في الهواء الطلق١ (٧)

هذا صديقي وأنا، نمشي على شاطئ البحر في رأس البر في وقت الأصيل، وننتقل من الحديث عن الجو إلى المفاضلة بين الإسكندرية ورأس البر، إلى أخبار الحرب ومصير العالم، ثم إذا بنا ننغمس في الجدل في نظرية «التقدم المستمر للعالم».

قلت: إن العالم في تقدم مستمر، فهو اليوم خير منه أمس، وهو غدًا خير منه اليوم، وقد أتى على الناس زمان كانوا ينشدون فيه مَثَلَهم الأعلى في ماضيهم، واليوم ينشدون مثلهم الأعلى في مستقبلهم. وأذكر أني قرأت جملةً لطيفةً لكاتب غاب عني اسمه، وهي: «أن قدماء اليونان كانوا يعتقدون أنهم من نسل الآلهة فانحدروا؛ وأما المحدَثون فيرون أنهم من نسل القرود فسَمَوْا» وهذا يمثل نوعَيْ النظر في انحطاط العالم شيئًا فشيئًا، أو تقدمه شيئًا فشيئًا؛ وأنا ممن يؤمن بهذا التقدم. قد يكون ماضي أمة معينةٍ خيرًا من حاضرها، وقد يقف العالم وقفةً يكسِّر فيها بعضه بعضًا — كما هو حادث الآن — وقد تقوم الثورات في الأمم فتدك النظام القائم، وتقع في الفوضى، ولكن إذا نظرت إلى العالم من حيث هو كلٌّ، وفي أزمانه المختلفة، رأيته يتقدم دائمًا، وإذا وقف فإنما يقف ليثب، وإذا كسر بعضُه بعضًا فليخلق خلقًا جديدًا خيرًا من الخَلْق القديم، وإذا وقع في الفوضى حينًا فلِيبنى على أنقاض النظام القديم البالي نظامًا جديدًا متينًا، ثم يبلَى الجديد فيُبنى خيرٌ منه، وهكذا، وكل بناء جديد خطوة إلى الأمام.

وهذه الفكرة — مع صحتها — نافعة للإنسانية، ففي القرون الوسطى أيام كان الناس يعتقدون أن عصرهم الذهبي خلْفهم لا أمامهم غلب عليهم اليأس والتشاؤم، وضعفت عزائمهم، وكان مَثلُهم الأعلى أن يعودوا إلى الوراء لا أن يسيروا إلى الأمام، وسادت فيهم الرجعية، ورمَوا كلَّ من يدعوهم أن ينظروا أمامهم بالزندقة ونحوها، وتوقعوا قرب انتهاء العالم، فما هي إلا أجيال ثم ينقرض، فكان تقدمهم بطيئًا؛ لأنهم تقدَّموا رغم أنوفهم لا بإرادتهم، وعاكسوا التيار فعُوِّقوا عن السير. فلما جاء عصر النهضة واعتنق الناس فكرة التقدم المستمر، رأوا عصرهم الذهبي أمامهم لا خلفهم، فسارعوا إلى السير مع التيار، فتضاعف تقدمهم، واتسعت وَثْبَتُهُم، وانفسح أمامهم المدى؛ فالإنسانية في نظرهم أمامها مستقبلٌ بعيد سعيد. ويجب أن يعتنق الشرق هذه الفكرة كما اعتنقها الغرب، فلينظروا أمامهم أكثر مما ينظرون خلفهم، وينشدوا مستقبلَهم أكثر مما يتغنون بماضيهم، بل هم إن تغنَّوا بماضيهم فليستحثهم على السير أمامهم.

فكَّر صاحبي هُنيهةً ثم قال: لا أظن ذلك! ألا ترى هذه الموجة؟ — ونظرت إلى موجة مسرعة إلى الشاطئ — إنها تتقدم سريعًا حتى تفنى، وتتبعها موجةٌ أخرى وهكذا، والبحر هو البحر، قد يحدث المدُّ ثم يحدث الجزر، والبحر لا يتغير. والتاريخ يعيد نفسه؛ لأن العالم يعيد نفسَه، لعل الخلاف بيني وبينك ناشئ من اختلاف وجهة النظر في مظهر التقدم، فإن عددنا مظهر التقدم تغلُّب الإنسان على الطبيعة وتسخير قوانينها لمصلحته، ورقيَّ عقله، وفهمه للعالم أكثر مما كان، وكثرة مكتشفاته ومخترعاته، فالرأي رأيك، وإن عددنا مقياس الرقيِّ سعادة الإنسان فإني أخالفك، فلسنا أسعد من آبائنا، ولا رقيّ العقل وكثرة المخترعات قلَّلت من متاعبنا، بل ربما كان العكس هو الصحيح — إن شئت فانظر إلى عشش رأس البر تر مصداق ما أقوله: هذه عشش وضيعة تحوي ناسًا فقراء في المال، فقراء في العقل، وهذه عشش غنية مترفة، فيها الراديو، وفيها التليفون، وفيها الطباخ الماهر والأكل الفاخر، وعقول أهلها أرفع مستوًى وأعلى مقامًا؛ ولكن هل تستطيع أن تجزم بأن الآخرين أسعد من الأوَّلين؟ ما أظن ذلك! فلو مررت بجانب عشش الأولين لسمعت الضحك عاليًا، والرضا بما كان شاملًا، وقد تكون صحتهم أتم، ولذتهم بالأكل البسيط أوفر مِن هؤلاء الأغنياء الممعودين الذين تعدُّهم أرقى، وتقيمهم مثلًا للتقدم المستمر. وما قيمةُ رقيِّ العقل وكثرة المخترعات إذا لم تُصحب بالسعادة، وكان الأمر كما قال المتنبي:

ذو العقل يَشقَى في النعيمِ بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ!

بل ما هذه العقلية التي تطنطن بها؟ إن الإنسان مع تقدمه المزعوم لم يظفر إلا بمعرفة أعراض المادة. أما حقيقة المادة وحقيقة الروح فلم يتقدم في فهمها أيةَ خطوة، بل لعل الإنسان كان يقوده شعورُه إلى السلوك في الحياة خيرًا مما يقوده عقلُه المطعَّم بالمنطق والفلسفة! إن العالم — في نظري — كالرجل المتردد يقدِّم رجلًا ويؤخر أخرى، فهو يبني ويزخرف، ثم تعرِض له جِنةُ الحرب، فيهدم ما بني وما زخرف، ثم يبدأ يبني من جديد وهكذا، وليته ما بنى وما هدم؛ وكلما أجاد البناءَ أجاد الهدم، وشجرةُ المعرفة كشجرة آدم، من أكل من ثمارها خرج من الجنة. والإنسان الكُل كالإنسان الفرد، يبدأ طفلًا ثم ينمو ثم يهرم ثم يموت ليخلفه طفلٌ جديد. وهكذا الأمم وهكذا العالم، فهو يدور في حلقة مفرغة.

قلت: لعل خلافي لك ينحصر في نقطتين: الأولى: أنك قلَّلت من قيمة التقدم العقلي؛ والثانية: أنك عمَّمتَ السعادة ولم تفرق بين سعادة وسعادة. والنقطتان مرتبطٌ بعضهما ببعض أتم الارتباط، فالإنسان إنما ارتقى عن الحيوان بعقله لا بحواسه وغرائزه، فإذا سلَّمت بأن الإنسان أرقى من الحيوان وجب أن نسلم بأن الإنسان الأرقى عقلًا أرقى من الإنسان الأضعف عقلًا. وإذا سلَّمتَ بذلك وجب أن تسلِّم بأن العالَم في مجموعه إذا كان اليوم أرقى عقلًا مما كان فهو في تقدم مستمر. ثم إن السعادة العقلية أو اللذة العقلية أرقى من الجسمية، بل إن الإنسان يُفضِّل العقلَ مع الألم على الجهل مع اللذة؛ فلو خُيِّرْت أنت بين أن تكون فيلسوفًا ساخطًا وأن تكون جاهلًا راضيًا لاخترت الأولى، وحُكمك أنت في هذا الأمر أصدق من حكم الجاهل؛ لأنك جربت اللذتين: لذة الجهل ولذة العقل، واللذة المادية واللذة العقلية. ففضلت الثانية على علم. ولو عُرض على المتنبي الذي قال هذا البيت أن يكون الغنيَّ الجاهل أو الغبيَّ المنعَّم لما اختار إلا نفسه وآلامها.

ولْنعد إلى موضوعنا: إن العالم كله يسير اضطرارًا نحو الكمال، فالسُّدُم إلى نجوم، والنطفة إلى وليد، والحيوان الأدنى إلى حيوان أرقى، والبذرة إلى شجرة، والشجرة إلى ثمرة. والطبيعة لا تزال بكل شيءٍ حتى تُنضجه، فَلِمَ لا يكون الإنسان كسائر ما في العالم، يسير نحو النضج؟ وقد دلنا العقل على أن قوانين العالم منسجمة، يسير أكبرها على نحو ما يسير أصغرها.

قال: ولكن النضج يعقبه الفناء.

قلت: ولكن الفناء يعقبه أن يولَد خيرٌ مما فني.

قال: لا دائمًا.

قلت: لتكن نظرتنا كليَّةً لا جزئية؛ إن الإنسان سائر إلى الأمام دائمًا. والعالم في كل قرنٍ خيرٌ مما قبله في جملته، والشرور والرذائل تقلُّ شيئًا فشيئًا. والإنسان بطبعه — وبالضرورة — ككل شيء في العالم يسير نحو غاية هي الكمال. ونظريةُ النشوء والارتقاء وتنازعُ البقاء وبقاءُ الأصلح تَصدُق على الإنسان كما تصدُق على كل ما في العالم.

قال: كم من شرير قتل خيِّرًا، وكم من فئة متبربرة متوحشة غلبت فئة متمدنة راقية! ومكروب الحمَّى الحقير أمات محمدًا رسول الله العظيم! وكل يوم نرى أمثلة الخير يلتهمها الشر. ألم ترَ اليوم ما فعلت النار بعشش رأس البر كيف أتت عليها وعلى ما فيها، وفزَّعت أهلها، وأرعبت جيرانها، والتهمت كل ما وصل إليه لسانها؟! وأهلها قد أتوا ليستجمُّوا من عناءٍ أو يستشفوا من مرض أو يتخففوا من ألم. وما قيمة هذا الحريق في رأس البر بجانب حريق العالم في هذه الحرب؟ فلِمَ كل هذا الشر إن كان يراد بالعالم الخير؟

قلت: أعيد فأكرر قولي، يجب أن تكون نظرتنا كلية شاملة لا جزئية خاصة، فلا تنظر لشرير جَنَى، ولكن انظر إلى ما أنتجت الجناية من تحصين، ولا تنظر لمكروب أمات، ولكن انظر كيف تقدم الإنسان فعرف مكروبًا لم يكن يعرفه، وفتك بالكثير منه وهو يحاول الفتك بالباقي، ولا تنظر إلى الحرب وويلاتها، ولكن انظر إلى نتائجها بما أصلحت من نظم، وأظهرت من مفاسد حرَّكت الهمم لتلافيها ووضْع خير منها مكانها. ومن قوانين العالم العامة ألَّا يكون بناءٌ إلا بعد هدم، ولا علاجٌ إلا بعد مرض. إن شئتَ الفكرة واضحة فقارن بين الإنسان في جيله الأول وانظر كيف كان يعيش، وكيف كان يتصور العالم حوله، وكيف كان يتصرف في المسائل التي تعرض له، وكيف كان يُحكَم؛ والإنسان في جيله الحاضر، كيف يعيش ويتصور ويتصرف ويحكم، تؤمن بالتقدم المستمر والسير إلى غاية هي الكمال.

قال: إنك تبالغ كثيرًا في تقدير المدنية، وإني لا أعدُّ تقدمًا إلا رقي الطبيعة الإنسانية، وهل هي تقدمت كما تدَّعي؟ إن المدنية فيما أرى ليست إلا طلاءً برَّاقًا للطبيعة الإنسانية المتشابهة في القديم والحديث. والإنسان متقدم — كما ترى — في حالة عدم الإغراء وعدم الاحتكاك، فإذا أُغري أو وقع في محنة زال طلاؤه وتكشفَ عن طبيعة تشبه طبيعة الإنسان الأول، كما تراه في الحروب. إن الأمم في حرب بعضُها بعضًا لا تراها أكثر إنسانيةً ولا حبًّا للعدل ولا رغبةً عن الانتقام من أسلافها الأولين، ولا أظن أن الإنسان في حاضره قد شابهه أيُّ إنسان آخر قبله في فتكه وإبادته وتخريبه! وحتى في غير أيام الحرب تستطيع أن تقارن بين الاستعمار القديم والاستعمار الحديث لترى ماذا يفعل الإنسان، وهل تقدم إنسان اليوم عن جدِّه؟ ومن الغريب أنك ترى الإنسان المتمدن لم يَذبح في حياته دجاجة، ولم يقتل حشرة، فإذا دخل في ميادين القتال كان سفاكًا فتّاكًا، وتكشَّف عن طبيعةٍ تشبه طبيعة القط رأى الفأر لأول مرة — إن كان هذا فماذا فعلت المدنية؟ أمدَّت سككًا حديدية، واخترعت الراديو والتليفون، وأنشأت الآلات الصناعية، وهل هذا تقدم في الطبيعة الإنسانية؟!

لستُ — من غير شك — أُنكر قيمة ما اكتشفه الإنسان الحديث وما اخترعه، وما استفاد من تجاربه مما غيَّر به وجه الأرض، ولكني أومن في الوقت نفسه أنها أمور خارجة عن نفسه؛ فإذا قسنا الإنسان بمقياسه الحقيقي — وهو طبيعته البشرية — لم نؤمن بالتقدم الكبير الذي تدَّعيه. وهذا يدل على أن الإنسان خاضع لقانون الوراثة أكثر من خضوعه لقانون البيئة، أو بعبارة أدق هو خاضع لهما بنسب متفاوتة جدًّا.

قلت: إنك تستصغر التقدمَ الإنساني إذا قستَه بالطبيعة البشرية، وتستنتج من ذلك فساد النظرية. ولكن …

وهنا قال صاحبي: ألم تتعب من السير؟

قلت: الحديث أنساني نفسي وأنساني تعبي، فلا أذكر إلا حجة تقرعها حجةً، فهل لك أن نجلس على الرمل ننعم بغروب الشمس في البحر؟ فجلسنا وسألني: ولكن ماذا؟

قلت: ولكن يظهر أنك تقيس الإنسان القريب بالإنسان الحاضر، والإنسان المعروف في التاريخ بالإنسان اليوم؛ فأمعِن في تاريخ الإنسان الأول يوم لم يكن يفترق عن الحيوان إلا قليلًا، وآمن بما يقوله العلماء المحدَثون من أن عمر الإنسان على وجه الأرض مئات الآلاف من السنين، وأن الطبيعة لا تعرف الطفرة، ولكن تعرف التقدم البطيء؛ فإذا لم ترَ إلا تقدمًا قليلًا إذا قصرتَ نظرك على الإنسان التاريخي، فإنك ترى التقدمَ كبيرًا إذا ضممتَ إلى ذلك الإنسانَ قبل التاريخ، وكم بين الإنسان الذي يُشبه القرد، وبين فلاسفة العصر الحاضر وعلمائه وشعرائه وفنانيه مِن فرق!

ثم إن في طبيعتنا البشرية نفسها مصداقُ ما أقول. إن الطبيعة لم تخلق فينا الأمل والطموح عبثًا، إنما خلقتهما للسعي الدائب للرقي الدائم، ولو أرادت الطبيعة أن يقف الإنسان عند حدٍّ لجردته منهما كما جردت الحيوان. إن للأمل في الإنسان وظيفتين: احتمال متاعب الحياة الحاضرة، والسعي لحياة مستقبلة خيرٌ من حياته التي يحياها، وهذا مبعثُ التقدم في مسكنه، وملبسه، ومأكله، وعقليته، ونفسيته.

قال: هَبْ ما تقول صحيحًا، فما قيمة «التقدم المستمر» إذا كان مصير الإنسانية الفناء؟ لا شك أن سيأتي يوم تبرد فيه الأرض تبعًا لبرودة الشمس، أو نحو ذلك كما كان الحال في كثير من النجوم، وإذا بالإنسانية كلها قد فنيت. وإذا كان الأمر كذلك فسواء صحَّت نظرية «التقدم المستمر» أو «الانحطاط المستمر» فالنتيجة واحدة وهي الفناء، وبذلك تكون الغاية التي يسير إليها العالم غاية مضحكة، فإذا كانت غاية مقصودة كانت غاية في منتهى السخف.

قلت: ذلك يكون صحيحًا لو حسبت حساب هذا العالم المادي وحده، ولم تضم إليه الحياةَ الأخرى؛ أما إذا آمنت بحياة أخرى يستمر فيها الرقي والكمال، وتكون فيها الروح بعد تجرُّدها من المادة أقدر على الرقيِّ وبلوغ الكمال حتى تقرب من خالقها، لم يكن لاعتراضك وجهٌ، ثم إنا إذا سلَّمنا بهذه الحياة الأخرى.

•••

وهنا طلع علينا صديق مرح: السلام عليكم.

– عليكم السلام.

– ما لكما ساهمَيْن؟

– نفكر؟

– في ماذا؟

– في نظرية التقدم المستمر.

– ها ها ها.

أفي مثل هذا الجو وهذا المنظر يكون هذا الحديث؟؟ تكلَّما في غروب الشمس الجليل، أو في هذا البحر الجميل، أو في هذا الهواء العليل، لا في هذا الموضوع الثقيل! ولكنكما كما قال المثل: «يموت الزامر وإصبعه تلعب».

١  عنوان عدة مقالات نُشر منها (١)، (٢)، (٣) في الجزء الرابع، و(٥)، و(٦) في الجزء الخامس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤