اليوم الثاني والعشرون (الجمعة ٤ مايو سنة ١٩٠٠)

ربما شكر القراء سعيي في هذا اليوم لجمع شذرات تاريخية على المعارض بوجه عام، فتكون بمثابة التمهيد لما تتوق إليه نفسي من التوصل لإحاطتهم علمًا بتفاصيل هذا المعرض العام، الذي ربما لا يتجدد نظيره ولا بعد مائة عام، وبه سيكون حُسن الختام في هذا القرن التاسع عشر من الميلاد.

انتقل الإنسان في أوائل التاريخ من طور البداوة والبساطة إلى مبادئ الحضارة والاجتماع. ثم أخذ يرتقي قليلًا قليلًا، حتى ملك عنان الطبيعة بأسرها، وأصبح سلطانَ الوجود يتصرف فيه وبه كما وكيف يشاء، ويستخدم قواه الظاهرة والكامنة لقضاء أغراضه المتجددة المتوالية اللامتناهية إلى أن وصل هذا المخلوق الضعيف إلى درجة جعل فيها المستحيل من أقرب الممكنات. فهذه عيوننا ترى وآذاننا تسمع! أليست متولّدات الليالي والأيام، لا تكاد تخطر على الخيال، ولا تدخل في دائرة الأوهام؟

لعمري! لا أدري متى يقف هذا التيار؟ ولا إلى أيّ حد يصل الإنسان، وها هو قد فاق آلهة الأقدمين، في الإيجاد والاختراع، وإظهار الخوارق والمعجزات، وإن هذا لشيء عجاب.

•••

اشتغل الإنسان في أول أمره بالفلاحة، فاضطرته إلى الصناعة، ثم دخل في غمار التجارة، وفي أثناء ذلك تقدم في أنواع المعارف. ثم اشتبكت معاملاته، وكثرت حاجاته، فاستخدم معلومه ومعقوله في سبيل التقدم والارتقاء، فقامت حينئذ أسواق التجارة، وكانت ولا تزال المحور الذي يدور عليه دولاب المدنية والحضارة.

ثم أشرك المعقول بالمصنوع.

فكان أبو التاريخ هيرودوت يتلو كتابه على قومه اليونانيين، وهم مجتمعون في الأسواق يتعاطون البيع والشراء، فأعجبتهم رواياته عن أسفاره في مشارق الأرض ومغاربها، وراقتهم أخباره عن الأمم الغريبة وأحوالها، فكانوا يجودون عليه ببعض ما كسبوا، حتى أصبح وله من قراءة التاريخ في الأسواق ثروة هائلة طائلة، يحسده عليها أكبر الآخذين بأسباب الأخذ والعطاء.

وهكذا كان الشأن عند جميع الأمم القديمة حتى وصل الدور إلى العرب. فكانت عكاظ مجتمعهم الأكبر في الجاهلية، والمربد في الإسلام، وهما سوقان عظيمتان، كان القوم يشتغلون فيهما بالبيع والشراء، والمناظرة والمفاخرة، وإنشاد الأشعار، وإظهار البراعة والإعجاز في سائر أنواع المعقول والمفهوم، وكان لهم في ذلك نظام بديع وترتيب عجيب، لا محل لذكره في هذا المقام.

وأنت خبير بأن السواد الأعظم من الذين رفعوا منار العرب والعربية، ووضعوا قواعد الفخر الباقي لهذه الأمة المجيدة، كانوا من أهل السياحة والتجارة، ولست في حاجة أيضًا لزيادة الإطناب في هذا الباب.

استمرَّ الحال على هذا المنوال عند أمم الشرق القديم والحديث، حتى دالت الأمور لأوروبا، وصارت السيطرة لأهلها والثروة في يد أبنائها، فحفظوا هذا التراث المجيد، الذي انتقل إليهم أو اغتصبوه، وأخذوا في إنمائه، حتى بلغوا ما بلغوا، والله بالغ أمره!

والظاهر أن أول معرض يصح وصفه بالصناعي حقيقة هو الذي أقيم بمدينة پراج (Prague) عاصمة بوهيميا في سنة ١٧٩١، فكان من ورائه مكسب عظيم، وربح عميم للقائمين به والمشتركين فيه، فدبت الغيرة في أهل پاريس؛ فأقاموا في أيام حكومة المشيخة (Le Directoire) معرضًا في سنة ١٧٩٨. واحتفلوا بافتتاحه احتفالًا شائقًا. وكان عدد العارضين فيه ١١٠ من أهل التجارة والصناعة والمعارف، فذاقت الأمة لذة المعارض، وعرفت فائدتها، فأقبلت عليها إقبال الجياع على القصاع. وهذا شأن الأمة الفرنساوية في كل جديد ومستظرف.

ولكن الإنكليز فاقوا الأمم الأوروباوية التي تقدمتهم في هذا السبيل، فإنهم أخذوا النظرية عنهم، ولكن سبقوهم بمراحل في العمل والتطبيق، واجتناء الثمرات المادية أولًا والمعنوية ثانيًا، فقد أقاموا في سنة ١٨٥١ أول معرض عمومي اشتركت فيه الأمم كلها. أنشأوا لهذا الغرض الدار الرحيبة المعروفة إلى الآن بقصر البلور، وكانت مساحة هذا القصر وملحقاته عبارة عن ٧٣١٥٠ مترًا مربعًا، وقد أثبت الإنكليز للعالم أجمع، فائدة المعارض العامة، حيث يتلاقى فيها أهل الأبحاث والأشغال والملاهي، فترتبط الأمم ببعضها، وتزيد المناظرة بين أفرادها، فيتقدم المجموع، ويرتقي الإنسان.

ولم تنشط أمة من أوروبا لتقليد الإنكليز في هذا العمل العظيم، خوفًا من مسابقة الأجانب لأبنائها ونَيْل قَصَب السَّبْق عليهم، مع أن نجاح معرض البلور كان ظاهرًا للعيان، ولا ظهور الشمس في رائعة النهار، فقد بلغ عدد زائريه ٦٠٠٠٠٠٠ من النفوس، والشركة التي أقامته ربحت ما يزيد على ٢١١٥٣٠ جنيهًا مصريًّا.

فلما رأى الإنكليز هذا السكون من أوروبا وأهلها، أقاموا معرضًا عامًّا ثانيًا في دوبلين حاضرة أيرلندة؛ ونجحوا أيضًا نجاحًا عظيمًا دعا الأمم الأخرى للاقتداء بهم، ولكن كان السبق في هذا المضمار لأمريكا، فإنها أقامت معرضًا عامًّا بمدينة نيويورك كان له دوي عظيم في الخافقين، ثم تنبهت أوروبا القديمة من سُباتها، فأقامت معرضًا عامًّا بمدينة موينخ عاصمة باڤاريا بألمانيا.

وحينئذٍ هبت فرنسا أيضًا من رقدتها، ودخلت في غمار هذه الحركة الجليلة، فأقامت معرضًا عامًّا في سنة ١٨٥٥. وقد قامت شركة تجارية بإنشاء القصر المعروف بقصر الصناعة في ميدان شان دومارس (أي ميدان إله الحرب). وكانت مساحة هذا القصر وحده ٣٢٠٠٠ متر مربع، وأما مسطح المعرض كله فكان ١٦٨٠٠٠ متر مربع. ولكن الشركة لم تربح مثل أختها بلوندرة، وبقي هذا القصر كلًّا عليها حتى رأفت الدولة الفرنساوية بحالها؛ فاشترته منها لإقامة المعارض الأهلية السنوية فيه، وبقي كذلك حتى هدموه منذ بضعة أعوام، واستبدلوه بقصرين فاخرين هما المعروفان بالقصر الكبير والقصر الصغير، وسنأتي على وصفهما بالتفصيل.

ثم أقامت لوندرة معرضًا عامًّا ثانيًا في سنة ١٨٦٢ في قصر كنسنتون (Kensington Park) وهذا القصر هو الآن عبارة عن متحف جميل في عاصمة الإنكليز، وقد وصفته في رسائل «السفر إلى المؤتمر» فتابعتها پاريس في سنة ١٨٦٧، وكانت مساحة المعرض عبارة عن ٦٨٧٠٠٠ متر مربع.

ثم تفنن الإنكليز حتى يكون لهم السبق في الإبداع والاختراع فابتدؤا في سنة ١٨٧١ في عمل سلسلة معارض عمومية سنوية، بحيث يكون كل واحد منها خاصًّا بنوع واحد أو بطائفة معينة من الأعمال والمعروضات، ولكن النتيجة المالية التي يسعون دائمًا وراءها لم تأت وفق الحساب. فرأوا من الصواب العدول عن إكمال السلسلة بعد أربع سنوات، وقد رأوا من الأوفق لصالحهم أن يجيبوا الدعوة إلى المعارض العمومية الأخرى، ولا يقيموها في بلادهم، فتوفرت عليهم كثير من المغارم، وعاد عليهم هذا الأسلوب الجديد بكثير من المغانم.

وفي سنة ١٨٧٣ أقامت ويانة عاصمة النمسا معرضًا عامًّا، كان لقسم التربية والتعليم النصيب الأكبر فيه. ثم دخلت أمريكا في الميدان وأقامت معرضًا عامًّا بمدينة فيلادلفيا سنة ١٨٧٦. فلما كانت سنة ١٨٧٨ أقامت فرنسا معرضًا عامًّا كبيرًا، وبقي منه إلى الآن قصر التروكاديرو الجميل، وقد وصفته بالإيجاز في رسائل «السفر إلى المؤتمر»، وبلغ عدد زائريه أكثر من ١٦ مليونًا من النفوس، ومع هذا النجاح الباهر كانت نتيجته خسارة على الحكومة وعلى بلدية پاريس، وبلغ مقدارها ٣٧ مليون فرنك.

ووصل التيار إلى أوستراليا؛ فأقامت في مدينة سدني (Sidney) سنة ١٨٧٩، وفي مدينة ملبورن (Melbourne) معرضين عامّيْن، ثم عادت المياه إلى مجاريها في أوروبا، فأقيم معرض عام بأمستردام بهولاندة (سنة ١٨٨٣) ثم في انڤرس ببلجيكا (١٨٨٥) ثم في برشلونة بأسبانيا وفي بروسل ببلجيكا (سنة ١٨٨٨) حتى كانت سنة ١٨٨٩ فأقامت فرنسا معرضها الأكبر، ولا يزال الناس يذكرونه للآن. وأكبر أثر بقي منه في عاصمة الفرنسيس برج إيفل الذي لا يزال يشرف على المدينة، وعلى معرضها الحاضر.

ثم جاء الدور لبلاد الروسيا، فأقامت في مدينة موسكو سنة ١٨٩١ معرضًا روسيًّا فرنساويًّا، ثم أقامت شيكاغو بأمريكا سوق العالم في سنة ١٨٩٣، وقد بلغ مسطحه ٢٦٩٤٦٣٦ مترًا مربعًا، أي أن مسطحه يزيد كثيرًا عن ضعف مسطح معرض پاريس سنة ١٩٠٠، ولكن هذا المعرض الحاضر، يزيد على الذي تقدمه بكثير من الغرائب والعجائب، كما يمتاز بجودة الإبداع وسلامة الاختراع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤