أحرقوا اللوائح!!

يُحكى أن علي مبارك باشا، كان يومًا من أيامه مديرًا للأوقاف (أو كما نسميه اليوم وزير الأوقاف)، فدخل يومًا مكتبه، فوجد عليه لوائح مكدسة، وهي لكثرتها وتعقدها لا تُنهي أمرًا ولا تُنجز عملًا.

ولاحظ أن هناك لوائح ناسخة ولوائح منسوخة … ومادة في لائحة تناقض مادة في لائحة أخرى، ومادة في اللائحة القديمة والجديدة لا تتفق والعدالة … والوزارة كلها مِن كتبتها إلى وزيرها مستعبَدون للوائح … قد وُضعت في الأصل لتنظيم العمل، فإذا هي الآن تشل العمل.

فأمر كاتبه أن يحضر مساء يومٍ لأنه هو سيحضر، فلما كان الموعد حضر الكاتب وحضر الوزير، فأمره الباشا أن يحمل هذه اللوائح إلى حجرة خالية، ففعل، وذهب الباشا بنفسه إلى الحجرة وأخرج من جيبه عود كبريت، وأشعل منها عودًا في اللوائح، ووقف يتلذذ من رؤية النار تلتهمها … ثم عاد إلى مكتبه وقال: الآن نبدأ العمل «على نظافة!»

فما أحوجنا الآن إلى أن يتفق الوزراء على موعدٍ يجتمعون فيه في وزارة المالية، ويأمر كل وزير أن ترسَل كل لوائحه إليها، ويُحدد موعدٌ يعلن عنه في الصحف ويُدعى إليه كبار الموظفين، وتكدسَّ اللوائح كلها في فناء المالية، ويصب عليها عشر صفائح بنزين، ويخطب الوزراء خطبًا رنانة تقابَل بالتصفيق، ويكون موضوعها: توديع عهد استعباد اللوائح، واستقبال عهد الحرية والعقل والعدالة وإنجاز الأعمال!

ثم يتقدم وزير المالية، ويشعل الكبريت في اللوائح، فتنبعث منها نارٌ جميلة، حارة كحرارة أنفاس المكروبين، ثم يهنئ بعضهم بعضًا بعهدٍ لا بطء فيه ولا تعقيد، تسير الأمور فيه سير البرق، ولا يقف فيه أمام الإصلاح شيء، فتقطع الأمة في سنةٍ ما كانت تقطعه في مائة سنة.

•••

بالأمس توالت عليَّ ثلاث حوادث في ساعتين، كل حادثة مأساة مروعة.
  • أولاها: أسرة أصيبت بكارثة عظمى لأن عائلها وُقف عن عمله، ووُقف مرتبه وظل موقوفًا شهرًا بعد شهر، لا يحاكَم فتظهر جريمته أو براءته، ولا يُصرف مرتبه، فلما ضاقت بالأسرة الحال — إذ لا مورد لها من الرزق غير المرتب الموقوف — حدثت الكارثة العظمى التي كان من ضحاياها روح بريئة!
  • والثانية: أني وجدت في الوزارة كتابًا قيمًا طُبع منه خمسة آلاف نسخة، ووُضع في الصناديق ولم ينتفع به أحد، ولم يعلَن عنه، وظل كذلك نحو سنتين، وقد تكلفت كل نسخة منه نحو خمسة قروش، فاقترحت عرضها على المكاتب، وتسهيل شرائها وبيع النسخة بخمسة عشر قرشًا يخصم منها ٢٥٪ للمكاتب، حسب العادة الجارية. فاعتُرض عليَّ بأن اللوائح المالية لا تجيز خصمًا للمكاتب إلا ٧٪، والمكاتب لا تقبل … والوزارة لا تقبل … ولُيضِعْ على الناس نفعهم من الكتاب، وليضِع على الوزارة ثمن الكتاب احترامًا للوائح.

    فإن أراد أحد أن يشتري الكتاب من الوزارة، فهناك الطامة الكبرى؛ لأنه يجب عليه أن يقبِّل الأرض ويتقدم، ويقبِّل الأرض ويتأخر، ويملأ استمارة ويُضيع يومًا بطوله في سبيل الحصول على الكتاب!

  • والمأساة الثالثة: موظف أحيل على المعاش من ستة أشهر … وهو وأسرته لا مورد لهم غير مرتبه … ورِجله قد حفيت من السعي لتسوية معاشه … ولمّا تتم التسوية!

أليس من المصادفات العجيبة، أن تتابَع هذه المآسي الثلاث عليَّ في وقت واحد؟ وكم صادف غيري مِن مآسٍ من هذا القبيل قد ملأت حديث كل مجلس وصكت كلَّ سمع؟ ما هذه العبودية للوائح؟

لقد وضعنا أنفسنا موضع الطفل وصيُّه اللوائح، ووضعنا الوزارات موضع الرجل السفيه تشرف عليه وزارة المالية … وتركزت كل التصرفات في يد المشرف لا يمكن الإفلات منه. وبذلك مات كلُّ مشروع للإصلاح … وتجمدت كل حركة.

إن هذا التركيز له تاريخ قد تقادمَ عهدُه، وما كان صالحًا للماضي لا يصلح اليوم والثوبُ الذي يناسب الطفل لا يناسب الرجل. قد كان هذا التركيز سببه ما وقعت فيه مصرُ من دَين ثقيل، وما أوجب ذلك من تعيين المراقبين الأجنبيين على موارد الدولة، ووضع نظام يجعل كل تصرف لا بد فيه من إذن المشرفين على المالية حتى يحافظ على مصالح الدائنين من الأوربيين!

فلما جاء عهد الاحتلال انتقلت سلطة المراقبة الثنائية إلى وزارة المالية، فجُعل لها الإشراف على كل الوزارات وجُعل الإشراف فيها للمستشار المالي، وجُعل له الحق في حضور مجلس النظار، ولكن الاحتلال قد زال … والديون الأجنبية قد زالت، والطفل الصغير قد أصبح رجلًا كبيرًا، والأمة قد مُنحت الاستقلال، وأصبحت المالية تحت إشراف المصريين!

أفمن العدل أن يكون النظام الذي وُضع لظرف خاص، باقيًا مع زوال سببه؟ أو من الحق أن يظل الاستبعادُ عن طريق المال في عهد الاستقلال؟

لو كان هذا النظام القائم المركَّز البطيء يحفظ على الدولة كل مليم، والنظام الموزع السريع يُضيع على الدولة مليون جنيه أو مليونين لفضلتُ النظام الثاني لأنه أنفع للبلد، فسيرُ وسائل الإصلاح، والسرعة في انجاز الأعمال، ووضع الثقة في الموظفين، وقضاء الناس مصالحهم في يسر وسهولة يساوي أكثر من مليونين!

أفلسْنا في حاجة إلى علي مبارك آخر يحرق لنا اللوائح؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤