موقعةٌ شعرية

من عهد النبي والاحتكاك مستمر بين المسلمين والإمبراطورية الرومانية الشرقية، بدأ ذلك بكتاب الرسول لهرقل، ثم بالفتوح التي فتحها عمر بن الخطاب ومن بعده، وقد ظلت بلاد آسيا الصغرى مسرحًا للحروب والقتال بين المسلمين والرومانيين في العصر العباسي، فالمؤرخون يذكرون ما دار من محاربة نثرية بين هارون الرشيد ونيقفور، إذ كتب الثاني للأول: «من نيقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب. أما بعد، فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرُّخ وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقًا بحمل أضعافه إليها، لكن ذلك من ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها، وإلا فالسيف بيننا وبينك» فأجابه الرشيد: «من هارون أمير المؤمنين إلى نيقفور كلب الروم، وقد قرأتُ كتابك والجواب ما ترى لا ما تسمع».

ولئن أُوخذ على قوله: «كلب الروم» فقد كان يعتمد على قوته وثقته بالنصر — وعلى كلٍّ فقد ،سار الرشيد إلى هرقلة١ ففتح وغنم حتى سأله نيقفور الصلح، وتبين أن الرشيد كان أصدق نظرًا.
ثم ما كان في عهد المعتصم من خروج ملك الرومان تيوفيل (ثيوفليوس) إلى زِبَطرة٢ وقتله وسبيه من المسلمين، فخرج إليه المعتصم وكانت وقعة عَمُّورية المشهورة التي خلَّفت لنا قصيدة أبي تمام: «السيف أصدق أنباءً من الكتب».

ثم كانت الحروب بين سيف الدولة الحَمْداني والروم، وقد تركت لنا ثروة كبيرة من شعر المتنبي وأبي فراس.

ولكن هذا كله كان شعرًا من جانبٍ واحد، أما القصة التي أرويها اليوم فشعر من جانبين بعد أن ضعف المسلمون بعض الشيء واستأسد النمر.

كانت الحادثة في عهد نيقفور الثاني فوكاس Nicophorus II Phocas ملك الروم (٩٦٣–٩٦٩م) (٣٥٢–٣٥٩ﻫ)، وكان قد تولى عرش الروم بالقسطنطينية، وكان معروفًا بالإقدام، متصفًا بالصفات العسكرية، يتولى بنفسه قيادة الجيوش، وقد غزا بلاد المسلمين لما أحس منهم الضعف بسبب ما نالهم من الانقسام والحروب الداخلية، ففتح المصيصة ودخل طرسوس، فجعل جامعها اصطبلًا لدوابه، واستولى على بعض بلاد الشام وعلى قبرص — وليس يهمنا هنا الحروب الآلية والمادية، وإنما يهمنا الحروب الشعرية.
فقد كان من أطرف ما حدث أن نيقفور الثاني هذا بعث إلى الخليفة العباسي قصيدة عربية فظيعة اهتزَّ لها المسلمون أكثر مما اهتزوا لهزيمة حربية وحزنوا لها أكثر مما حزنوا لفقد بعض مدنهم، أما مَن أنشأ هذه القصيدة لنيقفور فلم نعرف عنه شيئًا، والغالب أن يكون عربيًّا ،متنصرًا، وقد روى لنا التاريخ أن بعض عربٍ تنصَّروا والتحقوا بالقسطنطينية٣ وقد كان في بلاطه كثير ممن يتقنون العربية، ويقومون بالترجمة وبالمكاتبات الرسمية. وهي قصيدة طويلة تنيف على الخمسين بيتًا أرسلها نيقفور إلى الخليفة العباسي المطيع لله، وأولها:
مِن الملكِ الطُّهْرِ المسيحي رسالةٌ
إلى قائمٍ بالملك مِن آل هاشمِ
أما سمعَتْ أذناكَ ما أنا صانعٌ
بلَى، فعداك العجزُ عن فعل حازمِ
ثغوركمُ لم يَبقَ فيها لوَهْنِكمْ
وضعفِكُم إلا رسومُ المعالمَ
فتحنا ثغورَ الأرمنية كلها
بفتيان صدقٍ كالليوث الضراغمِ
ونحن جلبنا الخيلَ تعلكُ لجمها
ويلعب فيها بعضُها بالشكائمِ
إلى كل ثغرِ بالجزيرة آهِلٌ
إلى جند قنسرينكم والعواصمِ

واسترسل في ذكر كثير من البلاد وما فعلوا فيها على هذا النمط، وذكر ما كانوا يفعلون بالأسارى والسبايا:

وكم ذات خدرٍ حرَّةٍ علَويةٍ
منعَّمةِ الأطراف غرثَى المعاصمِ
سبينا، وسُقنا، خاضعاتٍ حواسرا
بغير مُهورٍ، لا ولا حكم حاكم
وكم مِن قتيل قد تركنا مجندَلا
يَصُبُّ دمًا بين اللها واللهازم
وكم وقعةٍ في الدرب ذاقتْ كُماتُكم
فسقناكُم سوقًا كسَوْقِ البهائمِ

ويرسم في القصيدة خطةَ سيره فيقول: إنه سيستولى على دمشق مسكن آبائه وغيرها من المدن:

ومسكنُ آبائي دمشقُ وإنه
سيرجع فيها مُلْكُها تحت خاتمي
ومصرُ سأفتحها بسيفِيَ عنوةً
وأُحرز أموالًا بها في غنائمي

•••

ألا شمِّروا يا أهلَ بغدادَ ويلكمْ
فمُلككُم مستضعَفٌ غيرُ دائم
رضيتم بأن الديلميَّ خليفةٌ
فصرتم عبيدًا للعبيد الديالم٤
سألقي بجيشي نحو بغدادَ سالمًا
إلى باب طاقٍ ثمَّ كَرْخِ القماقم٥
فأُحرِقُ أعلاها وأهْدِمُ سُورَها
وأسْبِي ذراريها على رغْمِ راغمِ
ومنها إلى شيراز والرِّيِّ فاعلموا
خراسانَ قصدي بالجيوش الصوارم
فأُسِرعُ منها نحوَ مكَّةَ سائرًا
أجُرُّ جيوشًا كالليالي السواجمِ

•••

وأسري إلى القدس التي شرُفَت لنا
عزيزًا مَكينًا بانيًا للدعائم

ولما أتم إعلان خطَّته قرَّع المسلمين تقريعًا فظيعًا بأنهم ساء حكمهم، فلم يعودوا صالحين لإدارة البلاد فقد ملؤوها جورًا وظلمًا، وأفسدوا القضاء بالرشا وشهادة الزور، فكيف بعدُ يصلحون؟

ملكنا عليكم حين جار قويُّكم
وعاملتُم بالمنكَراتِ العظائمِ
قُضاتكم باعوا جهارًا قضاءهم
كبيع ابنِ يعقوبَ ببخسِ الدراهمِ
شيوخكم بالزور طرًّا تشاهدوا
وبالبز والبرطيل في كل عالمِ
سأفتح أرضَ الشرق طرًّا ومغربًّا
وأنشر دينَ الصَّلب نشرَ العمائم

ولم يكتفِ بإرسال هذه القصيدة للخليفة المطيع، بل نشرها بين المسلمين وفي الجند المحاربين إضعافًا لقوتهم، كما توزَّع اليوم المنشورات بالطيارات، فنالت القصيدة من المسلمين مبلغًا يهد الأعصاب ويثير كوامن الشجون.

وكان في جند المسلمين الذين يحاربون في الثغور عالم من أكبر علماء الشافعية اسمه القفَّال الشاشي الخراساني، ناشرُ فقه الشافعية في بلاد ما وراء النهر، لم يمنعه علمه وفضله أن يلتحق بالجيش جنديًّا يوم كان علماء الدين يعرفون حمل السلاح وركوب الخيل، ويجيدون القتال — فكما كان القفَّال هذا يجيب عن سهم بسهم وضربة سيف بضربة سيف، حملته الغيرة الدينية أن يجيب عن هذه القصيدة بقصيدة من نفس البحر والقافية، بدأها بقوله:

أتاني مقالٌ لامرئٍ غيرِ عالمٍ
بِطُرْقِ مجاري القول عند التخاصمِ

•••

وقال: مسيحيٌّ وليس كَذَاكُمُ
أخو قسوة لا يحتذي فعلَ راحمِ
وما المَلكُ الطهْرُ المسيحيُّ غادرًا
ولا فاجرًا رَكَّانة للمظالمِ
تثبَّتْ — هداك الله — إن كنت طالبًا
لحقٍّ، فليس الخبطُ فعلَ المقاسمِ
ولا تتكبَّر بالذي أنت لم تَنَلْ
كلابس ثوبِ الزور وسط المقادمِ
وما العجزُ في ركضٍ على أهل غرةٍ
وهل ذاك إلا مِن مخافة هازمِ
وهل نلتَ إلا صُقعَ طرسوسَ بعد أنْ
تسلَّمتَها مِن أهلها كالمُسالمِ

وفخر بفعل المسلمين مِن قبلُ فقال:

ترى نحن لم نوقع بكُمْ وبلادِكمْ
وقائع يُتْلى ذكرها في المواسمِ؟
مئين ثلاثًا مِن سنين تتابعتْ
نَدُوسُ الذرَى مِن هامِكم بالمناسمِ

•••

أتذكر هذا أم فؤادك هائم
فليس بناسٍ كلَّ ذا غير هائمٍ

•••

طردناكم قهرًا إلى أرض رومِكُم
فطِرْتُمْ من الشامات طرد النعائمِ

وردّ عليه في أسره وسَبيه وبيَّن الفرقَ بين معاملة المسلمين للأسارى والسبايا ومعاملة الروم لهم فقال:

وعظَّمت مِن أمرِ النساءِ وعندنا
لكم ألفُ ألفٍ من إماءٍ وخادمِ
ولكن كُرْمنا إذ ظفرْنا وأنتمُ
ظفرتم فكنتم قدوةً للألائمِ

وردَّ عليه في أمانيه في الفتوح فقال:

وعدَّدتَ بلدانا تريد افتتاحها
وتلك أمانٍ ساقها حُلمُ حالمٍ
ومَن رام فتح الشرقِ والغرب ناشرًا
لدين صليب فهو أخبثُ رائمِ
لئن كان بعض العُربِ طارت قلوبهمْ
أو ارتدَّ منهم حشوةٌ كالبهائمِ
فللحقِّ أنصارٌ ولله صفوةٌ
يذودون عنه بالسيوف الصوارمِ
أتتك خراسانُ تجرُّ خيولها
مسوَّمةً مثل الجراد السوائمِ
كهولٌ وشبَّانٌ حماة أحامسِ
مَيَامِنُ في الهيجاء غيرُ مشائمِ
غزاةٌ شَرَوا أرواحَهم مِن إلههمْ
بجنَّاته واللهُ أوفَى مساومِ

وردَّ عليه أمله في فتح بلاد المسلمين بأمل المسلمين في فتح القسطنطينية:

ونرجو بفضل الله فتحًا معجَّلًا
ننال بقسطنطين ذات المحارمِ
هناك يُرَى نقفور واللهُ قادرٌ
ينادَى عليه قائمًا في المقاسمِ
ويجري لنا في الروم طرًّا وأهلها
وأموالها جمعًا سهامُ المغانمِ
فيضحك منَّا سِنُّ جذلانَ باسمٍ
ويقرع منه سنَّ خزيانَ نادمِ
وإن تُسْلِموا فالسلمُ فيه سلامةٌ
وأهنأ عيشٍ للفتى عيشُ سالم

ومن العجيب أنه لما ردَّ عليه في سوء الحكَّام وفساد القضاة سَلَّم بهذا ولم ينكره وقال:

وقلتم: ملكناكم بجورِ قضاتِكم
وبيعِهم أحكامَهمْ بالدراهمِ
وفى ذلك إقرارٌ بصحة ديننا
وأنّا ظَلمْنا فابتُلينا بظالمِ

وسافرت قصيدة نيقفور برًّا وبحرًا حتى وصلت الأندلس، فعزَّ عليها ألَّا تساهم في الرد عليها كما ساهم الشرق، فأنشأ ابن حزم الإمام العالم الأديب المعروف قصيدة أخرى على نفس الرويِّ والقافية، أولها:

مِن المحتميِّ بالله ربِّ العوالمِ
ودين رسول الله مِن آل هاشمِ

ورثى لحال الخليفة العباسي وأن ليس في يده شيء حتى يدعوه نيقفور:

دعوتَ إمامًا ليس مِن أمر آلهِ
بكفَّيْهِ إلا كالرسوم الطواسمِ
دَهَتْهُ الدواهي في خلافته كما
دهت قبلَهُ الأملاك دهمَ الدواهمِ
ولا عجبٌ مِن نكبةٍ أو ملمَّةٍ
تصيب الكريمَ الحرَّ وابن الأكارمِ
ولو أنه في حال ماضي جُدُوده
لجُرِّعتمو منه سمومَ الأراقمِ

ويقول: إنكم إنما ظفرتم بالمسلمين لتخاذلهم:

ولمًّا تنازعنا الأمورَ تخاذلًا
ودالت لأهلِ الجهل دولةُ ظالمِ
وقد شغلت فينا الخلائف فتنةٌ
لعبدانهم من تُركهِمْ والديالمِ
وثَبتمْ على أطرافنا عند ذلكم
وُثوبَ لصوصٍ عند غفلة نائمِ

وفخر بأعمال المسلمين ومجدهم القديم:

ألم ننتزع منكم بأيدٍ وقوةٍ
جميعَ بلاد الشام ضربةَ لازمِ
ومصرًا وأرض القيروان بأسرِها
وأندلسًا قسرًا بضرب الجماجمِ

ثم أنذرهم بالمجد الحديث:

رويدًا يَعُدْ نحو الخلافة نورُها
ويكشف مغبرَّ الوجوه السواهمِ
وحينئذ تدرون كيف فراركم
إذا صدمتكم خيلُ جيشٍ مصادمِ
على سلفِ العادات منَّا ومنكم
ليالي أنتم في عداد الغنائمِ

وأطال في ذكر فعال السابقين وأمله في الحاضرين والقادمين والإسلام والمسلمين، وبشر بفتح القسطنطينية والهند والصين:

وإلى أن يُرى الإسلامُ قد عَمَّ حكمُهُ
جميعَ البلاد بالجيوش الصوارمِ

وهكذا إلى أن أتمها ١٣٧ بيتًا وختمها بالموازنة بين قصيدته التي كالعقد الفريد، وبين قصيدة الخصم الباردة:

أتيتم بشعرٍ بارد متخاذلٍ
ضعيفِ معاني النظم جمِّ البلاعمِ
فدونكها كالعقد فيه زمرُّدٌ
ودُرٍّ وياقوتٍ بإحكام حاكمِ

ثم أُسْدِل الستار على هذه المعركة العنيفة، ولم يكن الحكم فيها — للأسف — لرجال البلاغة ولا جهابذة النقد، وإنما كان الحكمُ فيها للسيف، وظل بيت أبي تمام صادقًا على مدى الدهور:

السيفُ أصدقُ أنباءً مِن الكتبِ
في حدِّه الحدُّ بين الجد واللعبِ
١  مدينة قديمة في آسيا الصغرى تسمى الآن إيركلي.
٢  مدينة في تركية آسيا بين ملطية وسميساط.
٣  من هذا ما يرويه ابن حوقل أن بني حبيب وهم أبناء عم بني حمدان كانوا ينزلون بنصيبين، فأكبَّ عليهم بنو حمدان بصنوف الجور حتى خرجوا بذراريهم في اثني عشر ألف فارس إلى الروم وتنصَّروا.
٤  يريد بالديالم بني بويه.
٥  الطاق والكرخ محلتان ببغداد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤