أمس وغدًا

كان لسَرِيّ مصانع ومتاجر، كأفخم ما يكون من مصانعَ ومتاجر، أصابتها النار فأتت عليها، وقُدِّرَت الخسائر بالألوف.

وكان هذا السري في السنين الأخيرة من عمره، ليس له قوة الشباب، ولا أمل الشباب، وكانت ثورته الضائعة ثروة العمر، ومجهود العمر. جاءه من يسأله عن هذه الكارثة وأسبابها ومقدارها، فأجابه: «لست أفكر في شيء من ذلك، وإنما يملك عليّ كل فكري الآن: ماذا أنا صانع غدًا».

يعجبني هذا الاتجاه العملي في التفكير، فإنه دليل الحياة، وعنوان القوة، ومبعث النشاط، فما دمت حيًّا ففكر دائمًا في وسائل الحياة، ووسائل السعادة في الحياة؛ وتلك كلها أمامك لا خلفك، وفي الغد لا في الأمس.

لقد دل هذا السري على أنه يقتني عقلية أقومَ مما رعته النار، ونفسية خالدة لا تفنى بفناء المال.

إن الحياة الناجحة تفكر في الغد، والحياة الفاشلة تبحث في الأمس، وقديمًا قالوا: «إذا أفلس التاجر فتَّش في دفاتره القديمة». وقال الشاعر وقد رأى بني تغلب لا يعملون عملًا جديدًا مجيدًا، ويكتفون برواية قصيدة قالها عمرو بن كلثوم التغلبي في مدحهم:

أَلْهَى بني تغلب عن كل مكرُمة
قصيدةٌ قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذْ كان أَوَّلُهم
يا لَلِّرجال لشعر غير مسئوم

ولأمر ما خلق الله الوجه في الأمام ولم يخلقه في الخلف، وجعل العين تنظر إلى الأمام ولا تنظر إلى الخلف، وأراد أن يجعل لنا عقلًا ينظر إلى الأمام وإلى الخلف معًا، وأن يكون نظره إلى الخلف وسيلة لحسن النظر إلى الأمام؛ فعَكَس قوم الفطرة الإنسانية ونظروا بعقولهم إلى الخلف وحده، وقلبوا الوضع فجعلوا النظر إلى الخلف غاية لا وسيلة.

من هؤلاء الذين نُكِّسوا في الخَلق من إذا حدثتهم فيما هم صانعون غدًا، حدثوك عما صنعه آباؤهم الأولون، وكيف حاربوا، وكيف انتصروا، وكيف سادوا العالم، وكيف وكيف؟ وهذا حق لو اتخذ وسيلة لعمل مستقبل، واستُحثت به الإرادة لعمل مستقبل، وضُرب مثلًا لمعالجة مشكلات المستقبل؛ أما ان يكون غرضًا في نفسه، فحديث العَجزة ومن أصيبوا بالفقر العقلي وضعف الإرادة.

وممن نُكِّسوا في الخلق هؤلاء الذين يثيرون العداوات القديمة والأحقاد القديمة بين رجال الأمة وقادتها؛ فإذا طالبتهم أن ينظروا إلى الأمام، ويتكيفوا بما يتطلبه المستقبل، أبوا إلا أن يذكروا لك تاريخ الأمس وحزازات الأمس، وسخائم الأمس؛ وما درَوا أنهم بهذا يعطلون مصلحة المستقبل وخير المستقبل، أو درَوا ولكنهم الماكرون الخادعون. فليس يصح أن ينظر في الأمس إلا لتجنب أغلاط الأمس في المستقبل، والانتفاع بصواب الأمس وخطئه في المستقبل.

وممن نكسوا في الخلق هؤلاء الذين جمدت عقولهم فاعتقدوا أن كل شيء كان خيره في الأمس وشره في الغد؛ فخير النحو ما وضعه سيبويه، وخير البلاغة ما قاله الجاحظ، وخير الفلسفة ما قاله ابن سينا وابن رشد والفارابي، وخير عصور الدين ما سبق من العصور، وخير الأخلاق أخلاق آبائنا، وأنه لم يبق في هذا الزمن إلا الحُثَالة من كل علم وأدب ودين وخلق، وأن العالم في ذلك كله سائر إلى التدهور دائما، فأمس خير من اليوم، واليوم خير من الغد؛ فهذه العقلية لا تنفع للحياة وإنما تنفع للصوامع، ولا تنفع للجهاد وإنما تنفع للفناء، ولا تنفع لمن أرادوا أن يتبوءوا مكانًا في الحياة، وإنما تنفع من أرادوا أن يتبوءوا مكانًا في القبور. إن النحو الذي ننشده هو في المستقبل لا في الماضي، واللغة التي تصلح لنا وتؤدي مطالبنا في الحياة هي في المستقبل لا في الماضي، والأدب الذي يمثل نزعاتنا حق تمثيل هو في المستقبل لا في الماضي، والأخلاق التي تلائم الموقف الاجتماعي الذي نقفه اليوم هي في المستقبل لا في الماضي، وليس لنا من الماضي إلا ما يصلح للمستقبل بعد غربلته وإبعاد ما تعفن منه. إن موقفنا بين الماضي والمستقبل يجب أن يكون كموقف وجهنا فينا، وضعه الطبيعي في الأمام، ولكن الإنسان قد قد يلوي عنقه وينظر إلى الوراء إذا دعت الضرورة، ثم يعود سيرته الأولى من النظر إلى الأمام ويسير لوجهه ويمضي قُدُمًا لشأنه؛ ولن ترى إنسانًا طبيعيًّا لوي عنقه دائمًا، ونظر إلى الخلف دائمًا.

وممن نُكسوا في الخلق هؤلاء الذين وقفوا ينتظرون القدر؛ أولئك لم ينظروا للمستقبل، ولكن ينظرون إلى ما يفعل بهم المستقبل؛ أولئك أحجار ينفعلون ولا يفعلون، ويتأثرون ولا يؤثرون؛ وإنما مستقبلك في يدك ولك دخل كبير في صياغته، فإن شئت تكن فقيرًا، وإن شئت تكن غنيًّا — إلى حد كبير — وإن شئت تكن سعيدًا، وإن شئت تكن شقيًّا؛ وليس يستسلم للقدر إلا من فقد إرادته وأضاع إنسانيته.

لقد أتى على الناس زمان كان الاستسلام للقدر عنوان «الولاية» ورمز القداسة، وكلما أمعن الإنسان في التجرد عن الدنيا أمعن الناس في تعظيمه وتبركوا به ولثَموا يده، ولكن هذا تقدير الماضي؛ أما تقدير اليوم والمستقبل فالولاية والقداسة في العمل. والوليّ أو القِدِّيس هو المصلح، وهو الذي يبني المجد بعمله لأمته وللإنسانية، وهو الذي يواجه العمل في شجاعة وإقدام، لا الذي يفر من الميدان، وهو الذي يرسم خطة العمل وينفذها، لا الذي يعزّي عن الكوارث ويعود المرضي ويلطف وقع البؤس، وهو الذي يشق الطريق لمحو الفقر عن الفقراء والبؤس عن البؤساء، لا الذي يزرف الدمع ويوصي بالصبر على احتمال الفقر من غير حث على العمل، والتفكير في طرق الخلاص من البؤس؛ وليس الولي والقديس من يحلم بل من يعمل.

ومضى الزمن الذي كنا نرصد فيه النجوم لنطلب السعادة من سلطانها، ونجتنب الشقاء في أوقات نَحسُّها؛ وأصبحنا نشعر بأن النحس نحس الخُلُق وموت الإرادة، والسعادة حياة النفس وتَفَتُّح الأمل، والمشي في مناكب الأرض، وإعمال اليد والعقل في جلب الرزق، وجلب الخير، ودفع الشر ودفع البؤس والفقر.

•••

خير لك إن كنت في ظلمة أن تأمل طلوع الشمس غدًا من أن نذكر طلوعها أمس، فلكل من الظاهرتين أثر نفسي معاكس للآخر، ففي ترقبك طلوع الشمس غدًا الأمل والطموح إلى ما هو آت، وفي هذا معنى الحياة؛ وفي تذكرك طلوعَها أمس حسرةٌ على ما فات، وألمٌ من خير كنت فيه إلى شر صرت فيه، وفي ذلك معنى الفناء.

وفرق كبير بين من يُلطَم اللطمة فلا يكون له وسيلة إلا البكاء، وتَذكر اللطمة ثم البكاء، ثم تذكر اللطمة ثم البكاء، وبين من يلطم اللطمة فيستجمع قواه للمكافحة. والحياة كلها لطمات، وأعجز الناس من خارت قواه أمام أول لطمة فهرب. ولو أنصف الناس لقوّموا الناس بمقدار كفاحهم لا بمقدار فشلهم ونجاحهم.

•••

شرُّ ما ألاحظ في الشرق حنينه الشديد إلى الماضي، لا أمله القوي في المستقبل، واعتقاده أن خير أيامه ما سلَفت لا ما أقبلت، وإعجابه الشديد بأعمال الماضين وإهمال المعاصرين. له منظاران: منظار مكبِّر يلبسه إذا نظر إلى الماضي، ومنظار مصغِّر أسود يضعه إذا نظر إلى الحاضر والمستقبل. يلذه أن يطيل البكاء على الميت، ولا يلذه أن يتدبر فيما يجب أن يفعله الأحياء. يستسهل النفقات مهما عظمت على الميت، ويستكثر نفقات الطبيب وأثمان الدواء للمريض. يعجبهم أن يتمثلوا الأمثال تدل على عظم الماضي، ولا يعجبهم أن يتمثلوا الأمثال تبعث الأمل في المستقبل؛ ففي أعماق نفوسهم أن قول القائل: «ما ترك الأول للآخر» خير من القول: «كم ترك الأول للآخر»، ويلوكون دائمًا «لا جديد تحت الشمس»، ولا يعجبهم أن تقول: إن كل ما تحت الشمس في جدة مستمرة، والمستقبل مملوء بالجديد. وإذا رأوا كلمة في كتاب قديم تدل — ولو دلالة كاذبة — على نظرية جديدة طاروا بها فرحًا؛ لأن ذلك يلائم ما في نفوسهم من تعظيم الماضي وتحقير الحاضر والمستقبل. هم يعيشون في أحلام، ولا يريدون أن يعيشوا في حياة واقعة، وحول هذه المعيشة الحالمة ينسجون دائمًا ما يوافقها ويمازجها ويسايرها، ويكتفون بالأمل أن ينعموا بالآخرة؛ وماذا عليهم لو عملوا لينعموا بالدنيا والآخرة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤