الكيف لا الكم

رُوي أن ابن «سِينَا» كان يسأل الله أن يهبه حياةً عريضةً وإن لم تكن طويلةً؛ ولعله يعني بالحياة العريضة حياةً غنية بالتفكير والإنتاج؛ ويرى أن هذا هو المقياس الصحيح للحياة؛ وليس مقياسَها طولُها إذا كان الطول في غير إنتاج؛ فكثير من الناس ليست حياتهم إلا يومًا واحدًا متكررًا، برنامجهم في الحياة: أكل وشرب ونوم؛ أمسهم كيومهم، ويومهم كغدهم؛ هؤلاء إن عُمّروا مائة عام فابن سينا يقدره بيوم واحد؛ على حين أنه قد يقدّر يومًا واحدًا — طوله أربع وعشرون ساعة — بعشرات السنين إذا كان عريضًا في منتهى العرض؛ فقد يوفّق المفكر في يومه على فكرة تُسعد الناس أجيالًا، أو إلى عمل يسعد آلافًا؛ فحياة هذا — وإن قصرت — تساوي أعمار آلاف، بل قد تساوي عمر أمة؛ لأن العبرة بالكيف لا بالكم.

وليس على الله بمستَنْكَرٍ
أن يَجْمَعَ العالَمَ في واحِدِ

ولعل ساعة اجتمع فيها أقطاب الأمم الأربعة، فانتهوا فيها إلى السلم، وأنقذوا أرواح الملايين من البشر، ومنعوا من الكوارث ما لا يعلم هَوْلَه إلا الله، خيرٌ آلاف آلاف من سنين صرفت في التسلّح وما إليه.

وتقدير الأشياء بالكيف لا بالكم، منزلة لا يصل إليها العقل إلا بعد نضجه. أما الطفل في نشأته، والأمة في طفولتها، فأكثر ما يعجبهما الكم؛ فالريفي خير «الخيار» عنده ما كبر حجمه وبِيعَ بالكوم، والمدني خير «الخيار» عنده ما نحف جسمه وكان «كالقشة» وبيع بالرطل. والطفل وأشباهه يرغّبون بكثرة العَدَد لا بجودة الصنف؛ فحيثما مررت في الشارع أو زرت متجرًا رأيت أكثر الترغيب بالكم «فأربعون ظرفًا وجوابًا بتعريفه»، و«دستة أقلام رصاص بصاغ»، وهكذا؛ وسبب هذا أن البيع والشراء يعتمدان على أدق قوانين علم النفس، والباعة من أعرف الناس بهذه القوانين التي تتصل بعقلية الجمهور؛ فهم يعلمون أنهم أكثر تقويمًا للكم، وأكثر انخداعًا بالعدد؛ فهم يأتونهم من نواحى ضعفهم وموضع المرض منهم، وقَلَّ أن يرغّبوهم في الشيء بأنه من «العال» أو «عال العال»؛ لأن هذا تقدير للكيف، وليس يقدره إلا الخاصة.

وكل إنسان قد مر بدور الطفولة، والأمم جميعها مرت كذلك بهذا الدور؛ فعَلِق بأذهانهم تقدير الكم، ولم يستطيعوا أن يتحرروا منه مهما ارتَقَوْا؛ وأصبحوا — حتى الخاصة منهم — ينخدعون بالكم من غير شعور وبِلا وعي؛ وصار هذا مرضًا ملازمًا، إنما يتحرر منه الفلاسفة وإلى حد. ألا ترانا نرى الرجل الضخم حسن الهيئة جميل الطلعة فنمنحه الاحترام ولو لم نعرف قيمته؛ ونرى الرجل صغير الجسم غير مهندم الثياب فنحتقره أول وهلة من غير أن نعرفه؛ وأساس معاملتنا بالإجمال احترام ذوي المظاهر الجميلة حتى يثبت العكس، واحتقار ذوي المظاهر الوضيعة حتى يثبت العكس، وليس ذلك إلا من خداع الكم؛ ولو أنصفنا لوقفنا على الحياد من الجميع حتى نتبين الكيف.

ونرى ذا العمامة الكبيرة واللحية الطويلة، فنعتقد فيه العلم والدين، مع أنه لا علاقة بين كبر العمامة وطول اللحية وبين العلم والدين؛ وإن كانت ثمة علاقة فعلاقة الضدية؛ لأن الدين محله القلب، والعلم موطنه الدماغ؛ وإذا مُلئ القلب دينًا والدماغ علمًا احتُقر المظهر وأبى أن يدل على دينه أو علمه بمظهر خارجي؛ بل هو إن امتلأ دينًا وعلمًا أنكر على نفسه الدين والعلم، واعتقد أنه أبعد ما يكون عما ينشده من دين وعلم؛ وكذلك الشأن في اللباس الجامعي واللباس الكهنوتي.

وقديمًا أدرك العرب خداع الكم، فقالوا: «ترى الفتيان كالنخْل وما يُدْريك ما الدﱠخل».

وقال شاعرهم:

ترى الرجلَ النحيفَ فتزدريه
وفي أثوابهِ أسَدٌ مَزِيرُ١
ويُعجبك الطَّريرُ فتبتليهِ
فيُخْلِفُ ظنَّك الرجلُ الطريرُ

وفي كل شأن من شئون الحياة، وضرب من ضروب العلم والفن ترى خداع الكم.

فالمؤلفون يعلنون عن كتبهم أنها في أربعمائة صفحة — مثلًا — من القطع الكبير، والمتعلمون كثيرًا ما باهوا بكثرة ما قرأوا، والكتَّاب

بكثرة ما كتبوا؛ والصحافة كثيرًا ما خدعت القراء بالكم، فكان مما اصطنعته زيادة عدد الصفحات في الجرائد والمجلات، مع أن الصفحات وحدها كمّ، ولا قيمة لها ما لم يصحبها الكيف. وكم أتمنى أن أرى جريدة أو مجلة تُرَغّب قراءها بالكيف فقط، وإن كنت أجزم بأن مصيرها الفشل؛ لأن أكثر الناس لم يُمْنَحُوا — بعدُ — ميزان الكيف.

وقد جرَت كثرة الصفحات في الجرائد والمجلات إلى تحوير الأسلوب إلى ما يناسبها؛ فكان الأسلوب أحيانًا كالعِهْن المنفوش، يصاغ منه في صفحة ما يصح أن يصاغ في عمود، وفي عمود ما يصح أن يصاغ في سطر واحد — ولست أدري لم كان الناس إذا أرسلوا برْقية، تخيروا أوجز الألفاظ لأغزر المعاني؛ ولم يفعلوا من ذلك شيئًا في كتبهم ورسائلهم ومقالاتهم؛ ولعلهم يفعلون ذلك؛ لأن الكلمات في البرقية تقدر بالقروش، وليس كذلك فيما عداها — إن كان هذا هو السبب دل على تقدير القرش أكثر مما يقدر زمن القارئ والكاتب؛ وفي هذا منتهى الشر، وفي هذا أقسى مثل لغفلة الناس في تقدير الكم لا الكيف.

وقديمًا عرض علماء البلاغة للكيف والكم في الأدب، وسموها اسمًا خاصًّا هو الإيجاز والإطناب؛ وعدُُّوا الإيجاز أشرف الكلام؛ والإجادة فيه بعيدة المنال؛ لما فيه من لفظ قليل يدل على معنى كثير، ومثلوا للإيجاز والإطناب بالجوهرة الواحدة بالنسبة إلى الدراهم الكثيرة؛ فمن ينظر إلى طول الألفاظ يؤثر الدراهم لكثرتها، ومن ينظر إلى شرف المعاني يؤثر الجوهرة الواحدة لنفاستها، ولا يعدل عن الإيجاز إلى الإطناب إلا لإيضاح معنى أو تأكيد رأي.

والحق أن الأدب العربي في هذا الباب من خير الآداب، فأكثر ما صدر في عصوره الأولى حبات من المطر تجمعت من سحاب منتشر، أو قطرات من العطر استُخْلصت من كثير من الزهر.

وبعد، فلست أحب أن تكون كتابتنا كلها بَرْقيَّات، وإذًا لعدمنا ما للأسلوب من جمال، وما لتوضيح الفكرة وتجليتها وتحليتها من قيمة؛ وإنما أريد أن يكون المعنى هو القصد وهو المقياس، فإن أطنبنا فللمعنى، وإن أوجزنا فللمعنى.

وأريد أن يقوم الناس الكيف للكيف، وإذا قدروا الكم فللكيف. ولعل من ألطف ما كان أني حين بلغت هذا الموضع من مقالاتي أخذت أعد صفحات ما كتبت، فوجدتها قليلة العدد، فآلمني ذلك؛ لأني لم أبلغ ما حذرت أن يكون، وفرحت بهذه الملاحظة؛ لأنها سدت فراغًا في المقالة، يكمل بعض ما فيها من قصر. ألسنا جميعًا عباد (كم)، أوليس هذا من نوع تقدير الخيار «بالكوم»؟

١  المزير: الشديد القوي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤