مَلَق القـادة

لست أعني بهذا العنوان أن يتملق الجمهور قادتهم فيظهروا لهم الود والإعظام بحق وغير حق، فذلك شيء قليل الخطر، فاتر الأثر، وإنما أعني أن يتملق القادة الرأي العام فيسيروا على هواه ويجروا مجراه، ويأتوا ما يحب، ويذروا ما يكره، فهذا هو الداء الدَّويّ والعلة الفادحة.

ومن أسوأ ما أرى في الشرق في هذه الأيام هذه الظاهرة، ظاهرة أن يحسب القادة حساب الرأي العام أكثر مما يحسب الرأي العام حساب القادة.

هذه الظاهرة جلية واضحة في قادة العلم، فهناك أوساط تقدس العرب كل التقديس، وتعتقد أنهم في حكمهم عدلوا كل العدل، ولم يظلموا أي ظلم، فقادتهم يتملقونهم ويستخدمون معارفهم للوصول إلى هذه النتائج التي ترضيهم، سواء رضي العلم أم لم يرض، وسواء أوْصَل البحث إلى هذه النتائج أو إلى عكسها. وهناك أوساط تعبد كل غربي من عادات وتقاليد وآداب، فقادتهم يختارون اللفظ الرشيق، والأسلوب الأنيق لتأييد هذه الآراء، ولا عليهم في ذلك أن كانوا يحقون الحق أم يؤيدون الباطل.

وهي ظاهرة في قادة الأدب؛ فإن أحب الجمهور روايات الحب والغرام ألَّفوا فيها وأكثروا منها، وإن أدركوا أن تصفيق الجمهور يكون أشد كلما كان الحب أحدّ، تسابق الأدباء إلى أقصى ما يستطيعون من حدة وعنف، ومهروا في أن يستنزفوا دموع المحبين، ويهيجوا عواطفهم، ويصلوا إلى أعماق قلوبهم. وإن كره الناس أدب القوة فويل لأدب القوة من الأدباء! هو سمج، وهو جاف، وهو لا قلب له؛ وإن كان الجمهور لا يقبل إلا على الأدب الرخيص فكل المجلات أدب رخيص؛ لأنه كلما أسرف في الرخص غلا في الثمن؛ وإن بدا الجمهور يتذوق الجد تحولوا إلى الجد وداروا معه حيث دار.

وهي ظاهرة في دعاة الإصلاح؛ فهم يرون — مثلًا — أن الشباب قوة فوق كل قوة، وهم عصب الأمة وإكسير الحياة، وفي استطاعتهم أن يرفعوا من شاءوا إلى القمة ويسقطوا من شاءوا إلى الحضيض؛ فهم ينظمون لهم الدار في مديحهم وإعلاء شأنهم، وملئهم ثقة بأنفسهم، فهم رجال المستقبل وعماد الحياة، وهم خير من آبائهم، وستكون الأمة في منتهى الرقي يوم يكونون رجالها؛ وقد يكون هذا حقًّا، ولكن للشباب أغلاطه الجسيمة التي تتناسب وهمته، وله غروره واندفاعه، وله تهوره وإفراطه في الاعتداد بنفسه؛ فكان على المصلحين أن يكثروا القول في المعنيين على السواء، فيشجعوا وينقدوا، ويبشروا وينذروا، ويرغِّبوا ويرهبوا، حتى تتعادل قوة النفس، وحتى يشعروا بمحاسنهم ومساويهم معًا؛ ولكن هؤلاء القادة — مع الأسف — وقّعوا فقط على النغمة التي تعجب الشباب وتحمسهم، ولم يجرءوا أن يجهروا بعيويهم، ولا أن يقولوا — ولو تلميحا — في مواضع النقد من نفوسهم؛ فكان لنا من ذلك شباب استرسلوا في الإيمان بقول الدعاة إلى أقصى حد، واعتقدوا أنهم كل شيء في الحياة، وأنهم فوق أن يسمعوا نصيحة ناصح أو نقد ناقد؛ وكان هذا نتيجة لازمة بعد أن وقف القادة منهم هذا الموقف؛ وقد يكون هذا رد فعل للماضي أيضًا، فقد كان طالب العلم في الجيل السابق يقدس قول أستاذه، وهو وأستاذه يقدسان ما في الكتاب الذي يتلى؛ وكان الشاب يجل الشيخ في قوله وفعله، لا يرى أن له صوتًا بجانب صوته، ولا رأيًا بجانب رأيه؛ فكان سلوك هذا الجيل انتقامًا من الجيل السابق، وذهابًا في الإفراط يعادل إفراط آبائه؛ ولكن أظن أنا وصلنا إلى حد يجعلنا نفكر جديًّا في تثبيت هذه الذبذبة ووقفها الموقف الحق.

إن وقوف القيادة من الجمهور موقف الملق قلب للوضع؛ فالعالِم إذا قال برأي الناس لم يكن لعلمه قيمة، والمصلح إذا دعا إلى ما عليه الناس لم يكن مصلحًا.

إني أفهم هذا الوضع في التاجر يسترضي الجمهور؛ لأن نجاحة في تجارته يتوقف على رضاهم، وأفهم هذا في المغنِّي يقول ما يعجب الناس؛ لأنه نَصَب نفسه لإرضائهم، واستخراج إعجابهم؛ ولكني لا أفهم هذا في قائد الجيش، فإن له مهمًا آخر، وهو أن يظفر بخصمه؛ فلو كان همه أن يسترضي جنده لا أن ينتصر على عدوه ما استحق لقب القيادة لحظة، ولكان الوضع الحقيقي أن الجند هم القادة والقادة هم الجند.

كذلك الشأن في قائد العلم وقائد الأدب، والمصلح الاجتماعي؛ فلكل منهم غرض يرمي إليه في علمه أوأدبه أو إصلاحه، وله خطة يريد أن يحمل الناس عليها رضوا أم كرهوا.

بل لا يعد المصلح مصلحًا حتى ينبه الناس من غفلتهم، يحملهم على أن يتركوا ما ألفوا ضار، أو يعتنقوا ما كرهوا من صالح، وهو في أغلب أمره مغضوب عليه ممقوت. واصطلاح الجمهور والمصلحين ليس علامة تبشر بخير، بل هي في الغالب تدل على تراجع من المصلح وانتصار للعامة.

وقد كان المصلحون في الشرق إلى عهد قريب أشد الناس تعبًا في الحياة، وأكثر تبرمًا بالجمهور؛ وأقربهم إلى عهدنا جمال الدين ومحمد عبده وقاسم أمين، لقوا في دعوتهم من العذاب ألوانًا، ولم يوفَّوْا حقهم إلا بعد أن وافاهم الموت. أما اليوم فلست أرى حركة عنيفة بين القادة والرأي العام، ولا بين المصلح ومن يراد إصلاحه؛ وربما كان سبب ذلك أن القائد ينظر إلى نفسه أولًا وقبل كل شيء وآخر كل شيء، قصد إلى أن يصفق له أكثر مما قصد لخدمة الحق، وقد وصل إلى درجة من إعجاب الجمهور يريد أن يزيدها أو يحتفظ بها، قد خلع ثياب القائد، وارتدى لباس التاجر؛ يبحث عما يعجبهم ليقول فيه شعره أو يكتب فيه مقالته، أو يطنب في وصفه، ويبحث عما يسوءهم ليحمل عليه حمله شعواء بقلمه أو لسانه، كما يبحث تاجر الأزياء عن آخر طراز في الزي يقبل الناس على شرائه.

تلك أشد حالات الانحطاط في القيادة؛ فأول درس يتلقاه القائد أن يكون قليل الاهتمام بشخصه، كثير الاهتمام بالغرض الذي يرمي إليه في الإصلاح، سواء أكان إصلاحًا لغويًّا أو أدبيًّا أو اجتماعيًّا أو دينيًّا، وأن ينظر إلى كل ما يجري حوله في هدوء، لا يسره إلا أن يرى الناس اقتربوا من غرضه ولو بسبه، ويضحي بالشهرة فتتبعه الشهرة، ويضحي بالحظ فيخدمه الحظ؛ بل سواء عليه عُرف أم لم يُعرف، وسواء عليه احتُقر أم كرِّم، ما دام سائرًا على المنهج الذي رسم، لا يشعر بأريحية إلا أن يصل إلى غرضه، أو يقرب منه؛ يحب المنتصرين لرأيه ويرحم الناقمين عليه، يرفض أن يلبس تاج الفخر إلا أن يكون من نسيج ما سعى إلى تحقيقه؛ إن كان هذا أول درس يتعلمه القائد فهو آخر درس أيضًا.

أخشى أن يكون قادة الرأي فينا قد مَلُّوا المقاومة فاستسلموا، وأن يكونوا قد استصعبوا الغاية فاستناموا، وأن يكونوا قد وقفوا مترددين قليلًا بين عذاب الضمير وعذاب المعارضة فاحتملوا الأول، وأن يكونوا لطول ما لقوا قد رغبوا عن النظر إلى الأمام والتفتوا وراءهم إلى الرأي العام، فساروا أمامه في الطريق الذي يحبه هو لا الذي يحبونه هم، إن كان هذا فيالها من هزيمة.

أنَّى لنا بقادة في الرأي لا يتملقون إلا الحق؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤