كلمة أخيرة

تحديث

بعد نشْرِ الإصدارِ الأول من كتاب «البحث عن قطة شرودنجر» بفترةٍ قصيرة، سُئل جون بيل عمَّا إن كان يرى أنَّ تجربة «أسبيكت» هي الاختبار التجريبي «النهائي» الحاسم للواقع الكَمِّي، أم لا. وقد أجابَ:

كلا، لا أعتقد ذلك. إنها تجربة مهمة، وهي ربما تحدِّد النقطة التي ينبغي للمرء التوقُّف عندها والتفكير لبعض الوقت، لكني آمُل بالطبع ألا تكون هي النهاية.1

ومن منطلق أنَّ التجربة «تحدِّد النقطة التي ينبغي للمرء التوقُّف عندها والتفكير لبعض الوقت»، ألَّفتُ هذا الكتاب. لكن إلى أين أخذَنا ربعُ قرن آخر من التفكير وإجراء التجارب؟

يُعَد التطور الأهم فيما يتعلَّق بالتفكير بشأنِ الواقعِ الكَمِّي هو تحوُّل تفسير العوالم المتعدِّدة من «رأي أقلية جدير بالاحترام» إلى رأيٍّ شائعٍ للغاية لدرجةِ أنه صار يُشار إليه بالحروف الأولية من مصطلحه الإنجليزي، التي يعرفها جميعُ الفيزيائيين. في أواخر الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، حازت الفكرة دعمًا من علماء الكَوْنيات، ومنهم الشهير ستيفن هوكينج الذي لم يَجِد طريقةً تؤدي إلى «انهيار الدالة الموجية للكون»، واضطُر إلى التفكير في البديل، وهو تفسير العوالم المتعددة. غير أنَّ عِلم الكونيات مجالٌ مبهم بعض الشيء، والسبب الحقيقي لإحياء تفسير العوالم المتعددة هو تطويرُ الحوسبةِ الكَمِّية، لا سيَّما ما قام به فيزيائيُّ جامعة أكسفورد ديفيد دويتش.

لقد عرضتُ التفاصيلَ في كتابي «البحث عن العوالم المتعددة»، لكني سأوضِّح هنا بإيجازٍ أنَّ الحاسوبَ الكَمِّي يختلف عن الحاسوب العادي الذي أستخدمه لكتابة هذه الكلمات في أنَّ «المحوِّلات» الموجودةَ في بنوكِ ذاكرتِه (وحدات «البِت») ليست «تشغيل» و«إيقاف تشغيل» فحسب، بل يمكن، وفقًا لتفسير كوبنهاجن، أن توجَد في تراكبٍ من الحالات على غرارِ قطةِ شرودنجر، فتُوجَد في حالتَي «التشغيل» و«إيقاف التشغيل» في الوقتِ نفسِه. ومن الناحية العملية يعني هذا أنَّ عدد وحدات البِت الفعلي في هذا الحاسوب لا يساوي عدد المحوِّلات، بل يساوي العدد ٢ مرفوعًا لأُس عدد المحوِّلات. وبهذا فإنَّ حاسوبًا كمِّيًّا بذاكرةٍ سعتُها ٤ بِت يعمل بكفاءةِ حاسوبٍ تقليديٍّ بذاكرةٍ سعتُها ١٦ بِت، وهكذا. وبذاكرةٍ سعتُها ١٠ بِت (أو بِت كَمِّي) فحسب، فإنَّ الحاسوب سيعمل بكفاءة حاسوب عادي تبلغ سعة ذاكرته ١٠٢ بِت أو كيلوبِت واحدًا.

وفي وقتٍ مبكِّر يعود إلى عام ١٩٨٥، أثبت دويتش نظريًّا أنَّ الحواسيب الكَمِّية ستكون قادرةٍ بصفةٍ أساسيةٍ على إجراءِ عملياتٍ حسابية تعجز الحواسيب التقليدية عن إجرائها. لكنَّ الجوانب العملية لبناء مثل هذا الحاسوب كانت تتجاوز قدرات التجريبيين في ذلك الوقت. الأمر المذهل أنه بالرغم من الصعوبات العملية، حدثَ إنجازٌ بارز للغاية في بداية القرن الحادي والعشرين؛ إذ تمكَّن فريقٌ في «مركز أبحاث المادين» التابع لشركة «آي بي إم» من تصميم كمبيوتر كَمِّي تبلغ سعةُ معالِجه سبعة بِت كَمِّي؛ أي ما يعادل ١٢٨ بِت في الأجهزة التقليدية، وصارت بعض الحواسيب الكَمِّية الأكبر بعض الشيء تُستخدم الآن. إنَّ الحوسبة الكَمِّية ناجحةٌ بالتأكيد. لكن الأهم، هو كيف تنجح، أو بالأحرى، «أين»؟

لا ينشغل العلماء التجريبيون كثيرًا بشأن ذلك. لكنَّ دويتش قد توصَّل إلى استنتاجاتٍ مهمةٍ من نجاحِ الحوسبةِ الكَمِّية. في الحوسبة، يُطلق على ٨ وحدات من البِت اسم البايت، وهي الوحدة المعتادة التي نقيس بها ذاكرة الحاسوب. ويمكن لمخزن ذاكرة (يُسمَّى عادةً «السجل») يتألَّف من ٨ وحداتٍ كَمِّية أن يتذكَّر ٢٥٦ عددًا في الوقت نفسه. يقول دويتش إنَّ التفسير المنطقي الوحيد لهذا أنَّ «التراكب» يمثِّل بالفعل ٢٥٦ «عالَمًا موازيًا» مختلفًا. وإذا كان لدينا حاسوبٌ كَمِّي تبلغ سعة ذاكرته ١٠٠ بِت كَمِّي فحسب، فسوف يعادل في كفاءته ١٢٦٧ مليار مليار مليار حاسوب تقليدي جميعها يعمل في ١٢٦٧ مليار مليار مليار عالَم. إنَّ حقيقةَ عملِ الحواسيب الكَمِّية تثبت وجود العوالم المتعددة. وقد أدَّى هذا بدويتش إلى وضعِ تصوُّرٍ مختلِفٍ لموضوع تفسير العوالم المتعددة، وهو يقدِّم فهْمًا جديدًا للواقعِ الكَمِّي.

كانت الطريقة التي يفكِّر بها أشخاصٌ مثل هيو إيفريت في العوالم المتعدِّدة تتمثَّل في الانقسام. ففي تجربة القطة وفقًا لتصوُّرهم، ينقسم العالَم بأكمله إلى فرعَين في لحظةِ إجراء التجربة؛ أحدهما يحتوي على قطةٍ ميتة، بينما يحتوي الآخر على قطةٍ حية. لكنَّ دويتش يرى أنَّ كلتا النسختين من الواقع موجودةٌ «دائمًا». كان يوجد كَوْنان على الدوام، وقد ظلَّا متطابقَين حتى نقطةِ إجراء التجربة، وحدث الاختلافُ بينهما بدءًا من تلك النقطة. في أحدِ الكَوْنين، تموت القطة (أو بالأحرى تموت «قطةٌ» ما)، وفي الكون الآخر تعيش القطة، لكن «دون» انقسام. بدأت بعض الأفكار المماثلة تتشكَّل أيضًا منذ ثمانينيات القرن العشرين على يدِ فيزيائيٍّ آخرَ من جامعة أكسفورد، وهو جوليان بربور، الذي طوَّر منظورًا مثيرًا للاهتمام عمَّا يعنيه هذا كلُّه فيما يتعلَّق بفهْمنا لطبيعة الزمن. غير أنَّ تلك قصةٌ أخرى.

ثمَّة تطوُّر عملي آخر حدث في السنوات الأخيرة ينبع من مفارقة «إي بي آر» وتجربة «أسبيكت». فمنذ ١٩٨٤، انتقلنا من إثباتِ أنَّ أيَّ كِيانَين كُموميَّين يتفاعلان يظلان في حالةِ «تشابك»، حتى إذا فصلت بينهما مسافاتٌ ضخمة، إلى تطبيق هذا السلوك الناتج عمليًّا. وقد جرى ذلك بطريقتَين. الأولى هي إنتاجُ تعليماتٍ برمجيةٍ كَمِّية لا يمكن فكُّ تشفيرها، والثانية هي تطويرُ الانتقال الآني.

إنَّ أول نسخةٍ جرى تطويرها من التشفير الكَمِّي لا تتضمَّن التشابكَ الكَمِّي بصورةٍ مباشرة، وإنما تعتمد على التراكب الكَمِّي. تُعزى هذه النسخة إلى بحثٍ أجراه كلٌّ من تشارلز بينيت الذي كان يعمل لدى شركة «آي بي إم» وجيليس براسارد الذي كان يعمل في مونتريال عام ١٩٨٤. تتمثَّل الطريقة التي تعمل بها التعليمات البرمجية (الشفرات) في أنَّ الرسالةَ الأصلية تُشوَّش بطريقةٍ ما حتى لا يمكن فَهْمها، ثم تُنقَل إلى شخصٍ آخر يتمكَّن من إزالة التشوُّش لأنه يملك «مفتاحًا» يخبره بطريقةِ فعْلِ ذلك. تكمُن الفكرة في كيفية نقل المفتاح من المُرسِل إلى المستقبِل دون حصولِ طرفٍ ثالثٍ عليه واستخدامه في فكِّ شفرةِ الرسالة. كان الحل الذي اقترحه بينيت وبراسارد هو إرسال المفتاح في صورةِ سلسلةٍ من الفوتونات في حالاتٍ مختلفة من الاستقطاب. ستكون هذه الفوتونات في حالاتٍ من التراكب؛ ومن ثَم إذا حاول المتنصِّت «قراءة» المفتاح، فستنتقل الفوتونات إلى حالة أو أخرى، مما يوفِّر دليلًا على اعتراض التواصل. والأفضل من ذلك، ومن دونِ إسهابٍ في التفاصيل التقنية، يمكن إعدادُ النظامِ بطريقةٍ تجعل المتنصِّت يدمِّر المعلومات الموجودة في المفتاح بمحاولة قراءتها؛ ولذا فلن يتمكَّن من استخدامها على أية حال. وليس ذلك من شطحات الخيال النظري فحسب. ففي الحادي والعشرين من أبريل عام ٢٠٠٤، بعد عشرين عامًا فحسب من توصُّل بينيت وبراسارد إلى هذه الفكرة، أجرى فيزيائيون من جامعة فيينا بمساعدةِ بنكٍ محلي وعُمدة المدينة تحويلًا إلكترونيًّا للأموال من البنك إلى سلطات المدينة باستخدام هذا النوع المحدَّد من الأنظمة التي لا يمكن فكُّ شفرتها. نُقِلت إشارات مماثلة أيضًا عبر الأثير على نطاقٍ يزيد عن ١٥٠ كيلومترًا، مما يثبت أنه سيصبح من الممكن إرسالُها إلى مدار الأرض على متن أقمار صناعية. وما هي إلا مسألةُ وقتٍ، ولن يكون وقتًا طويلًا على الأرجح، ويُستخدم هذا الأسلوب بطريقةٍ اعتياديةٍ في تشفير المعلومات، كالمعلومات التي تقدِّمها عند استخدام بطاقات الائتمان للشراء عبر الإنترنت.

أما الأسلوب الثاني للتشفير الكَمِّي فقد اقترحه أرتور إيكيرت الباحث بجامعة أكسفورد في تسعينيات القرن العشرين، لكنه لم يبلغ تلك المرحلة المتقدمة من التطبيق العملي. يستند هذا الأسلوب إلى مبدأ بسيط، لكنه ذو صعوباتٍ عمليةٍ هائلة. ففي البداية، يجب إعدادُ زوجٍ من الفوتونات (أو غيرها من الكِيانات) التي توجد في حالةِ تشابك. بعد ذلك، تُرسِل أحدَ الفوتونَين إلى صديقك الذي يُجري قياسًا يعترض مسار الفوتون، ثم يرسله إليك مجددًا. وأخيرًا، تُجري قياسًا لحالة الكِيانَين المتشابكَين، فيخبرك بما فعله صديقك للكِيان الذي تدخل فيه. لا يمكن لأحدٍ أن يفكَّ شفرة هذا المفتاح؛ لأنك تحتاج إلى كلا الكِيانَين المتشابكَين لمعرفةِ ما فعله صديقك، المشكلة هي أنه سيكون عليك إرسال تدفُّق من الفوتونات ذَهابًا وإيابًا مع الاعتناء في الوقتِ نفسِه بشركائها من الفوتونات لكي تتمكَّن من إرسالِ مقدارٍ مفيدٍ من المعلومات، غير أنَّ التغلُّبَ على هذه المشكلة ممكن.

لقد ادَّخرت الأسلوبَ الأفضل، أو المفضَّل لديَّ على الأقل، إلى النهاية. توصَّل تشارلز بينيت عام ١٩٩٣ إلى استخدامٍ آخرَ للتشابك، وهو الانتقال الآني الكَمِّي. وكالمعتاد، يبدأ الإجراء بالفوتونات، لكن ربما يتطوَّر في يومٍ ما إلى ما هو أكبرُ من ذلك. يتمثَّل المبدأ الأساسي للانتقال الآني في صنْعِ نسخةٍ طبْقِ الأصل من شيءٍ ما في موقعٍ مختلفٍ عن الموقع الأصلي للشيء؛ أي كشراء ملفات الموسيقى بتنسيق «إم بي ثري» عبر الإنترنت على سبيل المثال. لقد ثبُتَ أنَّه من المحال استنساخ فوتون واحد؛ أي يستحيل صنْعُ نسخةٍ طبقِ الأصل منه في الحالةِ الكَمِّيةِ نفسِها. بالرغم من ذلك، يمكن تنفيذ الانتقال الآني، وقد تحقَّق ذلك بالفعل باستخدام زوجٍ من الفوتونات المتشابكة. تتمثَّل البداية في إعدادِ زوجٍ من الفوتونات المتشابكة التي تُنقَل بعد ذلك إلى مواقعَ مختلفةٍ دون إجراء أي قياس لحالاتها. بعد ذلك، يسمح أحد القائمين بالتجربة للفوتون المسئول عنه بالتفاعل مع شيء آخر، ويخزِّن المعلومات بشأنِ ناتِج هذا التفاعل. وبعدها تُنقَل هذه المعلومات إلى القائم بالتجربة الثاني باستخدامِ طرقٍ تقليدية (ومن الضروري ألا تتجاوز سرعة الضوء). وباستخدام هذه المعلومات، يمكن لفيزيائي بارع أن يعدِّل الفوتون الثاني بطريقةٍ تجعله نسخةً طبقَ الأصل من الفوتون الأول. في واقع الأمر، يصبح الفوتون الثاني هو الفوتون الأول. ونؤكِّد مرةً أخرى على أنَّ ذلك قد تحقَّق بالفعل. لقد نجح الفيزيائيون بالفعل في إجراءِ النقل الآني لفوتوناتٍ من أحد جانبي مختبر إلى الجانب الآخر في البداية، ونجحوا مؤخرًا في نقلها آنيًّا عبرَ مسافةٍ تبلغ بضعة كيلومترات.

إلى أين سيئول الأمر؟ لا يمكن لأحدٍ أن يعرف على وجه اليقين إلى أين ستأخذنا مثل هذه التطورات في القرن الحادي والعشرين، مثلما كان الأخوَان رايت لا يعرفان إطلاقًا مدى تطوُّر آلات الطيران خلال القرن العشرين. لكنَّ الجلي أنَّ أسرارَ عالَمِ الكَمِّ قد انكشفت، وأننا على أعتابِ مرحلة جديدة من تطبيق المبادئ الكَمِّية في الاستخدامات العملية. ومن المرجَّح أن يكون القرن القادم أكثرَ إثارة حتى من سابقه.

هوامش

(1) Paul Davies and Julian Brown (editors), The Ghost in the Atom, Cambridge University Press, 1986.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤