الشعر

غاياته ووسائطه
ثلاثةٌ روضهمُ باكرُ
الصَبُّ والمَجنونُ والشاعرُ

ما أظنُ بك — أيها القارئ — إلا أنك تقول مع القائلين إنَّ الشعر أضغاث أحلام ووساوسُ أطماع، هَبْهُ كذلك، أليستْ الحياةُ نفسها حُلمًا تنسج خيوطَه الأمانيُّ والأوجالُ، وتسرِّجه الظنونُ والآمالُ؟ أليستْ هذه الأحلام مسرحَ خواطرك في سواد الظَّلام، وعزمَك الذي تَصولُ به في وضح النَّهار؟ أم تحسب أنك تستطيع أن تُخلي العالَم من هؤلاء النفر «الحالمين» كما أخلى «أفلاطون» جمهوريتَه منهم ونفاهم عنها؛ مخافة أن يُفسِد عليه وصفُهم الإنسانَ «الطبيعيَّ» إنسانَه «الحسابيَّ» الذي خلقه خِلْوًا من العواطفِ بريئًا من الانفعالات، لا يضحكُ ولا يبكي ولا يحزنُ ولا يغضبُ، ولا تغالي به خُدَع الآمال ولا يُهبط به صادقُ اليأس إلى آخر ما ألزمه من الشمائل الحلوة، والمناقب الجميلة التي أحالته تمثالًا لا يتمثَّلُ إلا في خاطر فيلسوفٍ مثله؟ على أنَّ جمهورية أفلاطون (الفيلسوف) لمَّا تنسخْ عالَم هومر (الحالم)!

وَهَبِ الشِّعرَ أحلامًا، أهي شيء من اختراع الشاعر يخدع به العقولَ ويضلِّل النفوسَ؟ أم نتيجة ما ركَّب فيه مبدعُ الكائنات؟ فلا متقدم له ولا متأخر عن هذه الأحلام، إنْ صحَّ أنها أحلام؟ أليس الحُب والبغض والخوف والرجاء واليأس والاحتقار والغَيرة والندم والإعجاب والرحمة مادةَ الحياة؟ فأي غرابة في أن تكون مادةَ الشعرِ أيضًا؟

لَصَدَقَ مَن قال إن الإنسان حيوان شِعري وإن لم يُلقَّن قواعدَ النظم وأصوله! فالطفل الذي يستمع إلى أساطير العجائز شاعر، والقرويُّ الذي يرى قوس الغمام فيجعله قيدَ عِيانه شاعر، والحضريُّ الذي يخرج ليرى موكبَ الأمير شاعرٌ، والبخيل الذي يقبض كفَّه على الدرهم شاعر، والرجل الذي يتندَّى على إخوانه ويتسخَّى على أصحابه شاعر، وصاحب المُلك الذي ينوط آماله بابتسامة، والمتوحش الذي ينقش معبوده بالدم، والرقيق الذي يَعْبد سيدَه، والظالم الذي يَحسَب نفسَه إلهًا، والمزهو والطامح والشجاع والجبان والسائل والسلطان والغني والفقير والشاب والشيخ وسائر مَن خلقَ الله، ما منهم إلا من يعيش في عالم من نسج الخيال وسرج الأوهام!

ليس الشعراءُ … مُحدثي اللغات ومبتدعي فنون الموسيقى والرقص والحفر والتصوير فقط، بل هم أيضًا واضعوا الشرائع ومؤسسو المدنيات ومبتكرو فنون الحياة. وهم الأساتذة الذين يصلون ما بين الجمال والحق وبين عوامل هذا العالم المستتر الذي يدعوه الناسُ الدِّينَ … ولقد كان الشعراء في العصور الأولى التي مرَّت بهذه الدنيا يُسمَّوْن تارةً مشرِّعين وطورًا أنبياء حسب العصور التي ظهروا فيها والأمم التي نبغوا منها. صدقَ الأولون، فإن الشاعر جامعٌ أبدًا بين هذين في نفسه؛ لأنه لا يقتصر على رؤية الحاضر كما هو، ولا يجتزئ باستطلاع القوانين والأنظمة التي ينبغي أن تنزل على حكمها أموره، بل يستشف المستقبل من وراء الحاضر، فليست خواطره إلا بذرة الزهرة التي يجنيها الزمن الأخير ونُوَّارته، وما الشعر إلا موقظُ الأممِ وباعث الشعوب، ورسول الانقلابات في الآراء والتقاليد … والشعراء هم قساوسة التنزيل الإلهي ورسل الوحي القدسي وشُرَّاح الحكمة الربانية … وهم المرايا التي تتراءى في صقالها أظلالُ المستقبل الضخمة الكثيفة الملقاة على الحاضر … وهم اللفظ الناطق بما لا يفهمون، المعبِّر عما لا يُدرِكون … وهم قبلُ وبعدُ المشرِّعون الذين لا يعترف بهم الناسُ.

على أنه من الثابت الذي لا سبيل إلى دفعه، أن مرتبة الحيوان كائنًا ما كان رهنٌ بحالة جهازه العصبي، وأنه كلما ارتقى اكتسب جهازُه العصبيُّ منزلةً جليلة وصفةً خطيرة تبعًا لهذا الرقي، والجماعات كالأفراد في نشوئها وارتقائها، فكلما زادت حياتها تعقيدًا صار للفكر فيها مثلُ منزلة الجهاز العصبي في الفرد، وصار الأدب بمعناه الأوسع ومدلوله الأشمل عنوانًا دقيقًا على نشوئها الاجتماعي. ومن أجل ذلك كانت الحياة الأدبية في الجماعات المستوحشة غَضة ضئيلة، ولكنها في الشعوب الراقية المتحضرة نامية متفرِّعة متهدِّلة الأغصان مورقة الأفنان.

وإذا كان هذا كذلك، وكان الشعر عنوانًا على رقي الجماعات ودليلًا على حياتها، وكان مَجنَى ثمار العقول والألباب ومجتمِعَ فرقِ الآداب، فإن حقيقًا بنا أن ننظر فيه علَّنا نهتدي إلى وصف حقيقته ونقف على وسائله وغايته.

بَيْد أني لا أرى للتعاريف غِناءً فيما نتكلف ولا بلاغًا إلى ما نتطلَّب، وعلى أنه إن كان لا بدَّ منها فإن حقَّها — ولا شك — التأخيرُ لا التقديمُ؛ إذ فيها تتلخص حدود المسائل في أوجز لفظ وأخصر عبارة. ولقد نظرتُ فلم أجد واحدًا ممَّن بحثوا في الشعر جاء بتعريف فيه للنفس مقنعٌ؛ إذ ليس يكفي في تعريفه مثلًا أن يُقال إنه الكلام الموزون المقفَّى. فإن هذا خليقٌ أن يُدخِل فيه ما ليس منه ولا قُلامة ظُفر، وإنما نظرَ القائل إلى الشعر من جهة الوزن وحدها وأغفل ما عداها.

ولا يغني في تعريفه كذلك أن نقول مع «شلجل» إنه مرآة الخواطر الأبدية الصادقة، فإن هذا — فضلًا عن غموضه الشديد — خطأ صريح ليس فيه شعاع من نور الحق؛ وذلك لأن الشعر لا يمكن أن يكون — كما زعم شلجل — مرآةَ الخواطر الأبدية الصادقة، وليس هو إلا مرآة الحقائق العصرية؛ لأن الشاعر لا قِبلَ له بالخلاص من عصره والفكاك من زمنه، ولا قدرة له على النظر إلى أبعد مما وراء ذلك بكثير. فحكمته حكمة عصره، وروحه روح عصره، على أنه ما هو الحق؟ وكيف يُوصف بأنه أبدي؟ وما هو مقياسه؟ ألا ترى أن يقين اليوم قد يصير شكَّ الغد؟ فأنَّى للشاعر أن يصل إلى هذه الحقائق الأبدية؟ إنه لا أبديَّ — فيما نعلم — إلى عواطف الإنسان، وما يُدرينا لعل هذه أيضًا يعتورها الشكُّ ويأتيها الريب من هذا الجانب أو ذاك، ولكنه لا أبدي إلا هذه. ألستَ ترى أن أغاني المستوحشين التي يمتدحون فيها الحرب والشر والقساوة والحب والدهاء والخديعة هي غاية العقل عندهم، وقصارى ما يبلغهم الحزم والكياسة وإن استكَّت منها أسماع المتحضرين لهذا العهد، وبرئت إلى الله منها نفوسُهم؟ ولكنها شِعر لا ريب فيه! ولقد كان من عادة العرب أن يتغنوا في شعرهم بذكْر أبطالهم ورجالاتهم. ولعمري، لا شيء أنفعُ من ذلك ولا أعود ولا أشد ابتعاثًا للذهن وإيقاظًا للنفس ودفعًا لها على ورود المكاره واستثارةً لنخوتها وحَميَّتها.

وليس الشعر كما وصفه الشيخ الذي زعم الجاحظ أنه ذهب إلى أنه صياغة وضرب من التصوير، وكما سمَّاه أرسططاليس «فنًّا تصويريًّا»؛ لأن الأصلَ في الشعر «الإحلالُ والاقتراحُ» لا التصويرُ — إحلالُ اللفظ محلَّ الصور واقتراح العاطفة أو الخاطر على القارئ — وعلى أنه لو جاز أن نسمي الشعر فنًّا تصويريًّا أو ضربًا من التصوير لبقي علينا أن نعرف أيُّ شيء يُصوَّر؟ آلحقائقُ أم المرئياتُ أم الإحساسُ؟

قال بيرك: إن مَن يتدبَّر حسنات الشعراء وبراعاتهم يجد أنها لا تستولي على النفس من أجل ما تُحدِثه في الذهن من الصور، بل لأنها تُوقِظ في النفس عاطفةً تشبه العاطفةَ التي ينبِّهها الشيء الذي هو موضوع الكلام. ا.ﻫ.

نقولُ: وهذا صحيح حتى في الشعر الوصفي الذي هو بطبيعته وغايته ألصقُ بالتصوير مما عَدَاه من فنون الشعر وأبوابه؛ وذلك لأن الشاعر لا يصوِّر الشيء كما هو، ولكن كما يبدو له، ولا يرسم منه هيكله العُريان، بل يخلع عليه من حُلَل الخيال بعد أن يحرِّكه الإحساسُ، وأنت قد تعلم أن الحواس هي مصدر عِرفاننا ومستقَى علْمنا بما تتناوله من الأشياء وتفضي إليه من صفاتها وصلاتها وحركاتها وغير ذلك، ولكنه من الواضح الذي لا شك فيه أنه إذا لم تكن ثَم وسيلة إلى العلم بالأشياء والاطلاع عليها غير الحواس، لما أفاد الإنسان إلا قليلًا، ولما دخل في علمه إلا النزرُ اليسير؛ لأن المعرفة شيء تتعلق به المدارك ويلج في الارتسام بصفحة الذهن، وهذه اللجاجة أو هذا الشبث الذي يجده كل امرئ بأهداب الخاطر، أو إن شئت فقلْ هذا «الصدى» الذي تتركه المحسوسات هو شرحُ خاصية الذهن التي نسميها الحفظ، وهي عادةٌ يصحبها «صورة عقلية»؛ وهذه الصورة قلَّ أن تبلغ من الوضوح والجلاء مبلغ المشخَّصات التي تَبرز لمشهد الحواس. ومَن ذا الذي ذكر صاحبًا له فتمثلت لذهنه صورتُه كما كانت تتمثل لعينه. إلا أن الأمر على خلاف ذلك، فقد أثبتت أبحاث علماء النفس أنه قلَّ مَن يستطيع أن يستحضر في ذهنه صورة مفصلة غير مجملة، واضحة غير مبهمة لشيء مألوف كمائدة الإفطار. على أنه ليس يخفى أن قدرة الذهن على إحداث الصور تختلف باختلاف الناس، كما ليس يخفى أنه وإن كان الناس في الغالب لا ترتسم في أذهانهم إلا صور المرئيات إلا أن فيهم أيضًا مَن هم أقدر بطبعهم على استحضار صور المسموعات والحركات.

على أنَّ حقيقًا بنا أن نتمهَّل هنا قليلًا، فما في ذلك من بأس. فإن مما هو جدير بالتأمل والنظر فيه بعقب ما ذكرنا أن العقل قد يستغني في كثير من الأحيان عن «الصور» ويعتاض منها «الرموز». ولعل هذا هو السبب في كثير من خطئه وصوابه أيضًا، وذلك أن الألفاظ ليست في الحقيقة إلا رموزًا لما تأخذه العين من الأشياء، وهي حسبنا وفيها كفايتنا ليتهيأ لنا ما نزاول من التفكير، وحسْبُ القارئَ أن يُوقِظ رأيَه لما يدور في ذهنه ليستيقن أن كثيرًا من الصور التي ترتسم في صفحة ذهنه غامضة في أغلب الأحيان لا نصيب لها من الجلاء. قال بيرك أيضًا: «إذا قال أحدنا سأذهب إلى إيطاليا في الصيف المقبل، فهِمه السامع من غير أن يكدَّ ذهنه، على أني على يقين جازم من أنه لم ترتسم في ذهنه صورة القائل، يطوي الأرض تارة ويركب البحر أخرى — أنا على ظهر جوادٍ وآونة في مركبة إلى آخر تفاصيل هذه الرحلة — بل لا أظن السامع قد «تصوَّر» إيطاليا — تلك البلاد التي عزم القائل أن يسافر إليها — ولا أحْسَب الخيال قد رسم له صورةَ مزارعها السندسية، وفواكهها الطيبة الشهية، وحرارة هوائها وانتقاله إلى هذا الجو من جوٍّ آخر — وهي صورٌ أشار إليها القائل بلفظ الصيف وجعله رمزًا لها — وهل تظن قوله: «المقبل» أحدثَ صورةً ما؟» ا.ﻫ.

وقال «لوك» في رسالة له عن العقل: «إن الطفل في كثير من الأحيان يحمل عنَّا عددًا وافرًا من الألفاظ ذات المعاني العامة، مثل الفضيلة والرذيلة والخير والشر، قبل أن يعرف ما هذا وما ذاك، ثم هو يَقْتاس بنا في حُب الواحد ومقت الآخر، ولو أنك سألته ما الفضيلة لقال: هي شيء يحبه أبي أو أمي أو معلمي؛ وذلك لأن عقل الطفل من اللين بحيث تستطيع بما تُظهِر من الاستياء أو الارتياح لشيء ما، أن تحمله على الاقتداء بك في بُغض هذا الشيء أو حبه.» ا.ﻫ. على أن الشيخ الكبير كالطفل الصغير، كلاهما إن ذاكرته حديثَ الفضيلة أو الرذيلة أو غير ذلك مما يجري مجراهما كالشرف والنباهة والطاعة، أدرك المعنى المراد وإن لم ترتسم في ذهنه «صورة» لشيء من ذلك.

كل لفظ من هذه الألفاظ كان موضوعًا للدلالة على فعل بعينه، ثم انتقل بعد ذلك بكثرة الاستعمال من هذه الخصوصية إلى العمومية، حتى تجرَّد في آخر الأمر صوتًا أو صدًى، وكذلك الشأن في سائر الألفاظ، فإنها لا تلبث بعد طول الاستعمال أن تصير أصداء تدوِّي في جوانب النفس ونواحي الفؤاد، فتترك أثرها ولا تُجشِّم الخيالَ تصويرها. فإن شككت في ذلك فتأمَّل لفظة «الشيء»، هل ترى لها «صورة» في قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:

وكَمْ من قتيلٍ لا يُباء به دمٌ
ومن غَلِقٍ رهنًا إذا ضمَّه مِنى
وكَمْ مالئٍ عينيه من «شيء» غيرِه
إذا راح نحو الجَمرةِ البيضُ كالدُّمى

فإن لها رُوحًا وخِفةً وإيناسًا وبهجةً، وهي بعدُ لا تبلغ أن تكون منها صورة، أو في قول أبي الطيب المتنبي:

لو الفَلَك الدوَّار أبغضتَ سعيَه
لعوَّقه «شيء» عن الدورانِ

فإنك تجدها من الضآلة والغموض بحيث يعييك أن تصوِّرها لنفسك وإن كان لا عسر عليك في فَهْمها ولا عناء.

وقد كان بشار بن برد الذي يقول:

عميتُ جنينًا والذكاء من العَمَى
فجئتُ عجيبَ الظن للعلمِ موئلًا
يصفُ الأشياء وما يراها كأحسن ما يصفها المبصرون الذين لم يسلبهم الله نعمة النظر. وروى بيرك أنه كان بجامعة كمبردج رجل أكْمَه يدرس العلوم الرياضية قال:

كان المستر سوندرسن هذا من صدور العلماء وفحول الأعلام في الفلسفة وعلم الهيئة وسائر ما لا بدَّ فيه من الحَذْق الرياضي، فلم يرعني شيء كإلقائه دروسًا في «الضوء» و«الألوان»، فكان يلقنهم عِلمَ ما يرون وما لا يرى.

فهذا يدلك دلالةً لا يعترضها الشك على صحة ما أردنا أن نبيِّنه لك من أن «الألفاظ ليست إلا رموزًا مجردة تمُر بالسمع فيكتفي العقل منها بلمحة دالة تغنيه عن الصورة» — إلا أن تريد ذلك فيكون ما أردتَ — ولكنَّ فرقًا بين أن تكره الخيال على التصوير وبين أن يجيء ذلك منه عفوًا لا إكراه فيه ولا إجبار، على أنه قلَّ أن تستطيع تصوُّرَ الشيء على حقيقته وأصله كما أسلفنا.

ومما يَلبَس على الناظر على هذا الباب ويغلِّطه أنه يستبعد أن يكون الكلام مفهومًا فهمًا صحيحًا من غير أن تكون له صورة ماثلة في الذهن. والحقيقة أنه ليس في ذلك شيء من الغرابة أو البعد؛ لأن العادة تذلِّل هذه الصعوبة — والعادة أعرق طباع النفس، وهي مصدر قوتها وعلة خَوَرِها وضعفها — ألا ترى كيف أن اللفظ الجديد يكون مدخلُه على النفس في بادئ الأمر صعبًا ثم هو لا يلبث أن تلوكه الألسنة وتناقله الأفواه ويتداوله الناس حتى يسهل وروده على النفس، ويُوَطَّأ له حجابُ السمع. واعلم «أن مَثَلَ واضع الكلام مَثَلُ مَن يأخذ قطعًا من الذهب أو الفضة فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدةً» يلتهمها العقل جملةً، ولو نحن كلَّفناه أن يُحلِّل هذه القطعة أو أن يصوِّر كل لفظة ويرسم كل حرف لكان ذلك ضربًا من التعسف وبابًا من أبواب العنت، ولَتَراخت من جرَّاء ذلك حركةُ الفَهم وأبطأ سيرُ الذهن، والكلام لا يقبل هذا التقسيم ولا يحتمل هذا التجزيء.

على أنني لا أرى أبلغ في إثبات ذلك وإقامة الحجة عليه من أن ننظر في أنواع الألفاظ ونتأملها، ونحن نرجو بعد هذا البسط أن تنتسخ آية الشك وتنجلي ظلمة الشبهة، ولسنا نشير إلى تقسيم الكلم إلى اسم وفعل وحرف، فإن هذا التقسيم إنما يُراد به بيان تعلق الكلم بعضًا ببعض، وشرح وجوه تعلقِها التي هي معاني النحو وأحكامه، وإنما نريد تقسيمها حسب معانيها وصفاتها ونشأتها ووضعها. فأول هذه الأنواع وأوضحها وأشفُّها عن معناها هذه الألفاظ الجامعة، مثل رجل وشجرة وجواد وما إليها، وكلها ألفاظ موضوعة للدلالة على ما هو واقع تحت الحس. وثانيها الألفاظ الموضوعة لوصف هذه الأشياء المحسوسة كأحمر وأخضر، وكقام وقعد (والأفعال صفات في معانيها) وما إليها. وهذان النوعان أول ما عرف الإنسان من أنواع الكلم، وإنَّ بين ظهرانينا اليوم من الهمج شعوبًا ليس في لغاتها غيرُ هذين النوعين؛ ولما اتسع الناس في الدنيا اتسعت المعاني كذلك، فنشأت طائفة من الألفاظ وُضعت للجمع بين النوعين المتقدمين وللدلالة على صلاتهما، مثل الشرف والفضيلة والحرية وما إلى ذلك.

لا خلاف في أنه يمكن تقسيم الألفاظ إلى غير ذلك من الأقسام، ولكن هذا التقسيم طبيعي تاريخي، وعلى هذا النحو والنظام أيضًا يتعلم الطفل اللغةَ ويحفظ ألفاظَها، وما المرء إلا صورةٌ مصغرةٌ للنوع الإنساني.

هذه الأنواع الثلاثة إذا أنت تدبَّرتها وجدت الأول منها (رجل وشجرة) رموزًا لصورة بسيطة غير مركبة يدركها الذهن على غير كلفة أو مشقة. فإذا انتقلت إلى ألفاظ النوع الثاني وجدت أنها رموز لأشياء مركبة، أو هي رموزٌ موضوعة لوصف حالات بعينها لا بد للذهن في تصورها من جمع شتيت أجزائها. فأما ألفاظ النوع الثالث فأعوصُ الجميعِ وأشدُّها إعناتًا للذهن إذا هو تكلَّف تفصيل مجملها وبسط موجزها. وما لفظ الشرف إن تأملته إلا عبارة «مختزلة» لو عمدتَ إلى بسطها وتحليلها لما وجدتَ مندوحة من ردِّها إلى النوع الثاني، ثم إلى الأول، قبل أن تستطيع الكشف عن دقائقها وفتح مقفلها، فإنه مما لا شبهة فيه أن أولَ مَن قال من الناس «أُحِب الشرفَ» إنما كان يعني «أُحِب الرجلَ الشريفَ».

وثَم طائفة من الألفاظ كانت في أول أمرها داخلة (بطبيعتها) في عِداد ألفاظ النوع الثالث وما زالت إلى اليوم (بصورتها) مثل النهار والليل، والربيع والشتاء، والفجر والسحر، والريح والرعد، فإنك لو سألت أحدًا: ماذا تعني بالنهار والليل أو الربيع والشتاء؟ لقال لك: أعني فصلًا أو جزءًا من الزمن. وما هو الزمن وأي شيء هو؟ أهو شيء مادي؟ إنْ هو إلا صفةٌ تجرَّدت اسمًا وأصارتها اللغةُ مادةً، فإن أحدنا إذ يقول طلع الفجر، أو زحف الليل، ليعزو إلى الفجر والليل فعلًا ما أعجزهما عنه وأبرأهما منه.

وما زلنا إلى اليوم نعزو إلى «قوى» الطبيعة صفات «المادة»، ونجسِّم المجرَّد حتى يكاد يُحسُّ ويُمسُّ وتقع عليه الأيدي وتأخذه الأعين. انظر إلى قول ابن الرومي:

إمامٌ يظل «الأمسُ» يُعمَل نحوه
تلفُّتَ ملهوف ويشتاقه «الغدُ»

وقول أبي تمام:

ما لامرئ أسَرَ «القضاءُ» رجاءَه
إلا رَجاؤك أو عطاؤك فَادِي

أو قول مسلم بن الوليد:

ذاك الرجاءُ المستجارُ بجودِه
من نائباتِ «الدهر» حين تنُوبُ

أو قول البحتري:

تنصَّب «البرقُ» مختالًا فقلتُ له
لو جُدتَ جُودَ «بني يَزْدَاد» لم تَزدِ!

أو قول ابن الرومي:

أأفْضَت بي «الأيامُ» لا درَّ درُّها
إلى ما ترى عيني من الهُون والأزل؟

أو قول الآخر:

إن «دهرًا» يلف شملي بسعدي
«لزمانٌ» يهمُّ بالإحسان

ولو أردنا أن نستقصي لاحتجنا أن ننقل كل بيت في اللغة، وإنما نحن أردنا أن نورد لك أمثلة على ما ذهبنا إليه، وهذا مذهب الشعراء في إسناد الفعل إلى غير فاعله، بل هو في كل لغة بطبيعة الحال، وهل اللغة — إن تدبرتَ — إلا شعر جفَّ فعاد كالأسماك المتحجرة؟ أو الألفاظ إلا قصائد تاريخية وخواطر شعرية؟ أَوَتحسَب أنه لم يكن قبلَ «هومر» شاعر؟ لقد كانت هذه الألفاظ الخامدة المبتذلة في أول ابتداعها وبدء تكوينها متلهبة تحرِّك النفس وتستفز الجنان، وكان محدثوها شعراء مبتكرين، «وهل الشعر إلا خاطر لا يزال يجيش في الصدر حتى يجد مخرجًا ويصيب متنفسًا؟»

ولمَّا كان الكلام مركبًا من جميع هذه الأنواع وكان تأثيره ليس رهنًا بما يحدِثه من الصور وحسب، بل إن للصوت أيضًا دخلًا، فإنه من الخرف والسخافة أن نظن أن العقل يتكلف تحليل كل كلمة تَقرَع السمع أو تقع عليها العين، قبل أن يخلص معناها إلى نور البيان، فإن في ذلك من بُعد الشُّقة والتواء المسالك ووعورته ما لا يخفى عن أحد من الناس.

وبعدُ، فإنك إذا رجعتَ إلى نفسك، علمتَ علمًا لا يعتريه شكٌّ أن الألفاظ قاصرة عن العبارة عما في النفس، والإحاطة بجميع ما يختلج في الصدر ويدور في الذهن من المعاني، هذا ما لا يجهله عاقل ولا يكاد يخفى عن أحد. فإن الألفاظ ليست إلا كإشارات الخرس، تتخيل فيها أغراض صاحبها. وإذا كان هذا كذلك فكيف يمكن أن تكون منها صورة واضحة في الذهن وهي على ما وصفنا من العجز والقصور؟ وحسبُكَ دليلًا على أن العقل ليكتفي بالإشارة ويجتزئ بيسير الإبانة، أن النظرة قد تقوم مقام اللفظة في نقل المعنى من ذهن إلى ذهن، وأن التلميح قد يكون أبلغ في العبارة من التصريح. واعلم أن إحلال الرموز محل الصور أمر لا بدَّ منه، ولا محيدَ عنه، لاسيما في العلوم بأنواعها من طبيعة وكيمياء ورياضة وغير ذلك، بل في الشعر والكتابة أيضًا. وتروقني كلمة «لجيرني» في كتابه «قوة الصوت» قال: وقد أفضى به البحث إلى ذكر أبيات من الشعر في صفة كوخ:

قرأتُ هذا الوصف البديع فتمثلتْ لذهني صورٌ شتَّى لهذا الكوخ لا تشبه صورةٌ منها أختَها. ولعلي كنتُ أكونُ أقدرَ على تصوُّره لو علمتُ كم عدد نوافذه، وأين بابه من الجهات الأربع، وكم عدد الأشجار التي تحفُّ به، وما إلى ذلك من التفاصيل التي لا يُعنى بها الشعراء، غير أني مع هذا أقول عن يقين إن هذه الأبيات وقعتْ من نفسي، ومن نفوس الناس جميعًا — فيما أظن — موقعًا لا مثيل له ولا نظير.

وأنت فتأمل أبياتَ ابن حمديس يصف بِركةً في قصر عليها أشجار من ذهب وفضة ترمي فروعُها المياه:

وضراغمٍ سكنت عرينَ رِياسةٍ
تركتْ خريرَ الماء فيه زئيرا
فكأنما غَشي النضارُ جسومَها
وأذابَ في أفواهها البَلورا
أُسدٌ كأن سُكونَها متحركٌ
في النفس لو وجدت هناك مُثيرا
وتذكرتْ فِتكاتِها فكأنما
أقعتْ على أدبارها لتثورا
وتخالها والشمسُ تجلو لونَها
نارًا وألسُنَها اللواحِسَ نورا
فكأنما سلَّتْ سيوفَ جداولٍ
ذابت بلا نار فعُدن غديرا
وكأنما نسج النسيم لمائه
دِرعًا فَقَدَّر سَردَها تقديرًا
وَبديعةِ الثمرات تَعبُر نحوها
عيناي بحر عجائب مسجورا
قد سرجتْ أغصانها فكأنما
قَبضت بهن من الفضاء طيورا
وكأنما تَأبى لوقعٍ طيرُها
أن تستقلَّ بنهضها وتطيرا
من كلِّ واقعةٍ ترى منقارَها
ماءًا كسِلسال اللُّجيْن نَميرا
خرسٌ تُعَد من الفِصاح فإن شدتْ
جعلتْ تغرِّد بالمياه صفيرا
وكأنما في كلٍّ غصنُ فِضةٍ
لانتْ فأرسلَ خيطُها مجرورا
وتُريك في الصهريج موقعَ قَطرها
فوق الزبرجد لؤلؤًا منثورا
ضحكتْ محاسنُه إليك كأنما
جعلتْ لها زهرَ النجوم زهورًا

… إلخ.

هذه أبيات من عيون الشعر ومحكَمه، إذا تأملتَها جملةً أو استقريتَها واحدًا واحدًا ونظرتَ إلى موقعها في نفسك وإلى ما تجده من اللطف والظرف، ولم تجد لها مع ذلك صورة واضحة في الذهن، وإنما كان هذا كذلك؛ لأنها وإن كانت غاية في دقة الوصف وبراعة السبك ولطف التخيل، إلا أن في كل بيت صورة مبهمة. فهي مجموعة صور بعضها من بعض أدق وألطف، ثم ألا ترى كيف أن الشاعر لا يزال يحوم على الشيء، فلا يقع، ويَسف فلا يَلمس، حتى إذا عناه تصويره قال لك كأنما هو كذا وكذا لقصور اللغة وعجزها كما أسلفنا لك، وأي لغة تبلُغ أن تصور لك الشيء كآلة التصوير الشمسي؟ ليس بنا إلى ذلك حاجة؛ لأن ضيق حظيرة اللغات مَدعاة لِسعة مجال الخيال، وقصر آلاتها سببٌ في طول متعة الذهن ولذة الفكر. ولنضرب لذلك مثلًا، فإني رأيتُ سوقَ الأمثال أبلغَ في تصوير المسائل في النفس وتقريرها عند العقل، وهي بعدُ آمن لي ولك من الشك وأصح لليقين وأحرى أن تبلغنا جميعًا قاصية التبيين؛ لأنه موضع يدق فيه الكلام، ولا يُؤمن معه الغموض والاستبهام. قال كثير عزة:

وأَدْنَيْتِنِي حتَّى إِذا ما سَبَيْتِني
بدِلٍّ يُحِلُ العُصمَ سهلَ الأباطحِ
تَجافَيْتِ عَنِّي حِينَ لا لِيَ حِيلَةٌ
وخَلَّفتِ ما خَلَّفتِ بين الجوانحِ

هذان بيتان ليس فيهما معنى رائع ولا فكر دقيق، ولكنهما يصفان حال قائلهما أبلغ وصف، ويتغلغلان إلى النفس تغلغل الماء إلى كبد الملتاح. وإنما يرجع الفضل في ذلك إلى قوة الخيال. وشرحُ ذلك أن الشاعر لم يتجاوز الإشارة في بيته إلى التبيين والتلميح إلى التصريح، فذكر الدِّلَّ ولم يذكر كيف دِلها، وإن يكن مثَّل لك فعلَه وتأثيرَه، وقال وخلَّفتْ ما خلَّفتْ بين جوانح ولم يقل ماذا خلَّفتْ، فتركَ بذلك مُضطربًا واسعًا للخيال ليتصوَّر لطفَ دِلِّها وسحره وفتنته، وصبابة الشاعر وشغفه وحرقته، وسائر ما ينطوي تحت قوله وخلفت ما خلفت، فجاءا بيتين كلما زدتهما نظرًا وترديدًا زاداك جمالًا وحسنًا، ولو أن الشاعر أراد الإحاطة بجميع ما خلفتْ لكلَّف نفسه أمرًا شديدًا إذا لانت له جوانبه كان استيعابه هذا قيدًا للخيال وحملًا ثقيلًا يرزَح تحته وينوء به، «لأن الشِّعر يلذُّ قارئه إذا كان للمعاني التي يثيرها في ذهن القارئ في كل ساعة تجديدٌ، وفي كل لحظةٍ توليدٌ.» فأما ما يأخذ على الخيال مَذهبه ولا يترك له مجالًا فهذا هو الغث الذي لا خير فيه؛ لأن حالات النفس درجات، فإذا أنت صوَّرت أقصى درجاتها لم تُبقِ للخيال من عمل إلا أن يَسِفَّ إلى ما هو أحط وأدنى، ولذة الخيال في تحليقه، ومن ههنا قالوا في تعريف الشِّعر إنه لمحةٌ دالةٌ ورمزٌ لحقائقَ مستترةٍ، يعنون بذلك أن الشاعر لَيَقذفُ بالكلمة فتأخذها الأسماع وتعيها النفوس ويستوعب معانيها الخيال.

قال «سنت بيف» من مقال له عن لامارتين: «إذا تحركتْ عاطفة حادة شاملةٌ نحو مخلوق خيالي، ألا يكون خيرًا من أن نحاول تقريبه بالوصف الدقيق أن نعتمد على قوة الخيال في سد النقص، وملء الفراغ وإتمام الصورة على خير مما نستطيع أن نتمها؟» وقال في موضع آخر من المقال عينه: «إن الشِّعر خلاصة كل شيء وجوهره. فحذارِ أن نغمر هذه القطرة النفيسة في بحرٍ من الماء أو طوفان من الأصباغ والألوان. ليس الأصل في الشعر الاستقصاء في الشرح والإحاطة في التبيين، ولكن الأصل فيه أن نترك كل شيء للخيال.» ا.ﻫ.

وهذا صحيح. أذكر أني مرةً كنت أقرأ قصة «منفرد» في حديقة بيتٍ فناؤه لجةٌ غمرٌ وروضٌ أخضرُ، وكانت الشمس جانحةً للمغيب، فلما بلغت مناجاة منفرد لنفسه وفي أولها يقول:

إنما نحن ألاعيبُ في أيدي الزمن والمخاوف، تمضي علينا الأيام ثم تمضي بنا، ولكنا على هذا نعيش — أبغض ما تكون إلينا الحياة، وأخوف ما نكون نحن من الموت — على رقابنا هذا المَشنوء، هذا الحِمل الحيوي الذي ينوء به الفؤاد المضطرب الذي يُغرقه الأسى ويُتلفه الألم أو اللذة التي تنتهي بالألم والخَوَر — في كل أيام الحياة، ماضيها ومقبلها، (إذ ليس للحياة حاضر) ما أقلها ساعات تكِفُّ فيها النفس عن النزوع إلى الموت، وترانا على هذا نفُرُّ منه فَرارَنا من الغدير الصرْد في الشتاء! على أنه بُردُ بُرهة! إلخ.

أقول لما بلغتُ قوله هذا تضاءلت في عيني مناجاة هملت لنفسه، وأحسستُ كأن الهواء قد آض معانيَ وإحساساتٍ ليس أحلى منها في القلب ولا أملأ للصدر، وكأن ما ارتفع من أنفاس الورد ليس رَيَّاه ونفحتُه ولكن معناه وَصِفَته. وكنت كلما قرأتُ سطرًا شعرتْ بما يشعر به الواقف على ساحل البحر، ينظر إلى عُبابه الطموح وموْجه الجَموح، ورأيت المعاني تضيء في نفسي، غامضةً، كما يضيء الفجر، والخواطر تزخر في صدري كما يزخر البحر، وما زلتُ إلى اليوم كلما عدتُ إلى هذه القصيدة جَلَت عليَّ ألفاظُها من المعاني مثلما تجلو أشعة الشمس المسيطرة في الأفق من مشاهد هذا الوجود ومناظره، إن قيمة الشعر ليست فيما حوتْ أبياتُه، واشتملتْ عليه شطراته فقط، «ولكنَّ قيمته رهنٌ أيضًا بما يختلج في نفسك ويقوم في ذهنك عند قراءته»، فإن الشعر الجيد كالبحر لا يقف عنده الفكر جامدًا، وهو كشعاع النور يضيء لك ما في نفسك ويجلو عليك ما في ذهنك.

وأنت فإذا استقريْتَ أطوار عقلك زادت هذه المسألة وضوحًا عندك وجلاءً، فإن أحدنا ليرى الخَاتم أو الشَّنْف أو غيرهما من أصناف الحُلي فيستحسنه، وهو لو راقب نفسه لرأى خياله قد انتزع هذا الخَاتم أو ذلك الشَّنْف من مكانه ووضعه في خنصر مليحٍ أو قرَّط به أذن حسناءٍ بينما يقلبه في كفيه وينظر إليه باديًا من قريب ومن بعيد؛ لأن الخيالَ لا يجمَد أمام كلمةٍ تَردُ على السَّمعِ أو منظر تكتحل به العين، إنما يتوخى دائبًا أن يسدَّ كل نقصٍ ويملأ كل فراغٍ.

ولكن الناس ليسوا جميعًا سواء في قوة التصور وحِدة التخيل، فإن بعضهم ليرى «صورًا» صريحةً حيث لا يبصر غيرُهم إلا رموزًا مجرَّدةً. وهذا من أسباب قوة العقل، ولكنها قوة قد تنتهي بصاحبها إلى ضعف، فإن حِدة الخيال في مسائل الفلسفة النظرية وأمور الحياة اليومية قد تكون مَدعاة لتشرُّد الذهن وتمزُّق شمل قواه.

وبعد، فإن الشعر مجاله العواطف لا العقل، والإحساس لا الفكر، وإنما يُعنى بالفكر على قدر ارتباطه بالإحساس. ولا غنى للشعر عن الفكر، بل لا بدَّ أن يتدفق الجيد الرصين منه بفيض القرائح، ويتخفى بنتاج العقول وجني الأذهان. ولكنَّ سبيل الشاعر أن لا يُعنى بالفكر لذاته ولسداده ورزانته، بل من أجل الإحساس الذي نبَّهه أو العاطفة التي أثارته، فربما كان الفكرُ أصلًا فُروعه الإحساسُ وثماره العواطف، وربما كان فرعًا أصلُه الإحساسُ. فالفِكرُ من أجل الإحساس شعر، والإحساس شعر، أما الفكر لذاته فذلك هو العلم، وعلى هذا أكثر مَن كتبوا في الشعر من فحول العلماء والشعراء.

خُذ مثلًا لذلك بيت ابن الطثرية:

فديتُكِ أعدائي كثيرٌ وشُقَّتي
بعيدٌ وأشياعي لديكِ قليلُ

قد لا يكون البيتُ خيرَ ما يُتَمَثَّلُ به، ولكنه حسْبنا في الإبانة عما نريد. فإن ابن الطثرية، لم يقصد إلى سرد هذه الأخبار عليك، ولو أنَّ رجلًا ساقها إليك نثرًا ما تحركت لها النفسُ ولا نَزا لها القلبُ، وهل هي في ذاتها خارجةٌ عما تدور عليه أكثر الأحاديث إذا انتظمت بالإخوان عقودُ المجالس؟ ولكنك ترى البيت برغم ذلك يمتزج بأجزاء نفسك ويتصل بفؤادك؛ لأن الشاعر بثَّك فيه كَمَدَه الباطن وحسرته الدخيلة، ونزع فيه بالآمال فانتقل إحساسه منه إليك وتغلغل من نفسه إلى نفسك.

وكذلك لا بدَّ في الشعر من عاطفة يُفضي بها إليك الشاعر ويستريح، أو يحرِّكها في نفسك ويستثيرها، وإذا كان هذا هكذا فقد خرج من الشعر كل ما هو «نثري» في تأثيره، أو ما كان في جملته وتفصيله عبارة عن «قائمة» ليس فيها عاطفةٌ، ولا هو مما يُوقظ عواطف القارئ ويحرِّك نفسه ويستفزها، مثل شعر الحوادث اليومية الذي وَلِع به حافظ وأشباهه ممَّن لا يفهمون الشَّعر ولا ينظرون إلى أبعد من أنوفهم، ولا يرمون به إلى غير الكسب ومجاراة العامة من القراء والكتاب ومن الأميين أيضًا، ومثل شعر المديح كلِّه الذي اكتظَّت به دواوين شعراء العرب، ومثل مزدوجة أبي فراسٍ الطردية التي يقول في أولها:

أنعَتُ يومًا مرَّ لي بالشامِ
ألذَّ ما مرَّ من الأيامِ
دعوتُ بالصقار ذات يومٍ
عند انتباهي سَحرًا من نومي
قلت له اختر سبعةً كبارًا
كل نجيبٍ يُرد الغبارا
يكون للأرنب منها اثنانِ
وخمسةٌ تغرِّد للغزلان
واجعَل كلابَ الصيد نَوْبتين
يُرسَل منها اثنان بعد اثنينِ
ردُّوا فُلانًا وخُذوا فُلانًا
وضمِّنوني صيدَكم ضَمانًا

إلى آخر هذا الهراء السخيف. فإن هذا الكلام ليس من الشعر في شيء وإن كان موزونًا مقفًّى. وإن عُدَّ هذا الهذر من الشعر ليثير سُخط مَن لا يعرف العرب عليهم وعلى ذوقهم. وأي فرقٍ بالله بين هذا الكلام وبين أن يقول لك صاحب إني ساكنٌ بيتًا له سلالم وفيه أربع غرفٍ في كل غرفة نافذةٌ أو اثنتان، وأنا أنام فيه وآكل وأشرب؟ إنْ كان هذا شعرًا فذلك شعرٌ. وأُقسم ما كان للأرنب اثنان ولا أُفردت خمسة للغزلان إلا من أجل الوزن والقافية، وعلى أن هذه المزدوجة قد خلت من الفكاهة أيضًا فهي مرذولة مقبوحة لا جد فيها يُطبي الأهواء ولا هزل تستروح به النفوس.

قال سُلجز: «هذه بديهيات الشعر: ينبغي أن يكون كل شيء فيه جائشًا بالعمل أو العواطف. ومن هنا كان الشعر الوصفي البحت مستحيلًا إذا هو اقتصر على الموضوع وخلا من العمل أو العواطف. قال، إنك لا تجد في شعر «هومر» شيئًا من الوصف إلا كان العمل محتويًا له.» نقول ولا في شعر غيره من الفحول. وقد علَّل هِجل ذلك بقوله: «ليست الأشياء ووجودها مادة الشعر، ولكن مادته الصور والرموز الخيالية.»

لا شك في أن العاطفة في الشعر هي الأصل في هذه المحسنات التي يخلعها عليه قائلوه، ومبعث هذا البديع الذي جُنَّ به الناس وافتُتنوا ببهجته في الزمن الأخير، وذلك لأنه لما كان الشاعر لا يسوق لك الشيء من أجل أنه حقيقة وحسب، بل كما تراه وتحسه رُوحُه فقد صار لا بد له من لغة حارة مستعارة يترجم بها عنه. «وقد يستعمل هذه المحسنات طائفةُ النظَّامين والمقلِّدين، ولكنك تراها في كلامهم نافرة مرذولة ثقيلة الورود على النفس، ممجوجة في السماع من أجل أنها محسنات أتى بها صاحبها لبريقها ورونقها لا لأنها عالقة بالعاطفة، وإنما تراهم يستكثرون من البديع والاستعارات والمجازات في كلامهم ليخفي وميضَها قِدمُ المعاني وقبحُها وفسادُها، كما تستكثر العجوز الشمطاء من الحُلي لتخفي هَرَمها وما صنع الدهر بها، وتتعهد نفسها بالطيب لتذهَبَ نَتَنَ ريحها وتدهِنُ بالأصباغ لتخفي غُضون وجهها وصفرته ودمامته، أما الشاعر المطبوع الذي يؤثِّر خيالُه في إحساسه أو إحساسه في خياله، فليست به حاجة إلى الكد والتعمُّل، وإنما يجيء ذلك منه عفوًا على غير جهد، فلا تكاد تحس أن هنا شيئًا من البديع.»

وإذ قد عرفتَ ما تقدم، فهذه مسألة رَكِب الناسَ فيها جهلٌ عظيمٌ ودخلَ عليهم منها خطأٌ فاحشٌ، وهي هل يُمكن أن يكون النثر شعرًا؟ فقد ترى أكثر الناس في هذا البلد المنحوس على أن الوزنَ ليس ضروريًّا في الشعر، وأن من الكلام ما هو شعرٌ وليس موزونًا. حتى لقد دفعت السخافة والحَمَق بعضَهم إلى معالجة هذا الباب الجديد من الشعر وهم يحسبون أنهم جاءوا بشيءٍ حسنٍ وابتكروا فنًّا جديدًا، ولولا إشفاقي على القراء لأوردت لهم أمثلةً من ذلك. والأصل في هذا الخطأ الذي دخل عليهم هو فيما أظن وأعلم، أن النَّظم شيء يستطيعه كل الناس إذا هم عالجوه، ولكن الشعر مَلَكةٌ لا يُؤتاها إلا القليل، وأن كثيرًا من الكلام المنثور يشبه الشعرَ في تأثيره، انظر ما يقول سيد كتَّاب مصر (سابقًا) المويلحي في هذا المعنى: «ويوجد الشعر في المنثور كما يوجد في المنظوم إذا أحدث تأثيرًا في النفس، ومثلُ ذلك ما تراه في كلام الأعرابي وقد سُئل عن مقدار غرامه بصاحبته فقال: «إني لأرى القمر على جدارها أحسنَ منه على جدران الناس»، وكقول الآخر: «ما زلتُ أُريها القمر حتى إذا غاب أَرَتْنِيهِ.»» ا.ﻫ.

وقد فاته هو وأضرابه أن النثر قد يكون شعريًّا — أي شبيهًا بالشعر في تأثيره — ولكنه ليس بشعرٍ، وأنه قد تغلب عليه الروح الخيالية ولكن يُعوِزه الجسم الموسيقي، وأنه كما لا تصوير من غير ألوان، كذلك لا شعر إلا بالوزن. وليس مَن ينكر أن الشعر فنٌّ، فإن صحَّ هذا فما هي آلاته وأدواته؟ وهل النثر فنٌّ آخر أم الاثنان فنٌّ واحد؟ ليس لهذه الأسئلة إلا جوابٌ واحد. قال هِجل: «الوزن أول ما يستوجبه الشعر ولعله ألزم مما عداه.» ا.ﻫ.

وتعليل ذلك فيما نعلم أن كل عاطفة تستولي على النفس وتتدفق تدفقًا مستويًا لا تزال تتلمس لغةً مستوية مثلها في تدفقها؛ فإما وُفقت إليها واطمأنَّت، وإلا أحستْ بحاجةٍ ونقصٍ قد يعوقان تدفقها الطبيعي، وربما دفعاها إلى مجرى غير طبيعي، فيضر ذلك بالجسم والنفس جميعًا، كالحامل لا تزال تتمخض حتى تلد. وهذا هو السبب فيما يجده الشاعر من الروح والخفة بعد أن ينظم إحساسه شعرًا، ولم تزل العواطف العميقة الطويلة الأجل — مذ كان الإنسان — تبغي لها مخرجًا وتتطلب لغةً موزونة، وكلما كان الإحساس أعمق كان الوزن أظهر وأوضح وأوقع، ولكنه لا بدَّ لذلك من أن يجمع الإحساس بين العمق وطول البقاء فإن بادرة الغضب على حِدَّتها ليس لها علاقة طبيعية بالوزن ولا بالموسيقى.

إذن فالوزن ضروري في الشعر وليس هو بالشيء المصطلح عليه، ولكنه جوهري لا بدَّ منه، وإن شئتَ فقُل هو جثمان الشعر، وليس يكفي أن تدعوه ثوبًا يخلعه الشاعر على معانيه فتشير بذلك إلى أنه شيء منفصل عن الشعر؛ لأن الإنسان لم يخترع الوزن — لا ولا القافية — ولكنهما نشآ منه، ولا شعر إلا بهما أو بالوزن على الأقل. قال بيتهوفن: «النغم حياة الشعر «الحسية»، ألا ترى كيف أن ما تحتويه القصيدة من معاني الروح يصير شعورًا حسيًّا بالنغم؟» ا.ﻫ.

فليس الشعر — كما يقول وردزورث — نقيضَ النثر، كلا! كذلك ليس الحيوان نقيضَ النبات، ولكنَّ بينهما على ذلك فرقًا عضويًّا لا سبيل إلى إغفاله. وليس النظم مرادفًا للشعر، ولكن الوزن على هذا جُثمانُه الذي لا بدَّ منه ولا غنى عنه. وقد يكون النثر شعريًّا جائشًا بالعواطف ولكنه ليس شعرًا. ولا بدَّ من تفهم ذلك؛ لأن فيه الحد بين الشعر وبين غيره من فنون الكلام.

•••

ننتقل الآن إلى الكلام عن واسطة الشعر وأن لبُوسَه الجمال، وهي مسألة كثيرًا ما يُغفلها الكتَّاب والنقَّاد والشعراء أيضًا لسوء الحظ. قال جان بول رختر:

إن عالم الفنون يجب أن يكون أسمى العوالم وأبهاها؛ حيث يحوِّر كل ألم إلى لذة مضاعفة؛ وحيث يشبه الواقف على قمة شامخٍ من الجبال تنفجر العاصفة على العالم تحته ولا يصيبه منها إلا نسيم برود … فكل قصيدة غيرُ شعرية إذا كان ختامها غير موسيقي. ا.ﻫ.

ولَعمري إنه عالم آخر يتراءى فيه عالمنا ولا يُراق في معاركه من الدماء إلا مثل ما يريقه الإله المجروح من دمه المعسول، وأظهر ما يكون ذلك، في الموسيقى «الصارخة كالإله الموجع» — كما يقول كيتس — حيث ترى الألحان التي تحيِّر الدموع في الجفون لا تزال تُلطف منها روح الجمال السائدة عليها، وإن في ذهن كل شاعر للحنًا يخفِّف من ألم خواطره. وأظهر ما يكون الشاعر، في هذا اللحن، وليس تُعيِيه قيودُ الوزن ولا تبرح به أغلال القافية — فإنه لا يشقى بالوزن — لا ولا بالقافية — إلا العقلُ الأسير المكبول.

وإذا كان امتياز الشعر بالتأثير فليس لشاعر على شاعر فضل في مذهبنا إلا بسهولة مدخل كلامه على النفس وسرعة استيلائه على هواها، ونيله الحظَ الأوفر من ميلها، وإنما يلائم الشاعر بين أطراف كلامه، ويساوق بين أغراضه، ويبني بعضها على بعض، ويجعل هذا بسبب من ذاك؛ لتكون عبارته أفعلَ باللُّب، وأملكَ للسمع والقلب، وأبلغَ في التأثير. والشاعر في ذلك كصانع الديباج، يوشيه بمختلف التصاوير … ومتناسبها ليكونَ أملأ للعين، وأوقع في النفس، وأعلقَ بالقلب، وليست المزية كما يتوهم مَن لا يتدبرون الكلام، في أن هذا أكثر تأنقًا من ذاك، وأحسن تحبيرًا، بل المزية في أن أحدهما أقدر على إيلاج المعنى ذهنَ القارئ، وذلك هو الأصل في جميع فنون الكتابة.

قد يكون عمق الفكرة مانعًا من فَهْمها، ولكن الغموض على أية حال عيبٌ في الشاعر أو الكاتب؛ لأن الكلام مجعول للإبانة عن الأغراض التي في النفوس، وإذا كان كذلك وجب أن يتخير من اللفظ ما كان أقرب إلى الدلالة على المراد، وأوضح في الإبانة عن المعنى المطلوب، ولم يكن مستكرَه المطلعِ على الأذن، مستنكَر المورد على النفس، حتى يتأبَّى بغرابته في اللفظ عن الإفهام أو يمتنع بتعويص معناه عن التبيين. فما كان أقرب في تصوير المعاني وأظهر في كشفها للفَهم، وكان مع ذلك أحكم في الإبانة عن المراد وأشد تحقيقًا في الإيضاح عن الطلب، وأعجب في وضعه، وأرشق في تصرفه، وأبرع في نظمه، كان أولى وأحقَ بأن يكون «مؤثرًا»، وليس معنى هذا أن «التأثير» لا يتأتَّى إلا ببراعة اللفظ ورشاقة العبارة، فقد يكون الكلام حسنًا «مؤثرًا»، ويتفق له ذلك من غير رشاقة ولا نضارة، «وإنما الألفاظ أوعية للمعاني، فأحسنها أشفها وأشرقها دلالة على ما فيها.»

فقد تبلغ بالعبارة العارية العاطلةِ ما لا تبلغُه بالكلام المفوَّف، بل قد يكون التأنق إذا أسرف فيه الشاعر أو الكاتب أو جهلَ مواضعه، وأخطأ مواقعه، أو تكلَّف له غير حاجة إليه، حائلًا بينه وبين ما يريد من نفس القارئ. ألا ترى كيف جنى «أبو تمام» على نفسه بحبه لتطريز الكلام، ومبالغته في تدبيجه، وإسرافه في استعمال الخشن النافر من الألفاظ، وإكثاره من الاستعارات والتكلف لها اغترارًا بما سبق من مثل ذلك في كلام القدماء، حتى كثر في شعره الرث الفاسد، والغامض الذي ينبو عنه الفَهم، وحتى صار أصبر الناس لا يقوى على إتمام قصيدة من شعره من غير تحاملٍ على نفسه، وإرهاق لذهنه، وحتى جاء شعره غير مستوٍ، لكثرة اعتسافه ومزجه الغرر بالعرر، والمأنوس بالوحشي الكدر. انظر إلى قوله يصف قصيدةً له:

لها بين أبواب الملوك مزامرٌ
مِن الذكر لم تُنفخ ولا هي تُزمرُ

فجعل كما ترى للقصائد مزامرَ إلا أنها لا تُنفخ ولا تُزمر، ثم تأمل قوله وما أحسنه وألطفه:

أيامُنا مصقولةٌ أطرافها
بكَ والليالي كلها أسحارُ

قد تراه يخلط الحسنَ بالقبيح والجيد بالرديء والحلو بالمر، وذلك لا ريب نتيجة التكلف، ولو أنه أطلق نفسه على سجيتها ما اختلف شعره هذا الاختلاف، ولا عظُم الفرق بين جيِّده ورديئه، وإنما رأى أبو تمام أشياء يسيرة من بعيد الاستعارات متفرقةً في أشعار القدماء — وإن كانت لا تنتهي في البعد إلى هذه المنزلة — فاحتذاها وأحب الإبداع في إيراد أمثالها فاحتطب واستكثر منها … وقد وقع في هذا العيب كثيرٌ من كتَّاب العرب وشعرائهم.

على أني لست أُنكِر أن الاستعارات المصيبة وما يجري مجراها من أنواع البديع قد تُبرِز المعنى في أحسن معرضٍ، مثل قوله: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ، فإن ذلك أدلُّ على اللصوق وشدة المماسة، ومثل قول الشاعر:

رأيتُ يدَ المعروف بعدك شُلتِ

ومثل قول البحتري في وصف البِركة:

فحاجبُ الشمسِ أحيانًا يُضاحكها
وريِّق الغيثِ أحيانًا يُباكيها

وقول أبي تمام:

فقد سَحَبتْ فيها السحابُ ذُيولَها

وهو كثير في كلام العرب وشعرهم وخطبهم وأمثالهم، وليس بنا إلى استقصاء ذلك حاجة، ولكنَّ للجمال العاطل أيضًا روعةً وجلالًا، ونضرة وملاحةً، وموقعًا حسنًا، ومستمعًا طيبًا. وعليه فِرَند لا يكون على غيره مما عَسُر بروزُه واستكره خروجُه، وتأثير العبارة لا يكون بحسن تأليفها، وجودة تركيبها، وجمال وصفها، فإن ذلك وحده — على شدة الحاجة إليه — غير كافٍ، بل لا بدَّ للشاعر كما أسلفنا أن تكون نواحي نفسه جائشةً بما يحاول أن ينسجه من خيوط الألفاظ، ولهذا كان المديح ثقيلًا على النفس ممجوجًا في الأذن إلا في الندرة القليلة والفلتة المفردة، فليست فضيلة التأثير براجعةٍ إلى ارتباط الكلم بعضها ببعض، وتناتج ما بينها، ولا إلى خصائص يصادفها القارئ في سياق اللفظ، وبدائع تروعه من مبادئ الكلام ومقاطعه، ومجاري الفِقَر ومواقعها، وفي مضرب الأمثال ومساق الأخبار، ولا إلى أنك لا تجد كلمة ينبو بها مكانها، أو لفظة يُنكر شأنها؟ بل فضيلة التأثير راجعةٌ أيضًا وفي الغالب إلى شعورٍ جمٍّ وإحساسٍ قويٍّ بما يجري في الخاطر ويجيش في الصدر وإلى القدرة على إبراز ذلك في أحسن حلاه. انظر إلى أبيات البحتري في وصف الإيوان (إيوان كسرى).

حضرتْ رَحْلي الهمومُ فوجَّهـ
ـتُ إلى «أبيضِ المدائن» عَنْسي
أتَسلَّى عن الحظوظ، وآسَى
لمحلٍّ من «آلِ ساسانَ» درسِ
أذكرَتْنِيهم الخطوبُ التَّوالي
ولقد تُذكِر الخطوبُ وتُنسِي
وهم خافضون في ظل عالٍ
مُشرفٍ يحسِر العيونَ ويُخسي
حِللٌ لم تكن كأطلال «سُعْدى»
في قِفار من البَسَابِس مُلسِ
ومساعٍ، لولا المُحابَة مني
لم تُطِقها مَسْعاةُ «عَنْسِ» و«عَبْسِ»
نَقَلَ الدهرُ عهدَهن عن الجـ
ـدة حتى رجعن أنضاء لُبسِ
فكأن «الجِرماز» من عدم الأُنـ
ـس وإخلاله بَنيَّة رَمْس
لو تَراه عَلِمتَ أن اللَّيالي
جعلتْ فيه مأتمًا بعد عُرسِ
وهو يُنْبيك عن عجائبِ قومٍ
لا يُشاب البَيَان فيهم بِلَبسِ
وإذا ما رأيتَ صورةَ «أنْطا
كِيَّةَ» ارتعتَ بين «رُومٍ» و«فُرسِ»
والمنايا مواثِل، و«أَنُوشر
وان» يُزجي الصفوفَ تحت الدِّرَفْسِ
في اخضرار من اللباس على أصـ
ـفرَ يختال في صَبيغةِ وَرْس
وعِراك الرجال بين يديه
في خُفوت منهم وإغماض جَرس
من مُشيحٍ يهوي بعامل رُمحٍ،
ومُليحٍ من السِّنان بِترسِ
تصفُ العينُ أنهم جِد أحيا
ءٍ لهم بينهم إشارةُ خُرسِ
يغتلي فيهم ارتيابي حتى
تتقرَّاهم يداي بلمسِ
قد سقاني ولم يُصرِّد «أبو الغو
ثِ» على العسكرَين شربةَ خُلسِ
من مُدام تظنُّها وهي نجمٌ
ضوَّأ الليلَ أو مُجاجة شمسِ
وتَراها إذا أجدَّتْ سرورًا
وارتياحًا للشارب المتحسِّي
أُفرِغتْ في الزجاج من كل قلبٍ
فهي محبوبة إلى كل نفسِ
وتوهمتُ أن «كسرى أبَرويـ
ـزَ» مُعاطي، و«البَلَهْبَذ» أُنسي
حُلم مُطبِق على الشك عيني
أم أمانٍ غيَّرن ظني وحدسي؟!
وكأنَّ «الإيوان» من عجبِ الصنـ
ـعة جَوب في جنبِ أرعنَ جِلْسِ
يُتظنَّى من الكآبة إذ يبـ
ـدو لعيني مُصبحٍ أو مُمسي
مُزعَجًا بالفراقِ عن أُنس إِلفٍ
عزَّ، أو مُرهَقًا بتطليق عِرسِ
عَكستْ حظَّه الليالي، وبات الـ
ـمشتَري فيه وهو كوكب نَحسِ
فهو يُبدي تجلُّدًا وعليه
كَلْكَل من كلاكل الدهر مُرسي
لم يَعِبه أن بُزَّ من بُسُطِ الديـ
ـباج، واستُل من سُتور الدِّمَقس
مُشمخِر، تعلو له شُرفات
رُفعت في رءوس «رَضوى» و«قُدسِ»
لابساتٌ من البياض فما تُبـ
ـصر منها إلا غلائلَ بُرسِ
ليس يُدرَى أَصُنعُ إنسٍ لجنٍّ
سَكنوه، أم صُنع جنٍّ لإنسِ
غير أني أراه يَشهد أن لم
يك بانيه في المُلوك بنكسِ
فكأني أرى المراتبَ والقو
مَ إذا ما بلغتُ آخر حِسي
وكأن الوفودَ ضاحِين حَسْرى
من وقوفٍ خلف الزِّحام وخُنسِ
وكأن القِفيان وسْط المقاصيـ
ـير يُرجعن بين حُوٍّ ولُعسِ
وكأن اللقاء أولُ من أمـ
ـسِ، ووشْكَ الفِراقِ أولُ أمسِ
وكأن الذي يريد اتباعًا
طامعٌ في لُحوقهم صُبحَ خَمسِ
عُمِّرتْ للسرور دهرًا، فصارتْ
للتَّعزي رِباعُهم والتأسِّي
فلها أن أُعينَها بدموع
مُوقَفاتٍ على الصبابة حُبسِ
ذاك عندي، وليستْ الدار داري
باقتراب منها، ولا الجنس جنسي
غير نُعْمى لأهلها عند أهلي
غرسوا من زكائها خيرَ غَرسِ
أيدوا مُلكنا، وشَدُّوا قواه
بِكُماةٍ تحت السنَوَّر حُمسِ
وأعانوا على كتائب «أَريا
طَ» بطعنٍ على النحور ودَعْسِ
وأراني من بعدُ أكلَف بالإشـ
ـرافِ طُرًّا من كل سِنخ وأُسِّ

ألستَ تحس وأنت تقرأها كأنك شاهد الإيوان وحاضر أمره في حالتي نعيمه وبؤسه؟ وهل كان هذا كذلك لأن الشاعر طابق بين المأتم والعرس، والبيان واللبس والمصبح والممسي، والجن والإنس، واللقاء والفراق وجعل المشتري كوكب نحس وقديمًا كان يطلع بالسعد، ومزج لك الشك باليقين، وجمع بين المؤتلف والمختلف، وقدَّم وأخَّر، وعرَّف ونكَّر، وحذف وأضمر، وأعاد وكرَّر؟ كلا! فإن في شعره ما هو أحفل من هذه الأبيات بأنواع البديع ولا يبلغ مع هذا مبلغها في التغلغل إلى النفس والولوج إلى القلب، بل الفضيلة كل الفضيلة في أن الشاعر كان ملآن الجوانح، مفعم القلب من إحساسٍ مستغرقٍ آخذ بكليتيه، ولهذا ترى روحه مراقة على كل بيتٍ، وأنفاسه مرتفعة من كل لفظٍ، وهل الشعر إلا مرآة القلب، وإلا مظهر من مظاهر النفس، وإلا صورة ما ارتسم على لوح الصدر وانتقش في صحيفة الذهن، وإلا مثال ما ظهر لعالَم الحس وبرز لمشهد الشاعر؟

نعم إن الإحساس الجمَّ والشعور المُلحَّ لا يكفيان، بل لا بدَّ من قوة التأدية وعلو اللسان للترجمة عنهما، ولكنك إن عوَّلتَ على ملاحة الديباجة وجمال الأسلوب وحسن السبك لم تَعْدُ أن تكون صَنِعًا حاذقًا بصيرًا بصرف الكلام، مُتصرِّفًا في رقيقه وجزله، مجوِّدًا في مُرسله ومُسجعه، يتخرج عليك طلبة الكتابة وينسج على منوالك روام الإنشاء نسجهم على منوال الجاحظ والصابئ. ألا ترى ما في كلامهما من الفتور — فتور الصنعة لا الطبع، فتور القدرة لا العبقرية — على اختلاف بينهما في الأساليب، وتباين في مذاهب الكتابة؟ أترى الجملة من كلام أحدهما تستفزك كما تحركك الكلمة من خطب الإمام علي؟ كلا! وإنما كان هذا كذلك؛ لأن الجاحظ والصابئ — وإن تباينت مذاهبهما — كتَّاب صنعة، والإمام علي لم تكن به حاجة إلى الصنعة، لمجيئه في شباب اللغة، والألسنة طليقة، واللهجة بطبعها أنيقة، والترسل وتطريز الكلام على نحو ما ترى في كلام المتأخرين ليسا معروفين. هذا إلى أن أيامه كانت حافلةً بما يحرِّك الخاطر ويبسط اللسان، فأما الجاحظ مثلًا فقد كان من أدباء العلماء، ولهذا ترى في كلامه فتور العلم، والعلم ليس من شأنه أن يستثير العواطف أو يهيِّج الإحساس، وسبيل الجاحظ إذا قال أن يمط الكلام مطًّا ويطيل مسافة ما بين أوله وآخره، وهذا أيضًا من دواعي الفتور وبواعث الضعف، وإن أردت دليلًا آخر على أن أشد الكلام تأثيرًا ما خرج من القلب فليس أقطع من أن تأثير الشعر أبلغ من تأثير النثر، وأن النسيب والرثاء وما يجري مجراهما من فنون الشعر أبلغُ تأثيرًا من المدح والحِكم وأَملكُ لأعنة القلوب.

تأمل قول المجنون:

كأن القلبَ ليلة قيل يُغدى
بِلَيلى العامرية أو يُراحُ
قَطَاةٌ عزَّها شَرَك فباتت
تُعالجه وقد عَلق الجَنَاحُ

إلى آخر الأبيات، وقول جليلة بنت مرَّة ترثي زوجها كليبًا حين قتله أخوها جساس:

يا قتيلًا قوَّض الدهرُ به
سَقفَ بيتي جميعًا من عَلِ
هدم البيت الذي استحدثتُه
وسعى في هدم بيتي الأولِ
مسَّني فقدُ كُليب بلظًى
من ورائي ولظى مستقبلي
ليس مَن يبكي ليومين كَمَن
إنما يبكي ليوم ينجلي
دركُ الثأر لشافيه وفي
دَركِ ثأري ثُكل المُثكلِ

إلى آخر ما قالت. ثم انظر إلى قول الشماخ في المدح:

رأيتُ عَرَابةَ الأوسيَّ يسمو
إلى الخيرات منقطعَ القرينِ
إذا ما رَايةٌ رُفعتْ لمجدٍ
تلقَّاها عَرَابةُ باليمينِ

أو قول زهير:

وإن جئتَهم ألفيتَ حولَ بيوتهم
مجالسَ قد يُشفى بأحلامها الجهلُ
على مُكثريهم حقٌ من يعتريهم
وعند المقلِّين السماحةُ والبذلُ

وقل أي هذه الأبيات أشجى وأشد إثارة للنفس وتحريكًا للقلب؟ أأبيات زهيرٍ والشماخ وهي من أحسن الشعر وأجوده وأرصنه؟ أم شعر جليلة وليست من طبقتهما ولا لها دقة معانيهما وشرف أسلوبهما وجودة حبكهما؟ أم أبيات المجنون المستوحِش في جنبات الحي منفردًا عاريًا لا يلبس الثوب إلا خرقةً، ويهذي ويخطط في الأرض، ويلعب بالتراب والحجارة، وينفر من الناس ويأنس بالوحش؟ أليس لبيتيه نَوطةٌ في القلب وعُلوق بالنفس لا تجدهما في أبيات الشماخ وزهير وهما من فحولة الشعراء المعدودين وزعماء القول المتقدمين؟

«ولكنه ليس يكفي المرء أن يكون صائب الفكر صحيح النظر، ولا أن يجعل صدره رائدًا لقلمه، وقلبه صورةً للسانه، بل لا بدَّ له إذا ملك أعناق المعاني أن يحسن تسخير الألفاظ لها»، فإنه كما لا تكون الفضة أو الذهب خاتمًا أو سوارًا أو غيرهما من أصناف الحُلي بأنفسهما، ولكن بما يحدث فيهما من الصورة، كذلك لا تخلص المعاني من أكدار الشبهات ولا يتم استيلاؤها على هوى النفس، إلا بما يحدث فيها من النظم، وإذا كان لا معنى إلا باللفظ، فما أحراه أن يكون مشرقًا محكم الأداء؟ والشعر يُعد فنًّا، ولا بدَّ في كل فن من الإحسان والتجويد، وإلا بار على أهله. وأنت فبأي شيء تُفضِّل قول أبي تمام:

أخو عزماتٍ فعلُه فعلُ محسنٍ
إلينا ولكن عُذرُه عُذرُ مُذنبِ

على قول المتنبي:

يعطيك مبتدئًا فإن أعجلته
أعطاك معتذرًا كمن قد أجرما

أو قول البحتري:

إذا محاسني اللاتي أُدِلُّ بها
كانت ذُنوبي فقل لي: كيف أعتذرُ؟!

على قول أبي تمام:

لئن كان ذنبي أنَّ أَحسنَ مطلبي
أساء ففي سوء القضاء لي العذرُ

أو قول أبي تمام:

وإذا المجد كان عَوني على المر
ءِ تَقاضيتُه بتركِ التقاضي

على قول المتنبي:

إذكارُ مثلِكَ تركُ إذكاري له
إذ لا تريد لما أريد مترجِما

نقول بأي شيء تُفضِّل البيتَ على أخيه وهما في المعنى سواء إن لم يكن بإحكام السبك والبراءة من وصمات التعقيد والقلق والضعف؟

قد يكون الرجل غَمَرَ القريحة صادقَ النظر «لو حلَّ خاطره في مقعد لعدا»، ثم تراه يعجز عن إبراز هذه الخواطر التي تتدفق بها بديهتُه، وتهضب بها قريحتُه، في أحسن حُلاها، بل ربما أفرغها في قالب تتعاوره الركاكة، ويتجاذبه التعقيد فلا يكون من ورائه محصول، على أنه لا ريب في أن فن إبراز المعاني رهنٌ أيضًا بصحة النظر وسلامة الذوق وصدق السريرة، ولكنه أيضًا فوق هذا وذاك، وليس يستطيعه إلا مَن أعدتُه له طبيعته، وهيأت له أسبابَه فطرتُه، فهو على أنه فن، يحتاج إلى مواهب وملكات، كالتصوير والموسيقى، وليس ثَم شك في أن كل متعلم يستطيع الكتابة — كما لا شك في أن كل مَن درس أصول الرسم وقواعد التصوير لا يعجز عنهما — ولكن الإجادة والإحسان في كلٍّ من ذلك، مَلَكة لا تحصل بالدرس ولا تتهيأ بالمعاناة والطلب؛ لأن القدرة على استشفاف الصلات بين الأشياء وإدراكها ليست في كل حالٍ مقرونة بالقدرة على اختيار أفضل «الرموز» اللفظية لإبراز هذه الصلات وتوضيحها، هذه قدرة الكاتب، وتلك قدرة المفكر.

قال «دي كوينسي»: «للأسلوبِ عملان: إيضاح المعنى المستغلَق على الأذهان، وإحياء قوة المعنى وتأثيره بإيقاظ الذهن له.» نقول ولا بدَّ لذلك من حافظةٍ قويةٍ بعيدة النسيان ينتقي منها الكاتب أو الشاعر خير «الرموز» وأكفلها بإحداث الصور المطلوبة في ذهن القارئ، وذوق سليم يحور إليه المرء في اختيار هذه «الرموز»؛ ليكون حسنُ الاختيار واتساقُ النظام مُعينَين للذهن على قبول ما يُراد نقله إليه. ولتعلم أن قدرة الذهن على استظهار الألفاظ — كقدرته على إدراك الحقائق ووعيها — ليست إلا مصدرًا واحدًا من مصادر القوة العقلية، إذا لم يؤازرها الذوق السليم والسليقة صارت قوةً تنتهي بصاحبها إلى ضعفٍ. فعلى قدر نصيب المرء من سلامة الذوق ولطف السليقة يكون انتفاعه بمحفوظه، فقد يستطيع قليلُ المحفوظ — بما رُزق من الذوق ووُهب من مَلَكة الاختيار — أن يفرغ خواطره في قوالب منتقاة مُلئت جمالًا وقوةً، يعيي القويَّ الذاكرةِ مكانُ ندِّها، كما يستطيع نَزرُ العلم — بما مُنح من حدة الفؤاد وصفاء الذهن — أن يستخلص لك من الصلات الخفية الدقيقة ما يعمى عنه أولو البسطة وذوو العرفان الشامل المحيط. وإن من الخطأ الفاحش أن يظن المرء أن الألفاظ — وهي أدوات الكتابة وآلاتها — هي كل ما يحتاجه ليكون منه كاتب أو شاعر، كما أنه من أفحش الغلط أن يَحسِب حاسبٌ أن الأصباغ والألوان — وهي مادة التصوير ووسائطه — حسب المرء ليكون مصورًا. فالمحفوظ المثير من أسباب قوة الكاتب أو الشاعر، ولكنه قد يكون أيضًا من بواعث ضعفه وتخلفه، ولقد صدق بعضُهم إذ قال: «إن الناس يستعملون كثيرًا من الصفات والنعوت والمترادفات لعل بعضها يصيب إذا طاش أكثرها، هذا دأب السباعي ووكده، وهو من أكبر أسباب ضعفه وفتوره وفيما يجده قراؤه من الثقل والملال، ولكن المطبوع يعلم ماذا يأخذ وماذا يطرح، وإنما يتسرب الضعف إلى الكتابة من ناحيتين: التساهل في العبارة وقلة العناية والتدقيق في استعمال الألفاظ، والمبالغة في التحبير والتزويق.»

فإذا صحَّ ما نذهب إليه من الرأي استوجب ذلك أن لا تكون لغة الشاعر كلغة الناس، بل لغة تصلح لهذه الأفواه السماوية التي تخرج منها وتند عنها، ولا يتهيأ ذلك بالمجاز والاستعارة وما إلى ذلك فقط، بل إغفال كل لفظٍ وضيعٍ مضحكٍ، ونعني باللفظ الوضيع ما تحوم حوله ذكر وضيعة، فإن كل لفظٍ لو تفطنت مبعث طائفةٍ من الذكر بعضها وضيعٌ وبعضها جليلٌ، ولا مَسمح للشاعر عن التنبُّه إلى ذلك، وإلا أساء إلى نفسه وإلى جلالة خواطره وإحساساته وخيالاته، وكثيرًا ما يسيء الشعراء من هذه الناحية عن قصد وعن غير قصد، فيخلطون الغثَّ بالسمين ويطوون المضحك في ثنايا الجليل، أترى لو كان كافورُ نبيًّا أتعبأ به شيئًا أو يكون له قدر في نفسك وجلال في صدرك بعد هجاء المتنبي له وسخريته به، والتهكم عليه؟ فإذا شبَّه أحد الشعراء مَلِكًا به على سبيل المدح فماذا يكون قولك؟ ألا تستخف التشبيه وتظن الشاعر قصد إلى الهجاء لا المدح؟ وما يُقال في الأعلام يُقال في غيرها من الأسماء والصفات إلخ؛ لأن لكل لفظٍ تاريخًا وقد ينحط اللفظ في زمن من الأزمان أو يرقى حسب ظروفه، شأن كل شيء في هذه الدنيا التي لا يبقى فيها شيء على حال.

قد نَبَغ الشعراء من كل أمة كائنةٍ ما كانت، وظهروا في كل شعب، كل على قدر مبلغه من الرقي الفكري، أفلا يستشف المرء من ذلك شيئًا؟ وهل ليس للشعر غاية إلا ما يعزونها إليه من إدخال اللذة على القلوب والسلوان على النفوس؟ أم هل صحيح ما يزعمون من أن الفنون تنشأ من أميال الإنسان الطبيعية وتملأ فراغ الرجل المستوحش والمتمدين المترف سواء بسواءٍ، إن هذا الرأي الذي لا يخرج إلا من رأس منطيقي جافٍ يسفل بالشعر إلى منزلة الألاعيب ويا سَوءها منزلة، ولكن هذا المنطق مكذوب لحسن الحظ. وذلك أن السرور واللذة الحاصلين من الشعر إحدى غاياته ولا ريب؛ لأنه إذا لم تحدث المتعة فقد ضاع فعله وصار كأنه لم يكن، ولكنها ليست الغاية القصوى، وإنما نتج هذا الغلط من الجهل وعجز الذهن عن التفكير الصحيح. ألا ترى أن المرء يأكل ولا ترى مع هذا أحدًا يقول إن اللذة المستفادة من الطعام هي غاية الحاجة إليه، بل الناس جميعًا يعلمون أن الغاية من الطعام الصحة والقوة والقدرة على استخدام قوى الجسم، فكأنما أرادت الطبيعة أن تجعل من اللذة المكتسبة من الطعام شاحذًا لشهوته حتى يتم لها ما تريد منه ويستيسر ما قصدت إليه.

إن مَن يتدبر تاريخ الشعر لا يسعه إلا التفطن إلى عنصر مكوِّن له في كل دورٍ من أدواره، وصفة غالبةٍ عليه في كل طورٍ من أطواره، وهي ما أسميه «الفكرة الدينية»، فإن كل شاعرٍ في كل عصرٍ نبيُّه وطفله معًا. ومهما تكن أغانيه مصبوغةً بألوان عواطفه وإحساساته وخيالاته فإنه لا يزال لها هذه الغاية: السمو بقومه إلى درجةٍ من الفكر أعلى ومستوًى من التصور أرقى، قال سكوت: «إن آلهة الشعر يقيدن في ما يوحين تاريخ المستوحشين وشرائعهم ودياناتهم؛ ولذلك لا تكاد تجد شعبًا مهما بلغ من استيحاشه وعنجهيته لا يصغي إلى أغاني شعرائه وما تضمنت من أخبار آبائه وأجداده وشرائعهم ومبادئهم وأخلاقهم ومدح آلهتهم.» وليس في الأرض مَن ينكر فعل الشعر وتأثيره الأخلاقي، ولكن هذا التأثير إذا حلَّلتَه صار ماذا؟ أليس هو «الفكرة الدينية»؟ ولسنا نعني بالفكرة الدينية هذه الأديان التي جاء بها محمد وعيسى وموسى وغيرهم، وإنما نعني أن كل «فكرة» عليها مسحة من الصبغة الدينية التي هي قاعدة كل حقيقةٍ تدفع إلى تدبر اللانهاية تدبرًا جديدًا، أو إلى مظاهر جديدة في صلاتنا الاجتماعية. فالحرية والمساواة والأخوة (وتلك شعار القرن المنصرم) ليست قوانين في شريعة العصر، ولكنها لما كانت غايتها النهوض بغرض اجتماعي فلسنا نرى ما يمنع من أن نسميها دينية. وليحذر القارئ من تضييق الخناق على مدلول ألفاظنا ولا يتعجل في تطبيقها؛ إذ لا ريب أن الشاعر لا يسوق لك هذه «الفكرة» عريانة الهيكل وقد لا يحسها أو يدركها، ذلك سبيل الفيلسوف. وعلى أنَّا وإنْ كنا نستعمل لفظة «الفكرة» بأوسع معانيها العامة، وكنا نعني بها روح العصر جملة، إلا أنه لا تخفى عنا عناصرها المتضادة التي تتألف منها ولا يغيب عنا أنه قد لا تحتوي القصيدة إلا بعضَ هذه العناصر، ولكن ندع شرح ذلك وتبيينه لما نحن موردوه عليك بعدُ.

ليس أظهرَ في تاريخ الشعر ولا ألفتَ للنظر من علاقته بالدين، ولقد كان عماد الشعر القديم وقوامه الأناشيدُ الدينية والأساطير المقدسة والآمال الحارة، قال الدكتور أولريكي في كلامه عن شاكسبير: «الأصل في الشعر وفي الدين واحد، وفي هذا دلالة على أنه إلهي وأنه إلهام ثانٍ.» ا.ﻫ. وأنهما لكذلك في جوهرهما أيضًا، وليس جنوح الشعر في عصور المدنية عن وظيفته المقدسة إلا في الظاهر؛ لأن غاية الدين وغاية الشعر كانتا ولا تزالان واحدةً. وغاية الدين فيما نعلم ليست العقيدة النظرية؛ بل النتيجة العملية، أي السمو بالناس إلى منزلةٍ لا تبلغهم إياها غرائزهم الساذجة وعواطفهم الطليقة. وتلك لعمري غاية الشعر أيضًا ولكن من طريق الجمال. فالفرق بينهما ليس في الغاية ولكن في الوسيلة؛ لأن الشعر يطهِّر الروح من طريق العواطف والإحساسات لا بالصوم والصلاة وغيرهما من مراسم العبادة. وقد يستعين الدين بالعواطف، ولكنه أبدًا يستعين بالعقل ويخاطبه أكثر مما يخاطب العواطف.

وغاية الشعر أن يدخل في متناول الحس العواطف والمدركات وكل ما له وجود في العقل، وأن يوقظ الحواس الخامدة والمشاعر الراكدة، وأن يملأ القلب ويُشعر النفي كل ما تستطيع الطبيعة البشرية احتماله، وكل ما له قدرة على تحريكها وابتعاثها، وأن يُدرَّب المرء على الاستماع بتدبر عظمة الجلال والأبد والحق، وأن يُمثِّل ذلك للإحساس ويُحضِره للذهن، وأن يكشف لنا عن وجوه الألم والحزن والخطأ والإثم، وأن يعين القلب على تعرف الهول والفزع والسرور واللذة، وأن يخفق بالوهم على جناح الخيال ويفتنه بسحر عواطفه وخواطره، وأن يسد النقص في تجاريب المرء، وأن يثير فيه تلك العواطف التي تجعل حوادث الحياة أشد تحريكًا له وتجعله أشد استعدادًا لقبول المؤثرات على اختلاف أنواعها ودرجاتها؛ لأنه ليس بالإنسان حاجة إلى التجريب الشخصي لتتحرك فيه هذه العواطف، بل حسْبه «ظاهر» التجريب الذي يهيئه له الشعر، وإنما يستطيع الشعر أن يقوم مقام التجربة الشخصية الواقعة بما يمثل للمرء؛ لأن كل حقيقة واقعةٍ يجب أن تمثَّل في الرأي قبل أن يتعرَّفها الذهن أو تؤثر فيها الإرادة. ومن أجل ذلك كان سواءً على المرء أن تؤثر فيه الحقيقة الواقعة بالذات، أو يأتي التأثير من طريقٍ آخر كالصور والرموز التي تمثل صفات هذه الحقيقة، فإن في طاقة الإنسان أن يُصور لنفسه ما ليس له وجود حتى يعود وكأن له جسمًا يحس ويلمس، فسيان عند الإنسان أن يؤثر فيه الشيء نفسه أو مثاله؛ لأنه يحرك فيه عوامل الفرح والحزن على كل حال. وسواء أكان الشيء حاضرًا أم ماثلًا في الخيال بصورته، فإن الإنسان لا يسعه إلا أن يحس حركات الغضب والبغض والرحمة والقلق والفزع والحب والإجلال والعجب والشرف والشهرة، فكأنَّ هذه الرموزَ الشعريةَ اللسانُ المترجِمُ (كما يقول هوريس) عن الحقائق.

قال هِجل: «حتى الدموع على الأحزان أعوانٌ، وحتى رموزها فيها للشجي سلونٌ؛ لأن الإنسان إذا كظَّه الحزن تلمَّس مظهرًا لذلك الألم الباطن، ولكن العبارة عن هذه الإحساسات بالألفاظ والصور والألحان أوقع في القلب وألطف في النفس وأروح للصدر. ولقد فطن القدماء إلى نفع ذلك فكانوا يقيمون المآتم فيتأمل الحزن مظهره ويرى الحزينُ غيره ينطق بلسان كمده، ويحمله كثرة ما يسمع وترديد ذكر ما يفجع على التفكير فيه، فيُروِّح عنه ذلك ويمسح أعشار قلبه بيد السلوان، ولذلك كانت غزارة الدمع ووفرة النطق خير وسيلة لاطراح أعباء الهموم عن عاتق الشجي والترفيه عن القلب المثقل بالأوجاع.»

ولا يجهلن أحد فيحسَب أن الدين والفلسفة والشعر شيء واحدٌ. فإنها على اتصال ما بينها وإحكام رابطتها، لكل منها مظاهر خاصة، ولكنها جميعًا على اختلاف مظاهرها ومناهجها تمثل «وجوه الفكرة» في كل عصر. قال ريتر: «لو كان للدين دقة العلم لما عاد دينًا ولصار فلسفة. الأصل في الدين الوحيُ والإلهام لا التدقيق والتقرير، أما الفلسفة فإنها تستقي عقائدها من موارد العقل المحاذر … إلخ.» وقال كوزان: «كل عصر من عصور المدنية تغلب عليه «فكرة» حيوية عميقة غامضة، ولكنها أبدًا تحاول أن تتكشف للناس في مظاهر حياتهم وفي قوانينهم وآدابهم وديانتهم. وتلك هي وسائطها المترجمة عنها.» وقال جوفروي في الفرق بين الشعر والفلسفة: «الشاعر يترجِم في الأغاني عن عواطف العصر وإحساسه بالخير والجمال والحق، وهو يعبر عما يجيش بصدور الجماعة من الخواطر الغامضة، ولكنه لا يستطيع أن يوضحها؛ لأنه أحسُّ منهم ولكنه ليس أقدر على تفهمها، وما يتفهم هذه الخواطر الغامضة إلا الفلاسفة، ولو أن الشاعر استطاع أن يقف عليها ويكشف عنها لصار فيلسوفًا لا شاعرًا.»

وبعدُ، فإذا كان رأينا غير صحيح، وليس ثمة «فكرة» ينطق بها الشاعر ويترجم عنها، ولم يكن الشعر إلا عبارة عن الإحساس من أجل أنه إحساس، فما تأويل أن كل العصور لا تنتج الشعراء على السواء؟ ولماذا يظهر الشعراء في عصرٍ من العصور ثم ينام بأمثالهم الزمن قرونًا؟ لا أرى «الصدفة» تكفي في شرح ذلك وتعليله؛ لأن الذي يقلب تاريخ الأمم لا يسعه إلا نبذ هذا الرأي؛ إذ كان الشعراء لا ينبغون في عصور الترف والخمول والسلم السمين، بل في عصور النزاع والقلق والاضطراب؛ تأمل أثينا بلاد القلق والاضطراب، وإيطاليا أيام دانتي وبترارك حين كان يتنازعها الأحزاب وتفُت في عضدها الحروب، وإنجلترة في عهد إليزابت وجيمس وبعد الثورة الفرنسوية، والعرب في جاهليتهم وفي عصور النزاع والاضطراب التي تلت الإسلام. وفي غير هذه فإنك حيثما قلبتَ طرْفك لا بدَّ واجدٌ مصداق قولنا، وإنما كان هذا هكذا؛ لأن كل ثورةٍ أو انقلاب إيذان بمولد فكرة أو مذهب يحسه الناس جميعًا، فينشأ الشعراء ليعبروا عن هذه الفكرة أو المذهب وليشرحوا للناس آمالهم في الحياة في المستقبل. ولكن الشاعر كما أسلفنا القول لا يعطيك من هذه «الفكرة» جُثمانها العريان، ولعله لا يفهم هذه الفكرة كل الفهم، ولا يحسها كل الإحساس ولا يتناول إلا وجوهًا منها، ومن هنا نشأت الحاجة إلى أكثر من شاعرٍ واحدٍ ليتم إيضاح الفكرة من جميع جهاتها وعلى كل وجوهها. وهذا أيضًا هو السر في كثرة المقلِّدين الذين يتعقبون آثار الشاعر؛ لأنهم يجدون خواطرهم وإحساساتهم مترجِمة لهم في كلامه فيشايعونه ويجرون وراءه رافعين أصواتهم بمثل ندائه وشبه آماله ومخاوفه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤