في الحياة الروحية١

١

في الإنسان — فيما أعتقد — قوة أو ملَكة غير القوة العاقلة، يستطيع أن يدرك بها نوعًا من الحقائق في هذا الكون من غير أن يستعمل الطرق المألوفة في المنطق، من مقدمات يستنتج منها نتائج، وهذه القوة موضع الوحي والإلهام والكشف ونحو ذلك من أسماء، وهي لا تعتمد على حساب للمقدمات وتقديرٍ للنتائج، وإنما هي ومضة كومضة البرق تنكشف بها بعض الحقائق.

نجدها حتى في الحيوان كما قال الله تعالى: وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ونجدها في الأطفال، يدركون بها ما لا يدركه الكبار بعقلهم وتجاربهم؛ ونجدها في المرأة أكثر منها في الرجل، فلها حاسة غريبة هي نوعٌ من الإلهام تصل بها إلى الأشياء التي تهمها، من غير أن يكون لها مقدمات معقولة.

وقوة الإلهام تختلف في الناس قوةً وضعفًا كاختلاف القوة العاقلة، فكما فيهم الذكي والغبي، والبليد والأبله، والرياضي ومن لا يفقه شيئًا في الرياضة، كذلك فيهم الملهَم وغير الملهم، والمستنير والمظلم، كما في الحديث: «إن في أُمَّتِي ملهمين، وإن منهم لعُمَر». وهذه القوة الإلهامية لا تتصل بمقدار القوة العاقلة، ولا بمقدار الذكاء، ولا بمقدار ثقافة الشخص وكثرة علمه؛ فلعل كثيرًا منا شاهد هذا الفلاح غير المتعلم الذي وفد على القاهرة منذ سنين، وهو لم يتعلم قراءةً ولا كتابة ولا حسابًا، وكان يُعطَى المسألة مكوَّنة من ستة أرقام أو سبعة ليضربها في أرقام ستة وسبعة، فيجيب على البديهة بحاصل الضرب من غير استخدام أي وسيلة من وسائل الضرب المعروفة، حتى لقد اقتُرح أن يعين في مصلحة الإحصاء لضبط العمليات الرياضية، كأنه آلة من الآلات المخترَعة لعمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة.

وفى حياتنا العملية نرى أمثلة كثيرة من هذا القبيل، أناسًا يمتازون بإلهامهم كما يمتاز آخرون بعقولهم وتجاربهم؛ هناك التاجر الذي يعرف السوقَ بإلهامه فيحدس في مستقبل السوق حَدْسًا صادقًا يستدعي العجب، وقد لا يستطيع أن يجاريه في ذلك الذكيُّ الدارس للاقتصاد وحركة الأسواق وجغرافية العالم، والمطَّلع على أحدث النظريات في الشؤون التجارية؛ ومثلُ هذا في محيط الزرَّاع والصناع ورجال الحرب وغيرهم.

ويتجلى هذا الإلهام بوضوحٍ في الفن؛ فالجمال كله مغلَّف بالغموض، ومهما قيل في نظريات الجمال ووضع قواعد له تخضع للعقل والتجارب، فإن كل ما قيل فيه لم يكشف غموضه، وظل يعتمد في أكثر شؤونه على الإلهام والذوق لا على العقل والتجارب. إنَّا لنرى كل شيء ينتج مثله، فالمادة تنتج مادة، والرأي ينتج رأيًا، والحياة تنتج حياة، ولكن من أين ينتج الجمال؟ إنه ينتج من أشياء غريبة عنه كالصوت واللون، بل قد ينتج من القبح نفسه! وقد يكون كل جزء في الإنسان وحده جميلًا، فإذا رُكِّب لم يكن جميلًا ككل، والعكس، فكيف كان هذا؟ لا ندري! وقوة الجمال نفسها كيف تفعل فينا هذه الأفاعيل، وكيف تلعب بالعالم هذا اللعب؟ لا ندري! وناحيةٌ أخرى وهي الفنان نفسه، كيف كان هذا الفنان فنانًا؟ إن الدلائل كلها تدل على أن هذا الإنسان لا يصلح لشيء، فإذا هو فنان مبدع! لعل كثيرين شاهدوا شوقي بك وجالَسوه، ورأوا أنه لا يُحسن حديثًا ولا يُحسن تفكيرًا، وعيناه كأنهما رُكِّبتا على زئبق، ومهما أطلت الجلوس معه فلا ترى فيه أثرًا من آثار العبقرية؛ وبعد ذلك، فهو شاعر عظيم، بل أعظم شاعر في الشرق في العصور الحديثة. وقد وصف بعضهم شكسبير فقال: «ما أعظم شاعريته، وما ألطف طفولته وسذاجته!» وكان جان جاك روسو من أخيب خلق الله نشأةً، لم يصلح لدراسة علمية ولا فنية، ولم يصلح لخلُق؛ حياته — كما تدل عليه اعترافاته — سلسلة أخطاء وسلسلة سقطات، وسلسلة غباوات، ناقص العقل، ضعيف الإرادة، يستجيب للدوافع الوقتية. لم ينجح في الدراسة المدرسية، ولا في الدراسة الموسيقية، ومع هذا كله فقد كان من أنبغ ما أنتجه العالم. استطاع بنتاجه الفني أن يغيِّر التفكير في فرنسا، وقد يكون غيَّر التفكير في العالم أيضًا، ولوَّن المدنية الحديثة لونًا جديدًا. ما ميزة كل هؤلاء الفنانين جميعًا إذا كانت حالتهم كما نرى؟ لا شيء غير الإلهام، بدليل أنهم لم ينبغوا من ناحية قوة عقلهم وتجاربهم، إنما كان نبوغهم من حيث مقدرتهم الإلهامية.

ثم إن الفن نفسه كيف يكون؟ إذا سألت الشاعر كيف يقول شعره وكيف تأتيه المعاني والأخيلة، وسألتَ الروائي كيف تأتيه فكرة الرواية وأحداثها وتأليفها، والرسام كيف يتصور ويتخيَّل، وكيف يؤلِّف بين الألوان، أجاب كل هؤلاء أنهم لا يدرون كيف يجيبون، وأنهم لا يعملون في ذلك عقلًا، وإنما ينتظرون إلهامًا! وقد يُلْهَمُ الشاعر مطلع القصيدة من حيث لا يحتسب، ثم يُعمِل فكره وخياله أيامًا وليالي ليضم إلى المطلع قرينه فلا يفلح؛ لأن الوحي انقطع عنه، ولا يزال كذلك حتى يأتيه الوحي مرة أخرى فيتدفق، ولا يدري كيف وُفِّق وكيف عجز! ومهما علَّلت ذلك بالصحة أو المرض، أو السرور أو الحزن، أو اعتدال المزاج وفساده، أو نحو ذلك، لم تجد هذا التعليل صحيحًا مطَّردًا.

كذلك كثيرًا ما نرى هذه القوة — قوة الإلهام — في النوابغ، والنابغة الذي أعنيه هو القادر على التعبير عن زمنه وقومه أحسن تعبير، الدافع لأمته أو لعالَمه إلى الأمام ليجعله أقرب إلى المثل الأعلى في تفكيره وعاداته. ولو نظرنا إلى حياة كثيرٍ من النابغين من هذا القبيل لوجدناهم قد امتلكوا هذه القوة الإلهامية وكانت هي علة نجاحهم، أمعَنوا في الإيمان بعقيدتهم إمعانًا قد لا يرتضيه العقل الفلسفي، وتصرفوا في حمل قومهم على عقيدتهم تصرفًا قد لا يُقرُّه الأسلوب المنطقي، وتأججت عواطفهم وساروا في حياتهم كما توحيه إليهم نفوسهم أكثر مما توحيه عقولهم؛ بل كثير من هؤلاء النابغين كانوا شذَّاذًا في ناحيتهم العقلية، مما جعل بعض الباحثين في النبوغ يقرن بين النبوغ والشذوذ بل والجنون.

بل كثير من المخترعين كان اختراعهم واكتشافهم إلهامًا أكثر منه بحثًا علميًّا، إنما كان البحث العلمي خدمة وتحقيقًا وتأييدًا للومضة الأولى الإلهامية. كم من الناس رأوا التفاح والثمار بأجمعها تسقط من أشجارها، ولكن إلهامًا أُلهمه «نيوتن» قرن هذا السقوط بفكرة الجاذبية، ثم استخدم العلم والعقل لاكتشاف قوانينها. كم من الناس رأوا مصابيح المعابد معلَّقة في حبالها، يلعب بها الهواء فيحركها حركة البندول، ولكن جاليليو هو الذي أُلْهِمَ هذا الإلهام، فاكتشف به قانون الذبذبة، وأتى العقل والعلم بعد ذلك يكمل هذه القوانين ويستخدمها في الحركات الميكانيكية. وهكذا كان الإلهام أولًا، والعقل ثانيًا.

ثم الإلهام في المجال الديني، فهناك رجال من جميع الأديان في مختلف الأزمنة ذكروا أنهم استطاعوا بالإلهام أن يتعرفوا الحقيقة عن طريق الكشف لا عن طريق العلم، وعن طريق الذوق لا عن طريق العقل، وأن ما عرفوه من هذا الطريق كان أقوى وأبين، حتى كأنهم ينظرون بأعينهم، ويسمعون بأذنهم، ومِن هؤلاء من لا يرتقي الشك إلى أقوالهم ككبار الصوفية، ومنهم الغزالي، وكأفلوطين الفيلسوف في القرن الثالث الميلادي الذي قال: إنه رأى الحق، ووصل إلى الله وتكشفت له الحقيقة في حياته على هذا الوجه أربع مرات تكشُّفًا يفوق الوصف، حكى ذلك عنه تلميذه فرفوريوس، وكان يعلم حقيقة ما يقول؛ فقد ذكر أنه هو نفسه في حياته البالغة ثمانية وستين عامًا، قد تجلَّى الله له على هذا الوجه مرة واحدة. ويقول هؤلاء وأمثالهم: إن العالم يدرَك بالحواس وبالعقل وبالروح، والإدراك بالروح أتم وأوفى وأصدق، فحقيقتنا روحنا، وحقيقة العالم روحه، ولا شيء أصدق من إدراك الروح بالروح. هؤلاء يرون أن الإلهام والكشف يُظهر من الحقيقة ما لا يظهره العقل، وأنهم لذلك يسمون إدراك الإلهام معرفة، وإدراك العقل علمًا، وغاية الأول الحكمة، وغاية الثاني الفلسفة، ووسيلة الأول الحبُّ والرياضة، ووسيلة الثاني التجارب والمنطق؛ وإدراك الأول ومضةٌ، وإدراك الثاني بالتدريج؛ ومركز الأول القلب، ومركز الثاني الرأس.

وقد بدأ علم النفس يدرس هذه الظواهر النفسية لأمثال هؤلاء بعد أن كان يُنكرها جملةً، وحيَّره ما رأى من صدق بعض هذه الظواهر، ووصول بعض المتديِّنين إلى حقائق عجيبة لم يصلوا إليها من طريق العلم لأميَّتهم، أو عدم تعلمهم، أو نحو ذلك.

•••

مظهرُ كمال العقل الفيلسوفُ، أمثال أرسطو ومَن سار سيره، ومظهر كمالِ الإلهام «النبي»؛ تريد الفلسفة أن تَعرِف علة العالم كله، والمبدأ الأساسي الذي أُسس عليه، والأصل الذي يجمعه من الذرَّة الأولى إلى أرقى كائن، ومن الخلية الأولى إلى المَلك بل إلى الله، عن طريق التفكير المنطقي، من مقدمات بديهية إلى نتائج، ثم جعل النتائج مقدمات للاستنتاج منها مقدِّمات أعلى، وهكذ، فغاية الفلسفة بجميع مجهودها الوصول إلى العلة الأولى، فإن كان كل علم فرعًا من شجرة فالفلسفة تريد الجذر الذي أسس هذه الفروع، تريد البذرة الأولى التي تكونت منها شجرة العالم. وهذا الغرض الذي ترمي إليه الفلسفة هو بعينه الذي يرمي إليه الدين، فهو يريد أن يعرف الحقيقة الأولى والأخيرة لهذا العالم، يريد أن يعرف الله الذي هو الأول والآخر، ويوثق الصلة بينه وبينه ولكن لا عن طريق مقدمات ونتائج، بل عن طريق حب وشوق من الروح الصغرى إلى الروح الكبرى. وفي الإنسان الطبيعتان: الطبيعة العاقلة المفكرة التي ترضيها الفلسفة، وطبيعة الشعور بالمحبة الشائقة التي يرضيها الدين. في الإنسان العقلُ الباحث، وفيه القلبُ العاشق لقوةٍ يعتمد عليها في بلوغه كماله، في معونته على تخطي العقبات المحيطة به. غاية الفلسفة والدين واحدة، ولكن الطريقين مختلفان، ولن يسافر الفيلسوف والمتديِّن في طريق واحد، ولن يستعملا وسائل واحدة، ذلك يركب عقله، وهذا يركب قلبه، والأول ينمِّي ذهنه، والثاني ينمي شعوره وإن لم يمهل عقله؛ وإذ كان العقل الكبير شكاكًا فهو قلَّما يؤمن ويجزم، وإذ كان القلب الكبير عاشقًا هائمًا، فهو مؤمنٌ بمن يحب، لا يقبل فيه جدلًا ولا شكًّا؛ ولذلك كان رضا المتدين وطمأنينته أكثر وأقوى من رضا الفيلسوف! ولما كانت وسائل الفلسفة عسيرة تتطلب علمًا، وتتطلب مصطلحات، وتتطلب تعليمًا، لم تناسب إلا الخاصة، ولما كان الشعور لا يتطلب كلَّ هذا، وقد لا يتوقف على ثقافة خاصة، كان الدين مناسبًا للخاصة والعامة على السواء، فلست ترى الفيلسوف الراقي إلا في الخاصة، ولكنك ترى المتدين الراقي في الخاصة والعامة. والقلب يعتقد ويجزم، والعقل قلَّ أن يعتقد ويجزم، القلب يطمئن، والعقل يحار، فإذا جزم فإنما يكون جزمه بمَددٍ من القلب. لقد صرخ الفخر الرازي وغيره نادمين على حياة الفلسفة إذ أسلمت إلى الحيرة، وصرَّح «هيوم» بأنه لا يستطيع بحال من الأحوال أن يجزم بشيء في حقيقة الله وطبيعته. ولكنك لا تجد عميقًا في الدين يشكو الحيرة أو يندم على الحب. رُقِيُّ العقل في تجرده، ورُقِيُّ القلب في مدِّه خيوطًا تربط بينه وبين من يحب؛ ولذلك كان ذو القلب أكثر شعورًا بشخصيته؛ ومن ثم كان أكثر شعورًا بطمأنينته، فهو إذا تدين شعر بأن روحًا عُليا تتجاوب مع روحٍ صغرى.

أساسُ الدين أن هناك مملكةً روحية وراء هذه المملكة المادية، وهي ليست مملكة خيالية ولا شعرية، ولكنها مملكة حقيقية — في كل شيء في الوجود — من جمال ونبات وحيوان وإنسان — نفحة من الروحانية تستمدها من الروح الأعلى، من الله!: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. ولكل شيء رسالته الروحية شعرَ بها أو لم يشعر. وتختلف هذه الأشياء في روحانيتها، كما تختلف القيمة لأفراد كل مملكة وأشياء كل مجموعة. إنها كنغمات البيانو تختلف ضعفًا وقوةً وغلظًا ورقةً وعلوًّا وانخفاضًا؛ وطبيعة كل شيء في الوجود اشتمالها على درجات، فجسمُ الإنسان والأسرة والجيش، ومجموعة الأنهار والجبال والتلال والأشجار والأزهار؛ والمجموعة الشمسية وغيرها، كل منها درجات يعلو بعضها بعضًا؛ وهي حقيقة التفت إليها «دارون» فأوحت إليه بنظرية النشوء والارتقاء. وكل مجموعة من هذه لا بد أن يكون لها رئيس أعلى يعلو الأجزاء المختلفة في القيمة وفي الوظيفة، وهو الذي يمثل نوعه. كذلك في المملكة الروحانية هذا التفاوت في القيمة، وهذه الدرجات المختلفة، وهذا التدرج صُعُدًا إلى الله.

أفراد هذه المملكة الروحانية يختلفون شعورًا وحبًّا وهيامًا واستطاعةً لتلقي أشعة الروح الأعلى، فاختلفت بذلك منزلتهم في تلقي الوحي والإلهام — وقد أعجبت الديانات بمثال النور؛ ففي المجموعة الشمسية شمس تلقي الأشعة وقمر يتلقى منها ضوءها وينشره على الأرض، وحولها كواكب ونجوم تتلقى عنها بمقادير تختلف حسب وضعها واستعدادها، فكان هذا مثالًا لطيفًا للتعبير عن المعنى الروحي في المملكة الروحانية. وكانت آية النور من أبدع ما ورد في القرآن: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

هذا الروح الأعلى رأسُ مملكةٍ تجمَّعَ فيه العلم كل العلم، والقدرة كل القدرة، والحكمة كل الحكمة، يفيض منها على من يشاء بما يشاء، ومنزلة الأنبياء منه منزلة القمر من الشمس يتلقى ويُشع، يستقبل ويذيع؛ وهناك أناس أقل من الأنبياء منزلةً يتلقون دون تلقيهم، ويذيعون دون إذاعتهم — كل هؤلاء شراح القوانين الروحية بلسان الإنسانية، هم الإجابة لصرخة الإنسانية المعذبة والإنسانية الضالة، وهم البلسم للإنسانية المجروحة، وهم ناشرو النور يقبس منهم كلٌّ حسب استعداده، يخاطبون كلًّا بلغته وبمقدار تقبله، ويؤَثرون بقولهم كما يؤَثرون بضوئهم الذي ينشرونه على الحياة؛ ولذلك آمن كثير من أتباعهم بالنظرة لا بالحجة، وقال قائلهم: «ما هذا وجهُ كذَّاب». هم يضيئون القلب أكثر مما يقنعون العقل، ويرفعون النفس إلى السماء إن التصق الجسم والشهوات والنزعات بالأرض؛ هم يُصلحون مجتمعهم حسبما تتجلى في أهل زمانهم عيوبهم، ثم يضعون البذور في تعاليمهم يسترشد بها المصلحون فيما بعدُ لإدراك عيوب زمانهم.

والروحُ الأعلى عند اختيار مَن هم أهلٌ لوحيه وإلهامه، لا يعبأ بما يعبأ به أهل المملكة المادية مِن جاهٍ أو مالٍ أو نسبٍ أو علمٍ أو ثقافة؛ إذ لا يهمه في الاختيار إلا القلب، وهو أعلم حيث يجعل رسالته.

٢

كل من وُهب نفحة من الروحانية المستعدَّة لتلقي الإلهام أظهرها حسب استعداده وميوله، كالكهرباء تكون مرة حرارة، ومرة تبريدًا، ومرة ضوءًا؛ فالموسيقيُّ ينعكس إلهامه موسيقى، والشاعر شعرًا، والفنان فنًّا، والنبي نبوة، والنبي أرقى إلهامًا؛ لأن ما يتلقى من الضوء أقوى، ونوعه أكمل، ونوره الذي يعكس أعم نفعًا وأهدى للحقيقة في صميمها. في النبي شاعرية وليس بشاعر، وموسيقية وليس بموسيقيِّ، وفلسفة وليس بفيلسوف، وإنما هو فوق ذلك كله؛ لقرب اتصاله بالروح الأعلى وقوة ضوئه الذي يعكسه فينير مناحي الحياة المختلفة — نورٌ كشاف يضيء قلوب من وقعت عليه أشعته — أيًّا ما كان شكل الوحي الذي حُكي في الكتب المقدسة، من صوت يُسمع، أو مَلك يُرى، أو نحو ذلك، فإنما هو القلب، يُرهف حتى تكون له عين تبصر وأذن تسمع، وحتى يتجلى بهما الحق أقوى مما يتجلى بالأذن الحسية والعين في وجوهنا.

وما أصعب رسالة النبي! إن الموسيقيَّ والشاعر والأديب والفنان يدرك بالإلهام ما تعجز عن أدائه أدوات الموسيقى والقلم واللسان والألوان؛ ذلك لأن التعبير عن المعقولات أهون من التعبير عن الإلهام؛ ولذلك احتاج الملهَم أن يخترع ما يحاول به أن يُكمل نقصَه كالاستعارات والمجازات والتشبيهات والكنايات عند الشاعر والأديب، والإشارات عند الخطيب، ونحو ذلك عند سائر الفنانين. وهم — مع كل هذا — يُقرُّون بالعجز عن أداء ما يشعرون، ويُقرون بالفرق الكبير بين ما يشعرون وما يعرضون — وذلك في النبوَّة أعقد وأعسر. إنهم يريدون أن يعرضوا العالم في خريطة مصغَّرة، أو يقدموا المحيط في زجاجة، أو يخرجوا السموات والأرض من جيوبهم؛ ولذلك ما كان أعمق معانيهم وأبعد إشارتهم! وما أتفه مَن وقف عند حدود ألفاظهم، ولم يتخطَّ ذلك إلى فهم رموزهم!

وصعوبة أخرى، أن الأنبياء بحكم رسالتهم، لا بد أن يسيروا على الصراط بين الروح والمادة؛ لا بد أن يتصلوا بالروح الأعلى ليتلقوا، ولا بد أن يتصلوا بالناس ليذيعوا، لا بد أن يكون رأسهم في السماء وأرجلهم في الأرض.

وصعوبة ثالثة، أنهم يواجهون مطالب القلوب المختلفة صغرًا وكبرًا، وضيقًا وسعة، وظلامًا ونورًا. ولا بد أن يمدوا كلا بما يحتاجه وبما يستطيعه، ويوفقوا بين المطالب المختلفة والاستعدادات المتعارضة؛ ولذلك كانوا دائمًا في جهاد مع أنفسهم، وجهاد مع عدوِّهم، وجهاد مع صديقهم، وجهاد مع العالم. وصدقوا إذ قالوا: «إن الحياة جهاد». ووضع الناس كلهم أنفسهم موضع القضاة لهم أو عليهم، وما أقساها حكومة!

للنبي رسالةٌ ظاهرة، وهي إقامة الشعائر والتشريع لإصلاح المجتمع؛ ورسالةٌ باطنة، وهي: نصبُ سلَّم تتدرج فيه النفوس لتعرف الحق، وتعرف الحقيقة، وتعرف الله من طريق القلب. قد تختلف الأديان في الشعائر والشرائع تبعًا لاختلاف البيئات الطبيعية والاجتماعية ورقي الإنسانية، أما في الرسالة الباطنة فلا تختلف إلا بمقدار الرقيِّ في السلم؛ فالحق غرض كل الأديان، ليس يختلف الأنبياء في رسالتهم كما يختلف الفلاسفة في تعاليمهم، فقد يُقر فيلسوفٌ أمرًا وينكره آخر، وقد ينقض اللاحقُ ما بنى السابق، أما الأنبياء فيقرون دائمًا، ويبنون دائمًا، ذلك لأن العقل فيما وراء المادة قائد فقير، قائد في الظلام، والقلب في ذلك قائد بصير، قائد في وضح النهار. إذا تكلم مائة إنسان بقلوبهم اتحدوا، وإذا تكلم ثلاثةٌ بعقولهم اختلفوا. وما يصد الناس عن رؤية الحق إلا إقفال قلوبهم عن رؤية النور، وتعلُّقُهم بصغائر الأمور، وبالجزئيات دون الكليات. إن الإنسان الفرد قد يُحَب، وقد يُكره، وقد يُعجب به، وقد يُشمأز منه، ولكن الإنسانية — ككل — تُحب فقط وهي موضع الإعجاب.

نتتبع سلسلة الأنبياء فنرى بينهم قدرًا مشتركًا من التعاليم والمبادئ؛ فهم يؤمنون أقوى إيمان بالله وكماله وقدرته، وبالإنسان وشرفه ومسئوليته، وضلاله ووجوب هدايته، وهم يعلنون فى جزم أنهم لم يتلقوا تعاليمهم من تقاليد قومهم، ولا من علمهم ومنطقهم ولا من أي شيء خارج عنهم، ولكن مِن الله نفسه، يحدِّث نفوسهم، ومن نوره يسطع على قلوبهم، وأنهم لا يشكُّون في شيء منه، كما يشك الفيلسوف والعالم، ولذلك يتحملون أكبر الآلام من قومهم وملوكهم، ولا ينحرفون قِيد شعرة عن عقيدتهم؛ لأنهم يرون الحق بقلوبهم أصدق مما يرون الأشياء بأعينهم، وأنهم يُبلغون رسالة ربهم كما وَعَوْها — هم بذلك يقررون أن علمهم بحقيقة العالم وبالخير والشر آتٍ من أعلى إلى قلوبهم، على حين أن علم العلماء والفلاسفة آتٍ من أسفل إلى عقولهم.

أنكر قومٌ دعوة النبوة على هذا النحو، وأرادوا ألَّا يسلِّموا بشيء إلا إذا كان عن طريق الجبر والهندسة والرياضة! ولكن أمِن الحق أن كل علمنا ومعرفتنا عن هذا الطريق؟ إن الإنسان قد يعلم الحقيقة، وقد يشعر بالحقيقة. إذا علم العقلُ الجبر والهندسة، فالقلب يشعر بالحب، والحب حقيقةٌ كحقيقة الجبر، والرجاء والأمل والخوف والأمن حقائق كحقائق الهندسة، والإنسان عقل وقلب، ولكلٍّ غذاؤه، ومكلِّف الإنسان أن يقتصر على نمط الفلسفة والمنطق والعلم مهدِرٌ لنصف شخصيته؛ والمؤمن بمواهب الإنسان المتعددة مؤمنٌ بالدين.

ولكل موهبة طريق تربيتها؛ فالعقل يربَّى بالتجربة وبالمنطق وبالمران على ربط الأسباب بالمسببات، وعلى ربط النتائج بالمقدمات؛ والشعور يربَّى بالرياضة الروحية وتطهير النفس، ومن هذا القبيل شعائر الدين.

•••

لقد سلك رجال الدين في تأييده وتقويته مسلكين: قوم حدَّدوا عقولهم، وقومٌ أرهفوا مشاعرهم، فأما الأولون فعلماء التوحيد أو علماء الكلام، وأما الآخرون فصادقو الصوفية — من جميع الأديان — فالأوَّلون جعلوا الدين منطقًا وفلسفة، وخلَّفوا لنا تراثًا ضخمًا من المؤلفات تبرهن برهانًا عقليًّا منطقيًّا على وجود الله وصفاته وما إلى ذلك. ولكني أعتقد أنهم لم ينجحوا في ذلك نجاح العلماء في البراهين العقلية على قضايا العلم. إن قانون الكيمياء أو الطبيعة أو الرياضة إذا قال به أحد العلماء وبرهن عليه آمن به كل الناس بلا فارق بين أمة وأمة، وأهل دين وأهل دين، وشرقي وغربي. أما علم التوحيد أو علم الكلام، فبرهانٌ لمن يعتقد لا لمن لا يعتقد، برهانٌ لصاحب الدين لا لمخالفه؛ ولهذا لم نرَ في التاريخ أن علم الكلام كان سببًا في إيمان من لم يؤمن أو إسلام من لم يسلم إلا نادرًا، إنما كان سببًا في إيمان الكثير وإسلام الجم الغفير الدعوةُ من طريق القلب لا من طريق علم المنطق.

قرأت مرةً أن صديقين مثقفين خرجا يتروَّضان، وكانا يتحدثان في الدين، فمرا على حديقة بديعة مملوءة بالأزهار الجميلة؛ وردٌ أحمر يانع، وورد أصفر فاقع، وورد أبيض صافٍ، وبراعم لم تتفتح وهي آخذة طريقها إلى نضجها وتفتحها، والجو مملوء بعبيق الأزهار، والريح تلعب بالأغصان، وجمال كل شيء حولهما يأخذ باللب، فصرخ أحدهما: هذا أقوى دليل على الله؛ وهنا موضع سجودٍ له لجلاله وجمال عظمته! فقال صاحبه في برود العلماء: وأيُّ برهان علمي على ذلك؟! ما البرهان المنطقي على أن الجمال دليل على الله؟ إن كان هنا جمال فثَمَّ قبحٌ، وإن كانت الأزهار هنا تتفتح فهي هناك تذبل!

ثم عادا، هذا بإيمانه وهذا بإلحاده.

وكان نابليون — في حملته على مصر — في سفينةٍ حوله علماء ملحدون، وفى ليلة بديعة لمعت النجوم في السماء، وتلألأت في رونقها وبهائها وجمالها؛ فقال نابليون: انظروا أيها الرفاق: ما أبدع النجوم وما أجملها! فمن أبدعَها؟ قال ملحد: نحن لا نسأل هذا السؤال، وما يدور في ذهنك من هذه الأسئلة لا يدور في أذهاننا، إنما نحن نسأل: كيف تطور هذا العالم، وكيف ارتقى، وما الظروف التي مر بها، حتى وصل إلى ما نرى. «إن برهانك — أيها القائد — دليل جميل لك».

إن دعوة الإيمان دعوة لما في النفس؛ فإذا استعدت فكل شيء برهان، وإذا لم تستعد فلا برهان. في النفس لا في العقل غريزة الإيمان، والدعوة الحقة بإيقاظها، لا بمقدمة صغرى ولا مقدمة كبرى ونتيجة مؤلَّفة من موضوع ومحمول؟ ليس العقل هو دليلنا الوحيد في الحياة، بل هناك أدلاء أخر، منها النفس، ومنها العواطف، ومنها الإلهام.

أما الطريق الآخر الذي سلكه صادقو الصوفية، فهو أن يربُّوا شعورهم، ويقووا نفوسهم لا عقلهم، ويصفُّوا روحهم من التعلق بالمادة وشؤونها، حتى يتصلوا في نهاية مراحلهم بالروح الأعلى، بربهم، وهم يقررون أنهم بهذه الرياضة يصلون إلى نوعٍ من انكشاف الحقائق أوضح وأجلى وأنور من الانكشاف الحسِّي؛ وأنهم يطَّلعون على عالم روحي لا يخضع لما تخضع له المادة من حدود أو زمان أو مكان، ولكنهم — مع الأسف — عجزوا عن وصف هذا العالم الروحي وصفًا بيِّنًا لنا، أو عجزنا نحن عن فهم وصفهم، ولهذا ساد كتبهم وأقوالهم الغموض التام في كل دين.

والسبب في هذا أن طريقة التفكير العقلي عامة عند الناس، ووسائل إيصال المعلومات العقلية من ذهن إلى ذهن متوفرة، وليس كذلك الشأن في المشاعر؛ فمن السهل أن تقيم البرهان لآخَرَ على قوانين الضوء وقوانين الجاذبية، وقوانين الرياضة والطبيعة والكيمياء، وتقيم البرهان على النظريات الهندسية، وليس كذلك الشأن فى المشاعر. إذا كان عندك برهان على أن هذا المثلث يساوي هذا المثلث أمكنك أن تنقله إلى من لم يعرفه، ولكن إذا أكلت الكمثرى وشعرتَ بنوع حلاوتها ورائحتها وطعمها، لا يمكنك بحال أن تصفها لمن لم يذقها إلا على سبيل التقريب والتشبيه، فإذا كان قد أكل نوعًا قريبًا من الكمثرى أمكن التشبيه وقرب فهمه وإن لم يكن دقيقًا، وإلا فما أبعد الفهم!

وكذلك الشأن فيما عندي من حب وبُغض وإعجاب ونحو ذلك، كلها مشاعر من الصعب نقلها. فالمشاعر والعواطف «تذكرة شخصية»، على حين أن العقل «تذكرة عامة» يصح أن يحملها كل شخص.

بذلك يمكن التفرقة بين معرفةٍ تُنقل ومعرفة لا تُنقل. واللغة قد تكون أداة طيِّعة للمحسوسات والمعقولات، وهي أداة غير صالحة للمشاعر والعواطف — والمعرفة عن طريق الإلهام — أو بعبارة أخرى عن طريق الرياضة النفسية — آخذة بشبهٍ من الطرفين؛ طرف العقل وطرف المشاعر، وهي إلى المشاعر أقرب، ولشبهها بالعقل تنكشف انكشاف المعقول، ولشبهها بالمشاعر يصعب نقلها.

وإذا كان شعور الصوفي شعورًا شخصيًّا صعب التعبير عنه وأحيط بالغموض ولم تسعفه اللغة، وكان مَن يفهمه ويشاركه هو الذي جرَّب تجاربه، وسلك طريقه، وقرب منه أو فاقه في إلهامه. ويشبه ذلك ما قاله أرسطو من أن الناشئ يمكن أن يكون عالمًا بالرياضة، ولكن لا يمكن أن يكون سياسيًّا؛ لأنه يمكن أن يتعلم الرياضة ويحفظ قوانينها، ويفهم براهينها، ولكنه لا يمكنه أن يكون سياسيًّا؛ لأن السياسة قوامها التجارب في الحياة، وهو لم يجرِّبها حتى ينغمس في أحداثها، ويشعر بتياراتها، ويرى نتائجها.

ويبلغ الأمر بالمتصوف في رياضته، وصفاء نفسه، أن يصل إلى نتيجةٍ تختلف كل الاختلاف عن التفكير العقلي، ذلك أننا في التفكير العقلي نشعر بأن الذي يدرِك غير المدرَك، والذي يعلم غيرُ المعلوم. فإذا فكرتُ في حل مسألةٍ هندسية، فالمسألة الهندسية غيري وغير عقلي المفكر، ولكن الأمر في نهاية التصوف ليس كذلك؛ إذ تتكسر الحدود بين العالِم والمعلوم، والعارف والمعروف؛ فإذا وصلت النفسُ إلى العلم بالله أمحت شخصية العارف، وصارت هي والمعروف شيئًا واحدًا، ويتحقق هذا عندهم في هذه الحياة، كما يتحقق بعد مفارقة الروح للجسم. وأقربُ شبهٍ بهذا ما يحدث من هيام المحب بالمحبوب، حتى يكونا روحًا واحدًا، ويصبح التعبير ﺑ «أنا» و«هو» تعبيرًا لفظيًّا لا تعبيرًا نفسيًّا. أما النفس ومحبوبها فشيء واحد، وتفنى النفس الزائفة في النفس الحقة. ومن أجل هذا قالوا: «مَن عرف نفسه فقد عَرفَ ربه». وحول هذا تكوَّن الأدب الصوفي كله.

٣

قرأت مرة أنه منذ خمسين عامًا درس عالمٌ طبيعي دراسةً دقيقة جدًّا ما يحتاج إليه الفأر الصغير لنموِّه من عناصر اللبن المختلفة، ثم جهَّز لبنًا صناعيًّا يحتوي كل ما أثبته العلم مما يحتاج إليه الفأر من بروتين ودهن وسكر وملح وماء بمقادير كالتي في اللبن الطبيعي تمامًا، وقد أعدَّه في أحسن «معمل» وأتقنه. وإذا امتُحن اللبن الصناعي امتحانًا دقيقًا ظهر أنه لا يختلف أيَّ اختلاف عن اللبن الطبيعي؛ وإذا اختُبر في الذوق لم يختلف عنه كذلك، ثم أطعم الفأر الصغير هذا اللبن الصناعي، فلم ينمُ وقلَّ وزنه، وأشرف على الموت. ثم تقدم العلم، فتبين أن هذا اللبن الصناعي ينقصه مادة ضرورية هي صانعة الحياة، هي الفيتامين، وربما شيءٌ آخر وراء هذا الفيتامين.

أذكرَني ذلك بالفرق بين العلم والدين، والمادة والروح، والعقل، والنفس. قد يكمل الشيء في مظهره، ويدل امتحانه على أنه لا ينقصه شيء، ولكنه فقدَ روحه كما يفقد هذا اللبن الصناعي هذا الفيتامين.

قد تقدم العلم في القرن الأخير تقدمًا باهرًا في كل فرع في الطبيعة، في الكيمياء، في النفس، في الاجتماع، في الصناعات؛ ولكنه لم يتقدم أيَّ تقدم في فهم «نظرية الحياة»، وظلت — من غير جواب — تلك الصورة البديعة التي صوَّرها فنان لطفلٍ جميل مستغرب، في أرض جرداء، في مكان موحش، وقد كُتب تحتها الأسئلة الآتية: ماذا؟ من أين؟ إلى أين؟ تقدم الطبُّ والتشريح والجراحة، وأتت الاختراعات بالعجائب من: تليفون وفونوغراف وراديو وعجائب الكهرباء، وظلت العجيبة الكبرى على حالها وهي عجيبة الحياة كيف تدب، والموت كيف يكون! وعجز العلم بكل أسلحته وأدواته أن يتقدم خطوةً في هذا السبيل، فمهما كانت الآلات المخترَعة ضخمة دقيقة معقدة فهي آلة لا غير، ليس فيها روح، ومهما كان التمثال جميلًا رائعًا فهو تمثال ينقصه ما طلب «بيجماليون» من ربِّه لتمثاله، أن ينفث فيه الحياة؛ وظلت أكبر آلة وأعظم اختراع لا تدهش الإنسان كما تدهشه ذبابةٌ كيف حييت! وأعظم آلة تحتاج إلى عقل حي ليديرها ويشرف عليها. ما هذه الحياة؟ من أين أتت؟ إلى أين تصير؟ لا يعرف العلم شيئًا، ونشأتها محوطة بظلمة البطن، ونهايتها محوطة بظلمة القبر، وهي نور بين ظلمتين، ونهار بين ليلين، ومهما اجتمع الفيزيقيون والكيمياويون فلن يستطيعوا أن يبعثوا الحياة في خلية و… إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ.

حلِّل الخلية كما تشاء إلى كربون وهيدروجين وأوكسجين ونتروجين كما كان يقول بعضهم، أو إلى إلكترونات كما يقول بعض آخر، فإنها كلها ينقصها شيء لتكوين الحياة، وهي ليست الحياة، كما أن اللحم والدم والنَّفس ليس الحياة. واشرح نظرية النشوء والارتقاء كما تشاء، فهي تُفسر تدُّرج الحياة من نوع إلى نوع، ولكنها لا تفسر الحياة الأولى للخلية الأولى. إن العالِم يستطيع أن يشرح لنا بناءَ الجسم الحي من نبات وحيوان وممَّ يتكون، ويضع لنا المصطلحات لكل جزء، ولكن إلى هنا ويقف. أما كيف دبَّت الحياة إلى الخلية، وكيف تنتج خلايا شجرة الورد خلايا مثلها حتى تنبت الورد، وكيف تخالفها شجرة الياسمين فتنتج ياسمين، وكيف يختلف الحيوان في ذلك عن النبات، فتكوِّن الخلايا بقرًا وغنمًا وقردًا وإنسانًا، فذلك ما لا يستطيعه العلم.

ثم كل حي إلى موت، لا يفرُّ منه أي شيء، هو قانون الطبيعة الذي لا يتخلَّف. قد يستطيع العلم بمهارته وآلاته ومستكشفاته أن يؤخر الموت ساعاتٍ وأيامًا، وإن شئت فقل: أشهرًا وسنين؛ ولكن كل وظيفته أن يؤخر لا أن يمنع، فإذا حاول أن يمنع عجز عجزًا تامًّا.

ثم هو عاجز أيضًا أن يفسر لنا ظاهرة الموت! إن هذه الحياة التي أتت ولا نعرف من أين أتت، لا نعرف أيضًا أين ذهبت.

إن الدين يبتدئ حيث ينتهي العلم، فهو يفسِّر لنا الحياة والموت عن طريق العقيدة لا عن طريق المنطق، فالله واهب الحياة: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ.

هو مُمِدُّ الحياة في أثناء الحياة، وهو سالب الحياة بالموت؛ وهو باعثها من جديد: وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ * وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ۚ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.

والحياة مراحل ثلاث: دخولنا هذا العالم، ورحلتنا فيه، ورحيلنا عنه. ولا سلطان لنا في مرحلتيه الأولى والأخيرة، وإنما لنا مظهرُ قدرةٍ في المرحلة الوسطى؛ ليجري على أيدينا الخير أو الشر، والنفع أو الضر. إننا لا نستطيع أن نُرجع عقرب الساعة إلى الخلف ولا إلى الأمام، وإنما نحن «بندول» يتحرك، يقيِّد علينا الثواني والدقائق؛ قد قيَّد علينا الماضي وهو يتحرك في الحاضر، ولا أعرف إن كان يتحرك أو يقف غدًا، وكل ما أنا مكلَّف به أن أعمل لإسعاد من حولي، وإسعاد الإنسانية على قدر ما أستطيع. فأما من آمن فسعدَ بالشعور باتصال حياته بإلهه، وبالشعور بخلود النفس، وأن الموت ليس إلا ظاهرة مادية كظاهرة الولادة، وأن الروح التي أتت مع الولادة وكانت قبلها، ستظل بالموت وتبقى بعده، وأما من ألحد فالمستقبل مظلم والفناء سريع. عند المؤمن الموت نهرٌ غزير عليه جسرُ عبور، وعند الملحد الموت نهر غزير ينغمس هو في أعماق ظلماته. عند الملحد لا شيء يخلد، وعند المؤمن هناك خلود الله وخلود النفس وخلود الحقيقة.

إن الدين يقرر إلهًا كاملًا في صفاته، ويقرِّر إعظام الله، وحسنَ الصلة بين الإنسان وربه بإقامة الشعائر، وحسن الصلة بين الإنسان والإنسان باتباع القواعد والأخلاق، وأخيرًا يقرر بقاء الروح والحياة بعد الموت، والجزاء الأوفى على ما عمل من خير أو شر.

فماذا عند العلم ليقوله في ذلك؟ لا شيء!

لقد شهد القرن التاسع عشر والقرن العشرون معركةً حامية بين رجال العلم ورجال الدين؛ لأن كلًّا منهما كان يحاول أن يغتصب من الآخر ما ليس له، وكان كلٌّ منهما مخطئًا. اعتز العلم بقوته وبنجاحه في الآلات والصناعات، وتغييره حياة الإنسان وأدواته تغييرًا تامًّا، وإمداده بالقوة في مناحي الحياة المختلفة حتى اعتقد أنه على كل شيء قدير، وشاع على ألسنة الناس البرهان العلمي والتحقيق العلمي وما إلى ذلك من ألفاظ، واعتقد الناس أن ما قاله العلم هو الحق وهو الصحيح، وطمع العلم أن يُجري تجاربه على الإنسان، كما نجح في تجاربه على قطعة من الحجر فيحلله إلى عناصره الأولى، حتى حاول أن يُرجع الأفكار والعواطف إلى المادة، وأنها مظهرٌ للمادة كبعض صفاتها؛ وكما تُفرز المعدة عصارة هضم يفرز المخُّ فكرًا. وأخذ يحلله على هذا الأساس حتى شِعره وحبه، وحتى دينه وعقيدته في الله؛ لا شيء إلا المادة وصفاتها، والعالم ليس إلا آلة ضخمة كبيرة، نعم هي معقدة ولكن العلم قادر على شرحها، وأخذ مذهب النشوء والارتقاء يحاول تفسير الأشياء وما يحدث لها تفسيرًا علميًّا من ألِفها إلى يائها. وجرى على أن العالم ليس إلا مادة، ولا حقيقة إلا المادة، وأنها خاضعة في كل حركاتها لما تخضع له الآلة الكبيرة من قوانين، وأنها تنشأ وترتقي آليًّا بنفسها لا بغيرها؛ لكن العلمَ على هذا النحو اصطدم بالحياة فعجز عن تفسيرها، واصطدم بأن العناصر المادية للشيء تتكوَّن ثم لا يكون الشيء؛ واصطدم بجهله بحقيقة الأشياء وإن عرف مظاهرها وآثارها.

إن العلم نجح في شرح مظاهر المادة فأدَّاه غروره إلى أن يعرف حقيقتها؛ إنه يستطيع أن يعرف «كيف»، ولكنه لم يستطع ولن يستطيع أن يعرف «ماذا». إن من اختصاصه أن يقول: «إن العالم الظاهري الطبيعي مركَّب من مادة، وهو آلة تعمل؛ ولكنه بدل أن يقول ذلك قال: «إن العالم المادي هو وحده الحق، والمادة وحدها هي الموجودة». وبدل أن يقول في نشوء العالم: إن الحياة ترتقي من البسيط إلى المركَّب بعوامل مختلفة. قال: «إن أصل الحياة وُجد من هذا البسيط وتركَّب، وإن أصل الإنسان لم توجده قدرةٌ إلهية، وإنما هو عمل حرارة الشمس في مادة بسيطة». وبهذا تعدَّى العلم طوره واغتصب ما لا يملكه وإنما يملكه الدين، فالدين وحده هو الذي يستطيع أن يفسر ما وراء المادة من حياة ونفسٍ وإله، ونحو ذلك من العالم الروحاني.

وقد اغتصب العلم ذلك من الدين ردًّا على ما حدث في قرون طويلة من اغتصاب رجال الدين لحقوق العلماء. إن من حق العلماء أن يقرِّروا كل ما يتعلق بالمادة وصفاتها كما تقوم عليه براهينهم. للجغرافي أن يقرر ما يقوم عليه البرهان من دوران الأرض حول الشمس لا الشمس حول الأرض، وللفلكيِّ أن يقرر النظام الشمسي وغيره كما يدل عليه علمه، وللجيولوجي أن يقرر عمر الأرض بملايين السنين أو بالآلاف كما تدل على ذلك براهينه، ولدارون أن يقرر النشوء والارتقاء من البسيط إلى المركب، ولكل رجال علمٍ الحق في أن يقرروا قوانين المادة التي يكتشفونها، كلٌّ في اختصاصه كما يشاءون. فإذا اعترض رجال الدين على ذلك كانوا قد تجاوزوا حدودهم، وتحدثوا فيما ليس من شأنهم. ولجهل هذا الأساس كان التاريخ وأحداثه الأليمة مظهرًا من مظاهر اغتصاب رجال الدين لحقوق العلم، أو اغتصاب العلماء حقوق الدين.

وأخيرًا نرى في الأيام الأخيرة بين بعض رجال العلم وبعض رجال الدين حركةً محمودةً قوامها أن للعلم عالمًا يجول فيه ما شاء، وليس للدين أن يعترض عليه، وذلك هو عالَم الطبيعة، عالم المادة بما فيها العقل والنفس، وأن للدين عالمًا يجول فيه ما شاء، وليس للعلم أن يعترض عليه، وذلك هو عالم الروح والله. وأن الخريطة التي يرسمها العلماء للعلم مركزها وأفقها ليست هي الخريطة التي يرسمها الدين. ويعجبني قول أحد رجال العلم المشهورين الأستاذ «مكس بلانك»، في كتاب له عنوانه «إلى أين يتجه العلم»: «ليس هناك تعارض حقيقي بين العلم والدين، بل إن أحدَهما ليُحَيِّي الآخر ويؤيده. وكل إنسان مفكر جاد يرى أن عنصر الدين مغروس في طبعه، ويجب أن يُتعهَّد ويُنمَّى ويُرقَّى كما تُرقى وتُتعهد عناصر الإنسان الأخرى؛ لتتوازن العناصر وتتناغم. وليس من باب المصادفة أن عظماء المفكرين في كل عصر كان الدين متغلغلًا في أعماق نفوسهم، حتى ولو لم يُظهروا أمام الناس قوة شعورهم بدينهم. ومن التعاون بين العقل والدين ظهرت أجملُ ثمرةٍ للفلسفة، وأعني بها ثمرة الأخلاق. والعلم رفعَ القيمة الأخلاقية للحياة؛ لأنه عضد حبَّه للحقيقة واحترامها. أما حبه للحقيقة فبما أظهره من حبٍّ متواصل في عالم المادة وعالم العقل الذي حولنا. وأما احترامه للحقيقة فلأن كلَّ تقدم في العلم والمعرفة يجعلنا نواجه وجودنا الغامض».

٤

كان أبو علي بن سينا من أكبر فلاسفة المسلمين إن لم يكن أكبَرهم — تربَّى من صغره تربيةً فلسفية دقيقة، فتعلم على أساتذة المنطق والرياضة والطبيعة والفلك، ثم انصرف إلى ما نُقل عن اليونان أيضًا من علم ما بعد الطبيعة، فقرأ كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو أربعين مرة، فلم يفهمه، ثم عثر على كتاب للفارابي يشرح كتاب أرسطو ويبين أغراضه، فالتهمه التهامًا، وانكشف له به كتاب أرسطو انكشافًا، وفي كل ذلك يعمل عقله الكبير في أعقد المسائل الفلسفية لا يمل، وإذا نام حَلَم فيما يشغله في أثناء يقظته، حتى وصل إلى فهم الفلسفة فهمًا دقيقًا، وألَّف فيها الكتب الكثيرة مطولة ومتوسطة ومختصرة.

ووصل بفلسفته إلى وجود الله، وأنه علة العلل، وأنه واحد، وأنه بريء من الكم والكيف والأين والمتى والحركة، إلى آخر ما قرره في فلسفته.

وكان يعاصره رجل كبير اسمه أبو سعيد بن أبي الخير، يُقرَن بعمر الخيام فيما له من رباعيات عميقة تفيض بالحياة، وكان صوفيًّا فارسيًّا عظيمًا، تربى على النمط الصوفي، كما تربى ابن سينا على النمط العلمي والفلسفي. إذا قرأ ابن سينا المنطق على أستاذه استعدادًا للفلسفة، فأستاذ أبي سعيد يعده للتصوف، فيأمره أن يستحضر الله بقلبه، ويتصوره مكتوبًا بأحرفٍ من نور على قلبه وعلى سائر أعضائه، ويمليه رباعيةً فارسية يأمره أن يكررها ما استطاع؛ ومعناها:

بدونك — أيها الحبيب — لا أذوق طعم الراحة
وفضلك علي — أيها الحبيب — لا يمكن أن يُعد ولا يحصى
لو أن كل شعرة من جسمي لسانٌ يذكرك
وكلها تنطق بآلاف الثناء عليك ما أديتُ حقك

ثم يتدرج به شيخه في الإرشاد مِن تأمل وخلوة أحيانًا ونحو ذلك، حتى يصبح أكبر صوفي في عصره يُروى عنه الأدب الغزير في التصوف. فأصبح ابن سينا عَلَمًا في فلسفته، وأبو سعيد علمًا في تصوفه.

فيحكون أن القدَرَ جمع بينهما في نيسابور، فاجتمعا ثلاثة أيام بلياليها يتذاكرون ما وصلا إليه في فهم الحقيقة، ثم افترقا. فسأل تلاميذ ابن سينا أستاذهم عن رأيه في أبي سعيد، فقال ابن سينا: «إنَّ ما أعلمه أنا يراه هو!»

وسئل أبو سعيد عن رأيه في ابن سينا، فقال: «إن ما أراه أنا يعلمه هو!»

مهما شك المؤرخون في صحة هذه القصة فهي قصة ظريفة تمثل الواقع. هي الفرق بين الفيلسوف والصوفي، وهي الفرق بين العقل يُنمَّى والقلب يُغذَّى، بين العقل يتفلسف والقلب يتديَّن، بين ملَكتين في طبيعة الإنسان اتَّحَدَتْ غايتهما واختلفت طريقتهما: عقل يسير في طريق المنطق والمقدمات والنتائج، وقلبٌ يسير في طريق الحب. يقول ابن سينا: «أحيانًا كنت أتحيَّر في مسألة، ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في القياس»؛ وأبو سعيد كان يتحيَّر إذ يجد حرارة حبِّه قد فترتْ؛ ذاك يعمل العقلَ حتى يظفر بالحد الأوسط، وهذا يُرهف الشعور حتى تَتَّقِد حرارة حبه.

وكما تُمثل القصة ملكَتي النفس، فهي كذلك تمثل الناس؛ هذا رجل عقلٍ جاف نمَّى عقله حتى على حساب شعوره؛ وهذا رجل قلبٍ حار نمَّى قلبه حتى على حساب عقله، وقل من اعتدل.

ويعجبني اتفاقهما على تسمية إدراك العقل علمًا، وإدراك القلب رؤيةً. فالعقل يعلم عطف الأب على الابن ولكن قلب الأب يراه؛ والعقل يعلم أن هناك حبًّا ولكن القلب يراه.

إن الكون مملوء بتموُّجات دونها تموجات المحيط، ترى العين بعضَها ولا ترى بعضها، حتى مما يمكن أن يُرَى، فإذا زادت التموجاتُ أو قصرت عن حَدٍّ معلوم فلا يراها الإنسان، وقد يراها بعض الحيوان؛ وكذلك السمعُ والشم، وهناك تموجات يعلمها الإنسان ويراها الحيوان، فالنحل يرى يعسوبه إذا بَعْدَ عنه أميالًا، والإنسان قد يعلمه ولا يراه. والطيور الرحَّالة ترى أعشاشها على بعد آلاف الأميال، والإنسان لا يراها، والجمل يرى موضع الماء في الصحراء واتجاهه، وقد يعلم ذلك الإنسان ولا يراه. والنمل يشم السَّكر في الصيوان، والإنسان قد يعلمه ولا يشمُّه. والشيء قد يكون ظلامًا دامسًا لإنسان ونورًا ساطعًا لإنسانٍ فحقًّا ما قالاه من أن إنسانًا يعلم وإنسانًا يرى! وما العقل والإلهام، وما التفكير والشعر، وما الفن والخيال، وما الفلسفة والدين إلا جداول من ذلك المحيط، محيط الكون اللا متناهي، تدرِك بعض تموجاته. فضَلَّةً لرجال علم ينكرون وحيَ الدين، وضَلَّة لرجال دين ينكرون حقائق العلم.

لقد قال متصوف: «حقًّا حقًّا، إني لست شيئًا إلا فيضانًا مِن حب!» فقال عالم: «حقًّا حقًّا، إني لا أفهم لغتك، وما هي إلا هذر». وقال متصوف: «إني أنا الحق». فقال عالم: «لستُ الحق، ولكني باحثٌ عن الحق لأستخدمه في حياتي». أما أنا فإني أفهم المتصوفَ في حبه، والعالم في عمله، ولا أفهم إنكار أحدهما للآخر.

وكما تعددت الملكات في الإنسان الواحد واختلفت في القوة، وتعددت في الناس جملة واختلفت في القوة، كذلك اختلفت في البيئات، فاشتهر من قديمٍ إلهام الشرق، وعلم الغرب أو فلسفته؛ فمؤرخو الفلسفة يرون أنها ظلت عقليةً بحتة ما استقرت في بلاد اليونان، حتى إذا أتت الإسكندرية امتزجت روح اليونان بروح المشارقة، وكونت مزيجًا من عقل الأولين وإلهام الآخرين؛ وتعاونت الروح الشرقية — التي من خصائصها الطموح إلى ما وراء عالَم الشهادة، والروح الغربية التي من خصائصها التحليل والشرح وربط الأسباب بالمسببات — على إيجاد فلسفة دينية لا هي فلسفة محضة ولا هي دين خالص.

ثم إن الأديان الكبرى من برهمية وبوذية ويهودية ونصرانية وإسلام، نبعت من الشرق — من آسيا — ومنه انتشرت في أنحاء العالم، فما علة هذه الظاهرة؟

قرأت أخيرًا تعليلًا لكاتبٍ إنجليزي أقام طويلًا في الهند يجيب عن هذا السؤال فيقول: «إن الريح الباردة في الشمال، والسماء الدكناء والغيوم والأمطار لا تجذب إليها الإنسان ليكون خارج نفسه، بل تجعله ينكمش داخلها. إن كل عاصفة باردة، وكل مطر غزير، وكل يوم أدكن لا يذكِّره بنفسه، ولكن يذكره بجسده، فيجب أن يفكر في كيف يُدفأ، وكيف يغذَّى، وكيف يُؤوى، ولا ينسى أبدًا أن الجو الخارجي عدوَّه يخاف منه ويحتاط له. وحمله ذلك على أنه إذا أقام في مسكنه فأكره ما يكره أن يكون مع نفسه وحدها. وعزلة الإنسان وانفراد نفسه مع الطبيعة هي وحدها التي تجعله يسمع صوت الكون. إن الطبيعة لا تتكلم إلا همسًا، فيجب أن يسود حولها السكون التامُّ حتى توحي بأسرارها.

والأمر على عكس ذلك في الشرق، تمر الأسابيع والأشهر وربما نصف العام، والنهار كامل في نهاريته، والليل كامل في ليليته. وفي هذا الجو يستطيع أن يكون الإنسان مع نفسه وحدها، في هذه البيئة يستطيع أن يجد الصحراء العميقة في سكونها، والغابات التي لا حدَّ لها، ويستطيع أن يستغرق في سكونه وتأمله فينسى الناس، ولا يشعر إلا بنفسه في أحضان الطبيعة، في أحضان الله!

إنك في الشرق قليلة حاجاتك، لست في حاجة إلى نار للدفء، بل ولا في حاجةٍ ملحَّة إلى مسكن. وأي غذاءٍ يكفي، وأيُّ ملبس يكفي، ولست في قلق واضطراب وتفكير فيما تواجه به الريح الباردة والجو المظلم! يكفي أن يكون مأواك في النهار ظل شجرة، وفي الليل تسطع على رأسك النجوم بلألائها، لا تتصل بشيء إلا بالطبيعة. فإذا أنت أحببتها كما يجب أن تُحَب، وتعشَّقتها كما يجب أن تُعشق، وناغمتَها كما يجب أن تناغم، وأرسلتَ نفسك على سجيتها لتسبح في عجائبها ولا نهايتها، استطعت عندئذ فقط أن تستمع لموسيقاها الساحرة.

لهذا سطعت الأديان من أرض الشمس؛ لأن الضوء مصدر الإيمان.

فما لم ترَ الشرق لا تعرف ما العقيدة! واعتبر ذلك بما يلفت نظرك عندما تضع قدميك في الشرق. ما الذي يفجؤك؟ ما الذي تشعر أنه الشيء الفعال النفَّاذ في نفوس الناس؟ إنه الدين! إن الشرقي فخور بدينه، يحب أن يدل عليه حتى بمظهره: فهذا الهندوسي بشُعَبِهِ الثلاث التي على رأسه، وهذا المسلم بلحيته وعمامته أو نحو ذلك. هل رأيت إنجليزيًّا يصلي في الشارع؟ وإذا رأيته أفلا تلومه وتصيح فيه: «صلِّ في بيتك» وتعتقد أنه يعرض صلاحه وتقواه؟ ليس الأمر كذلك في الشرق، إن الشرقي يفعل ذلك ولا يرى فيه موضع مؤاخذة أو غرابة. إنك تركب القطار في الهند فترى هؤلاء الهنود من رجال ونساء وأطفال يتجمعون عند طلوع الشمس، فيحيُّونها ويُصلون لها، وهؤلاء المسلمون ينشرون ثيابهم على الأرض، ويتجهون نحو الكعبة، يصلون لله على ملأٍ من الناس، ويرون ذلك واجبهم؛ ذلك لأننا في الغرب لا نُدرك حقيقة إيمان الشرق! إن الشرقي يَعُدُّ الدين نفسه، ولا يَعُده الغربي كذلك — إن الغربي قد يُساكن آخرَ، ويصاحبه زمنًا طويلًا، ولا يسائله يومًا عن دينه، بل ولا يهمه ما دينه. ولكن الدين في الشرق أعزُّ شيء عند أهله.

وشيءٌ آخر بين الشرق والغرب، أن الدين في الغرب نُظِّم تنظيمًا دقيقًا كأنه حكومة، والكنيسة ورجال الدين يسيرون على نظامٍ محكمٍ وعلى رأسه البابا. أما في الشرق فليس هذا هو الشأن، فلا رئيس في الهندوكية؟ وخليفة المسلمين ليس له إلا سلطة اسمية، والدين — على العموم — في الشرق نفسي داخلي، وليس يحتاج إلى نظام ولا سلطان. فإذا شعر الشرقي بحاجة إلى الدين بحث عنه كما شاء، واعتنقه كما شاء، وأسس علاقته بربه كما شاء. إذا نظرت إلى الدين في الغرب رأيته كحديقةٍ خضعت للنظام، شُذِّبت أطرافها في دقة، وعُني بكل شيء فيها، ومُنع من السير على حشائشها؛ كلُّ شيء فيها بقانون ومنهج وقيود؛ لأن بذورها مجلوبة من الخارج فتحتاج إلى مجهود صناعي كبير. أما في الشرق فحديقة طبيعية تنمو أزهارُها المحلية كما تشاء، لا تحتاج إلى بستاني يرعاها ويُشذبها، وكل شيء فيها ينمو حسب قوته واستعداده الفطري من صغيره إلى كبيره.

لهذا كله كان الشرق مصدر الدين وملهمه».

١  كُتبت في رمضان سنة ١٣٦٣ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤