منطقُ اللغة

قال صديقي: ألا تنظر إلى هذه الظاهرة الغريبة؟ أنا في مجلس يتجادل أحيانًا فيما يُعْرَض عليه باللغة العربية، وأحيانًا باللغة الإنجليزية؛ فإذا تجادل باللغة الإنجليزية فالحجة تُقْرَع بالحجة في إيجاز، وداخِلَ حدود معينة، قلّ أن يكون هناك استطراد، وقلّ أن يكون لعب بالألفاظ، وقلّ أن يكون خروج عن الموضوع، وقلّ أن يكرر المجادل نفسه فيما يقول، فإما أن يأتي بحجة جديدة وأفكار جديدة، وإما أن يسكت؛ وما هي إلا هنيهة حتى يؤخذ الرأي ويفصل في الأمر. وإذا تجادلنا باللغة العربية فهناك يطول الجدل، ويكثر الحديث، وكثيرًا ما تقرع الحجة لا بأختها، ولكن ببنت عمها، وكثيرًا ما يستطرد من موضوع إلى موضوع لأقلّ مناسبة أو بدونها؛ وبعد طويل من الزمان يعودون إلى ما بدأوا فيه، وتثار مسائل كثيرة لا يفصل في واحدة منها، ويقول المجادل الآن ما قال من قبل، فبردّ عليه صاحبه بمثل ما ردّ من قبل، وتتشعب الآراء حتى يصعب حصرها، وحتى ينسى أخيرًا ما بدىء به أوّلًا، ثم يؤخذ الرأي وقد ملّ المتجادلون، وسئموا الجدل، وودوا أن يفصل في الأمر على أي شكل؛ ولذلك قد يكون الرأي يؤخذ أخيرًا شرًّا من الرأي يؤخذ أولًا، بل قد يكون الرأي الذي قرر لا علاقة له بالمسألة التي أثيرت من قبل!

نعم يا صديقي، أنا أعتقد أن لكل لغة منطقًا يخالف منطق اللغة الأخرى، وأن المسألة لا ترجع إلى عقلية المتجادلين وحدها؛ فقد يتجادل جماعة — كما ذكرتَ — باللغة الأجنبية، ثم هم أنفسهم يتجادلون باللغة العربية فيكونون في الأولى أكثر توفيقًا؛ وليس من الصحيح أن ترجع هذا إلى ضعفهم في اللغة الأجنبية وقوتهم في اللغة العربية؛ فهذا القول ينطبق تمامًا على من أجادوا اللغتين، وحذقوا اللسانين.

وتعليل ذلك قد يبدو غريبًا، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن أن اللغة ليست إلا وسيلة للتعبير عن المعاني، وليست إلا مظهرًا من مظاهر العقلية؛ فإذا كان التفكير صحيحًا سليمًا كان التعبير عنه كذلك ما دام صاحبة يجبد التعبير ويتقن اللغة، وإذا كان التفكير فاسدًا كان التعبير عنه فاسدًا متى وفق صاحبه للتعبير عما يريد؛ ولكن يظهر لي أن المسألة أعمق من ذلك، وأن هناك تفاعلًا بين اللغة والتفكير، فاللغة المنظمة تعمل في تنظيم الفكر، والفكر المنظم يعمل في تنظيم اللغة — وكذلك العكس — وأن المتكلم باللغة الإنجليزية أو الفرنسية خضع لمنطقها وطرق تفكيرها كما يخضع لاختيار كلمتها، واختيار أساليبها، وكيفية معالجة الموضوع، فيؤثر ذلك كله في تفكيره وجدله وحججه؛ وعلى الجمله فهو يحاول أن يكون إنجليزيًّا أو فرنسيًّا في تفكيره، كما هو إنجليزيّ أو فرنسي في لغته — يشعر بهذا تمام الشعور من أجادوا لغتين أو أكثر؛ فهم إذا تكلموا بلغة أجنبية راقية شعروا — مثلًا — بأن هناك غرضًا محدودًا واضحًا يرمون إليه في حديثهم وحججهم، وأنهم يضعون لذلك خططًا ثابتة معينة تشبه خطط الحرب يضعها قادتها لتسلم كل خطة إلى التي تليها، أو كالخطط التي يضعها لاعب الشطرنج الماهر، إذا لعب لعبة علم ماذا يريد منها، وما هي الألعاب التي تترتب عليها فتنتج الفوز، وهو هو إذا تكلم باللغة العربية لم يتضح القصد له وضوحه باللغة الأجنبية، ولم يرتب حججه ذلك الترتيب الذي يرتبه باللغة الأجنبية؛ ومن أوضح الأمثلة على ذلك أن مجيد اللغتين كثيرًا ما يفكر باللغة الأجنبية، ويترجم تفكيره إلى اللغة العربية، وقلما يعكس، مع أن اللغة العربية هي لغته الأصيلة؛ وهي التي نشأ عليها وتربى في أحضانها، فكان معقولًا أن تكون هذه لغة تفكيره؛ فإذا عبر بلغة أجنبية نقل تفكيره إليها — وليس من الهين تعليل هذه الظاهرة؛ ولكن يمكن أن يقال: إن السبب في ذلك أن اللغات الأجنبية الراقية قد استكملت أدواتها من حيث الألفاظ الموضوعة لكل آلة مخترعة ولكل معنى مستكشف، كما استكملت أدواتها من حيث أساليب التفكير وصياغة المعاني صياغات مختلفة أدخل في الذهن وأقبل للعقل وأجمل في الذوق؛ وأن اللغة العربية أبطأت في تاريخها الحديث ولم تسرع في السير، برغم ما يقوله الدعاة من أنها أغنى اللغات وأجمل اللغات، ثم ينامون على ذلك من غير أن يعملوا على تكميل نقصها، ومعالجة ضعفها؛ وكيف يعمل على معالجة الضعف من لم يشعر بألم المرض؟ وكيف يعمل على تكميل النقص من لم يشعر بنقص؟ — لهذا كان فكر المفكر إذا أجاد اللغتين يتبع — من غير اختيار — أرحبها صدرًا وأغزرها مادة وتغييرًا.

وسبب آخر: وهو أن الأمم الأجنبية الراقية قد مرنت طويلًا على المجالس النيابية والمناظرات المدرسية والجامعية، وتكونت لها مع طول الزمن تقاليد معروفة مألوفة غير مكتوبة، وأثرت في جدلهم ومناظراتهم ومجالسهم أثرًا كبيرًا، كما أثرت في طرق تفكيرهم ولغتهم التي يتبعونها في الجدل والمناظرة.

ثم — مما لا شك فيه — أن هناك ارتباطًا قويًّا بين اللغة والخُلق، فلست تجد في لغة أجنبية من ألفاظ الملق وعباراته ما تجده في اللغة العربية مما أدخله عليها الفرس والأتراك، ولا تجد من عبارات الحشو التي تدل على الذل والخضوع ما تجد في لغتنا العربية الحديثة. كانت اللغة ديمقراطية شريفة نبيلة يوم كانت اللغة العربية لغة العرب الديمقراطيين الذين لا يفرقون كثيرًا بين مخاطبة الأمير ومخاطبة بعضهم بعض، ثم أصبحت لغة العبيد يوم تسرب إلى أهلها الذل والعبودية. لقد جلست أول أمس إلى رجل يحدث «باشا» فكان ما أحصيت في حديثه من «سعادة الباشا» أكثر من كلماته في الموضوع. وما لي أذهب بعيدًا، ومدلول الكلمة في اللغة العربية أصبح غير مدلولها في اللغة الأجنبية؟ فإذا قال الألماني أو الإنجليزي: «نعم أفعل» لم تدل على نفس المعنى الذي يُفهم من قول المتكلم باللغة العربية: «نعم أفعل». «فنعم أفعل» العربية تدل على أنه قد يفعل وقد لا يفعل، والسامع إذا سمعها شك في مدلولها «هل يفعل أو لا يفعل»، فاحتاج إلى أن يكرر عليه الطلب والرجاء، واحتاج المتكلم أن يعيد «نعم أفعل» وربما أقسم، وربما استعمل كل صيغ التأكيد، وهي بعد هذه الأيمان وهذه التأكيدات كلها لا يزال مدلولها أنه قد يفعل وقد لا يفعل، وهو إذا لم يفعل لم يخجل؛ لأنه حق وجهًا من وجوه الجملة؛ بل المتكلم الشرقي إذا قال: «سأفعل» باللغة الأجنبية كانت أقوى في نظره وأكثر التزامًا مما إذا قالها باللغة العربية، والمتكلم هو هو، لم يتغير في الكلمة إلا التعبير عنها بإحدى اللغتين؛ فإذا قالها العربي الأجنبي كان لها أشد احترامًا ولتنفيذها أشد رغبة وأقوى إرادة. أليس في هذا كله دليل على شدة الارتباط بين اللغة والعقل واللغة والخُلق، وأن العقل واللغة والخُلق كلها تتفاعل، فإذا رقيت اللغة تبعًا — نوعًا ما — رقي العقل والخلق، وإذا رقي العقل تبعه — نوعًا ما — رقي اللغة والخلق، وهكذا. ومن هذا تنتج معادلات جبرية معقدة الحل.

إن الغيرة القومية والنهضة الشرقية تتطلبان أن يعني قادتها بهذه المظاهر، وأن يضعوا للأمة تعاليم جديدة في اللغة والتفكير؛ فهم مطالبون بكل الوسائل أن يميتوا ألفاظ الملق من اللغة العربية ويحيوا ألفاظ الأدب النبيل، وأن يربطوا أشد الربط بين الألفاظ ومدلولاتها، فلا يسمحوا أن يضيعوا مدلول الألفاظ كما هي ضائعة اليوم، وأن يضربوا الأمثال للناشئين في الجدل والمناظرات، فيعلموهم كيف تؤدى المعاني على وجوهها، وكيف تلتزم حدود الجدل فلا تُتَخَطى، وكيف يرسم الغرض الذي يرمي إليه الباحث، وكيف يختط السبيل إليه، وكيف يوفر الزمن إذا هو التزم ألا يقول إلا جديدًا في المعنى، وكيف يصل من أقرب طريق.

لو فعلنا ذلك لوفرنا على المجالس زمنها وتفكيرها، ولوصلنا في مسائلنا إلى نتائج خير مما نصل إليه الآن، بل عندي أن السرعة مع الخطأ أحيانًا خير من الإبطاء الممل والتفكير الراكد مع الصواب الدائم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤