نظرةٌ فِي النُّجوم

مما أرثي له أن أرى الشرقيين — وخاصة سكان المدن — لا ينتفعون بسُطُوح منازلهم الانتفاع الواجب، فهم قلما يصعدون إليها إلا عند تركيب قوائم الراديو، أو حبال الغسيل، أو تخزين ما يستغنى عنه في حُجَر السطح، وهم يحبون أن يلتصقوا بالأرض، ولا يحلقوا في السماء، وينزلوا بحضيض المنازل ولا يسموا إلى أوجها.

وفاتهم أن من خير متع الحياة «سطوح المنازل» لاسيما في جو بديع كجونا، تصفو فيه السماء في أكثر أشهر السنة، ويهبُّ فيه النسيم العليل ليلًا، ويمتد فيه البصر، وتنشرح فيه النفس؛ ولياليه بين ليال مقمرة بديعة لا تمل العين جمالها، وليال غاب فيها القمر فقامت النجوم مقامه، تناغيك وتحدثك، وتملأ قلبك روعة ونفسك حياة.

تَبًّا للأعين التي تنظر دائمًا إلى الأسفل، ولا تنظر إلى الأعلى، ويلذ لها أن تنظر إلى المسافات القريبة وإلى ما تلمس، ولا تنظر إلى البعد السحيق والمنظر البعيد. إن العين إذا اعتادت ذلك قلدتها النفس، فلم تنظر إلى الأمل البعيد، ولم تلتذ بالطموح، ولم تسعد بالأمل، وقنعت بما هي فيه، ورضيت بالدون، وتشاغلت به، وصدها ذلك عن أن تنشد الكمال، للارتباط الشديد بين عالم الحس وعالم العقل وعالم الروح.

ولقد كان آباؤنا الأولون أكثر منا عناية بالسماء، حتى العرب في بداوتهم أطالوا النظر في النجوم وانتفعوا بجوهم المفتوح، وسمائهم الصافية، فعرفوا كثيرًا منها ووضعوا لها أسماءها، وكان لهم فيها ملاحظات دقيقة، وأشعار رقيقة. أما نحن فقلّ أن نعرف من أسماء النجوم إلا الشمس والقمر، وجهلُنا بأسماء المشهور منها جهل فاضح لا يتفق وسماءنا البديعة. وأما شعراؤنا — سامحهم الله — فأكثرهم لا يشعر في السماء والنجوم إلا تقليدًا، يبرِّح به ألم الهجر في غرفته المسقوفة، وقد أغلقت شبابيكها، وأسدلت ستائرها، ومع ذلك يشكو النجوم وثباتها، وهو لا يرى سماءً ولا نجومًا.

لو كان في أوروبا جو مكشوف دافىء كجونا، لعرفوا كيف ينتفعوا بالسماء كما انتفعوا بالأرض، ولاتخذوا من سطوح منازلهم مقامًا للسمر الحلو والتأمل اللذيذ، ولاتخذوا منها منتديات ومقاهي ومسارح للسينما والتمثيل وأماكن للمحاضرات، فانتفعوا بجمال الجو وجمال منظر السماء وجمال منظر السينما والتمثيل وجمال الحديث معًا؛ ولو فعلنا لارتحنا من عناء المتسولين والجوَّالين وماسحي الأحذية إلا أن يصعدوا إلينا في السماء.

•••

نعمت هذا الشهر بسطح منزلنا، وأكثرت من التحدث إلى النجوم، والإصغاء إلى حديثها، وملت إلى قراءة شيء من أخبارها، فملأت قلبي حياة، وعقلي هدوءًا وأعصابي راحة.

وكنت كلما شكيت من شيء بثثت شكواي إلى النجوم فتبخَّرتْ، وكلما تدنستُ في جو الأرض تطهرْت في جو السماء، فإن آلمتني السياسة بألاعيبها وخداعها، والأولاد بمضايقاتهم ونزاعهم، والخدم برذائلهم، والبيئة بمشكلاتها وصغائرها، علوت إلى السطح وانسطحت على سجادة، ووصلت أسباب ما بيني وبين النجوم، فزال كل ألم، واحتقرت كل ما ضايقني، وعشت في عالم جديد لذيذ مريح، ورأيت أني غسلت نفسي كما يغسل الثوب في البحر الواسع.

عظيمة هذه النجوم وجميلة وجليلة! فإن رأيت نجوم المجرة وعلمت أنها تبلغ عدتها الملايين، وأنها تسير بسرعة هائلة لا يتصورها الخيال، وأن بعضها بلغ من البعد عنا ما لا يصل إلينا ضوؤه إلا في آلاف السنين، أيقنت بهذه العظمة، وشعرت في أعماق نفسك بحقارتك وحقارة شواغلك وحقارة أرضك كلها — وإن علمت أن في السماء آلافًا من الشموس تكوّن كل شمس منها مجموعة من النجوم كمجموعتنا الشمسية، سبحت في عالم من العظمة لا حد له، وتساءلت في كثير من الحيرة والإعجاب: إلى أي طريق هي مسوقة، وإلى أي طريق نحن مسوقون معها؟ وقلت كما قال أبو الشبل البغدادي:

بربـك أيهـا الفـلك المدارُ
أقصدٌ ذا المسيرُ أم اضطرارُ
مَـدارُك قل لنا في أي شيء
ففي أفهـامنا منـك انبهـارُ
وفيك نرى الفضاء وهل فضاء
سـوى هذا الفضاء به تدار؟

ثم رددت الطرف خاسئًا وهو حسير، ولكنها حسرة لذيذة لا ترضي بها بديلًا.

أيتها النجوم! كم من الناس نظروا إليك فأعجبوا بعظمتك وجمالك وجلالك، وكم من الشعراء تغنوا بك، وتفننوا في الإشادة بذكرك، وعابوا عليك سرعتك أيام الوصال، وبطئك أو وقوفك أيام الهجران!

وكم حارت فيك العقول فظنوك إلهة وعبدوك من دون الله، وأقاموا لك الهياكل والتماثيل، ثم تقدموا قليلًا فأنزلوك من مقام الألوهية قليلًا، وجعلوا لك أثرًا كبيرًا في أحداث الأرض! فلك أثر في الرياح والأمطار والسعادة والشقاء، وربطوا مواليد الناس بك، وجعلوا سعادتهم وشقاءهم من أجلك؛ وحتى الفلاسفة العظام أمثال أرسطو أعمتهم عظمتك عن أن يدركوا حقيقتك، فأسندوا إليك عقولًا كبارًا، وجعلوا منزلتك في الفكر والعقل فوق منزلة الإنسان، وسَبَحوا في الخيال فأسسوا نظامًا وهميًّا للأفلاك وتدرجها في الأثر حتى تصل إلى عالمنا، وخدع الناس بك فبنيت لك المراصد لمراقبة حركاتك، وأقنع المنجمون الناس بتأثيرك فسمعوا لقولهم، واتخذ الملوك المنجمين يعتمدون عليهم في تدبير مملكتهم، كما يتخذون الأطباء لتدبير أجسامهم، فلا يضعون بناءً إلا بعد رصدهم لك وإشارتهم بأنك ستمنحين السعادة لبنائهم، ولا يحاربون إلا برأي رجالك وتخير أوقات رضائك.

وكم شغل الناس بطوالعك، وتخيروا أوقات زواجهم محسوبة بحسابك، وتنبأوا — بمعونتك — بموت فلان وحياة فلان، وأنت أنت فوق ذلك كله لا تعبئين به ولا تلتفتين إليه. كأن أمرهم لا يعنيك، وشئونهم لا تهمك. وتتابعت الأجيال ومرت السنون، وفنيت أقوام وجدت أقوام وكلهم يمنحونك إعجابهم، وأنت في علاك وسيرك وسرعتك دائبة أبدًا.

وأتى العلم الحديث فغير فيك الأفكار، وساواك بالأحجار، وجعل قمرك الجميل كأرضنا غير الجميلة، وسلب عنك العقل والفكر، وأخضعك لنواميس الطبيعة، وأبان خرافات الأقدمين فيك — ومع ذلك أقر بجلالك وأخذ بدقة نظامك، وأقر بجهله أن يحيط بك، وأن يتعرف كل قوانينك؛ فأنت أنت أيام الجهل وأيام العلم، وأيامنا وأيام آبنائنا.

وبينا أنا في ذلك كله، وفوق ذلك كله، دعاني الخادم إلى التليفون فنزلت من السماء إلى الأرض.

– آلو!

– فلان! لعلك تذكرني؟

– أهلًا وسهلًا!

– أريد أن أقابلك!

– هل من شيء؟

– لقد تخرجت من كلية الآداب واشتغلت في عمل لا يناسبني، وماهية لا تليق بي، وإخواني كلهم خير مني، فلي سنوات لم آخذ علاوة، ولم أرق إلى درجة.

– نعم!

– والآن هناك حركة ترقية وأريد مساعدتك.

ثم حوار طويل، ورجاء مستمر، وشكوى بؤس، وعائلة يعولها، وماهية لا تكفيها، ودنيا ضاقت به وبها.

•••

فى أي تفكير كنت؟ وإلى أين صرت؟ هذه السماء، وهذه الأرض، أين هذا العالم العظيم السعيد الذي كنت أحلم به من هذا العالم الحقير التافه الذي نقلني إليه التليفون، والذي يمضي فيه أكثر الناس أكثرأعمارهم؟ لقد غطسني بحديثه في ماء مثلج، فلأصعد ثانية إلى السماء، ولأعاود ما كنتُ فيه … لا. لم تعد للفكر لذته، ولا لحديث النجم متعته.

•••

لقد قلب علم الفلك عقلية الإنسان رأسًا على عقب، فقد كان يظن أنه سيد العالم، وأن أرضه هذه هي مركز العالم، وأن الشمس والقمر والنجوم تدور حولها، فأبان له العلم أن أرضه ليست إلا هنَةً تسبح في الفضاء، وأنها شيء تافه في المجموعة الشمسية التي تدور حول الشمس، وأن كل العالم من أرض ونجوم خاضعة لقوانين واحدة كقوانين الجذب وما إليها، وأنه إن كانت أرضه هنة فكيف به هو! كل هذا غيْرَ عقلية الإنسان وأنزله من شماخة وسلبه غروره، فأخذ يفكر تفكيرًا جديدًا، وينظر لنفسه وللعلم نظرًا جديدًا، ويربط نفسه بالعالم ويرى أنه هو والعالم وحدة، وأن هذه الوحدة تخضع لقوانين ثابتة استكشف أقلها وغاب عنه أكثرها، ما استكشف منها يدل على عظمة باقيها وعمومها وسيطرتها، ولكن شيئًا واحدًا لم يتغير في الإنسان؛ وهو ارتباط عواطفه بالنجوم، وأنها تجد السبيل دائمًا لقلبه، وتوحي إليه بعظمة ربها وربه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤