا جديرًا بالإشادة.

ثم سأل: والطفلة؟

وقالت كاتي: اذهبي يا فرانسي واحمليها إلينا.

وكانت الطفلة في مهدها بالغرفة الأمامية التي كان مفروضًا أن تكون هي غرفة فرانسي، إلا أن الأسرة كلها اتفقت على أن الطفلة في حاجةٍ إلى النوم في غرفةٍ جيدة التهوية، وحملت فرانسي الطفلة النائمة وفتحت الطفلة عينَيها، ولم تلبث أن بدا عليها الاستعداد للاستجابة لأي شيء.

وسألت: ها، ها، فراني، المتنزه؟ المتنزه؟

وقالت فرانسي: لا يا حبيبتي، سأقدمك إلى رجل.

فقالت لوري متشككة: رجل؟

– نعم، رجلٌ ضخم!

ورددت الطفلة قولها في سعادةٍ: رجلٌ ضخم!

وحملتها فرانسي خارجةً إلى المطبخ، وكانت الطفلة حقًّا شيئًا جميلًا يسر الناظرين، وبدا محياها غضًّا نديًّا في منامتها من الفانلة الوردية، وشعرها إكليلًا غزيرًا من الخصل السوداء المجعدة الناعمة، وعيناها التي اتسعت الفرجة بينهما مشرقتَين، ويغشى خدَّيها لونٌ ورديٌّ داكن.

وترنم ماكشين قائلًا: آه! الطفلة، الطفلة! إنها لوردةٌ، وردةٌ برية!

وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: لو كان أبي بيننا لراح يغني أغنية «وردتي الأيرلندية البرية»، وسمعت أمها تتنهد، وتساءلت أتراها هي أيضًا تفكر …

وحمل ماكشين الطفلة، وجلست على ركبتَيه، وشدت ظهرها مبتعدة عنه، وحملقت فيه في ارتياب، وودت كاتي ألا تبكي، وقالت: لوري، السيد ماكشين! قولي السيد ماكشين!

ونكست الطفلة رأسها ثم تطلعت من خلال رموشها، وابتسمت ابتسامة العارف وهزت رأسها رافضة، وقالت: لا … لا … راجل.

… ثم صححت قولها بنفسها قائلة: رجل.

فصاحت أمها في انتصار: رجلٌ ضخم!

وابتسمت لوري لماكشين، فقالت في إغراءٍ ودلال: خذ لوري إلى الحديقة، الحديقة؟

ثم أسندت خدها على سترته، وأغمضت عينَيها، وترنم ماكشين قائلًا: هوه، هوه.

ونامت الطفلة بين ذراعيه.

– يا سيدة نولان! إنكِ لتعجبين من حضوري الليلة، فدعي العجب، لقد أتيت في أمرٍ شخصي.

ونهضت فرانسي ونيلي ليغادرا الحجرة.

– لا، لا تغادرا الحجرة أيها الطفلان، فالأمر يخصكما كما يخص أمكما.

وعادت فرانسي ونيلي إلى الجلوس، ثم تنحنح ماكشين وقال: يا سيدة نولان! لقد مضى وقتٌ على وفاة زوجكِ رحمه الله …

– نعم، مضت سنتان ونصف سنة، رحمه الله.

ورددت فرانسي ونيلي: رحمه الله.

– وقد مضى على وفاة زوجتي سنة، رحمها الله.

فردَّ آل نولان قائلين: رحمها الله.

– لقد صبرت عدة سنين، والآن حان الوقت الذي لم يعد فيه الإفصاح مسيئًا إلى ذكرى الموتى، يا كاترين نولان! إني أطلب منك أن نعيش معًا، وأن يكون الزفاف في الخريف.

ونظرت كاتي سريعًا إلى فرانسي وعبست، وتساءلت فرانسي بينها وبين نفسها: ترى ماذا دهى أمها على أية حال؟ ولم تكن فرانسي لتفكر حتى في الضحك.

– إني لفي مركز يسمح لي بأن أعنى بك وبأطفالك الثلاثة، وإن إيرادي من معاشي ومرتبي، ودخلي من ضيعتي في وودهافن وريتشموند هيل يبلغ أكثر من عشرة آلاف دولار في السنة، ولديَّ تأمين أيضًا، وإني لأعرض عليك أن أدخل الصبي والفتاة في الكلية، وأعدك بأن أكون زوجًا مخلصًا في المستقبل، كما كنتُ في الماضي.

– هل فكرت في الأمر مليًّا يا سيد ماكشين؟

– ما من حاجةٍ تدعوني إلى التفكير، ألم يستقر عزمي على ذلك منذ خمس سنوات، حين رأيتك لأول مرة في رحلة ماهوني؟ وقد سألتُ الفتاة آنئذٍ إذا كنتِ أنتِ أمها؟

– إني امرأةٌ أعمل في تنظيف البيوت، ولم أتعلم.

قالت ذلك تقريرًا لحقيقة، وليس اعتذارًا.

– تعليم! وي! ومن علمني القراءة والكتابة؟ لم يعلمني أحد إلا نفسي.

– ولكن رجلًا مثلك يشتغل بالحياة العامة يحتاج إلى زوجةٍ تعرف آداب المجتمع، وتستطيع أن تحتفي بأصدقائك من رجال الأعمال ذوي الجاه والنفوذ، ولست امرأة من هذا الطراز.

– إن مكتبي هو المكان الذي أرحِّب فيه بعملائي، وبيتي هو المكان الذي أعيش فيه، ولا أقصد الآن أنكِ سوف لا تكونين ذخرًا لي، فإنك أهل لأن تكوني ذخرًا لرجلٍ أفضل مني، ولست في حاجةٍ إلى امرأةٍ تساعدني في أداء أعمالي، فأنا أستطيع أداءها بنفسي، وشكرًا لكِ. هل من داعٍ يدعوني إلى التوكيد بأنني أحبك … يا …

ثم تردد قبل أن يناديها باسمها المجرد:

– … يا كاترين، ألم يحن الوقت لأن تفكري في الأمر مليًّا؟

– لا، لست في حاجةٍ إلى التفكير في الأمر، فإني سأتزوجك يا سيد ماكشين لا لدخلك، وإن كنت لا أتغاضى عن ذلك، فإن عشرة آلاف دولار في السنة مبلغٌ كبير، بل إن ألف دولار فقط مبلغ كبير بالنسبة لنا، فنحن لا نملك من المال إلا القليل، وقد بلونا أن نعيش بدونه، ولست أتزوجك لتلحق طفلي بالكلية، ولو أن مساعدتك ستيسر الأمر كثيرًا، ولكنني أعلم أننا من غير مساعدةٍ على الإطلاق، خليقون بأن نسعى لتحقيق ذلك بوجهٍ من الوجوه، ولست أتزوجكَ لمركزكَ الكبير في المجتمع، وإن كان يطيب لي أن أتخذ زوجًا أفخر به، إنما أتزوجك لأنك رجلٌ صالح أحب أن تكون لي زوجًا.

وكان ما قالته حقًّا، ذلك أن كاتي استقر رأيها على أن تتزوجه إذا طلب يدها، لا لشيءٍ إلا لأن حياتها لا يمكن أن تكتمل دون أن يحبها رجل، ولم يكن للأمر صلة بحبها لجوني، فإنها سوف تقيم على حبه أبدًا، كان شعورها حيال ماكشين أهدأ وأرصن، فهي تعجب به وتحترمه، وتعلم أنها سوف تكون زوجةً صالحة له.

وقال ماكشين في تواضعٍ خالص من الزيف: شكرًا لك يا كاترين فما أيسر ما أعطيه حقًّا لقاء زوجةٍ جميلةٍ شابة وثلاثة أطفال أصحاء؟

والتفت إلى فرانسي وقال: أتوافقين أنت يا أكبر الأطفال؟

ونظرت فرانسي إلى أمها التي بدا عليها أنها تنتظر منها أن تفصح عن رأيها، ونظرت فرانسي إلى أخيها فأومأ برأسه موافقًا.

– إني لأحسب أن أخي وأنا نود أن نتخذك …

وطفرت الدموع من عينَيها، إذ فكرت في أبيها، ولم تستطع أن تقول الكلمة التالية.

وقال ماكشين مخففًا عنها: لا عليكِ، لا عليكِ، فإني لا أريد أن أسبب لك حرجًا.

ثم التفت إلى كاتي وقال: لست أطلب من الطفلَين الكبيرين أن ينادياني بيا أبي، فقد كان لهما أبٌ كأحسن ما خلق الله … كان دائمًا مرحًا بشوشًا طروبًا.

وأحست فرانسي بغصةٍ في حلقها.

– ولست أريد أن يسمَّيا باسمي، فإن اسم نولان اسمٌ جميل.

– ولكني أتمسك بهذه الطفلة الصغيرة، تلك الطفلة التي لم تفتح عينَيها قط على وجه أب، هل تتفضلين فتدعينها تناديني بأبي، وهل تسمحين لي بتبنيها شرعًا، وتسبغين عليها الاسم الذي ستحملينه أنت وأنا معًا؟

وتطلعت كاتي إلى فرانسي ونيلي، ترى كيف يتقبلان أن تنسب أختهما لماكشين، بدلًا من نولان، وأومأت فرانسي موافقة، وكذلك فعل نيلي.

وقالت كاتي: سنهب لك الطفلة.

وقال له نيلي فجأة: لا نستطيع أن ندعوك بأبينا، ولكننا قد ندعوك بعمنا.

وقال ماكشين ببساطة: إني أشكركما.

ثم هدأت أعصابه وابتسم لهم.

– وبعدُ، أتراني أستطيع أن أدخن غليوني؟

فقالت كاتي في دهشة: عجبًا! إنك تستطيع أن تدخن في أي وقتٍ تشاء من غير سؤال.

فقال مفسرًا: لست أريد أن تكون لي حقوق قبل أن يتهيأ لي الحصول عليها، وأخذت فرانسي الطفلة النائمة من بين ذراعيه، حتى تتيح له أن يدخن.

وقالت فرانسي: أعنِّي على وضعها في الفراش يا نيلي.

وكان نيلي يستمتع بالحديث كل الاستمتاع، ولا يريد أن يغادر الغرفة، فقال لها: لماذا؟

– لتثبيت الأغطية في المهد، فإن الأمر يقتضي أن يفعل ذلك أحدٌ وأنا أحمل الطفلة.

ترى هل كان نيلي يجهل كل شيء؟ ألم يكن يعلم أن ماكشين وأمه، قد يكونان في حاجةٍ إلى أن يخلو كلٌّ منهما إلى الآخر لحظة على الأقل؟

وهمست فرانسي إلى أخيها في ظلمة الحجرة الأمامية: ما رأيك في ذلك؟

– لا شك أن فيه ترويحًا عظيمًا لأمنا، صحيحٌ أنه ليس أبانا …

– لا، لن يكون لنا أبدًا أب غير أبينا، ولكن بصرف النظر عن ذلك فإنه رجلٌ صالح.

– ستتيسر الحياة للوري كل اليسر.

– آني لوري ماكشين! إنها لن تلقى أبدًا من الشدائد ما لقينا، أليس كذلك؟

– نعم، ولن تلقى من المفارقات ما لقينا.

– وي! لقد لقينا في حياتنا مفارقاتٍ عجيبة، أليس كذلك يا نيلي؟

– ما أكثر ما لقينا!

وقالت فرانسي في أسًى وإشفاق: مسكينة لوري!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤