قيمةُ الثقافةِ

للثقافة قيمة ماليه مقررة، فالليسانس والدكتوراه والدبلوم، وما إلى ذلك من الأسماء، هي عنوان للثقافة، أو بعبارة أخرى تتويج لمجهود سنين قضيت في تحصيل العلم. وتأتي «المالية» بعد فتقدر هذه الدرجات بالجنيه، وتجعل لكل منها قيمة مالية خاصة؛ ولها العذر في أن تخالف بين الدرجات، وتسوي بين حاملي الدرجة الواحدة وإن اختلفوا في مقدار الثقافة؛ لأنه لم يخترع إلى الآن مقياس دقيق يوزن به الفكر ومقدار استعداده وزنًا صحيحًا؛ ولو اخترع هذا الميزان لألغيت الدرجات، واكتفي بوزن الكفايات؛ لكن من لنا بذلك وقد عجزت المدنية القديمة والحديثة عجزًا تامًّا عن اختراع هذا الميزان؟

وللثقافة كذلك قيمة اجتماعية، فالثقافة ترفع من كان من طبقة وضيعة، إلى أن يكون أحيانًا مساويًا لمن كان من طبقة رفيعة، فحامل الشهادة العليا يرى نفسه — وقد يرى الناس معه — أنه صالح لأن يتزوج من طبقة راقية، مهما كان منشؤه ومَرْباه؛ وقديمًا قال الفقهاء في «باب الزواج»: إن شرف العلم فوق شرف النسب، والمثقف الراقي له الحق أن يكون عضوًا في الأندية الراقية من غير أن يسأل عن نسبه وحسبه، بل له أن يُدِلّ على أبناء الطبقة الأرستقراطية إذا نال درجة لم ينالوها، وعرف من أنواع الثقافة ما لم يعرفوا؛ وله من حرمة الناس في المجتمعات والأندية ما لا يناله غير المثقفين، وإن كانوا من بيت خير من بيته، وفي نسب خير من نسبه.

ولكن لا أريد أن أتحدث في شيء من هذا ولا ذاك، فليست تعنيني الآن الناحية المالية للثقافة، ولا الناحية الاجتماعية؛ وإنما أريد أن أتساءل: ما القيمة الذاتية للثقافة؟ إن المال واحترام الناس عرض خارجي، فما القيمة الثابتة التي تتصل بنفس المثقف ولا تفارقها في فقر أو غنى، وفي جاه وغير جاه؟

أهم قيمة — في نظري — لثقافة المثقف هي كيفية نظره إلى هذا العالم، ذلك بأن عيون الناس في نظرها إلى الأشياء وحكمها عليها ليست سواءً؛ فعيونهم الحسية وإن اتفقت في الحكم على الألوان بالسواد والبياض والحمرة والصفرة، وإن اتفقت في الحكم على الأبعاد قربًا وبُعدًا، وإن اتفقت في الحكم على الأحجام كبرًا وصغرًا، فإن العيون النفسية لا تتفق في نظرها ولا حكمها، فالشيء في نظر الأبله غيره في نظر الفيلسوف، وبين هذين درجات لا حدّ لها، وليس للشيء الواحد معنى واحد بل معان متعددة تتسلسل في الرقي، والناس يدركون من معانيه بحسب استعدادهم وثقافتهم وأذواقهم.

وقد حكوا أن عيسى — عليه السلام — مر هو وأصحابه بجيفة، فقالوا: ما أخبث رائحتها! وقال هو: ما أحسن بياضَ أسنانها! ونظرُ الرجل العادي إلى الحديقة مزهرة غير نظر الأديب الفنان. هذا ينظر إليها فيقرأ فيها من المعاني والجمال ما يمتزج بنفسه، ثم يسيل على قلمه كأنه قطع الرياض؛ وذاك ينظر إليها نظرة مبهمة، لا تُسفر عن معنى، ولا تُعْرَف لها وجهة، نظرة بليدة جامدة، لا يسعفها ذوق، ولا تخدمها قريحة.

ومثل هذا في كل شيء يعرض على العين، فكل شيء في السماء وفي الأرض لا يحمل معنى واحد، بل معاني متعددة، وقيمة الثقافة أن تنقل العين من أنظار سخيفة ومعان وضيعة إلى أنظار بعيدة ومعان سامية؛ فالأديب إذا لم ينظر في المرأة إلا إلى حسن جسمها وتناسب أعضائها، لم يكن أديبًا مثقفًا، وقلنا له كما قال المتنبي:

وما الخيل إلا كالصديق قليلةٌ
وإن كثرت في عين من لا يُجرّب
إذا لم تشاهد غير حسن شِياتها
وأعضائها فالحسن عنك مغيَّب

ففرق كبير بين أن تنظر إلى المرأة كشيطان وأن تنظر إليها كإنسان وأن تنظر إليها كملَك، وفرق كبير في كل شيء في الوجود يعرض على أنظار الناس.

وكل إنسان له نظراته في العالم من أسفل شيء إلى أرقى شيء، من مادة تحيط به ومال يُعْرَض عليه وأعمال تتعاقب أمام نظره وإله يعبده؛ هو في كل ذلك قد يكون سخيفًا في نظراته، وضيعًا في رأيه، وضيعًا في حكمه، وقد يبالغ في ذلك كله من السمو منزلة قل أن تنال، وعمل الثقافة أن تنتشله من تلك النظرات الوظيعة إلى النظرات السامية.

وليست نظرات الإنسان إلى الحياة قوالب من الآجر، كل قالب مستقل بنفسه، محدود بحدوده، إنما هي كسائل لطيف إذا لوَّنْتَ نقطة منه بلون، شع اللون في سائر السائل، وإذا سخنت جزءًا منه وزع حرارته على السائل كله حتى يتعادل، بل الرأي والنظرات ألطف من ذلك وأدق وأرق، فإذا رقى النظر إلى شيء أثر ذلك رقيًّا في سائر النظرات.

فكل نظرات الحياة متأثرة بنظرك إلى نفسك والعكس. بل نظرك إلى الله تعالى متأثر بنظرك إلى عالمك المحيط بك؛ وهذا ما يجعل الثقافة في أي ناحية من النواحي الأدبية والعلمية تؤثر أثرًا كبيرًا في النواحي الأخرى حتى ما نظن أن ليست له صلة به. وقد أصاب من قال: «إن رقي الأمة في الموسيقى وتذوقها الصوت الجميل والغناء الجميل يجعلها تتعشق الحرية وتأنف الضيم وتأبى المذلة»، فمحيط المخ والعقل والشعور محدود وشديد الحساسية، كل ذرة فيه تتأثر بأقل شيء، وتؤثر بما تأثرت. والفكرة الجديدة قد تدخل في الفكر فتقلبه رأسًا على عقب، وتجعل من صاحبه مخلوقًا جديدًا يقل وجه الشبه بينه وبين ما كان من قبل، فتجعله في أعلى عليين، أو أسفل سافلين.

إن كان هذا صحيحًا، وكانت قيمة الثقافة الذاتية في مقدار ما أفادت المثقف في وجهة النظر إلى الأشياء، وتقويمها قيمًا جديدة أقرب إلى الصحة، أسلمنا ذلك إلى نتائج خطيرة؛ فدين خير من دين بمقدار ما تحاول تعاليمه من رفع مستوى النظر إلى الله تعالى وإلى الحياة؛ وعلم خير من علم باعتبار ما يؤدي إليه من نظر راق صحيح؛ وثقافة الإنسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما تعلم من العلوم والآداب، ولكن بمقدار ما أفاده العلم، وبمقدار علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما أوحت إليه الفنون من سمو في الشعور وتذوق للجمال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤