الخاتمة

بقلم  أحمد  زكي

لقد مثَّلْتُ للقارئ الكريم الفاضل في هذه الصحائف القلائل شيئًا طفيفًا مما رسمه الناظر على صفحات الخاطر وأودعه العيان في خزانة الوجدان. أما الإحاطة فليست في الإمكان … لأي إنسان، ومع ذلك فلا تزال عندي أشتاتٌ من البيانات والمعلومات، وطرائفُ من المعلّقات والمفكرات، يستغرق نشرها المجلدات والمجلدات، ويستوجب صرف الوقت الكثير والمال الوفير، وهما (بحمد الله) ليسا متوفّرَيْن الآن. ولكن ربما ساعدت الأيام على إبرازها بطريق الجمع والتفريق، وهو أمر موكول للتوفيق.

ناهيك بهذا المعرض العام، الذي استنفد ملايين القناطير، من الدنانير، واستجمع كل ما وصل إليه أهل التفكير، من التدبير، وتعاون فيه أهل العلم والعمل، من كافة الملل والنحل، حتى فاق المنظور والمأمول، وحارت فيه العقول، وضلّت الأفهام، وكلّت الأجسام، واختتم به القرن التاسع عشر أيَّمَا اختتام!

وقد جريت في التعبير على أسلوب جديد، فلا يروق المتمسكين بتقديم التقاليد، الغافلين بمنهاجهم القديم العقيم، عما حدث في العالم من التقدم العظيم. ومن المعلوم عند الخاص والعام أن رأي هذا الفريق العتيق لا يهمني على الإطلاق؛ فإنما الحكم للاستقبال! وحسبي أنني فتحت هذا الباب، وستقرعه الناشئة التي عليها وحدها مدار الآمال! فإنما الزمان سائر إلى الأمام، وكل أمة لا تجاري حركة التقدم في مضمار الأفكار، وقفت في سبيل الحياة والعمران، وحاق بها الخسار والبوار.

تلك لعمرك! أيها القارئ الكريم عِلَّةُ الشرق والشرقيين. فالواجب على أهل الفطانة من أبنائه أن يتنبَّهوا بعد طول السُّهَاد، لملاقاتها بناجع العلاج حتى يعودوا إلى مجد آبائهم الصحيح، ويرجع إلى شرقهم العزيز رجحانه القديم، وتكون بلادهم مشرقًا لشمس المعالي والأفكار، كما هي مظهر لسلطان النهار.

وغاية الأمل أن تتوصل الشبيبة المصرية إلى محاربة تلك العادة السقيمة القديمة التي تميل بقومنا إلى التنميق والتزويق، وجعل المعاني مسخرة للألفاظ، تدور معها أينما دارت، وتسير ذليلة وراءها أينما اجتذبها الهوى، وأنَّى اقتادتها الحذلقة. فإذا ما وصل أصحابنا، أهل البراعة والأدب؛ لجعل الكتابة بمثابة الخطابة والكلام المألوف المفهوم، مع جعل الألفاظ لباسًا للمعاني لا يزيد عليها ولا تجرر أذياله وراءها على غير طائل، ومع اختيار الأساليب المستجادة المقبولة القريبة من الأذواق والعقول (كما هو الشأن في اللغات الحية الراقية بأهليها وكما تقضي بها حاجتنا في العصر الحاضر) صحَّ لنا أن نعتمد على مستقبل تبتسم له الثغور، وتنشرح منه الصدور، وتلك لعمرك! هي عين البلاغة الصحيحة. وإلا فالوقوف عند ما رسمه الأسلاف الكرام، بمناسبة حاجاتهم في زمانهم، أو الإصرار على المحاولة في تقليدهم (بغير جدوى) في أساليبهم التي انقضى دورها بانقضاء أيامهم يكون تقصيرًا منا أمام أنفسنا وأمام لغتنا وأمام مستقبلنا؛ بل إننا بذلك نسجل بيدنا أننا قضينا على وطننا ومعارفنا بالانحطاط والانحلال، نعوذ بالله من شر المنقلب وسوء المآل!

هذه نفثة مصدور، رأيت أن أختم بها هذه السطور، عسى أن يتفكر فيها أولو الألباب!

•••

أما هذه الرسائل، فكما يراها الناظر مجردة عن النقل والتعريب، اللهم إلا فيما دعت إليه الحالة من إحصاء أو استقصاء، مما لا مَفَرّ من أخذه عن أهله، وفيما سوى ذلك لم يَجْرِ قلمي إلا عن مشاهدة واختبار. وكانت وجهتي مصرية عربية شرقيّة، في كل سطر خطّه اليَراعُ أو فِكْر أملاه الجنان. وحسبي أنني وفّيت كل موضوع دخلت فيه حقَّه من البحث والبيان، حتى جعلت القارئ مشاركًا لي في الشعور والإعجاب، أو في النفور والاستغراب. فهذا هو الأسلوب الذي أعتقده متشبعًا بالحياة، منطويًا على حقيقة إحساس وصحة وجدان. وهذا هو الطريق الذي أدعو إليه فضلاء الكتاب، خصوصًا إذا ذهبوا إلى بلاد الغرب، ورأوا ما رأوا من عظم المدنية وجلالة الحضارة، حتى يتأتى لنا التأثير على الجمّ الغفير من القارئين والسامعين؛ فتتولد في قومنا حركة في الأفكار يكون من ورائها عظائم الأعمال، وننال بها المجد الصحيح، ويحق بعد ذلك لأبنائنا أن يفاخروا بنا، كما قد اكتفينا بالتحدث بما كان عليه أجدادنا، وما وصل إليه أسلافنا، وما فعله الأوّلون السابقون، وهو منتهى التحقير لأنفسنا! فعسى أن يكون لهذه الكلمات صَدًى في النفوس، وتأثير في القلوب، فنطرح السفاسف والهذيان، ونركب متن الجِدِّ والاجتهاد، فيكون لنا لسان صدق في الآخرين، إن شاء الله!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤